المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نموذج من أدب الرحلات:الجنة درجة حرارتها 48



أشرف صالح المؤرخ الصغير
09/10/2008, 12:59 PM
من أشهر ما كتب الدكتور مصطفى محمود في مجال أدب الرحلات كتابه "مغامرة في الصحراء"، ويتناول في هذا الكتاب قصة رحلته إلى لؤلؤة الصحراء واحة غدامس.. يتحدث عن حوادث الرحلة الجغرافية المكان وتاريخه وعاداته في قالب روائي مليء بالمقابلات شبه الصحفية، ويتناول قبائل الطوارق وعاداتهم ولغتهم وأعراسهم الشعبية والطب الشعبي والمذهب الديني، وإليك جزءاً من هذه الرحلة.

المغامرة

من نافذة الطائرة كانت تبدو الرمال المترامية بلا حدود تلمع في وهج الشمس كقميص من الذهب تعلو فيه التلال كنهود مكورة خمرية من رسم سيريالي خرافي من تلك الرسوم التي يرسمها سلفادور دالي.

وكنت غارقًا في أحلامي أتتبع هذه اللوحة الأسطورية، حينما تيقظت على يد رفيقي في الرحلة الأخ علي المصراتي الكاتب الليبي المعروف.

وسمعته يقول بصوت قلق:

- هل أحضرت في حقيبتك كل اللوازم.

قلت في اطمئنان:

- إن بها كل ما أحتاج إليه من هدوم.

ورأيته ينفجر ضاحكا

- هدوم؟!! هذه الحقيبة المنفوخة كلها هدوم.

وراح يقهقه.

- هل تعرف أن درجة الحرارة في غدامس خمسون درجة في الظل، هل سمعت النشرة الجوية؟

قلت وقد بدأت أتصبب عرقًا:

- يا لطيف.

وتذكرت درجة حرارة الأربعين في القاهرة، وأنا أسير مغمى عليّ، وقلت وأنا أرتجف:

- على أي حال لا بد أني سأجد دشًّا في الأوتيل.

- هناك أدشاش بعدد ما تريد، ولكن المياه ملحة، وتشقق الجلد.

-أعوذ بالله، وهل سنشرب من هذه المياه المالحة؟

- يمكنك أن تشرب مياهًا غازية، ولو أنها مصنوعة من نفس المياه الملحة، على أي حال هي مياه ملحة مفيدة للصحة فيها حديد ونحاس وزئبق.

- وزئبق كمان،، هذا يعني أننا سوف نموت بالتسمم.

- سوف نتعود.

- الظاهر أننا سوف نتعود على أشياء كثيرة.

- ولكنك طبعًا أحضرت معك المصل.

- أي مصل؟!

- وهنا قفز صديقي من كرسيه في انزعاج.

- المصل المضاد للعقرب والثعبان، هل نسيته؟

- والواقع أني كنت قد نسيت تمامًا.

وقلت وأنا أحاول أن أطمئن نفسي: وهل هناك عقارب وثعابين؟

- وعناكب وحيات، نحن نازلون في قلب الصحراء الأفريقية.

- ولكننا سوف نسكن في أوتيل، وننام في غرفة يمكن أن نقفل بابها وشباكها علينا.

- ستنام في غرفة صحيح، ولكنك لن تستطيع أن تقفل بابها من الحر إلا إذا كنت تريد أن تموت سلقًا.

- وراح يضرب كفًّا بكف.

- كيف تنسى احتياطًا طبيًّا كهذا، وأنا معتمد عليك باعتبارك طبيباً.

وارتفع أزيز الطائرة ذات المحرك الواحد، وراحت ترتفع وتنخفض في المطبات الساخنة كأنها ريشة في مهب الرياح، وغرق المصراتي في سكوت قَلِق.

قلت وأنا أحاول أن ألتمس كلمة مطمئنة:

- ولكن هناك مستشفى على أي حال أو مركز إسعاف في حالة ما إذا…

- هناك مراكز إسعاف، ولكن الحقن الموجودة، تنفد بسرعة؛ لأن حوادث العقارب كثيرة جدًّا، وتمر أيام قبل أن تصل شحنة جديدة من طرابلس بالطائرة، وأنت تعلم أن لدغة العقرب تقتل في ظرف ساعات.

- أعوذ بالله.

قال في نبرة استسلام

- نهايته: الأعمار كتاب، والحذر لا ينجي من قدر، وإذا كان مكتوبًا لنا الموت في غدامس فسنموت في غدامس، حتى لو كان مركز الإسعاف كله في جيبنا.

وشعرت بأطرافي تتثلج لهذه النبرة الجنائزية، لم يبق إلا أن نحضر معنا الأكفان، ونقرأ الشهادتين، ويكتب كل منا وصيته.

وراحت الطائرة تهتز مرة أخرى وتسقط كأنها تهوي إلى قاع بئر، ثم ترتفع وتنتزع أحشائي في كل مرة، ومال الأخ المصراتي على النافذة مشيرا بإصبعه:

- أترى هذه النقطة الخضراء، هذه غدامس لؤلؤة الصحراء كما يسمونها في هذه النقطة تاريخ أربعة آلاف من الحضارة.

وأخذت الطائرة تدور مستعدة للهبوط.

وظهرت شواشي النخيل الخضراء تلمع في الشمس الغاربة، وشكت المحرك الواحد، وبدأت الطائرة تهبط حتى استوت على الأرض في نعومة.

وهبطنا لتستقبلنا على الباب لفحة ساخنة.

وكان الترمومتر في المطار يشير إلى درجة 45، ولكن الحرارة كانت محتملة بسبب الجفاف الشديد.

وكان كل شيء جافًّا نظيفًا ساخنًا، الأرض والجدران والمقاعد والأبواب، ولكن الهواء كان صافيًا نقيًّا معقمًا كأنه خارج من أتوكلاف، وكان يدخل الصدر فيغسله وشعرت بالانتعاش بالرغم من شدة الحر.

ولكن كنت ما زلت أفكر في العقارب.

وحينما التقينا بمتصرف المنطقة الشيخ ونيس الدهماني، والمتصرف في مقام المحافظ عندنا كنت ما زلت مشغولاً بحكاية العقارب، وكنت أفكر في الطريقة التي أسأله بها، وأمسك بيدي يشد عليها في حرارة.

- كيف الحال إن شاء الله تكون مرتاحًا؟ كيف الحال عندكم في مصر؟

ونظرت إلى الرجل المديد القامة، كان وجهه الصريح وملامحه الحادة القوية والسمرة النبيلة التي تكسو وجهه تحكي قصة كفاح طويلة مع الصحراء ومراسًا متصلاً من المشقات، وكانت عيناه تتدفقان طيبة وبساطة.

وقلت له: إن الأحوال بخير في مصر، ودعوته لزيارتنا لقضاء الشتاء على ضفاف النيل.

ولكني كنت ما زلت مشغولاً بحكاية العقارب.

ورأيتني فجأة أسأله فجأة عن العقارب.

وضحك الرجل ضحكة مجلجلة:

- العجارب العجارب ما بتعمل شيء الأولاد هنا بيجمعوا العجارب في طاسة ويلعبوا بها، بينبشوا عليها في الصحرا في حد يخاف من العجارب، أنت خايف يا دكتور.

وقلت له وأنا أكذب بشدة: لا لا أبدًا.

وعدت أسأل على استحياء بعد لحظة صمت لكني يعني، فيه مركز إسعاف في البلد، وفيه مصل عقرب.

ما في حد بيأخذ المصل وحانأخذ المصل ليه، العجارب ما بتعمل شيء.

واعتبرت المسألة منتهية، وأن العقارب ما بتعمل شيء، وقلت للأخ علي متحديًّا: شايف يا علي العجارب ما بتعمل شيء.

وضحك علي ساخرًا.

طيب ما بتعمل شيء، ما بتعمل شيء، مبروك عليك عجارب غدامس.

وتطرق الحديث بعد ذلك إلى عديد من الموضوعات، ثم خطر لي أن أسأل المتصرف في ناحية من نواحي اختصاصه، فسألته عن إحصائية بالحوادث في غدامس في السنوات الأخيرة قال الرجل في استفهام: إحصائية حوادث.. كيف؟

يعني عدد الجرائم مثلاً، عدد الجنايات.

جرائم كيف؟

جرائم السرقة، وجرائم القتل.

وابتسم الرجل في طيبة إحنا ما عندنا جرائم.

وفتح دفترًا كبيرًا وراح يقلب صفحاته أمامي، صفحات عديدة بيضاء استفسارات من الوزارة وردود عليها.

مشروع مساكن شعبية، مذكرة بإنشاء نادٍ للشباب، محضر صلح بين عائلتين، مذكرة من الأهالي بطلب بناء خزان ماء للمسجد، ولكن لا جريمة واحدة، لا جريمة سرقة، ولا جريمة قتل، الأمن مستتب بطول السنوات العشر الماضية.

- وأبديت دهشتي، وقلت: إن هذا شيء غير معقول، ثم عدت أقول: إن البوليس لا بد أنه كفء جدًا.

وقال المتصرف:

هذا بفضل السيد البدري. "التبرك بالأولياء من العادات الخاطئة التى تخلط الدين بالهزل أحيانا"

قلت له: إن السيد البدري هذا رجل عظيم الشأن جدًّا، وأبديت رغبتي في زيارته، وفي الطريق إلى السيد البدري كنت أقول لنفسي طول الوقت: أخيرًا وجدت الرجل الذي صنع المستحيل، إنه ولا شك أعظم مأمور بوليس في الدنيا، وفجأة توقف المتصرف، وأشار بأصبعه إلى نافذة:

هذا هو السيد البدري.

ولكن هذا ضريح

نعم إنه ضريح السيد البدري

وراح يقرأ الفاتحة

وراح الكل يقرءون الفاتحة

وقال المتصرف.

- إنه صحابي دخل غدامس مع جنود عقبة بن نافع في عام 42 هجرية وحارب الكفار وكافح حتى نشر الإسلام في آخر زقاق من أزقة الواحة، ثم استشهد منذ أكثر من ألف عام.

- ولكني لا أفهم كيف يحافظ رجل ميت على الأمن.

- إن الأهالي يؤمنون به إيمانًا راسخًا، ويعتقدون أنه يستطيع أن يكشف أي سر.

-إزاي؟

- حينما تحدث سرقة يجتمع المشايخ في الضريح، ويقرءون سورة يس أربعين مرة، فيظهر السارق على الباب وهو يتوسل، استروني من الفضيحة يرحمكم الله، ويرد ما سرق كاملاً، وتنتهي القصة دون تدخل البوليس.

- غير معقول، وهل حدث هذا فعلا؟

- حدث كثيرًا

- وهنا تقدم عسكري بالجمرك؛ ليروي آخر قصة حدثت منذ ستة أشهر حينما سقطت محفظة أحد السياح وبها أربعمائة جنيه، والتقطها أحد الأهالي وأخفاها، وروى كيف اجتمع المشايخ في الضريح وقضوا الليل في قراءة سورة يس، وحينما بلغوا العدد 32 ظهر السارق على الباب، وهو يتوسل: استروني لا تفضحوني يرحكم الله، وألقى لهم المحفظة وجميع أوراقها كاملة، وطلب الصفح والمغفرة والأمان.

وكنت أجد صعوبة في تصديق هذا الكلام، ولكن ها هي هذه الدفاتر البوليس خالية منذ سنوات لم تسجل جريمة واحدة.

هناك شيء واحد أكيد على كل حال أن غدامس لم تبلغ عن جريمة سرقة، ولا قتل منذ عدة سنوات، وأن الأمن والسلام ينشر ألويته على هذه الربوع، وهو لغز في ذاته يحتاج إلى تفسير.

وسواء كان التفسير هو الإيمان وما يفعله الإيمان المطلق بسارق يعلم أن هناك قوة سوف تكشف ستره فيتقدم طالبًا المغفرة خوفًا ورعبًا من المصير.

وسواء كان التفسير هو كرامة السيد البدري أم غيرها، فإن السيد البدري في الحالين شخصية خطيرة وجديرة بكل احترام، وبسطت كفي وقرأت الفاتحة للرجل الذي استطاع أن يحقق وهو ميت ما عجز عن تحقيقه جميع الأحياء.

وكنا قد وصلنا إلى عين الفرس، وهي العين التي تستقي منها كل الواحة، زرعها وأرضها ونخيلها وحيوانها وناسها.

وهي عين قديمة تاريخ تفجرها غير معروف، ويقال: إنه أربعة آلاف سنة، وإن الواحة بدأت بالعين، والحياة بدأت من اللحظة التي تفجرت فيها، والتاريخ بدأ من بعدها.

وفي حكاية أخرى أنها تفجرت تحت أقدام فرسة عقبة بن نافع، كانت الفرسة تنبش بحافرها، وهي عطشى فتفجر الماء تحت أقدامها، ومن هنا سميت عين الفرس، وهي حكاية مشكوك فيها؛ لأن العين بدأت في الغالب مع مولد الواحة ذاتها، ولم تجئ متأخرة مع دخول الإسلام.

وهناك حكاية ثالثة تُرْوى أن قافلة من البدو الرُّحَل تذكروا بعد أن أوغلوا في الصحراء أنهم نسوا قصعة طعامهم في المكان الذي تغدوا فيه أمس، وعادوا أدراجهم يبحثون عنها في المكان الذي أكلوا فيه، وبينما هم يبحثون تفجرت العين فسموها عين غدامس أي حيث الغداء بالأمس، غدامس، فأصبحت غدامس وهي فبركة طريفة لاختلاق أصل عربي لاسم غير عربي.

ولكن الحقيقة غير معروف متى وكيف وفي أي عصر انفجر هذا الينبوع فأحال الصحراء جنة؟ لا أحد يعلم، لكن العادة كالعادة الخير أتى ومعه الشر.

فما لبثت الواحة الخصبة أن أصبحت مطمعًا للأقوياء، وتعاقب عليها الغزاة الرومان والوندال والبيزنطيون، وما زالت بها إلى الآن آثار رومانية وطرز العمارة البيزنطية واضحة في طابع مبانيها.

ولقد ظلت غدامس مسيحية بسبب الوندال والبيزنطيين إلى سنة 666 ميلادية الموافقة 42 هجرية، حينما دخلها العرب بقيادة عقبة بن نافع ليحولها إلى الإسلام، وبعد العرب جاء الأتراك في القرن السادس عشر ثم إيطاليا في سنة 1924م، وانتهت قصة استعمار الواحة في يناير 1943م حينا أغارت قاذفات القنابل الفرنسية على مطارات إيطاليا وثكناتها في الواحة في الحرب العالمية الثانية وأنزل الستار على التاريخ الطويل الدامي.

ولكن أغلب الظن أنه كان هناك تاريخ ما قبل التاريخ في الواحة، فهناك آثار عصر حجري وسكاكين وخناجر من الصوان، وقد عثر على تمثال عجل ذي رأس بشري بالقرب من بئر عوان بجنوب غدامس ذي ملامح من النحت البدائي الذي كان موجودًا في مصر قبل التاريخ.

إنها قصة قد تطول إذن إلى عشرة آلاف سنة وربما أكثر لا أحد يدري.

وكل هذا التناطح قد دار حول بئر انفجرت وسط الصحراء، وكان هناك نظام قديم للسقاية من البئر يدل على مدى قيمة الماء في ذلك الوقت، فقد شق الأهالي عدة أنهار تجري فيها مياه العين، وعلى كل نهر بوابة يمكن أن تفتح وتقفل واستعملوا ما يشبه الساعة المائية، سطل مثقوب تسيل منه المياه ببطء حتى يفرغ على مدى ساعة زمن، وعند بدء الساعة يفتح أحد الأنهار لتستقي منه إحدى القبائل وفي نهاية الساعة تقفل البوابة فتنتهي السقاية، ويجيء الدور على القبيلة الثانية التي تستقي من النهر الثاني وهكذا يمر الدور على جميع القبائل أول نظام لعداد مائي في العالم.

وما زالت هناك ثلاثة أنهار جارية تخرج من البحيرة الكبيرة التي تصب فيها العين، وما زالت تحمل الأسماء البربرية القديمة تاسكو وتارت وتنجسين.

وقد بنى الأهالي مدينتهم فوق هذه الأنهار، فأصبحت أول مدينة تجري من تحتها الأنهار إنها الجنة.

أهلها لا يعرفون السرقة ولا القتل

والبوليس يجلس فيها بلا وظيفة أمام دفاتر خالية

وتحكمها روح سيدي البدري

وتجري من تحتها الأنهار

ولكنها جنة عجيبة درجة حرارتها 48.

المصدر: http://www.islamonline.net