المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : القضية الأندلسية



هشام زليم
08/10/2008, 12:22 PM
بسم الله الرحمن الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين محمد و على أله و صحبه أجمعين و من اهتدى بهديه إلى يوم القيامة و الدين.
أما بعد :
تبدأ فصول المأساة الأندلسية بُعيد دخول الملكين الكاثوليكيين فرديناند و إيزابيلا إلى غرناطة في بداية سنة 1492م و ذلك تطبيقا لبنود معاهدة تسليم المدينة المسلمة التي وقعاها مع أخر الملوك المسلمين بالجزيرة الأندلسية أبو عبد الله الزغبي.
تعهد الملكان الكاثوليكيان المتعصبان من خلال المعاهدة بحسن معاملة المسلمين و حمايتهم و الإقتصاص ممن يسيء إليهم و عدم انتهاك حرمات المساجد و أعراض المسلمين بل و التزموا بأن الشريعة الإسلامية هي التي سيُحكم بها فيهم من خلال فقهائهم؛ باختصار سيُمنح المسلمون نوعا من الحكم الذاتي كأقلية مسلمة ضمن الأغلبية الكاثوليكية.
رغم هذه الوعود المعسولة فقد اختارت فئة غير قليلة من الأمة الغرناطية المسلمة الهجرة عن غرناطة إلى بلاد الإسلام بشمال إفريقيا فرارا بدينها، فالأندلس أولا و أخيرا لم تعد دار إسلام.
لنترك من هاجر و نبقى مع من اختار البقاء في الأندلس. فقد اعتقد هؤلاء أن المسألة لا تعدو أن تكون سحابة صيف و سرعان ما ستتلاشى فيستجمع المسلمون قوتهم و يعيدون الكرّة على النصارى و يُرجعوا غرناطة و أحوازها و لما لا قرطبة و إشبيلية و طليطلة و كل بلاد الأندلس؛ ثم إن المغاربة و العثمانيين لن يسمحوا بأن يغتصب النصارى أرض إسلام و لابدّ أن يُرسلوا طارقا أخر يساعد على إرجاع الإسلام لهذه الأرض. هكذا اعتقدوا في البداية ، لكن قدّر الله و ما شاء فعل.
يذكر عالم الإجتماع الإسباني خوليو كارو باروخا ما رواه الرحالة الإسباني خيرونيمو منذر الذي زار غرناطة ما بين 1494 و 1495 (أي 3 أعوام على سقوطها بيد النصارى) فشد انتباهه الأذان الذي مازال مسموحا به أنذاك :" كان صوت المؤذن الشجي يرتفع في الأوقات المعتادة. كانت أصوات المؤذنين تخرج من أعالي المأذن، حادة أحيانا، قصيرة أحيانا أخرى. إن الأوربي الذي يسمع صوت المؤذن لأول مرة يشعر بقشعريرة: في هذه الأصوات شيئ من التحذير." (1)
هذه الروح المتسامحة نسبيا مع المسلمين لم تستمر طويلا حيث بدأت بوادر الغدرتظهر:"كان أول الغدر تحويل مسجد الطيبين إلى كنيسة و كذلك مسجد الحمراء، ثم تحويل مسجد غرناطة الأكبر إلى كتدرائية.ثم نظمت الكنيسة في السنين الأولى فرقا تبشيرية من رهبان و راهبات للقيام بنشر النصرانية... ولما مرّت السنون و لم تأت هذه الفرق بنتيجة تذكر أخذت الكنيسة و الدولة تفكر في تغيير سياستها من اللين إلى العنف، ملغية كل بنود معاهدة التسليم الواحدة تلو الأخرى" (2) .
هذا التغيير نحو العنف تمثل في استدعاء الملك فرديناند سنة 1499م لأحد طغاة التاريخ الكاردينال فرانسيسكو خمنيس دي سيسنيروس، مطران طليطلة،"ليعمل على تنصير المسلمين بصرامة أكبر. فوفد على غرناطة في شهر يوليوز من السنة نفسها…فأمر بجمع فقهاء مدينة غرناطة و المدن الأخرى و دعاهم إلى ترك الإسلام و اعتناق النصرانية ليكونوا أسوة لغيرهم، و أغدق المنح على من قبل ذلك و هدد بالوعيد و العقوبة لمن رفض. فضعف بعضهم و قبل التنصير و تبعهم بعض العامة. و تمركز التنصير في حي البيازين من أحياء غرناطة الشعبية، وحوّل جامعها الأكبر إلى كنيسة سان سلباطور" (3)
هذا التحول دفع الأندلسيين للقيام بثورة أشعل فتيلها انتهاك شرطة سيسنيروس لحرمة إحدى المسلمات حيث تجمع الأندلسيون و قتلوا الشرطي و حرروا المرأة و هرب القسس. (4)
لكن نظرا لقلة العدة و العتاد و تعهد الكنيسة بعدم استعمال العنف أُخمدت الثورة و قد نُقضت كل التعهدات مرّة أخرى بعد ذلك حيث استمر التنصير القسري لكل المسلمين.
و انطلاقا من هذا التاريخ بدأت القرارات تتوالى بوجوب تنصير المسلمين و حظر استعمال اللغة العربية و حيازة الكتب المكتوبة بها و منع ارتداء الزي الإسلامي أو التسمي بأسماء عربية أو الإحتفال بالأعياد الخاصة بالمسلمين، باختصار منع أي مظهر من مظاهر الدين الإسلامي.
أمام هذه الفتنة الكبرى انقسم الأندلسيون الغرناطيون إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول تنصّر و اندمج في المجتمع المسيحي، القسم الثاني رحل عن الأندلس إلى بلاد الإسلام، و القسم الثالث تظاهر بالنصرانية و حافظ على الإسلام و هؤلاء أطلق عليهم الإسبان" المورسكيون" أو "الموروس" التي تعني –حسب محمد عبد الله عنان رحمه الله -(العرب الأصاغر) تقليلا من شأنهم و تمييزا لهم عن غيرهم.
فلله ذر الكاتب المجهول الذي وضع للأندلسيين وصفا دقيقا مؤثرالهذه المرحلة، إذ يقول:
و قد بُدلت أسماؤنا و تحوّلت****بغير رضاً منا و غير إرادة
فأاه على تبديل دين محمد****بدين كلاب الروم شر البرية
لم تثق الكنيسة في تنصّر هؤلاء فقامت بإنشاء محاكم التفتيش بغرناطة لمراقبتهم ومعاقبة من يتشبث بالإسلام أو تظهر عليه بعض مظاهره. و هكذا أحرقت هذه المؤسسة - التي يسميها الأندلسيون "محكمة الشيطان"- حاكمت الأندلسيين و عذبتهم وصادرت أموالهم و لم يكن للموتى حرمة حيث عمدت لإخراج جثت المتهمين ب"الإسلام" من القبور و ألبستها زي المحاكمة و بعد إصدار الحكم على الميت تقوم بإعدامه و حرقه.
و قد كان الأندلسيون يعملون على تأجيل تطبيق بعض القرارات بدفع فديات مالية باهظة للسلطات المسيحية رغم ذلك فقد بلغ الإضهاد ذروته في الفترة ما بين 1502 و 1568م حيث صدر سنة 1567قرار ملكي لا رجعة فيه و لم تنفع في تأجيله الوساطات و الفديات المالية. قضى هذا القانون ب:
"- حظر اللباس المورسكي على الرجال و النساء و إلزام النساء-بالإضافة إلى ذلك- بكشف الوجه.
- في الزفاف و في كل أنواع الإحتفالات تمنع رقصة السمرة و إقامة الليالي بمصاحبة الألات الغنائية المورسكية حتى لو كانت لا تتضمن شيئا مريبا أو مخالفا للديانة المسيحية.
- يجب أن تظل أبواب البيوت مفتوحة و تمنع النساء من التخضيب بالحناءو يحظر استعمال الأسماء و الألقاب الإسلامية.
-حظر استعمال الحمامات.- يحظر على المورسكيين أن يكون لهم عبيد من المقاتلين الغرباء، وعلى الأحرار من هؤلاء المقاتلين مغادرة غرناطة في غضون ستة أشهر.
- يحظر على المورسكيين كذلك أن يكون لهم عبيد من السود.
كما نرى، لم تكن تلك الإجراءات مجرد وسائل قمع ديني أو سياسي، بل كانت تهدف إلى إلغاء وجود المورسكيين كجماعة مختلفة ثقافيا، و كان المطروح هو ما يسميه برادويل "صراع الحضارات".لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يحظر فيها على المورسكيين لغتهم و ملابسهم…إلخ، لكن المورسكيين كانوا يتمكنون-من خلال ثرواتهم- من تأجيل اللحظة التي توضع فيها هذه الإجراءات موضع التنفيذ.و في عام 1567، حين لم يكن هناك مجال للتأجيل، أرسل أحد أعيان المورسكيين- و هو فرانثيسكو نونيث مولاي – إلى محكمة غرناطة مذكرة (المذكرة مودعة في مكتبة مدريد الوطنية-المخطوطة رقم 6176). يضع نونيث في اعتباره أهمية القضية فيحاول تصوير هذه الخصائص على أنها مجرد عادات محلية و يسعى إلى أن يٌقبل اللباس المورسكي كما يقبل الزي الخاص بقشتالة أو أراغون، و أن تقبل اللغة العربية كما تُقبل اللغة الغاليثية أو القطالونية.

لم تحقق المذكرة أدنى درجة من النجاح، و سيكون تنفيذ هذه القرارات هو السبب الرئيسي في ثورة البشرات:" (5).
نعم ، ففي يوم 23-12-1568م اندلعت ثورة غرناطة الكبرى التي تزعمها فرناندو ذي بالور أو محمد بن أمية و بعد مقتله خلفه عبد الله بن عبو رحمهما الله.
كادت هذه الثورة تنجح لكن نظرا لقلة العتاد و عدم الإستعداد و تفرق الكلمة و التنازع فشل الأندلسيون و ذهبت ريحهم و انتهت هذه الثورة نهائيا سنة 1571م وذلك بعد قتل بعض الأندلسيين لإبن عبو و أخذ جثته إلى الأسبان.
يقول الدكتور علي الكتاني رحمه الله عن هذه الحادثة الأليمة :" و في 13-3-1571م نجحت المؤامرة إذ هجم الشنيش و ستة من أتباعه على ابن عبو في الكهف الذي كان مختبئا فيه، فقاوم حتى استشهد. فسلم الخونة جثمانه للإسبان الذين حملوه إلى غرناطة، و أدخلوه المدينة في حفل ضخم، ووضعوه في قفص حديدي بعد أن ألبسوه لباسا كاملا و كأن صاحبه حي، ثم حملوه على فرس، وقطعوا به المدينة تتبعه أفواج من أسرى الأندلسيين. ثم حمل الجثمان إلى النطع. و أجري فيه حكم الإعدام، فقطعوا الرأس و سحلوا الجسم في الشوارع فتمزق أطرافا ثم أحرق في أكبر ساحات غرناطة بهمجية لا تضاهى. ووضعوا الرأس في قفص من حديد رفع فوق باب المدينة باتجاه البشرات حيث بقي معلقا لمدة ثلاثين سنة" (6)
ردا على هذه الثورة قرر المجلس الملكي الإسباني إقصاء الأندلسيين جميعا من مملكة غرناطة و ترحيلهم إلى مناطق خارجها. و ذلك لإبعادهم عن مركز ثقلهم و تشتيت وحدتهم حتى لا تقوم لهم قائمة.
لكن الغرناطيين كانوا يحملون عبء الدعوة في المناطق التي رحلوا إليها فقد بعثوا الروح الإسلامية في مسلمي المناطق الأخرى كقشتالة و أراغون و بلنسية.
فاضطرت السلطات الإسبانية غير مامرّة لتهجيرهم من منطقة لأخرى.
و استمرّ اضهاد المسلمين بإسبانيا إلى حدود سنة 1608م حيث قرر مجلس الدولة الإسباني بكامل أفراده و بالإجماع على طرد الأندلسيين جميعا من الأراضي الإسبانية لاعتبارهم "كفرة" بالدين النصراني و "خونة" للدولة الإسبانية. و كما قال المثقف اللإسباني رودريغو دو زياس " بإصدار هذا القرار وُلدت أول دولة عنصرية في التاريخ" (7).
بدأت السلطات الإسبانية بتنفيذ القرار ابتداءا من السنة الموالية حيث جهزت سفنا في جميع مرافئ البلاد لحمل الاندلسيين إلى سواحل شمال إفريقيا و فرنسا.
"و قد وصف قوافل المرحلين الأندلسيين شاعر إسباني معاصر بأبيات معبرة:
فرقة من المسلمين و المسلمات
تمشي و هي تسمع من الجميع الشتائم
هم يحملون الثروة و الاموال
و هن يحملن زينتهن و الملابس
و العجائز بأحزان و بكاء
التوى و جههن و شكلهن
محملات بجواهر مزيفة
و أواني الطبخ و مقلات و قرب و قنادل
و عجوز يحمل طفلا بيده
و الأخر على صدر أمه الحنون
و ثالث شاب قوي كالطرياني
لا يتأخر عن حمل أبيه"" (8)
و في الطريق إلى مناطق هجرتهم تعرض الأندلسيون لكل أنواع النصب و الإحتيال و السرقة و القتل حتى. و كانوا فريسة سهلة للبحارة الذين كانوا لا يصلون بهم إلى الساحل و يرمون بهم في وسط البحر بعد أن ينهبوا مالهم و متاعهم.
لكنهم- بفضل الله و منه و كرمه - وصلوا أخيرا إلى بلاد الإسلام بعد أن فروا من الكفر. وصلوا إلى تطوان و الرباط و شفشاون و تلمسان و بجاية و الجزائر و تونس و سليمان و تستور... و كانوا بحق من خيرة رجالات البلدان التي حلّوا بها في جميع الميادين الشرعية و الإقتصادية (فقد كانوا من أمهر الحرفيين) و العسكرية (خاصة في ساحة الجهاد البحري الذي قض مضاجع الإسبان).
فرحم الله أبناء الأمة الأندلسية الذين قضوا و هم يدافعون عن عقيدتهم ودينهم وسط بطش و إرهاب النصارى.

كتبه أبوتاشفين هشام بن محمد المغربي.

الهوامش
(1) كتاب "مسلمو مملكة غرناطة" خوايو كارو باروخا . تعريب الأستاذ جمال عبد الرحمان. الصفحة 121.
(2) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني. الصفحة 61.
(3) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني. الصفحة 61.
(4) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني. الصفحة 62
(5) كتاب "الموريسكيون الأندلسيون" للكاتبة الإسبانية مرثيدس غارثيا أرينا. تعريب الأستاذ جمال عبد الرحمان. الصفحة 53-54.
(6) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني. الصفحة 119
(7) هو مقال للكاتب الإسباني رودريغو دو زياس نشره في مجلة "العالم الديبلوماسي " الفرنسية عدد مارس 1997. و لأهميته و كشفه عن وثائق جديدة قمت بترجمته إلى العربية.
(8) كتاب "انبعاث الإسلام بالأندلس" علي الكتاني. الصفحة 165.

جمال الأحمر
09/10/2008, 06:34 AM
الأستاذ النبيه المبارك: هشام، حفظه لخدمة الإيمان والأندلس
موضوعك هذا شيق

وكنت دائما أقول؛
حبذا لو تهيأ لنا قارئ أريحي خادم للقضية الأندلسية، فلخص لنا هذا الكم الجميل من المعلومات، فيصنف:
1- التواريخ وما حدث فيها
2- أسماء المجرمين من رجال الكنيسة
3- أسماء المجرمين من الحاكمين
4- أسماء المسلمين
5- أسماء قادة المسلمين
6- أسماء المدن التي سكنها المسلمون
7- أنواع جرائم الحرب الواردة في النص
8- أنواع انتهاكات حقوق الإنسان
9- نماذج من سيرة المسلمين في المقاومة

وبهذه الملخصات، نستطيع جمعها في النهاية لتكون ثقافة توعية أندلسية لكل مستعجل أو مشغول.