المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مولود من رحم الموت



محمد سامي البوهي
16/12/2006, 01:29 AM
مولود من رحم الموت
طالت به مراسم السفر على الطريق ، حصر عينيه بين حدوده الجيرية البيضاء ، حرارة الجو الصيفي تقترب من معايير الغليان ، تتسلل إليه عبر زجاج النوافذ المغلقة ، مد رؤوس أصابعة نحو مؤشر مبرد الهواء ، زاد من اندفاع الهواء ، أعين الظهيرة الواجمة تجهش على منظومة التنفس ، الطريق يتلوى كثعبان لعين ، يعود يستقيم كتمساح ماكر يستحم بأشعة الشمس الممتدة ، أعمدة الكهرباء المنتصبة تلوح له بالوداع ، نغمات الراديو تتعلق بذرات الهواء البارد ،تصارع مع بكاء نبت من أرض الوحدة، والصمت ، تواردت عليه لحظاته الماضية ، تتهافت الأحداث عليه من كل جانب ، تتراقص مع النغمات ، تتلفع برئته مع بقايا الهواء ، أفرغت جيوبها السوداء فوق جفونه المتهدلة ، اهتزت أركانه الحائرة بكلمات الطبيب ، صدمته كصاعقة شحنت من هموم الزمان ، كان يمسك ببقايا من أوراق التقارير الظالمة ، أسدل رأسه تجاهها ، يتوسل إليها أن تنقل ما تخفيه بدلا عنه ، لكنه وهوالطبيب المكلف ، توجب عليه صفعه بالنتيجة ، ضرب بمقدمة قلمه على ساحة المكتب الخشبي ، تنهد :

-أستاذ "طارق" يؤسفني أن أخبرك ..
-تخبرني بماذا يا دكتور ... خيراً..
-استاذ طارق أنت رجل مؤمن بالله وتعلم أن ..
- دكتور .. أرجوك أخبرني ما تحويه هذه التقارير .
- يؤسفني أن أقول لك بأن لديك مشكلة بالإنجاب.
-ألن أنجب ؟!
-لم أقل ذلك ، قالت التقارير ...
-دعها تقول كما تشاءلكنها لن تتحكم في ...
-سيدي الفاضل إهدأ. اذكر ربك.
-لا إله إلا الله.
-سيدي. لقد تقدم العلم ،وأصبح لكل مشكلة حل ، مشكلتك يمكن حلها بعملية تلقيح صناعي ، أوأطفال أنابيب.
-أطفال أنابيب ؟! سمعت عنها لكني لم أتصور أبداً أنني سأخوض هذه التجربة .
-النصيب يا أستاذ "طارق" ... عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ".
-ونعم بالله .
-لكن كيف سأقوم بإجراء هذه العملية ؟
-سأعطيك أسماء مراكز متخصصة في هذا المجال ، هي التي تقوم بفحص الزوج والزوجة ، وتحديد نوع العملية .
-الزوجة ؟!
-نعم. فهي طرف في إجراء العملية بالتأكيد .-
-النتيجة مضمونة ؟
-دع أملك في الله كبير .
-ونعم بالله .
-أعيد أسفي أستاذ طارق .
-لا عليك ... ولا اعتراض على قضاء الله .
-مع السلامة .
انغلق الباب على رأسه ، لم يهشمها ، فما امتلأت به جعل صلابتها أقوى من أخشاب كل الأبواب ، تدلت أمامه صورة زوجته المسكينة ، الأسئلة تضاحكه ، تتحور .. اختصرت نفسها لسؤال واحد ؛ ماذا أقول لها ؟ تمددت الأرض من تحت قدميه كحزام متحرك ، سقط كل ظلام الكون أمامه ، ارتمى داخله ؛ عله يختبئ من أعين الناس ، وجد في انتظاره كل عيون البشرتبرق وسط الظلمة ، يصيبه السؤال في قلبه ، يشل أحشائه عن الدوران ، تلونت دمائه بلون السواد المتسلط عليه ، ماذا أقول لها ؟ ، صعد الشيخ "دسوقي " المأذون فوق رأسه ، لف حول رقبته حبل الإعدام ، أغمض عينيه للموت القادم ، لكن الوقت قد طال ، ومازال قلبه ينبض بالحياة ، مزق جفونه ، ليجد المأذون قد رحل ، و تركه هو من ينفذ حكم الإعدام ... استغفر الله ... استغفر الله ، نفض الحبل عن رقبته ........********** ********** **********
بشقته الفخمة المطلة على مياة النيل الرحيمة ، يجلس في الصالون الشاسع ، أرسل بشارده يستحم على بساط المياة المتربعة ، مازلت الأسئلة تتحور ، وتختصر داخلة ، يبحث عن بداية ، أو مدخل ينفذ منه لزوجته ، رجولته تستحي منها كثيراً ، يغطس برأسها في مياة النيل ،يحجب عنها التنفس ، يعيده إليها ، يعذبها مرات ومرات لعلها تخضع ، لكن الخوف من رد الفعل لا يملكه كي يعذبه هو الآخر ، يستنجد بالله ... يرفع يديه لوجه السماء الصافية ، يدعو ... يتوسل ... يقترب أكثر فأكثر ، سقطت دموعه المالحة على لحيته الممتده بين كتفيه ، سقط عليه هاتف من السماء بصلاة الاستخارة ، شعر براحة دججت جسده الساخن ، قام ... توضأ ... افترش سجادة الصلاة ، رحل مع صلاته في رحلة لا نعلمها ، ولا تعلمها الأوراق كي تنقلها إلى هنا ، ارتخى ... ارتمى على سريره الناعم ... انفصل عن ذاته ... أغمضت عيناه... رأها تجلس جواره بالصالون , حركة المياة المشاغبة تنعكس على صفحات عينيها السوداء ، نظر إليها بحب لو وزع على العالم لإنتهت الحروب الدائرة ، ناولته طبق صغير من شطيرة صنعتها بيديها ، التقم قطعة منها ، وارب جفونه على مقلتيه :
-اللـــــــــه ... سلمت يدك .
-سلمت لي من كل شر .
-أم خالد ؟
-يا قلب أم خالد .
-ماذا لو أن خالد ظل لقبا لناً فقط ؟
-كيف ؟!
- ذهبت للطبيب اليوم
- هل ظهرت نتيجة التحاليل ؟
-نعم . وليتها حرقت قبل أن أسلمها للطبيب .
- أشعرتني بالقلق أبو خالد ، خيراً .
-أخبرني الدكتور اليوم أن لدي مشكلة بالإنجاب ، وأنه كي ننجب لابد من عملية أطفال أنابيب وأعطي لي أسماء مراكز متخصصة.
- ياااااه ..-حمداً لله - ظننت من كلامك أن الأمر أسوأ من ذلك .
- وهل هناك أسوأ من ذلك ؟
- أبو خالد . أنا لا أريد من هذه الدنيا سواك .
- وفاء . أنا أخيرك الآن بين الاستمرار معي أم .......
- أبو خالد ... لا تكمل .. حتى نهاية العمر ...
- سأظلمك معي .
- الظلم هو أن نفترق . نحمد الله أن هناك بصيص من أمل .
- لن أنسى لك هذا الموقف ما حييت .
- أطال الله في عمرك أبو خالد .
- غداً بعون الله سنذهب إلى أحد هذه المراكز كي نبدأ معه إجراءات العملية .
- إن شاء الله . أبو خالد ... أنا معك فلا تقلق .
ألاح له الصباح بطقوسه ، انتهت الطقوس بأنها تدخلت لتنفض بقايا النوم عن وجهه ، تحسس فراشه ، زوجته بالجوار، تمنى لو أن ما رأه انتقل من رأسه إليها ، ازاح الغطاء ... مشى على رؤس أصابعه ، لم يرد إزعاجها عل ما رأه يعود اليها ، لعن الواقع الذي استقبله ، تداعت عليه مشاغله ، يتوضأ ... عاد لإفتراش سجادته، يصلي ... يدعو ... ترتعش أصابعه المتضرعة بالدعاء ... يمسح وجهه بكفيه ... يلملم سجادته ... يقوم .. يعد درجات السلم للنزول ، تذكر وجود المصعد ، لكن شعر بأن نفسه هي من قادته للهبوط عبر هذا الدرج ، كل درجة يحذفها ، كانت تنزع عنه هم من همومه العالقة ، انتهت به إلى الشارع الرحب ، تمنى لو أن البناء زاد من وجودها ، كي تكمل نزعها لتلك الآلام ، نزع باب سيارته عنها ، انطلق معها نحو سفره القادم ، طالت به مراسم السفر على الطريق ، حصر عينيه بين حدوده الجيرية البيضاء ، حرارة الجو الصيفي تقترب من معايير الغليان ، تتسلل إليه عبر زجاج النوافذ المغلقة ، مد رؤوس أصابعه نحو مؤشر مبرد الهواء ، زاد من اندفاع الهواء ، أعين الظهيرة الواجمة تجهش على منظومة التنفس ، الطريق يتلوى كثعبان لعين ، يعود يستقيم كتمساح ماكر يستحم بأشعة الشمس الممتدة ، تصلب أمامه الحاجز الإسمنتي ، قضم مقدمة السيارة بأنيابه ، التف حولها الثعبان اللعين ، اعتصرها بين عضلاته ، هاج التمساح الماكر ، ضرب مؤخرة السيارة بذيله ، انقلبت ، مرة ، اثنتان ، ثلاث مرات ، وقعت في أحضان عمود من أعمدة الكهرباء قد مل الوداع ، خيم الغبار كأنها عاصفة رملية شارفت على الانتهاء ، لم يفقد وعيه ، تحسس جسده ، مازل بهذه الحياة ، رأسه خاصمت قامته ، تحرر من حزام الأمان ، وجد طريقاً له عبر النافذة المحطمة ، خرج منها ، الذهول يندمج مع حمده لله ، وقف على رأس سيارته ، أشبه بكرة سحب منها الهواء فانكمشت على نفسها ، فأيقن أن الله قد استجاب له الدعاء.

زاهية بنت البحر
16/12/2006, 01:32 AM
أهلا ومرحبًا بك أخي المكرم محمد سامي البوهي
في جمعية واتا الحضارية ,وهذه القصة الجميلة مولد من رحم الموت ,عنوان
يشد القارئ من أول نظرة أرجو لك كل خير ونجاح.
أختك
بنت البحر

اشرف الخريبي
17/12/2006, 11:39 AM
محمد سامى البوهى
كاتب قصة مميز يمتلك حس فنى باهر وممتع
ارحب بوجوده هنا واتمنى ان يكون بيننا على الدوام


محبتى
اشرف

ايمان حمد
17/12/2006, 08:16 PM
يا الهى

قصة اشبة بالواقعية كثيرا
عشناها بكل تفاصيلها المأساوية
ولكن الم يدرك طارق ان الله نجاه مما هو اسوأ .. الم يثبت له ان هناك اسوأ .. هذا الطارق كان ضيق الأفق
ورحمة الله وسعت كل شىء

اخبر طارق وام خالد ان مع العسر يسرا

صدق ربى :" ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا " الأسراء 11

ومن أخبرك ان كل من عنده ابناء سعيد ؟ الا يوجد من هم سبب فى مرض وشقاء والديهم !
هل تتذكر الذى قتله سيدنا الخضر "واما الغلام فكان ابواه مؤمنين فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا " سورة الكهف آيه 80

مبروك الولادة والحياة الجديدة التى وهبها االله لطارق ليحيى ويعى ويفهم الحياة بصورة افضل

وان الله يحبه لان الأبتلاء من اشكال محبة الله لعباده حتى اذا لقى ربه لم يكن عليه ذنبا

قصة ممتعة صيغت بأنسانية و مهارة عالية جدا لأدق تفاصيل الحالة النفسية للزوجين

ولا رحمة الأطباء والقدر والحقيقة المر التى ما زالت تصفعنا مرات بعد مرات

رااائعة وكأنها قصة واقعية

رائع اخى البوهى وسأتابعه دوما

لا تتأخر علينا اخى

محمد سامي البوهي
19/12/2006, 02:23 PM
أهلا ومرحبًا بك أخي المكرم محمد سامي البوهي
في جمعية واتا الحضارية ,وهذه القصة الجميلة مولد من رحم الموت ,عنوان
يشد القارئ من أول نظرة أرجو لك كل خير ونجاح.
أختك
بنت البحر

الأديبة الكبيرة

بنت البحر

أشكرك على هذا الترحيب ، وهذا من كرمكم وحسن أخلاقكم الكريمة .

محمد سامي البوهي
19/12/2006, 02:25 PM
محمد سامى البوهى
كاتب قصة مميز يمتلك حس فنى باهر وممتع
ارحب بوجوده هنا واتمنى ان يكون بيننا على الدوام


محبتى
اشرف

الأديب الكبير
القاص الرائع

الاستاذ / أشرف الخريبي

شاكر فضلك على هذا الثناء ، والذي اعتبره شهادة على صدري ، أشكرك أخي الكبير .

محمد سامي البوهي
19/12/2006, 02:27 PM
يا الهى

قصة اشبة بالواقعية كثيرا
عشناها بكل تفاصيلها المأساوية
ولكن الم يدرك طارق ان الله نجاه مما هو اسوأ .. الم يثبت له ان هناك اسوأ .. هذا الطارق كان ضيق الأفق
ورحمة الله وسعت كل شىء

اخبر طارق وام خالد ان مع العسر يسرا

صدق ربى :" ويدع الانسان بالشر دعاءه بالخير وكان الانسان عجولا " الأسراء 11

ومن أخبرك ان كل من عنده ابناء سعيد ؟ الا يوجد من هم سبب فى مرض وشقاء والديهم !
هل تتذكر الذى قتله سيدنا الخضر "واما الغلام فكان ابواه مؤمنين فخشينا ان يرهقهما طغيانا وكفرا " سورة الكهف آيه 80

مبروك الولادة والحياة الجديدة التى وهبها االله لطارق ليحيى ويعى ويفهم الحياة بصورة افضل

وان الله يحبه لان الأبتلاء من اشكال محبة الله لعباده حتى اذا لقى ربه لم يكن عليه ذنبا

قصة ممتعة صيغت بأنسانية و مهارة عالية جدا لأدق تفاصيل الحالة النفسية للزوجين

ولا رحمة الأطباء والقدر والحقيقة المر التى ما زالت تصفعنا مرات بعد مرات

رااائعة وكأنها قصة واقعية

رائع اخى البوهى وسأتابعه دوما

لا تتأخر علينا اخى

الأخت الأديبة / إيمان

أشكرك جداً على هذه القراءة التي تعودتها منك دائماً ، والتي انتظرها بشغف ، مع احترامي وتقديري .

محمد ربيع
24/12/2006, 12:04 PM
فلتكن الولادة من رحم الموت عزاء ..
وقد تكون أفضل من كل الولادات .. بل هي أفضل !
أستاذي محمد سامي البوهي حفظه الله
تقبل خالص احترامي وتقديري ..

عبلة محمد زقزوق
25/12/2006, 10:07 AM
نعم ؛ فـالولادة من رحم الموت عزاء
قصة مؤلمة ولكنها حقيقة الحياة بحلوها ومرها
فالحمد لله في اول المقال وآخره
تقديري
واهلا بك اخي الفاضل
والقاص المبدع / محمد سامي البوهي
بواتا الحضارية

محمد سامي البوهي
25/12/2006, 05:12 PM
فلتكن الولادة من رحم الموت عزاء ..
وقد تكون أفضل من كل الولادات .. بل هي أفضل !
أستاذي محمد سامي البوهي حفظه الله
تقبل خالص احترامي وتقديري ..

أخي العزيز / محمد ربيع

حفظك الله من كل شر ، أشكرك جداً على هذا الرد المبهج .

محمد سامي البوهي
25/12/2006, 05:13 PM
نعم ؛ فـالولادة من رحم الموت عزاء
قصة مؤلمة ولكنها حقيقة الحياة بحلوها ومرها
فالحمد لله في اول المقال وآخره
تقديري
واهلا بك اخي الفاضل
والقاص المبدع / محمد سامي البوهي
بواتا الحضارية


الأخت الكريمة / عبلة

حماك الله من واقع الحياة ، وأكرمك بالعيش في أحلامها المحققة بإذن الله ، أشكرك على ترحيبك .

محمد البوهي
10/02/2007, 04:44 PM
السلام عليكم ورحمة الله

إعادة لقصة أ حبها .

تقديري