المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ترجمتي لكتاب تاريخ الشرق الأوسط ج3



أدهم مطر
06/10/2008, 06:51 PM
قام الرومان في عام 40 ق.م بتتويج"حيرود Herod " القادم من مدينة "أدوم Edom" في جنوب فلسطين ملكاً على المملكة اليهودية"Judaea"وسمّوا مدينة القدس"Jerusalem"عاصمةً لهم واستطاع خلال فترة حكمه الطويلة من توسيع رقعة نفوذه الفعلية لتشمل معظم فلسطين مُكتسباً لقب"حير ود العظيمHerod the Great" – وعلى الرغم من أنه كان عربياً بالفطرة – فقد كان يهودياً بالممارسة والخبرة، وقد اعتبر نفسه حامياً مُدافعاً عن اليهود كافة، كما أعاد بناء المعبد اليهودي بالقدس"الهيكلTemple" ولكن على الطريقة الإغريقية وتحت حماية ورعاية الإمبراطورية الرومانية الأمر الذي جلب عليه نقمة وكراهية اليهود المتدينّين المُتطرّفين، وقد انتهت فترة حكمه نهايةً قاسيةً وعنيفةً، لكنّه، وفي محاولةٍ مُستميتةٍ منه للدفاع عن نجاحاته، فقد أمر بذبح كل الأطفال الأبرياء والقُصّر في مدينة"بيت لحم، وأصبح بعد ذلك" الغول الرهيب" للأجيال المسيحية الناشئة، ففي تلك المملكة الحيرودية الصغيرة، ولد النبي"عيسىJesus"(عليه السلام) مؤسس الديانة المسيحية حيث ترعرع وعاش وأطلق دعوته للدين الجديد، وقد تحقق لهذا النبي المؤسس انتصاراً شاملاً في دعوته، كما أفلح بنشر تعاليمه وهدايته في العالمين الروماني والإغريقي على حدّ سواء.
كان المسيح(ع) وأتباعه "الحواريينApostles" يهوداً، كما أنّ "المسيحية"بالأصل، حركة نشأت ضمن اليهودية، لكنها لم تستطع إحراز سوى تقدم بسيط في أوساط الشعب اليهودي، مما جعلها تتجه نحو العشائر والقبائل الوثنية عوضاً عن ذلك.
كانت مهمّة المبُشّرين الأوائل حماية"الإنجيل المقدّس" والدفاع عنه، في الوقت الذي كان يتم به تحديث الفلسفة الرومانية والإغريقية، والتي تعد إنجازاً فكرياً و عقلانياً متقدماً، ومُوافِقةً لمتطلبّات ذلك الزمن لثلاثة قرون متتالية بعد ظهور السيد المسيح بالمقارنة مع رسالة "موعظة الجبل"*التي جاءت بسيطة، وتناشد الجموع الفقيرة في العالم الروماني الإغريقي لاتباع الدين المخلّص الجديد.
انتشرت الدعوة المسيحية وازدهرت، رغم الاضطهاد الرسمي الذي تعرضت له من قبل اليهود، وقد
أصبح العذاب الذي تعرّض له السيد المسيح (ع) من قبل اليهود، نموذجاً مقدّساً لتحمّل الآلام والصبر من أجل الآخرين والرسالة السامية.
من المعتقد أن الديانة المسيحية قد وصلت إلى مصر عن طريق "القسّ مرقص St.Mark" وذلك قبل انتهاء القرن الأول بعد الميلاد ، وقد انتشرت بين عموم الشعب المصري آنذاك إلى أبعد الحدود ، مع أن شخصيات الطبقات العليا من الإغريق والهيلينيين كانوا لا يزالون وثنيين.
إنّ اضطهاد الإمبراطورية للديانة المسيحية، ظهر على شكل موجات متتالية، الأمر الذي سبّب في تنثّرها، وتوزّعها في مناطق مختلفة، وقد كان ذلك في أواخر عهد سياسة التسامح الديني، إلاّ أنهاّ استطاعت - وعلى مدى ثلاثة قرون متتالية- كسب الكثير من الأتباع للدين الجديد، وعلى الرغم
من بقائها مُجرّد أقليّة، فإن الأغلبية بالمقابل، ظلّوا متمسّكين بعباداتهم القديمة تابعين بذلك دين الإمبراطور الأكثر شعبية بطبيعة الحال.
وهكذا، فقد رسّخ المسيحيّون الأوائل وجودهم بشكل جوهري وثابت، وتوزَّعوا بشكل مُنظَّم ومُنَسَّق ضمن طبقات المجتمع المختلفة، واستطاعوا الوصول إلى بعض أعضاء العائلة الحاكمة، والطبقة الأرستقراطية الرومانية، في الوقت الذي كانت فيه آخر موجات الاضطهاد على المسيحية قد شُنَّت على يد"الديوقلاطينDiocltain" في بدايات القرن الرابع بعد الميلاد، لكنهم كانوا جماعة متسامحة وديناميكية، وجيدة التنظيم، ولم تكد تمضي بضع سنوات على تنازل الإمبراطور"ديوقلاط" عن العرش، حتى أعلن خليفته الإمبراطور"قسطنطين العظيمCostantine, The Great" أن الديانة المسيحية قد أصبحت الدّين الرسمي الجديد للإمبراطورية الرومانية، وسواء كان اعتناق الإمبراطور للمسيحية صادقاً أم لا، فقد أدرك أن الإخلاص و الإيمان للدين المسيحي أمر روحي بل ومثالي.
لاقى ظهور المسيحية عطفاً واستحساناً وشعبية كبيرة في زمن انحطاط الإمبراطورية، وخلال القرن الثالث بعد الميلاد، حين بدأ الخطر يُحدق بالإمبراطورية من جميع الجهات، وعلى الأخصّ، الفئات الداخلية المتنازعة، وبالفعل، بدأت الهجمات الدورية من قبل الأباطرة المُنافسين تزداد حدَّةً، حتى تم الانقضاض عليها- من خارج الحدود- على يد "القوطييّن *Goths والفرس Persians "، بيد أنه وفي الوقت الذي أصبحت فيه الإمبراطورية على شفير الانهيار، فقد تمّ إنقاذها مرة أخرى على يد أحد الأباطرة وبمساعدة قادة جيوشه المتمرّسين.
حلَّت الإمبراطورية "البارانثية"عام 224 م - في الجهة الشرقية من الإمبراطورية الرومانية – محلّ "الساسانيينSassanids "الذين قدموا من غربي بلاد الفرس والمُنحدرين من سلالة"سيروسSyrus وداريوسDarius"- وقد دامت إمبراطوريتهم الساسانية قرابة أربعة قرون– وكانت في حالة حرب
دائمة مع القوى المنافسة لها في الغرب، كما أطلق ثاني الحكام الساسانيين"شهبرالأولShaparI" على
نفسه لقب "ملك الملوكKing of Kings" وذلك على الأراضي الإيرانية وغير الإيرانية من المنطقة وكان يشدّد بمطالبته بحقّه في السيادة على العالم آنذاك.

أسّس الإمبراطور"قسطنطين"مدينة "القسطنطينيةConstantinople" عام 330 م في الموقع البيزنطي المميّز على مضيق "البوسفورBospours" حيث تلتقي قارّة أوروبا بآسيا والتي أصبحت عاصمة النصف الشرقي من الإمبراطورية الرومانية- ولا يزال اسمها موجوداً حتى يومنا هذا- وبما أنّها كانت مركز القوّة الرئيسية، فقد نقلت الثروات الغنية شرقاً، وأصبحت العاصمة "روما Rome" من أعظم العواصم رفعةً و ازدهاراً في ذلك العصر.
بعد نصف قرن من الازدهار الذي عاشته الإمبراطورية، وبموت الإمبراطور "ثيودوسيوسTheodosius" انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين ولديه، وخرجت إلى الوجود آنذاك الإمبراطورية البيزنطية الشرقية الهيلينية المسيحية التي سرعان ما فرضت سيطرتها على أقاليم البلقان وآسيا الصغرى وسوريا وفلسطين ومصر، وقد أفلحت في إحكام قبضتها على منطقة الشرق الأوسط بالكامل لأكثر من ثلاثة قرون متتالية، بينما كان النصف الغربي للإمبراطورية ينهار تحت ثقل الغزوات البربرية، إلاّ أنّ التهديد المباشر الذي واجهته الإمبراطورية لم يكن من القوطيين أو الجرمانيين بل كان من التوسّع العدواني للفرس السّاسانيين باتجاه الشرق، ومع ذلك فقد استطاع البيزنطيون- ولمدة مائتي عام على الأقل- من التعايش بسلام و أمان مع الفرس من خلال علاقاتٍ دبلوماسية حاذقة، إلى أن جاء الوقت الذي قرّر فيه الإمبراطور"جوستانيان العظيمJustanian the great 527-565م)أن يُكرّس طاقات إمبراطوريته لإعادة فتح المقاطعات الرومانية الغربية وتوحيد حوالي خمسٍ وعشرين مقاطعة من الإمبراطورية، سيما وقد تكلّلت جهوده ببعض النجاح، في حين تنامى الخطر الفارسي في تلك الآونة- أكثر فأكثر، ففي الفترة الممتدة من عام 534 م وحتى عام 628 م قام الفرس وبشكل متكرر، بغزو واحتلال سوريا، إلاّ أنه كان لابدّ من إرغامهم على الانسحاب منها ثانية.
في عام 616م فتح الرومان مصر وما يسمى بآسيا الصغرى وفرضوا حصاراً شديداً على مدينة القسطنطينية الاستراتيجية بعد أن هزم الإمبراطور"هرقلHeracles" الفرس ورمّم الحدود المحاذية لبلاد فارس والإمبراطورية البيزنطية، لكن- وعلى الرغم من كل ما حدث- فقد ظلّت هاتين الحضارتين (الفارسية والرومانية)محافظتين على قوة سلطاتهما ونفوذهما كأقوى حضارتين في العالم وإن كانتا تعانيان أحياناً كثيرة من مدّ وجزر في تفاصيل ذلك النفوذ.
أثناء تلك الحقبة، وتحديداً بين عامي 570 م و571 م، وفي منطقة الجزيرة العربية(أفقر بلاد العرب آنذاك) ولد الرسول الكريم "محمد"(صلى الله عليه وسلم) في مدينة "مكّة" والذي أصبح، فيما بعد رجلاً فوق العادة، استطاع بما وهبه الله (عز وجل)من نبوءة مجيدة أن يزرع بذور أقوى وأعظم أمّة على الأرض في حينه، هذه الأمة التي اجتاحت الإمبراطوريتين الرومانية والفارسية وجعلتهما أثراً بعدعين.
وُلد النبي محمد (ص) في مدينة مكة التي كانت أقوى مركز تجاري في غربي الجزيرة العربية، وكان أميناً، صادقاً، وفيّاً، ذا عبقريّةٍ وإيحاء، امتاز بطاقةٍ روحيةٍ هائلة، استطاع من خلالها أن يُغيّر تاريخ الجنس البشري برمّته، وأصبح معتنقوا الديانة الإسلامية يشكّلون أكثر من خمس البشر في العالم.
إلاّ أنه- ومع بزوغ فجر الدعوة الإسلامية- برزت وجهتيّ نظر رئيسيتين كوّنتا لاحقاً أهمية خاصة لتاريخ الشرق الأوسط:
- تجسّدت وجهة النظر الأولى في أن فئة من الناس لم يؤمنو بأن النبي محمد(ص) هو رسول الله المختار من عند الله(عزّ وجلّ) حيث أن أهمّ ما جاءت به الدعوة الإسلامية هو مبدأ التوحيد الإسلامي، والأساس العقائدي الذي يتلخّص في شهادة " أن لاإله إلا الله وأن محمداً رسول الله"ولكن شيئاً فشيئاً، ومن خلال بثّ روح هذه العقيدة التوحيدية وترسيخها، آمنت القبائل بمحمد كرسول وأنه آخر الأنبياء وخاتم المرسلين، وأن العقيدة الإسلامية إنما جاءت كدين شامل للجنس البشري قاطبةً مُتمّماً ومُكمّلاً لتعاليم الديانتين اليهودية والمسيحية، وإن كانت بعض القبائل لم تتقبّل تلك التعاليم كاملةً، فإن ذلك إنما يعود إلى بعض الاجتهادات في تطبيق العقيدة الإسلامية التي قام بها بعض أتباع الدعوة خلال فترات حكمهم المتتالية بعد وفاة الرسول (ص).
أما وجهة النظر الهامة الأخرى فتجلّت في أن معتنقي الديانة الإسلامية يؤمنون بالجنّة الموعودة وخلود الروح، وهي عقيدة تبتعد كل البعد عن دنيوية الحياة وبهارجها وزخرفها، وعلى ذلك، فقد كان النبي (ص) موجّهاً اجتماعيّاً ومرشداً روحيّاً ومُنظّماً عبقرياً للمجتمع السائد والغارق في فوضى المعتقدات، كما أصبح بعد نشر الدعوة بين القبائل القريبة من مركز مكة، قائداً سياسياً لا يُشقّ له غبار مما أدّى – لاحقاً – لاندماج الدين والسياسة في تطبيق أركان العقيدة الإسلامية، وذلك بخلاف ما كانت عليه رسالة النبي عيسى (عليه السلام )، والتي اكتفت بنشر التعاليم المسيحية على الصعيد الاجتماعي والإنساني دون التدخّل في شؤون حكم المجتمعات.
وهنا، لابدّ من الإشارة إلى أنه في المجتمع الإسلامي، لاوجود لدولة علمانية مجرّدة عن تفسيرات الدين وأحكامه، حيث أن " القرآن الكريم"– بالنسبة لمعتنقي الإسلام _ هو كلمة الله العليا والنور المرشد والملهم، والصراط المستقيم لفكر وحياة وأحداث الإسلام في كل بقاع الأرض، كما يضمّ في سوره وآياته التعاليم والقوانين السماوية الإلهية المُنزلة من لدن الرحمن (عزّ وجلّ) وطرق تنفيذها ولذلك اتجه الصحابة و أتباع الدعوة لحفظ وتطبيق ما يسنّه الرسول (ص) مُعتبرين أن ما يقوله إنما هو شرح لكلام الله (عزّ وجلّ) وقد دُعيت تلك الأحاديث"بالسنّة النبوية والحديث الشريف " الذي تم نقله وحفظه وتدوينه عن طريق رواة الحديث ممن سمعوا أو نقلوا عمن سمع تلك الأحاديث الشريفة، مما أدّى إلى تآلف تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية، وتكوين ما يسمّى "بالشّريعة الإسلامية"التي أصبحت القانون العام والمبدأ الأساسي لمسلمي العالم كافة، ولا بدّ من ملاحظة أنه لا يوجد في العقيدة الإسلامية ما يسمّى " بالكهنوت "، أو قوانين كهنوتية، بل نظام اجتماعي أخلاقي متكامل ومتكافل، يصف ويوجّه بدّقة كيف يمكن للمسلم أن يحيا حياة رغيدة بمشيئة الله (جلّ جلاله) من خلال تطبيقه لتعاليم الشريعة، وإلاّ فإنّ غضب الله سيحلّ عليه ( عاجلاً أو آجلاً) إن هو ابتعد عن تنفيذ التعاليم والمثل العليا للدين الحنيف، وذلك منذ بدايات الدعوة إلى أن تطوّرت وتوسّعت وازدادت نفوذاً وتأثيراً في القبائل والشعوب المُسلمة، وهذا ما يعلل سرعة الانتشار وقوة النفوذ(وإن كان بعض هذا النفوذ يحمل الطابع المثالي"اليوطوبي*Utopianism"بين القبائل العربية المختلفة)حيث ساد الاعتقاد بأنه لا بد من العودة إلى التعاليم الأولى للرسول (ص) والصّحابة لكي تحُافظ الانتصارات الحاسمة - التي تحققت – على رسوخها وثباتها.
لقد وصف الغرب التعاليم التوحيدية هذه "بالمذهب المعصوم عن الخطأ Fundamentalism" في قضايا العقيدة والتاريخ ومسائل الغيب، وللحقيقة، فإن كل الذين ينفذّون التعاليم الإسلامية وما تنصّ عليه الشريعة، يمكن اعتبارهم مسلمين صادقين ومؤمنين بهذا الدين الحنيف، وبأنّ القرآن الكريم هو رسالة الله الأخيرة للجنس البشري أينما وجد.
اعتبر المسلمون أنّ الانتصارات التي حققها الغرب في القرون الثلاثة الأخيرة إنما هي ضلال تاريخي وانحراف عن طريق الحق و الدين، ولهذا، فإنّه ليس غريباً أنّ العرب لا يزالون متأثّرين جدّا- حتى يومنا هذا- بل وتستحوذ على أفكارهم الإنجازات والمآثر التاريخية للفتوحات الإسلامية الأولى.
عانى الرسول الكريم (صلى) الكثير من المتاعب الشديدة والمتلاحقة بعدما هبط عليه الوحي السماوي لتلقينه تعاليم الدين الجديد وهو لمّا يزل في الأربعين من عمره، حيث كانت شبه الجزيرة العربية مجرّد قبائل صغيرة متناثرة ومحكومة من قبل شيوخ وزعماء ذوي استقلالية، وقد كان السواد الأعظم من العرب البدو يعتقدون بأنّ لكل ما في الكون – وحتى الكون ذاته- روحاً أو نفساً، وأنّ الروح أو النفس، هي المبدأ الحيوي المنظِِّم لهذا الكون، وكانوا يعبدون تلك الأرواح بتجسيدها على شكل أصنام حجرية أو أضرحة، إضافة إلى ذلك، لم تكن لديهم قوانين أو شرائع مكتوبة، لكن الجريمة كانت محدودة جدّاً بسبب الخوف من الثأر والثأر المضاد الانتقامي، والذي يؤدّي لتفاقم حدة العنف المتبادل.
لقد كانت القبائل العربية المعروفة آنذاك دائمة التناحر فيما بينها، مما يستوجب تدخّل بعض الحكماء والوسطاء الحياديون لفضّ الخلافات وبثّ روح الصفاء ثانية، كما لم تك لتلك القبائل حضارة واضحة المعالم إذا ما قورنت مع بعض الحضارات التي كانت حيّةً آنذاك – كالحضارة البيزنطية أو الفارسية – لكنّ تلك القبائل كانت تمتاز بأدبها اللغوي المنقطع النظير، وبلسانها العربي الفصيح والناطق بلغةٍ جذلة الألفاظ وذات مرونة عالية في التعامل مع مفرداتها-وقد تجلّى ذلك في مجال الشعر العربي- ذلك الإرث الأدبي الهائل والموروث التاريخي الذي دوَّنته تلك القصائد العصماء المدهشة والتي جعلت من الشعر العربي ديوان العرب وتاريخهم المكتوب.
على الرغم من تفاخر القبائل العربية بنسبها واستقلاليتها، فإنها لم تك بمعزل عن التأثير الخارجي، فمن خلال احتكاك العرب مع البيزنطيين والأحباش و الفرس من أتباع المذهب "الزرادشتي"، بدءوا يؤمنون ببعض الأفكار التوحيدية شيئاَ فشيئاً، وكان ذلك قبيل بدء الرسول(صلى) بنشر الدعوة الإسلامية، وبعد وفاته- عليه السلام- في الستينيات من عمره، كانت الدعوة قد انتشرت في داخل
وخارج معظم مناطق الجزيرة العربية، واستطاع الجيل الأول للدعوة من شدِّلحُمة القبائل العربية الوثنية المبُعثرة في أرجاء شبه الجزيرة بعد نشر الدعوة الإسلامية فيها ودمجها في أُمَّةٍ واحدةٍ تحت راية الإسلام التي تدعو لعبادة إله واحد هو الله (عزّ وجلّ) والذي لا إله إلاّ هو كامل القدرة وخالق كل شيء.
لقد قام الرسول الكريم (صلى) أثناء حياته بإنجازات مقدّسة لا يمكن لغيره من البشر إنجازها، وقد تابع الخلفاء الراشدين (رض) المسير بعد وفاته (صلى) على نفس خطاه وتعاليمه، وكانوا مُدهِشين في حُكمهم وعدلهم وتسامحهم.
كان يتحتَّم على القبائل الصغيرة التي اعتنقت دين التوحيد الإسلامي مقارعة الحضارتين الأقوى آنذاك ( الفرس و الروم)، ولم تكد تمضي عشر سنين على بدء الدعوة، حتى استطاع المسلمون هزيمة الفرس الساسانيين وفتح عاصمتهم "أصفهانCtesiphone" ومن ثم طردهم خارج حدود بلادمابين النهرين ( العراق حالياً) ثم توجَّه العرب المسلمون بأنظارهم، بعد ذلك، نحو الأقاليم السوريةو المصرية التي يحتلُّها البيزنطيون، فتحركت الجيوش العربية المسلمة نحو شمال إفريقية وقاموا بفتحها، وبعد أن تمّ فتح كلّ من سوريا ومصر، أمضى العرب المسلمين عشر سنين أخرى في تدمير ما تبقَّى من مُخلَّفات الإمبراطورية السّاسانيّة، في حين استمرَّت الإمبراطورية البيزنطية - المُنافِسة- لثمانمائة عام لاحقة.
على الرغم من فتح العرب المسلمون لجزر البحر الأبيض المتوسط " قبرص و أرواد و صقلية" وحصارهم للقسطنطينية لمرّتين متتاليتين، إلاَ أنّهم لم يفتحوا بلاد الأناضول التي كانت تتقاسم السيطرة عليها كلاّ من الإمبراطورية البيزنطية ومملكة أرمينيا المسيحية.
وهكذا، لم تكد تمضي خمسون سنة على بدء الدعوة - وتحديداً في العام 711 للميلاد- حتى كان العرب المسلمون قد عبروا المحيط إلى أسبانيا.
دارت – بعد مضيّ ثلاثين عاماً على وفاة الرسول الكريم(صلى) – رحى أحداثٍ فاصلةٍ حدّدت مستقبل الإسلام فيما بعد، وخصوصاً في موطن النبيّ الكريم (صلى) ففي عام 656 م اغتيل الخليفة "عثمان بن عفّان(رض)" والذي كان سيرث الخلافة بعد أمير المؤمنين"الخليفة عمر بن الخطّاب(رض)" الأمر الذي وضع الإمام "عليّ بن أبي طالب(كرم الله وجهه)" ابن عمِّ الرسول(صلى) وزوج ابنته"فاطمة(ع)" مكان عثمان في الخلافة، مما جعله عرضةً لمقاومةٍ صارمةٍ من أحد القادة البارزين الذي ينحدر، كسلفه الخليفة عثمان، من سلالة " الأمويّين العريقة في مكّة المُكرَّمة" وهو" معاوية بن أبي سفيان" القائد الطموح الذي كان الخليفة عمر بن الخطاب قد عيَّنه والياً على الشام، وقد أدَّت تلك المعارضة إلى نشوب معركة حامية الوطيس خُدِع فيها الإمام عليّ(كرّم الله وجهه) وولده"الحسين (رض)"مما أدّى إلى هزيمتهم على يد الأمويّين، وتقسيم الأمّة الإسلامية إثرذاك إلى قسمين هما:
1- جماعة "السُّنَة"، وتُشكِّل الغالبية العُظمى من المسلمين.
2- جماعة "الشِّيعة" وهم أنصار الإمام عليّ(كرّم الله وجهه) والذين يعتبرون معاوية - والخُلفاء الأمويّين من بعدهم – كمُغتصبين للخلافة، ولا حقَّ لهم فيها، ويُشكِّل المسلمون الشيعة اليوم حوالي 10% من مسلمي العالم، يتوزَّعون في إيران وشبه القارّة الهندية، ونادراً ما يتواجدون في إفريقيا، أمّا في المشرق العربي، فيُشكِّلون حوالي 30% من مجموع سكان لبنان وهم، ربما، يفوقون المسلمون السُّنة من حيث العدد، و في شبه الجزيرة العربية، فإنّ السَّواد الأعظم للمسلمين هم من السُّنة، على الرغم من وجود أقليّات شيعيّة على أطراف المناطق الشرقية لشبه الجزيرة "كاليزيديين" الذين استوطنوا جبال اليمن وينتمون لأحد فروع الشَّيعة.
اتسعت رقعة الخلاف بين السُّنة و الشِّيعة حتى وصلت بلاد فارس(إيران حالياً) واستمرَّت حتى القرن السادس عشر حيث كانت الغلبة لجماعة السُّنة الذين سادت سيطرتهم ونفوذهم فيما بعد، أما في بلاد الرافدين(العراق حالياً) فقد اتبع غالبية السكان المذهب الشيعي، ولا تزال تعتبر بعض المدن العراقية مثل "النَّجفNajaff و كربلاءKarbalaa"مدناً مقدسة لدى الشِّيعة أينما وجدوا.
إنَّ سيطرة المذهب السُّني وإحكامه - بقبضته الحازمة- في معظم البلاد المسلمة قد ساهم إلى حدِّ كبير في اتساع رقعة النفوذ مما عكس تأثيراً بالغاً ومباشراً على تاريخ المنطقة عموماً.
لم يؤدِّ انتصار الأمويين إلى انشقاق الإسلام فقط، بل جعلوا من دمشق عاصمة لما أسموه الإمبراطورية العربية الإسلامية الجديدة "، إلاّ أنَّه وبعد قرن واحد على ذلك - وتحديداً في عام 750 م - هُزم الأمويّون على يد "العباسيينAbbases"الذين كانوا قد شكّلوا حركة ثورية مُنافسة انطلقت من شرقي بلاد فارس، واتخذت من بغداد مركزاً لها مبتدئين بذلك العصر الذهبي للإسلام، والذي يُعَدّ ذروة الحضارة الإنسانية في ذلك الحين.
مع اتساع رقعة مناطق نفوذ المدّ الإسلامي، بدأت تبرز فئتان متماثلتان - لكن غير متحالفتين- وهما"العُرب (الأعراب)، والإسلاميون، فقد بدأت اللغة العربية تطغى في كل من العراق وسوريا الكبرى و مصر وشمال إفريقية وبلدان المغرب العربي على اللهجات و اللغات المختلفة غير العربية التي كانت متداولة (كاللغة الكردية في شمال العراق والبربرية في الجزائر والمغرب) وقد ساعد على الانتشار الواسع للغة العربية كونها لغة مكتوبة، فقد كانت اللغة اليونانية لا تزال متداولة آنذاك في كل من مصر وسورية وفلسطين إلى أن تمَّ إقرار اللغة العربية كلغةٍ رسميةٍ، كما انتشرت في أقاليم الهلال الخصيب وشرق شبه الجزيرة العربية بدلاً من اللغة الآرامية التي انحسرت حتى أوشكت على الانقراض ( لا تزال هناك قريتان في شمال دمشق يتكلم سكانها اللغة الآرامية ويوجد مثلهما في شمال العراق) وكذلك الحال بالنسبة للغة القبطية - التي تكلّم بها قدماء المصريين - فقد بدأت تنطفئ جذوتها رويداً رويداً بعد الفتح الإسلامي، إلاّ أنها استطاعت أن تحافظ على استمراريتها حتى مطلع القرن السابع عشر للميلاد.
كان المدّ الإسلامي- مقارنة مع المدّ اللغوي اليعربي- أبطأ انتشاراً ويعود سبب ذلك إلى الاختلافات العقائدية الجوهرية في المجتمعات اليهودية و المسيحية، والجدير بالذكر في هذا السياق، أن العرب المسلمون - وبما أنهم أهل الكتاب- كانوا مُتسامحين جداً و يتفاعلون باحترام مع تلك المجتمعات
(غير المسلمة) والتي امتزجت مع تطورات ما يجري إسلامياً، لكن المدّ الإسلامي- وإن كان أبطأ انتشاراً – فإنّه كان أكثر شموليةً من اللغة العربية، حيث وصل الزحف الإسلامي إلى سمرقند وحدود الهند، وبعد بضعة قرون لاحقة، كان ملايين الناس في شبه القارّة الهندية والصين العظمى وجنوب شرق آسيا- ومن مختلف الأعراق والقوميات-قد اعتنقوا الإسلام، لكن فهمهم للغة العربية كان محدوداً (خصوصاً فيما يتعلق بطقوس الشعائر الدينية)، أما في بلاد فارس، فقد حافظت اللغة والثقافة الفارسيتين على استمراريتهما بعد الفتح الإسلامي نظراً لاعتناق عموم السكان الديانة الإسلامية واتخاذهم من الخط والحروف والمفردات العربية أساساً في كتابة نصوصهم ولغتهم المتداولة، لكنه اليوم، وعلى الرغم من ذلك، فإن نسبة المسلمين الذين يتكلّمون اللغة العربية في عصرنا الحديث تكاد لا تتعدى خُمس مجموع عدد المسلمين في العالم، وبالمقابل، فرغم أن الفتح الإسلامي لم يصل بلاد الأتراك، إلاّ أنّ الغالبية العظمى منهم قد اعتنقوا الإسلام في القرن العاشر للميلاد، وامتزجت اللغة التركية بالكثير الكثير من المفردات والكلمات العربية المأخوذة أصلاً من المفردات الدينية والتعاليم الإسلامية و القرآن الكريم ومختلف العلوم والثقافة العربية حيث أصبحت اللغة التركية، كاللغة الفارسية، ممزوجة ومكتوبة بالخط العربي.
كانت اللغة الفارسية وعلومها قد غزت جنوب شرق آسيا في القرن الثاني عشر للميلاد، وقد اعتمد المؤلفون وعلماء اللغة الأتراك على كلّ من قواعد ونحو اللغتين العربية و الفارسية لابتكار مبادئ اللغة التركية العثمانية، وهكذا، فإنّ اللغات الثلاث ( العربية و التركية والفارسية) قد أصبحت اللغات الأساسية المكتوبة و المقروءة من قبل غالبية سكان منطقة الشرق الأوسط من عرب و فرس وأتراك إلاّ أنه بقيت هناك أقلّيتان سُكّانيتان قاومتا الاندماج اللغوي، وحافظتا على وحدة هويتهما اللغوية وهما" الأرمن والأكراد"، فالأرمن- الذين كانوا، ولا يزالون- يمتازون بحضور قوي منذ القرن السادس قبل الميلاد حين كانت بلادهم تمتد من شرق تركيا إلى ما وراء أقاليم القوقاز السوفياتية، وحيث يُعتقد بأنهم أقدم أُّمة مسيحية على الإطلاق، ولديهم كنيستهم الرسولية الضّاربة في القدم كما كانت لديهم مملكتهم الخاصة المستقلة والمزدهرة لعدة قرون غابرة قبل دمجهم بالحضارة الإسلامية في القرن الرابع عشر للميلاد، لكنهم، وعلى الرغم من تشتتّهم في أنحاء الشرق الأوسط وما وراءه، فقد ظلّوا أوفياء ومخُلصين للغتهم ودينهم وثقافتهم وموروثهم التاريخي.
أما الأكراد، فقد استوطنوا في المناطق الجبلية البعيدة والعالية، ويدلّ التاريخ القديم على تداخلهم مع الأرمن، بيد أنهم يتكلمون عدة لهجات محلية مشتقَّة من لغة هندوأوروبية، لكنها مرتبطة نوعاً ما باللغة الفارسية، إلاّ أنهم، على عكس الأرمن، لم تكن لديهم دولة مستقلة، وإن كانوا أقلّ تشتّتاً وانتشاراً، ويقطنون اليوم في المناطق الممتدة من شمال غرب إيران حتى شمال شرق العراق وسوريا وشرقي تركيا.
لقد أوهنت الصراعات المستمرة بين الإمبراطوريتين ( البيزنطية والفارسية ) قواهما ومراكز نفوذهما الأمر الذي ساعد العرب كثيراً في فتوحاتهم الإسلامية للمناطق الآسيوية، كما ساهمت القوانين الإمبراطورية الجائرة في اتساع الهُوّ’ة بين الحكم و الشعب، وكان لابدّ للفاتحين المسلمين العرب من إيجاد سلطة سياسية دينية متينة ومتفوقة على سابقاتها، بحيث تستقطب كل ما حولها من فئات الشعب وذلك لأجل تمتين دعائم الحكم الإسلامي، وقد أفلح هؤلاء القادة العرب في فن الحكم والسلطة والسيطرة على المفاصل الرئيسية للقيادة الناجحة محقّقين إنجازاً حضارياً متفوّقاً، بعد أن كانوا قبل الإسلام مجرّد أفراد في قبائل بدوية تقطن الصحراء، إلاّ أنهم وقد ارتشفوا صفاء الدين وهدايته وروحه ونهلوا من ينابيع الشريعة و تعاليم القرآن، واستوعبوا تعاليمه المتسامحة و البسيطة الواضحة استطاعوا أن يغيّروا وجه التاريخ في المنطقة، واليوم، فإنه لا عجب في أن العرب يؤمنون بأنه لا بدّ من إحياء أمجاد تلك الأيام الغابرة.
كان قادة المجاهدين المسلمين الأوائل في بديات الدعوة ينحدرون من سلالات القبائل العربية الأصيلة وقد شكّلوا جيشاً من بضعة آلاف من نخبة فرسان ومقاتلي تلك القبائل الذين أسلموا، أما باقي المجاهدين الوافدين، من غير العرب الذين انضمّوا تحت لواء الجيش الإسلامي، فقد كانوا من الفرس والمصريين، ومزيج من أبناء المشرق وبرابرة شمال إفريقية، وقد لُقِّبوا (بالأنصار أو الموالي).
على الرغم من صلات القُربى و النسب بين القبائل المُنتشرة ( مسلمون وغير مسلمين ) فإنّ اللغة العربية كانت لسان حال تلك القبائل، وهي أيضاً اللغة التي نزل بها القرآن الكريم الذي آلف بها بين قلوب المسلمين كافة، وألغى الفوارق و الطبقات بين فئات المجتمع الإسلامي، وأصبح الزواج من نساء ( الأنصار أو الموالي ) أمراً مألوفاً ومُحَلّلاً لرجال المسلمين من القبائل الأصلية المسلمة، وشيئاً فشيئاً اندمجت جميع طبقات المسلمين في لُحمةٍ عربية إسلامية واحدة، كما تغيّر مصطلح(العرب) الذي كان يُطلق على قبائل البدو الرُّحَّل الأوائل، ليشمل في معناه الحديث كلّ من كانت ثقافته ولغته عربية.
ظهرت أثناء الخلافة العباسية حركة لغوية عرقية دخيلة ( غير عربية)، حاولت الاندماج بالحضارة الإسلامية، في حين كانت اللغة العربية هي اللغة الرسمية السائدة، الأمر الذي أثار حفيظة العرب الأصليين للحفاظ على مراكز النفوذ في الحكم، في حين أوشكت تلك الحركة على أن تصبح مألوفة ضمن المجتمع، وقد أدّى تظافر الدين الإسلامي واللغة العربية إلى شدّ لُحمة المجتمع بقوة وحكمة لمواجهة الحركات الدخيلة ودفعه إلى حيث الازدهار.
اعتمدت الخلافة العباسية لتحقيق ازدهارها على تعاليم الحضارتين ( الفارسية و الإغريقية ) اللتان كانتا سائدتان- ولم يتم تدميرهما- ولبعض الوقت، لم يكترث الحُكّام العرب لأنظمة الحكومات والإدارات المختلفة- التي حافظت على بقائها- إلى أن تم ّ دمجهم فيما بعد في تركيبة المجتمع.
أدّى نقل عاصمة الخلافة الإسلامية العباسية من دمشق إلى بغداد إلى تغيير مركز جاذبية الحُكم باتجاه الشرق، لكن ذلك أدّى أيضاً إلى تقليل أهمية منطقة الشرق الأوسط و النفوذ الشرقي، الأمر الذي أثار حفيظة الفرس لبسط نفوذهم المُطلق، لكن إزالة الحدود الأمامية لبغداد جعل منها مركزاً تجاريّاً مزدهراً وهامّاً راح يتسع أكثر فأكثر بحيث جعل معظم فئات الشعب يعملون بجدّ ونشاط في استثمار مجالات التجارة المختلفة، فأبحرت السفن العربية باتجاه الصين وسومطرة والهند، وباتجاه الجنوب وعلى طول السواحل الشرقية لإفريقية وصولاً إلى مدغشقر، فتعرَّفوا بذلك على العالم، وتعلَّموا ثقافات الأمم المختلفة وتفاعلوا مع الحضارات، وعاشوا فترة ازدهار منقطعة النظير خلال العصر الذهبي العباسي للحضارة الإسلامية.
في البداية، احتلّت ترجمة الدراسات العلمية و النظريات الفلسفية للحضارات القديمة المرتبة الأولى في تلك الرحلات، ولكن سرعان ما بنت الحضارة الإسلامية صروحاً شامخة من الإنجازات المُدهشة في مجالات العلوم و الطب و الفن و الأدب، لكن، وكما يحدث في كل الحضارات البشرية، فقد برعمت بذور الانحطاط و الأفول حين كانت هذه الحضارة في ذروة ازدهارها.
لقد استخفَّ الخلفاء و القادة بنظام الاتصالات وتبادل الأفكار والمعلومات- الذي شعَّ من بغداد- ولم يعد بوسع العاصمة ممارسة وضبط كامل السيطرة والنفوذ على الأقاليم و المقاطعات التابعة لها ففي مصر وشرقي بلاد فارس، سيطر الحكّام المحلّيون على السلطة مُعلنين استقلالهم الذاتي، فالخلفاء الذين اعتمدوا - في البداية- على مراكز نفوذهم العليا أدركوا – متأخّرين- من أن الحُكَّام والولاة الذين قاموا بتعيينهم لإدارة وحكم الأقاليم و الولايات المتفرّقة، قد قاموا بتحويل ممتلكات وخِرَاج تلك المقاطعات لصالحهم، مُتمرّدين بذلك على القيادة المركزية في بغداد، مما حدا بالخليفة العباسي لاستقطاب وتدريب العبيد الشُّبان من الأتراك المماليك الوافدين(مما يعرف الآن "بتركمستان السوفيتية") وأوكل إليهم مهمة المحافظة على أمن و استقرار ووحدة البلاد، وعلى الرغم من أن هؤلاء المماليك كانوا يتكلمون اللغة التركية، إلاّ أنهم لم يكونو من عرقٍ واحدٍ، بل مزيجاً متنوعاً من أكرادٍ و منغوليين، وآخرين من وسط آسيا، وسرعان ما تحوَّل هؤلاء المماليك المرُتزقة إلى فرقٍ عسكريةٍ فاعلة، وأدركوا – بذكاء – أنّ نفوذهم المُتزايد وسلطتهم المتينة المتماسكة تؤهِّلهم تماماً لأخذ زمام السيطرة، فقاموا عام 861 م باغتيال الخليفة في بغداد، وأعلنوا تأسيس قيادة عسكرية ديكتاتورية.
استولى القائد المملوكي التركي الأصل"ابن طولونIbntolone" في عام 867 م على مصر واحتلَّ سورية بسهولة ثم قام بتوحيدها ثانية مع مصر إلى أن أصبحت المنطقة بالكامل تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية في القرن السادس عشر الميلادي.
وهكذا، فإنه ومن خلال نظرة سريعة إلى الوراء، نجد أن الدولة العربية العباسية الإسلامية قد دامت لأكثر من قرنين من الزمن، وقد امتدّت لتشمل معظم مناطق العالم الجغرافية المعروفة آنذاك، عدا شمال أوروبة والصين التي كانت في أوج قوتها و ازدهارها.
فتح العرب في النصف الأول من القرن الثامن للميلاد أسبانيا ونصف فرنسا، وجزيرة صقلية ومعظم جنوب إيطاليا، لكن نقل عاصمة الدولة من دمشق إلى بغداد، أدّى إلى إضعاف السيطرة على منطقة الشرق الأوسط بشكل كبير ومؤثر، ومع حلول القرن التاسع الميلادي، كان دور بغداد قد انتهى كعاصمةٍ سياسيةٍ وعسكريةٍ للدولة العباسية، لكنها حافظت على بقائها كعاصمةٍ ثقافيةٍ وفكرية للعرب الذين ظلُّوا سبَّاقين- وعلى مدار القرنين التاليين- في معظم مجالات الثقافة والفكر و العلوم كما ظلَّت بغداد قلب الثقافة النابض، إلى أن فرضت القوات العسكرية التركية- الحديثة النَّشأة - سيطرتها على المنطقة الشرق أوسطية بالكامل.
عانت القيادات التركية المهُيمنة – ومنذ بداياتها – من بعض مواطن الضعف ففي عام 969 م وبعد مضي ما يقارب المئة عام على احتلال مصر من قبل السلالات التركية الضعيفة قام "الفاطميون" بغزو مصر من جهة الغرب، وقبل أن يتوجّهوا بغزواتهم نحو شمال إفريقيا، قاموا بإنشاء قيادات دينية لهم في سوريا وتزعموا حركة "الإسماعيلية الشيعة" التي تم تكريسها لإسقاط وهزيمة الخلافة العباسية حيث اعتبرتهم بغداد مجرد مُنشقّين ومُتمرِّدين على الأصل العباسي.
نقل الفاطميون مركز نفوذهم من مدينة "الفسطاط" القديمة إلى القاهرة المدينة ذات العظمة والأهمية البالغة واعتمدوها كعاصمة جديدة لهم منافسين بذلك عاصمة الخلافة العباسية بغداد، ومنها انطلقوا غرباً فوصلوا بلاد المغرب العربي وعبروا المحيط الأطلنطي وصولاً إلى جزيرة "صقلية".
على الرغم من أن الفاطميين لم يتوسّعوا شرقا، إلاّ أنّ عدم الاستقرار الذي عانت منه بغداد كان يعني أنّ الازدهارالاقتصادي والثروات التي كانت تنعم بها الدولة العباسية قد تحول طريقه من الخليج العربي نحو البحر الأحمر الذي أصبح المعبر الجديد، الأمر الذي أدّى إلى ازدهار القاهرة على حساب بغداد.
أما بالنسبة لكل من سوريا وفلسطين فقد استأنفتا دورهما التاريخي كساحتي قتال بين حكام دجلة والفرات، وأندادهم الجدد المسيطرين على مناطق وادي النيل، لكن حدثاً جديداً وقع حينذاك مُضيفاً فصلاً آخر من فصول الشقاء الطويلة للتاريخ السوري القديم، وذلك حين قام البيزنطيون – الذين
عانوا وعلى مدى ثلاثة قرون متتالية من الغزوات العربية الإسلامية- من الانتقام وبين عامي
(962-1000 م) كانت سوريا قد احتُلّت ثماني وثلاثين مرة على يد الأباطرة البيزنطيين.
في عام 1018م أعلن الخليفة الفاطمي"الحاكم بأمرالله"بأنه هوالله، وقد تجلّى للبشر مخُلِّصاً ومرشداً كما نشأ بعد موته مذهبٌ دينيٌّ جديد يقوم على تأليه الحاكم، وبأنه لم يمت وإنما اختفى وسيعود
مستقبلاً ليقود الجيوش والأمم نحوالنصرويفتتح العصر الذهبي الجديد للإسلام والعالم، وقد لقِّب أتباع هذا المذهب "بالدروز"* وذلك نسبة لأحد أهم الدعاة "نشتكين الدَّرَزي*" الذي هاجر من مصر واستقرَّ في جبل لبنان، ويعتبرون اليوم من الطوائف المهمة للغاية على الرغم من قلة عددهم (يوجد أكثر من مليون من المسلمين الموحِّدين الدروز يعيشون في لبنان وسوريا وفلسطين) وقد حافظوا على بقائهم كواحدة من الطوائف التي تنتمي للمذهب الإسلامي الشيعي، والجدير بالذكر هنا أن الدروز قد مرُّوا بالكثير من المحن و الأحداث العصيبة على مرّ التاريخ، كما أن لهم دور بالغ الأهمية في تاريخ المنطقة، ومن أشهر الطوائف التي برزت أيضاً طائفة " العلويين أو النصيّريين" التي ازدهرت بادئ الأمر في محيط مدينة حلب في القرن العاشر للميلاد، وقد استطاعت البقاء و التأقلم مع المتغيرات والظروف المحيطة، و اليوم يشكل أتباعها حوالي 10% من مجموع السكان في سوريا ومن بينهم القائد التاريخي "حافظ الأسد" وبعض أعضاء حكومته الذين قادوا سوريا إلى نقطة تحوُّل تاريخية مميزة، بحيث أصبحت دولة ذات شأن بالغ الأهمية وتاريخٍ حديث وحضارة مزدهرة قلَّ نظيرها بالمقارنة مع ما حدث لتاريخ سوريا عبر العصور الغابرة.
على الرغم من الغزو المتكرر الذي عانت منه سوريا و فلسطين على مدى الزمن، إلاَّ أن البيزنطيين حين أعادوا الكَرَّة واحتلُّوا هذه البلاد، لم تكن لديهم القدرة الكافية لإحكام السيطرة عليها، وللحقيقة التاريخية، فإن كل الإمبراطوريات(البيزنطية والعباسية والفاطمية) والتي تعاقبت في سيطرتها على الشرق الأوسط، قد وصلت إلى حالة من الانحطاط التام في منتصف القرن الحادي عشر للميلاد وذلك عندما برزت في المنطقة قوة جديدة مؤلفة من القبائل التركية الرُّحَّل القادمة من أواسط آسيا، وعُرفوا – لاحقاً – "بالسَّلاجقة"، وقد قام أحد قادتها بغزو بلاد فارس، وبحلول عام 1050م تمَّ احتلال بغداد وأُخضعت الخلافة العباسية لسيطرتها.
وفي عام 1071م احتلَّ السلاجقة سوريا و فلسطين وأجبروا الفاطميين على التراجع إلى مصر ومع نهاية القرن الحادي عشر كانت إمبراطورية السَلاجقة قد أحكمت السيطرة على بلاد فارس وبلاد مابين النهرين، لكن مقاتلي السلاجقة التركمانيون كانوا يتطلَّعون إلى احتلال الأراضي الغربية الخصبة للإمبراطورية البيزنطية.
في عام1071م، أوقع السلطان السلجوقي "أرب أرسلانArpArslan"هزيمة نكراء بالجيش البيزنطي
واستطاع أسر إمبراطورهم، وبذلك، أصبح المسلمون الأتراك هم سادة المنطقة الشرق أوسطية ككل.
استطاع البيزنطيون- وعلى مدار أربعة قرون – من حماية العالم المسيحي الغربي من موجات الفتوحات الإسلامية المتلاحقة القادمة من الشرق، وحين استشعرت الإمبراطورية البيزنطية بخطر الانهيار أمام المدِّ الإسلامي الساحق، لم يكن أمام الإمبراطور البيزنطي
"أليكسوس كومينوسAlexiusCommenus (1081 – 1118م)" سوى الاستغاثة بالبابا
"أوربان الثاني "UrbanII" لنصرته في قتال الفاتحين الجدد غير النصرانيين.
أعلن البابا في 27 تشرين الثاني من عام 1095 م الجهاد المقدس، واستُدعي مُجنَّدون جدد تمَّ زجُّهم لنجدة الإمبراطورالمُستَغيث وجيشه المُتمركز في الشرق الأوسط ومن أجل إعادة الأمن والاستقرار لطريق الحُجَّاج والسياح المسيحيين القادمين لزيارة الأراضي المُقدَّسة*.
أفلحت الحملات الصليبية الأولى التي قام بها مسيحيوا أوروبة الغربية من غزو الشرق الأوسط وسقطت مدينة القدس بأيديهم عام 1099 م، حيث قام الصليبيون آنذاك بارتكاب مجازر فظيعة بحق السكان المسلمين و اليهود على حدٍّ سواء، ثم أقاموا مملكة لاتينية مركزية في القدس بالإضافة لثلاث إمارات صليبية متفرقة أخرى، وُيعتقد- في ذلك الحين- أن الخليفة العباسي في بغداد والسلاطين السلاجقة، لم يكترثوا كثيراً لما كان يحدث في سوريا و فلسطين اللتان كانتا خارج حدود مصالحهم واهتماماتهم، وبعد محاولة واحدة وفاشلة قام بها الفاطميون لتحرير ما يمكن تحريره من المقدسات، تخلَّى هؤلاء أيضاً عن حماسهم، وأقلعوا عن أية محاولات جديدة لاسترداد القدس، وحتى في سوريا، فقد كان أركان النظام التركي الحاكم غارقون في عداوتهم وأحقادهم الشخصية، الأمر الذي منعهم من القدرة على القيام بأية حركة تحريرية، بل آثر بعضهم التحالف مع بعض القادة الصليبيين الذين كانوا أيضاً متناحرين فيما بينهم على مناطق النفوذ.
كانت الولايات المسيحية المستحدثة الصغيرة - والهشَّة نوعاً ما- متواضعة الثقافة والحضارة (وقد دُهش المسلمون على سبيل المثال من بدائية المعرفة الطبية لدى الصليبيين آنذاك) وحيث لم يكن يُنظَر إليها على أنها تشكل أي تهديد مباشر للعالم الإسلامي، كما لم يقم قادة تلك الولايات بأية منافسة أو تهديد الأمر الذي أوقعهم لاحقاً في ورطة كبيرة حين اتحدت جموع القبائل العربية المسلمة المحيطة بهم معلنين الجهاد المقدس ضد الوجود الأجنبي.