المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : رجل محترم جدا قصة قصيرة لابراهيم درغوثي- تونس



ابراهيم درغوثي
15/12/2006, 08:19 PM
رجل محترم جدا
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس


إهداء : إلى سيدي عبد الله قش ، نفعنا الله ببركته .

مضى الآن أكثر من عشرين عاما على آخر زيارة لي لهذا الشارع . أنا الآن في الأربعين . رجل محترم . رجل محترم جدا . ولست أدري أي شيطان ركب رأسي وقادني إلى سوق زرقون * . الكتب مازالت كعهدي بها مكدسة على قارعة الطريق .كتب باللغة العربية : الشيخ العارف أبي عبدالله محمد بن أبي بكر علي النفزاوي يعرض كتاب الروض العطر في نزهة الخاطر ، ويحكي علنا بصوته الطنان عن المحمود من النساء والمكروه من الرجال . عن كيفية الجماع وعن مضراته . عن مكائد النساء ، وعن الأدوية التي تسقط النطفة من الرحم . عن أسباب شهوة الجماع وعما يقوي عليه .
وابن شداد يصيح : حصاني كان دلال المنايا ...
و رأس الغول مقسوم إلى شطرين . وسيف علي بن أبي طالب ما زال يقطر من دمه .
وكتاب دلائل الخيرات .
والمنفرجة : اشتدي أزمة تنفرجي * قد آذن ليلك بالبلج
ومسجلات تصرخ بمدائح عن مولد الرسول :
عطر اللهم قبره الكريم * بعرف شذي من صلاة وتسليم * اللهم صلي وسلم وبارك عليه .
وديوان المتنبي مخطوطا بالحرف المغربي الأنيق ، وبماء الذهب :
وما المجد إلا السيف والفتكة البكر * وتضريب أعناق الملوك * وأن ترى لك الهبوات البيض * والعسكر المجر * وتركك في الدنيا دويا ...
وبين القصرين والسكرية وقصر الشوق . مبروك يا نجيب محفوظ .ولن أقول مع القائلين بأن ملك السويد توجك بتاج نوبل لأنك باركت كامب ديفد ، وصفقت للسلام مع إسرائيل .
وكتب مبلولة بماء المطر .
وكتب صفراء تفوح منها رائحة الجراد الميت .
وكتب حمراء تحمل صور لينين حزينا مهموما .
وكتب باللغة العبرية من بقايا يهود تونس ، سافر أصحابها ونسوها هنا .
ربما للذكرى .
وكتب إيطالية ومالطية .
وكتب فرنسية : روايات وأشعارا .
وكتب تاريخ : نابليون بونابارت أمام اهرامات الجيزة .
ولويس الرابع عشر يجادل وزراءه .وثوارال89. والملكة الرقيقة تقذف الرعاع بالبسكويت من فوق شرفات القصر . وديدرو ومنتسكيو وفولتير .
وأبحلق بعيون كثيرة في المقصلة التي ذبحت الملك .
وأقوم أساوم البائع . أدفع له الدراهم وأتأبط رزمة الكتب .
ولعن الله هذه المسجلات وأغانيها الهابطة التي حرمتني من الاستماع إلى تحية أصدقائي تأتي خافتة من تحت إبطي . من وسط رزمة الكتب : شكرا يا رجل لقد تناسانا الخلق هنا . كنا نموت مرتين في العام ، بردا في الشتاء وحرا في الصيف ولكن ها نحن كما ترى في صحة جيدة .
قال لينين : لقد داس على عنقي رجل ملتح وسبني . وقال لأصحابه دوسوا على هذه الجيفة . لقد شفي غليلي عندما رأيت كتبه في الزبالة في سان بطرس بورغ وصوفيا وتيرانا . سأعود غدا لأشتريه وأحرق جثته أمام المسجد .
شيء واحد لم يتغير في هذه الأسواق : إلحاح الباعة المتجولين :
-خذ هذا السروال بعشرة دنانير يا سيدي .
- لا أريده .
- خذه بخمسة فقط .
- لا .
- خذه ببلاش يا..
- قلت لك لا .
- يلعن أبو والديك .
يقولها ويتركني ليصطاد زبونا آخر .
وأواصل السير داخل دهاليز السوق .
ويصدمني بائع آخر يعرض أمامي سلعا مهربة : ساعات من ايطاليا وشفرات حلاقة مدموغة ب صنع في إسرائيل وراديوهات وأشرطة كاسات للفيديو وسراويل دجين ....
وأهرب من وجهه فيلح . وأقول إنني لا أملك نقودا ، فيكاد يفتش داخل جيوبي . وأحمد الرب لأنه قبض على زبون آخر . وأهرب فتصدمني روائح البخور والند والحنة وعود القماري القادمة من هناك ، من شارع سيدي عبد الله قش *.
عشرون سنة مرت على آخر زيارة لي لهذا الشارع . وأنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا .النساء طوع بناني . بنات الأوتيلات الفاخرة ، والملاهي . أشير بإصبعي فتأتي بلقيس إلى طاولتي . فماذا جاء بي إلى هنا ؟
وتزمجر أشرطة الكاسات :
- حبيبي يا صحابي جاني * من بعد الفراق هناني **
- فأتذكر : قالوا زيني عامل حالة * ما لا لا
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأرى الصالحة أمام باب الماخور ، تهز ردفيها وتحرك نهديها بطريقة تغري ملائكة الرحمان :
- بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
وأصعد وراءها درجات السلم واحدة واحدة . وعيناي تنبحان ككلب شرس .
وصاحبتي تهرب من العيون الكاسرة . وتضرب الباب برجليها بعدما ألج الغرفة :
بهذلت قلوب الرجالة * ما لا لا .
ماذا جاء بي إلى هنا ، وأنا الآن رجل محترم جدا ؟


*****
روح يا ولد القحبة .
وتلوح في وجه الطفل بعصاها .
طفل .
وعصاها .
وولد القحبة .
وقهرمانة واقفة بالباب .
روح يا فاسد الله يلعن والديك . أولاد آخر زمن . على عهدنا كان الرجال يهابون سطوة هذا الشارع .
هذا بابها .
ها هنا كنا نرقص .
وتغمز بعينيها
وتبيع لمن يشتري .
وكنت دائما أشتري . في الربح وفي الخسارة . ولا أتذمر .
أطلب منها أن تغني ، فتغنيني :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل *
أم القد طويل * وزينك ما ريتو في جيل * آ صالحة .
فأدفع الثمن وأهرب . وتناديني ، وأهرب .
وتتعرى من ورق التوت ، وأهرب .
وأقول لها : لن أعود أليك مرة أخرى ، وأعود
وأضرب الدف ، فترقص ، وتغني :
قدك بابور * صالحة
عوام بحور * صالحة
عوام بحور * ورسى على تونس بالليل * آ صالحة
وأضرب الدف . وأقول : بكم أشتريك يا صالحة ؟
فترد : بدينار واحد يا صاحبي .
وأضع الدف فوق السرير . وأهبط درجات السلم واحدة واحدة . وأضع يدي أمام فمي على هيئة بوق ، وأصيح : لن أعود إليك مرة أخرى يا صالحة .
فترد ضاحكة : حاول ، وإذا نجحت شريت لك نزل أفريكا .

*****
روح يا ولد القحبة ...
وتنغرس في أذني هذه الكلمات كالمسامير. وترتبك خطواتي .ويحمر وجهي . ولا أدري ماذا أفعل .
يا ولد القحبة ...
ويقفز من أمامي طفل يحمل رزمة أغطية للرأس ، فولارات ، ذات ألوان زاهية . يصدمني في اندفاعه ، فأكاد أسقط على الأرض .
يعتذر الطفل : هذه القهرمانة ترفض دفع ثمن مشترياتها .
التفت حيث يشير الطفل ، فأراها . ويندفع الغناء في أذني رخيما كشدو البلابل :
شارد بهواك * صالحة
وانت مابطاك * صالحة
نخطب باباك * ونعزمله في نصف الليل
لكان اعطاك * انحطك في جيبي ليمين * آ صالحة .
وأنظر إلى المرأة . القوادة الواقفة أمام باب البيت .فوق آخر درجة . كانت تحمل في يدها عصا من البلاستيك وتلوح بالعصا في كل الاتجاهات .
رأيت نظارة طبية فوق أرنبة أنفها . فسويت ملابسي ، ومشيت .
هذه العين السوداء التي تطل من وراء النظارة ، أعرفها .
وأمشي ...
هذه العين التي تذبح كالمدية ، أعرفها .
وأمشي ...
البيوت على جانبي الطريق مفتوحة الأبواب . واللحم معروض للفرجة . وأكداس من الرجال أمام الأبواب يتفرجون على امرأة تعرض نهديها .
وأمشي ...
صاحبتي كانت دائما ترسم خالا على خدها الأيمن ، فوق الشفة العليا . وتلك القوادة ، الواقفة بالباب ، هل كان لها خال ؟
وأمشي ...
أنتبه إلى أرجل المارة حتى لا أدوسها .
وأمشي ...
ينقذف كهل داخل بيت تكدس أمامه الخلق ، ويئز الباب وراءه . وتصيح مطربة بأغنية ماجنة . وتنبح الكلاب بين أفخاذنا.
وأمشي ...
صاحبتي لم تكن تضع نظارة طبية فوق أنفها .
ووسع ولد القحبة ... اترك الطريق للمارين ...
يتفرق الشباب من أمام الأبواب . يتركون المكان والحسرة تأكل قلوبهم . ويتكدس مكانهم رجال آخرون .
وأمشي ...
ويمشي معي الطريق ...
وأجدني من جديد أمام باب القهرمانة التي جرت وراء الطفل ، بائع أغطية الرأس .
أرى الخال على صفحة الخد ، فيقرع قلبي طبول الفرح . وأتعرف على العينين اللتين تذبحان كالمدية .
وأنا الآن رجل محترم .
رجل محترم جدا .
وهذا الخال عزيز على قلبي .
وأمشي ...
وينشي معي الطريق ...
ما كنت وقتها أضع ربطة عنق .
ما كنت ألبس البدلات الفاخرة .
ما كنت مترهلا .
وبطني ، ما كان بها هذا الكدس الكبير من اللحم والشحم .
كنت أكره الرجال ذوي البطون السمينة . وأسبهم أمامها وأقول لها : سآتيك يوما بشواء من مؤخرة رجل سمين . فتضحك وتقول : سأطعمك من هذا اللحم مع كؤوس الجعة . فأعضها من عنقها الطويل . وأمص شفتيها . فتبكي وتقول : سآكل معك من لحوم الرجال السمان .
وأعود مرة أخرى أتثبت في العينين اللتين تذبحان كالمدية .
هي الآن تحكي مع بنت . حلوة كالشهد هذه البنت التي تحكي معها . اقترب منهما . تنظران نحوي . ليس من عادة الرجال المحترمين جدا الذهاب إلى هذا الشارع مادامت السلعة معروضة في الأنزال الفاخرة . أسلم عليهما . تردان السلام . أدخل . تدخل البنت ورائي . تتعرى البنت .وأجلس على حافة السرير .
ما اسمك يا بنت ؟ -
- ميمي يا سيدي .
- ومن أسماك ميمي يا بنت ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
- من ؟
- للا الصالحة يا سيدي .
وتدق أجراس كل كنائس العالم في رأسي ، فأموت جالسا على حافة السرير . وتهدهدني البنت ، فأبعث من جديد شابا في العشرين من عمري .أمرغ وجهي في وجه صالحة ، فتمسح دم الجرح النازف فوق الحاجب الأيمن، ومن الفكين ،وداخل شعر الرأس .
تقول : ستهلك نفسك يا صاحبي . أنا لا أفهم في السياسة ولكنني متأكدة من أنها ستقتلك .
وترشني بماء الكونوليا . وتقبلني . فأموت بين يديها . وتحييني من جديد هزات السرير .
*****
تعرفت عليها عندما فرق البوليس مظاهرة كنت مشاركا فيها . انطلقنا من ساحة الباساج نلوح بالأيدي وبالأعلام الحمراء . ونهتف بسقوط أمريكا ، والأمبريالية العالمية ، وروجرس ، وفك الارتباط على قناة السويس . ونهتف بالنصر لثوار الفيت كونغ ، وهوشي منه ، وغيفارا ، وكاسترو .
طفنا بشوارع باريس ، ومحمد الخامس ، والحرية ، والحبيب بورقيبة . وعندما وصلنا إلى شارع فرنسا فرقنا البوليس . وجرى وراءنا . فهربنا داخل شوارع المدينة العتيقة . جرينا وجرى البوليس وراءنا .
وامتدت العصي الغليظة تضرب .
والأيدي تضرب .
ومؤخرات البنادق تضرب .
وسال الدم .
وطارت الخراطيش الفارغة في الهواء . وزدنا في سب جونسون ، فزادت شراسة البوليس .
وامتلأ الجو برائحة القنابل المسيلة للدموع . وضاقت بنا السبل .
وجدت نفسي محاصرا ، فاندفعت باتجاه نهج زرقون . جرت الكلاب ورائي ، فجريت أسرع منها . سمعت نباحها خلف ظهري . وتصورت أنيابها الحادة تنغرس في مؤخرتي . فجريت ... وجريت ... وجريت ، إلى أن رأيت العيون التي تذبح كالمدية .
نادتني : تعال هنا أيها الهارب .
لوحت بيدها ونادتني : تعال هنا أيها الهارب .
ووصلت الكلاب فلم تجد سوى الأبواب الموصدة .
نبحت الكلاب كثيرا ، وبالت على الحيطان ، وعادت أدراجها تلهث .
عندما غاب نباح الكلاب ، خرجت من عند المرأة شكرتها كثيرا ، وبست يدها ، وغادرت المكان .وجدتني في شارع سيدي عبدالله قش .
مادا سيقول عنك الرفاق يا رجل لو رأوك تخرج من عند هذه المرأة ؟
ماذا ستقول لهم وقد كنت قبل حين تهتف بسقوط أمريكا ؟
ماذا ؟ وماذا ؟ وماذا ؟ ماذا ستفعل ؟
وقررت الهرب . انسللت من شارع خلفي ، ولذت بالأنهج الضيقة إلى أن رأيت قرص الشمس يتدلى من سقف السماء . والمدينة مازالت تغلي ... والناس يهرولون ... وسيارات الشرطة ملأى بالشباب ...وكلاب البوليس تنبح وتتبول على أرجل المارة ، فاندسست بين العابرين ، وعدت إلى مبيت الجامعة .
*****

- أين للا صالحة يا بنت ؟
- أمام الباب سيدي الكريم
- البطرونة يا بنت ؟
- نعم سيدي هي بعينها .
أهلكتني السياسة يا صالحة . أنا الآن رجل محترم . رجل محترم جدا . ألبس ربطات العنق الحريرية ، والبدلات الباريسية ، وأتعطر كالمومس ، وأجلس في الكرسي الأخير في السيارة المرسيدس .أجلس وراء السائق الذي ينزل دائما قبلي ليفتح لي الباب ويحمل عني الحقيبة . أمام الإدارة ، تستقبلني الابتسامات الكاذبة ، ويقف عند مروري العمال والموظفون . ويبوس رؤساء الأقسام أرجلي . ويمسي السعاة كالحجل أمامي وخلفي .يحملون لي القهوة والشاي . ويوشوشون في أذني كلاما كثيرا : سي علي يحكي عن الاضرابات . سي عمار يدين تدخل أمريكا في بنما . سي عبدالله هرب من الشغل قبل انتهاء الدوام . وفاطمة تغازل رئيس القسم الفلاني .وخديجة تقول إن ثمن كيلو اللحم ارتفع كثيرا . و... أهلكتني السياسة يا صالحة .
طلبت من البنت أن تنادي للا صالحة . وضعت فوقها بعضا من الملابس وخرجت . بعد دقائق ، وصلت صالحة .طلبت منها أن تجلس . حركت النظارة وتفرست في وجهي هنيهة ، وجلست على الكرسي ، أمام السرير .
قالت : طلبتني يا سيد ؟
وزغردت عصافير باب البحر في قلبي . هذا الصوت أعرفه . به بحة الآن . بحة الكبر وكثرة التدخين . والخال مازال في مكانه . هناك . فوق الشفة . تفرست في عنقها الطويل . به الآن بعض التجاعيد ، ولكنها لا تعيبه . أعطيت للبنت عشرين دينارا وطلبت منها أن تتركنا وحدنا . رقصت الفرحة في عيني الطفلة ، وخرجت ، فعدت إلى للا الصالحة . مازال بعض من فصل الربيع على وجهها . والدف مازال في مكانه ، فوق السرير ، على يمين الباب . مددت يدي . مسحت التراب من على جلده . ونقرت بإصبعي بعض النقرات الخفيفة . نطت الفرحة من عينيها ، فغنيت بصوت خافت :
أم القد طويل * آ صالحة * أم القد طويل
أم القد طويل * وزينك ما ريتهو في جيل * آ صالحة

وقفت . نزعت النظارة وارتمت في حضني . هو أنت إذن يا ابن القحبة . قلبي قال : انك أنت وعقلي قال: لا . فأنت تكره البطون السمينة . قل ، هل هذا اللحم والشحم لك وحدك ؟ وراحت تدغدغني في بطني السمينة ، وتخنقني بربطة العنق وهي تردد :
وتضع ربطة عنق حريرية يا خنزير . ترقب قليلا حتى آتي بالسكين من المطبخ . سأقطع بعضا من لحم مؤخرتك لأشويه ولتأكله مع الجعة .
وتضحك . وأضحك . وأضعها في حضني ، فتفتح لي قلبها وتدسني فيه .

*****
كانت قد مرت بضعة أيام عن المظاهرة . وكانت جراح وجهي قد تماثلت للشفاء ، حين تذكرت المرأة التي أجارتني في شارع سيدي عبد الله قش . مرت صورتها في خاطري كالحلم الجميل .قلت ،: لماذا لا أذهب أليها وأشكرها ؟ خاصة وان كثيرا من رفاقي الدين اصطادتهم كلاب البوليس ما عادوا إلى الجامعة . اشتريت لها هدية صغيرة ، وذهبت . كان بابها موصدا . ترقبت حتى خرج زبون من زبائنها . سلمت عليها ، ففتحت لي الباب واسعا ، ونظرت في جرحي ، وقالت : الحمد لله .
أعطيتها باقة الورد فباستني ، وبدأت تتعرى .
قلت : لا تنزعي ثيابك . لم أجئ لهذا .
ولماذا جئت إذن أيها الملاك الطاهر ؟
جئت لأسلم عليك .
أهلا وسهلا وألف ألف مرحبا .
وأهديك هذه الورود .
مرحبا بالوردود وبروح الورود .
وتعرت كحواء يوم أكلت من تفاح الجنة . وتمددت على السرير .و قالت : تعال إلى هنا ، ولا تدفع ، فأنا أعرف أنك مفلس .
سال العرق على جبيني . عرق بارد . ودق قلبي كطبل يوم العيد . وهربت من الدار .سرت في أزقة المدينة العتيقة إلى أن تعبت ... لماذا ذهبت إليها أيها الوغد ؟ هي قحبة وقد أغراها شبابك مادام جيبك فارغ . ألم تشكرها يوم المظاهرة فلماذا عدت إليها إن لم يكن طمعا في لحمها ؟ ألم تقل إن لها عينا تذبح كالمدية ؟ ولكنني ضد هذه التجارة . أنا لا أحتمل ركوب امرأة قتيلة . كيف أستطيع تقدير ثمن المتعة التي تبيعها ، وهي تموت ألف مرة مع كل هزة من هزات السرير ؟

*****
قالت : سنحتفل الليلة بقدومك .
ونادت البنت . أخرجت أوراقا نقدية من جيبي وطلبت منها أن تذهب لتشتري لنا قوارير خمرة . طلبت منها أن تشتري ما يسكر سكان الماخور . وخرجت البنت .
فعادت تقول :
أما زلت تؤمن بإغلاق دور البغاء وتشغيل العاملات فيها في المصانع والمعامل التي ستحدثها الثورة ؟
قلت : لقد أفسدتني السياسة يا صالحة . بالله عليك لا تحيي هذا الجرح المندمل .
قالت : عشرون سنة ونحن نترقب اليوم الذي وعدتنا فيه بتحرير أجسامنا من مني الرجال السكارى والمرضى والمنبوذين .
أحسست بالسكين تغوص في اللحم الحي .وتذكرت الأيام التي كنت أحكي لها فيها عن ثوار الفيت كونغ ، وطلاب باريس ، والثورة الثقافية في الصين .
وكانت تضحك وتقول : أنا لا أفهم في السياسة يا صاحبي .
فأقول لها : ستفهمين بعد التحرير يا صالحة .
وها هي اليوم تعمل قوادة في ماخور .
وها أنا رجل محترم .
رجل محترم جدا .

بعد أن أعطيتها الورود ، وهربت من الدار كأنني راهب ، تسكعت في الطريق حتى كلت خطاي ،
وعاودني صوت امرأة الماخور أكثر من مرة :
تعال إلى هنا عندما تصير رجلا يا صاحبي .
ترددت كثيرا ثم عزمت على العودة إليها .
قالت بعدما أغلقت وراءنا الباب : لماذا تهرب مني يا صاحبي ؟
قلت : لأنني أريد تحريرك من مني الرجال .
قالت : متى ؟
قلت : عندما يتحرر الرجال .
قالت ومتى سيتحرر هؤلاء الرجال ؟ غدا ؟ أو بعد غد ؟
ثم دفعتني على السرير ، وأطعمتني من تفاح الجنة . فكدت أطير من اللذة .
قالت : ما رأيك لو أعلمك ضرب الدف وأرقص لك وحدك ؟
قلت : وهل تظنين أنني سأعود إلى هنا مرة أخرى ؟
قالت : ستعود ...
وكررت بإصرار عجيب : ستعود حتما .
وتعطل عقلي . أدخلته الثلاجة ، وأغلقت عليه الباب بسبعة أقفال . ورميت بما جاء في الكتب في البالوعة . وهمت بها وجدا .
قال عني الرفاق إنني مرتد عندما اكتشفوا ترددي على شارع البغايا . ولم ينفعني ادعائي الجنون .
كانت صاحبتي قد علمتني ضرب الدف حتى أتقنت الصنعة . ورقصت لي وحدي . رقصت وغنت . وأغلقت بابها في وجوه الزبائن الآخرين ....
وأفقت ذات يوم وهي تطلب مني أن أفي بوعدي ، وأحررها من مني السكارى والمراهقين .
قلت : كيف ؟
ردت : تزوجني . عندي ما يكفينا لبناء حياة جديدة .

*****
عادت البنت بقوارير الويسكي ، وذهبت إلى المطبخ تشوي اللحم ، فتمددت على السرير . جاءت صالحة وجلست على الحافة فقمت أليها ووضعت رأسي في حجرها ، وأغفيت إلى أن جاءت البنت باللحم المشوي وبكؤوس صغيرة فوق صينية من الفضة . وتركتنا وغادرت البيت . ملأت صالحة كأسينا فضربنا نخبينا .
وقالت : في صحة ثوار الفيت كونغ .
فقلت : في صحة طلاب باريس .
وتبادلنا كؤوس المدام إلى أن أظلمت الدنيا واشتعلت أضواء فوانيس الكهرباء .
قالت : ما رأيك لو تضرب لي قليلا على الدف ؟
قلت : لا مانع عندي .
أمسكت الدف بين ركبتي وضربت : دم .تك تك تك .دم .فقامت ثملة . ربطت مؤخرتها بغطاء رأسها ، وبدأت ترقص . وضربت الدف ، وحركته في الهواء ، فأحدث خشخشة لذيذة .
فتحت الصالحة الباب ، ونزلت الدرجات واحدة واحدة وهي ترقص ، وأنا وراءها أضرب على الدف ، إلى أن وصلنا إلى الشارع .
جاءت البنت تجري . وجاءت نساء الشارع الأخريات . وجاء رواد الحي .
تحلق الجميع يتفرجون على المرأة الكهلة التي ترقص على نغمات دف يضربه رجل محترم ...
رجل محترم جدا ...


إحالات على القصة :

1- سيدي عبدالله قش : عنوان شارع البغاء في المحروسة تونس العاصمة .
2- نهج زرقون : سوق الأنتيكات بتونس ، منه تصل مباشرة إلى الشارع المذكور آنفا .
3- حبيبي يا صحابي جاني : أغنية لمطربة تونسية اشتهرت في بداية تسعينات القرن الماضي .
4- قالوا زيني عامل حاله : أغنية للفنانة علية التونسية غنتها في سبعينات القرن الماضي .
5- أم القد طويل آ صالحة : أغنية لمطربة تونس الأولى الفنانة نعمة ، غنتها في ستينات القرن الماضي

dargouthibahi@yahoo.fr
www.arab-ewriters.com/darghothi/

عبدالودود العمراني
15/12/2006, 10:15 PM
يا سي برهوم،

ماذا أبقيت لـ "المومس المحترمة" لسارتر وللوجوديين ؟

الحمدلله أن القراءة مستويات، فمن بقي في الطابق الأرضي احمرت وجنتاه حياء وخجلاً.
لكن سبر أغوار النفس البشرية سفرة رائعة (انظر أسفل الصفحة)
....
وقال عمر حفيظ في سياق حديثه عن الرّمزيّة محلّلا أقصوصة "رجل محترم جدّا" لإبراهيم درغوثي خاصّة: "إنّنا نعتقد أنّها تستجيب دون غيرها لقراءة تنتهي إلى الإقناع بأنّها قصّة رمزيّة رغم إسرافها في الإحالة على الواقع المعيش أحداثا وأزمنة وأمكنة" (54).

[وأضاف]: "إنّنا إزاء ترميز للمكان يجعل المتلقّي أميل إلى اعتبار السّرد في القصّة لا يحكي سيرة هذا الرّجل المحترم جدّا وإنّما يحكي سيرة حلم جماعي أو حلم جيل على الأقلّ، أراد أن يعبر من عالم الامبرلياليّة بما فيه من خسارات وعذابات إلى عالم آخر يراه أفضل من الأوّل. لكنّ العبور لم يتحقّق، فقد تفرّقت المظاهرة في شارع فرنسا، وكم من أحلام بدّدها الغرب الامبرليالي بعد أن أتلف أصحابها في إنشائها عقولهم ووجدانهم.

وإذا جاز لنا أن نقدر أنّ ضياع الحلم يورث القلق والتّوتّر فهل يجوز أن نقول إنّ القصّة موسومة هي أيضا بالقلق والتّوتّر من خلال المراوحة المنتظمة والمتواترة بين زمني الماضي والحاضر؟

إنّ قصّة "رجل محترم جدّا" نصّ جامع لشتات من الأحداث والأزمنة والصّور بواسطة خيط ناظم يشدّ هذه المكوّنات إلى بعضها [بعضا] ويؤسّس للسّخرية ممّا حدث وما يحدث ومن الذّات والآخرين، ذاك الخيط النّاظم هو تلك اللاّزمة التي تكرّرت في النّصّ 15 مرّة، وتكرارها لم يكن من قبيل الصّدفة أو الاتّفاق وإنّما هو مقصود أنشأه الدّرغوثي عن وعي بوظائفه في النّصّ "وأنا رجل محترم جدّا".
"الرّمزيّة في القصّة التّونسيّة". "الحياة الثّقافيّة". العدد 123. مارس 2001. (54 و55).
...
وقالت نظيرة الكنز في سياق قراءتها مجموعة المؤلّف "رجل محترم جدّا" [1995]: "أسّس إبراهيم الدّرغوثي تضاريسه الخاصّة، إذ تحتضن خطوط الطّول في مشروعه الـقصصيّ الـيـوميّ الـواقعيّ والاجتمـاعيّ والنّفسـيّ، أمّا دوائر العرض فإنّها في حركة لا متناهية مفتوحة على الدّين والأسطورة والتّاريخ. وباختصار شديد تُعبّر معظم المشاهد المقدّمة عن عنف المكبوت وسلطة المكتوب. وقد أعطى القاصّ البعد الإنسانيّ في صورة مكثّفة". (129).

[وختمت قائلة]: "تحتاج هذه القصّة [رجل محترم جدّا] من القارئ الدّخول في فهم الأسطورة والتّاريخ والفكر، وأن يتفاعل مع التّراث الشّعبيّ. ورغم ارتباطها بالهمّ الجماعي، إلاّ أنّ التّوظيف القصصيّ المميّز جعل للّغة سلطتها ومشروعيّتها وقدرتها على التّوحّد في الأنا الجمعيّ، رغم أنّها "أنا" مفردة. هكذا هي لغة الدّرغوثي مفردة لصيغة جمع، ترفض التّشرنق داخل الأشياء، وتسعى دوما لأن تكون عنيفة وعارية وهادئة في الآن نفسه. فالمواضيع التي تناولها تبدو للجميع محضورات أو ممنوعات لكنّها نصّيّا تحوّلت إلى ممكنات تسمح لأيّ منّا من أن يحوّل مكبوته إلى مكتوب، فالمكبوت في هذه القصّة (المرأة/السّياسة) أضحى مكتوبا جليّا فاضحا". (131).
"عنف المكبوت وسلطة المكتوب" قراءة في قصص إبراهيم الدّرغوثي "رجل محترم جدّا". الحياة الثّقافيّة" العدد 131. جانفي 2002. (129-133).

ستبقى النفس البشرية (أحوال القلب) أعظم حقل بترول في الدنيا، بالنسبة للمفكرين والأدباء إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهاك عينة من "الإحياء" يا سي برهوم: "خوف الفقر، وسخط المقدور، والغل، والحقد، والغش، وطلب العلو، وحب الثناء، وحب طول البقاء في الدنيا للتمتع، والكبر، والرياء، والغضب، والأنفة، والعداوة، والبغضاء، والطمع، والبخل، والرغبة، والبذخ، والأشر، والبطر، وتعظيم الأغنياء، والاستهانة بالفقراء، والفخر، والخيلاء، والتنافس، والمباهاة، والاستكبار عن الحق، والخوض فيما لا يعني، وحب كثرة الكلام، والصلف، والتزين للخلق، والمداهنة، والعجب، والاشتغال عن عيوب النفس بعيوب الناس، وزوال الحزن من القلب، وخروج الخشية منه، وشدة الانتصار للنفس إذا نالها الذل، وضعف الانتصار للحق، واتخاذ إخوان العلانية على عداوة السر، والأمن من مكر الله سبحانه وتعالى في سلب ما أعطى، والاتكال على الطاعة، والمكر، والخيانة، والمخادعة، وطول الأمل، والقسوة، والفظاظة، والفرح بالدنيا والأسف على فواتها، والأنس بالمخلوقين والوحشة لفراقهم، والجفاء، والطيش، والعجلة، وقلة الحياء، وقلة الرحمة.

والسلام عليكم،
عبدالودود

ابراهيم درغوثي
16/12/2006, 03:12 PM
عزيزي عبد الودود
هذا اطلاع باذخ على ما كتب حول هذا النص ينبئ بمتابعتك لما ينشر
في هذه البلاد التي قل فيها نصير الأدب الرفيع
دمت سيدي صديقا لنصي
ودام لك ألق الابداع