المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الاضطرابات المزاجية المرتبطة بالتقدم في العمر



د. عبدالستار إبراهيم
12/10/2008, 09:39 PM
الاضطرابات المزاجية المرتبطة بالتقدم في العمر
مدخل إيجابي- معرفي متعدد المحاور

أ. د. عبدالستار إبراهيم

ملخص: بالرغم من التطور الواضح الذي حققته حركة العلاج النفسي السلوكي المعرفي الحديث في السنوات الأخيرة في علاج الكثير من الاضطرابات النفسية والعقلية الشائعة، فإن أساليب التشخيص والعلاج في حالات اضطرابات المزاج والاكتئاب بين كبار السن و حالات التقدم في العمر لازالت نادرة، وأندر منها ما تقدمه هذه المناهج العلاجية في فهم هذه الحالات في المجتمع العربي، حيث لازلنا نفتقر إلي وجود إطار منهجي ملائم للتطبيق والممارسة الاكلينيكية لتقديم يد العون والرعاية النفسية والاجتماعية لعملائنا من كبار السن ذاتهم أو لمن يحتكون بهم من أفراد الأسرة والمجتمع الخارجي. ومن ثم، تأتي هذه الدراسة لتلقى نظرة شمولية متعمقة علي بعض القضايا الهامة في تشخيص وعلاج مشكلات الاضطراب الوجداني والاكتئاب في السنوات المتأخرة من العمر بالاستناد إلي البحث العلمي وخبرة طويلة في ممارسة العلاج النفسي و الصحة النفسية مع حالات متنوعة من اضطرابات الوجدان والاكتئاب بين كبار السن.

Abstract: Psychological therapies are equal players alongside physical and social measures in the mangement and prevention of mental and emotional disorders related to old age. Cognitive behavior therapy (CBT), among all types of psychological therapies, is promoted by the well established resources of reserach as the first line psychotherapeutic treatment discipline for a wide range of psychiatric problems in older people who suffer from affective disorders and depression. CBT undoubtedly has much in its favor. It is an attractive, efficient therapy that is relatively easy to learn and deliver and produces good results in many instances. However, the use of CBT with older people in Arab countries has been almost absent or slowly developed both theoretically and operationally, to say the least. This presentation is an invitation from the present writer to health practitioners to become aware of the role of CBT practice by using a multi-modal CBT integrated with concepts of positive psychology, in dealing with some major psychiatric disorders ( e.g., depression and mood difficulties), which are directly or indirectly associated with old age.
More specifically, the main points of this presentation would be outlined as follows: (1) Identifying major distorted thinking patterns common among depressed old people by using common assessment tools including interviewing and standardized Arabian assessment tools developed by the speaker to identify both distorted- irrational-thought and positive-thought patterns; (2) Treatment techniques acceptable for use in psychotherapeutic services delivery including identifying target behaviours, treatment goals, and selection of the therapeutic techniques.

ينظر البعض إلي الشيخوخة بصفتها المحطة الأخيرة في رحلة الإنسان الارتقائية والنمو من المهد إلى اللحد. ولهذا فالبعض يراها مرحلة الإشراف على النهاية، والبعض الآخر يرى فيها تبلور الحكمة وعمق التجـربة والتمرس والحنكـة بالحياة، والبعض الآخر يدركها من الجانب السلبي بصفتها مرحلة التآكل والإنحـلال العضوى والحسى. والستون ومابعهدها عند البعض المتفائل و النشط من المسنين عمر تتحقق فيه الآمال المؤجلـة، والتأمل، والإسـتغراق الهادئ السـاكن في الكون والحياة.

لكن وقبل أن نمتحن مافي هذه الأفكار من صدق أو من وهم علينا نتفق بادئ ذي بـدء على المدى الزمنى لهذه المرحلة: متي تبدأ؟ و هل لها نهاية و بداية؟
عسير علينا في الحقيقة أن نحدد متى تبدأ الكهولة، فالبداية الزمنية للكهولة مسألة اعتبارية نسبية تتوقف على كثير من الظروف الصحية والنفسية، والحضارية. على أن البعض يحددها تعسفياً بأنها المرحلة التى يحال فيها الإنسان إلى التقاعد من العمل، أى ما بين 70:65 سنة وما بعدها حتى الموت. ولكن حتي هذا المحك أصبح لا يعتد به الآن لأن بعض المجتمعات رفضت التقاعد الجبري و تركته مفتوحا لمن يحب بعد الستين. ولهذا فمن رأينا أن بداية الشيخوخة والهرم يظل- لحسن الحظ- أمراً شخصياً إلى حد بعيد .

على أن ذلك لا يعني أن للتقدم في العمر مسبباته وله تغيراته، فالتغير بسبب العمر والدخول في مراحل متأخرة منه أمر واقع و حقيقة يجب الاعتراف بها و تمتد لتشمل الكثير من الجوانب الإيجابية والسلبية في الحياة العضوية و التفكير و الجوانب الانفعالية.. و هنا أيضا تتفاوت الآراء و تتضارب نتائج البحوث و تفسيراتها بحسب اتجاهات الباحثين و رغباتهم في وصم التقدم في العمر والشيخوخة بأوصاف سلبية، و ينفي عنها البعض الآخر أي شبهة في أي تغيرات سلبية، وهذا ما يتطلب غربلة هذه النتائج والتيارات المتعارضة من التفكير السيكلوجي و الطبي في النظر لمشكلة التقدم في العمر والدخول مرحلة الشيخوخة.

مشكلات مرتبطة بالتقدم في العمر يجب انتباه المعالج لها

بدخول الخامسة والستين تبدأ كثير من الوظائف العضوية في التأثر سلبيا فيزداد ضغط الدم ارتفاعاً، وتضعف الرئتان عن التحمل. كما تكشف أجهزة الرسم الكهربائى EEG للمسنين عن تأثر النشاط الكهربائي للمـخ، فيقل تآذر الوظائف الحسـية والحركيـة، ويصبح الهبوط في الطاقة الجنسية ملحوظاً .
وما يقال عن الوظائف الجسمية يقال أيضاً عن الوظائف العقلية والجوانب الوجدانية من التطور في هذه المرحلة، و من ثم سنعرض فيما يلي بعض المشكلات الخاصة المرتبطة بالتقدم في السن و أمراض الشيخوخة:

تأثر الدور الاجتماعي والمركز:
ومن التغــييرات الرئيسـية التي تحدث في هذا المرحلة ويكون لها تأثير قوى على الحالة النفسية والتوافق: فقدان الدور الاجتماعـي والمركز . فبالإحالـة للتقاعد يفقد الشخص كثيراً من مصادر الإثارة والرضا والدخـل الاقتصادي. ولا يقتصر فقدان الدور على ميدان العمـل فقط فالنساء غير العاملات يجدن أطفالهـن من حولهن وقد كبروا وأصبحت لهم مشـاغلهم وأسرهم الخاصـة مما يزيد من آلام الاحساس بالوحدة والاغتراب.

وتزداد أزمة الإحساس بالسن في الدول الصناعية أكثر – في اعتقادنا – من الدول الشرقية أو التقليدية . ففي المجتمع الصناعي يصبح التقدم في السن عقبة في طريق التوافق الإجتماعى ومصدراً للعزلة والإحباط . أما في مجتمعاتنا وفي كثير من المجتمعات التقليدية فإن التقدم في السن قد يعتبر مصدراً للحكمة والخبرة ومن المؤكد أن مثل هذا الإدراك للمسنين يلعب دون شك دوراً كبيراً في التخفيف من أزمة الشيخوخـة على أمل أن يظل هذا الإدراك للمسنين في مجتمعاتنا قائما و لا يعتريه الاندثار كما تندثر كثير من الأشياء الجميلة في حياتنا.

التدهورالمعرفي:
ويعتبر فقدان النشاط في كثير من القدرات العقلية مصدراً آخر للإحباط والتأزم. ويبدو أن ضيق دائرة العلاقات الاجتماعية في هذا السن، والتقوقع على الذات من العوامل التي تترك آثارها على أساليب التفكير فتتضاءل القدرة على التجريد واستخدام المفاهيم ويحل محلهما اهتمام بالعلاقات العيانية الملموسـة والأفكار ذات المضامين الذاتية الضيقة (1، 26) . ويقل ميل المسنين في هذا السن إلى الاستكشاف وحب المغامرة وتغـيير البيئة ولهذا تزداد نسبة المحافظة في الاتجاهات، والسلبية، والاستسـلام للبيئة. كما يقل اهتمامهم بالنشاطات الخارجيـة. وبالرغم مما قد تبدو به هذه التغيرات من صورة سلبية، فإن البعض يراها دليلاً على الاقتصاد في استخدام الطاقة النفسية ودليلاً على تطوير الجوانب الانفعالية بحيث تكون أهدأ مما كانت عليه في عالم الشباب ( 1، 14، 17 ) .

هناك أيضا مشكلات تطرأ على الذاكرة فتضعف الذاكرة القريبة وتبقى الذاكرة القديمة نشـطة فيتذكر الشخص أحداثاً قديمة وهو طفل، بينما ينسى الأشياء التي حدثت في حياته توا أو منذ لحظات. صحيح هذا بشكل عام، إلا أن الدراسات تبين أن استثناءات كثيرة تحدث، فيظل المسنون قادرون على تذكر سلاسل أرقام التليفونات الخاصة والمساكن مثلهم في ذلك مثل الأصغر سناً على شرط أن تكون سلاسل الأرقام هذه ليست طويلة. ومن المعتقد أن التذكر يمكن أن يستمر بكامل نشاطه على أن تعطيهم فترة أطول للتذكر وعلى مهل .

أما من حيث الذكاء, كان الاعتقاد السائد بين علماء النفس لفترة قريبة أن الذكاء يتدهـور بتقدم السن. ولكن أصبح من المعروف حالياً أن هذا الإدعاء خاطئ بسبب أن مقاييس الذكاء لم يقم مصمموها بتقنينها من خلال متابعة الأشخاص في الأعمال المختلفة، إنما قاموا بتقنينها من خلال مقارنات بين جماعات مختلفة من الشباب والمسنين وقد أخذت جماعات المسنين من المقيمين بمؤسسـات الرعاية الاجتماعية. وغنى عن الذكر أن هذه الفئات من المسـنين لا تعـتبر ممثلة من حيث كفاءتهـا العقلية لمجتمع المسـنين . فضلاً عن هذا، فإننا نعرف الآن : أن الذكاء يتكون من قدرات متنوعة وليس من قدرة واحدة. ومن المعروف أن المقارنات السابقة بين المسنين وغيرهم كانت تتم بالنظر إلى الذكاء على أنه قدرة واحدة. ومن المعروف – على وجه اليقين – الآن أن الذكاء مفهوم متعدد الأبعاد والقدرات، وان بعض القدرات تتدهور بالتقدم في العمر، وبعضها يرتفع بالتقدم في العمر، ويبقى بعضها الآخر ثابتاً حتى الموت .

كما يجب على المعالج النفسي أن يميز التدهور المعرفي الناجم عن التقدم في العمر عن ذلك الذي يصاحب الاضطرابات العقلية المرضية. أعراض التدهور المعرفي الناتج عن التقدم في العمر يشمل عادة تدهور الذاكرة القريبة و ضعف القدرة على الانتباه والتركيز و ضعف المهارات الحركية. ومن المعروف الآن أن تدهور هذه الوظائف أمر يمكن إبطاؤه من خلال التحالف بين الفريق العلاجي بحيث يعالج المريض تكامليا من خلال العقاقير الطبية (مثل الفيتامينات) و العلاج النفسي باستخدام أساليب العلاج المعرفي، فضلا عن العلاج الاجتماعي من خلال التشجيع على مشاركة أفراد الأسرة والتشجيع على الممارسة الرياضية والنشاطات الاجتماعية و تيسير الانتماء لجماعات مماثلة من العمر لخلق مصادر من الدعم الاجتماعي الصحي.
مع ملاحظة التعاون الإيجابي مع الفريق العلاجي الآخر، كالطبيب النفسي لأن جزءا كبيرا من المشكلات النفسية المرتبطة بالاضطراب المعرفي في السنوات الكبرى تنتج عن سوء استخدام العقاقير الطبية والعقاقير النفسية بما في ذلك الجرعات الزائدة، أو الانقطاع المفاجئ عن الأدوية، والحساسية الشديدة. و يعتقد "سيدوك وسيدوك" أن غالبية مشكلات التدهور المعرفي في هذه المرحلة المتقدمة من العمر تنتج عن أخطاء في و صف العقاقير أو طرق تعاطيها .

الحداد والحزن:
على المعالج أن يكون واعيا بأن من المتوقع أن يعاني كبار السن أكثر من غيرهم في مراحل النمو المختلفة من فقدان الأعزاء بالموت أو الهجر، أو الإصابة بالأمراض المزمنة التي تقعد أحبائهم عن ممارسة حياتهم المعتادة. وعلى المعالج أن يكون قادرا على التمييز بين الحداد والحزن العادي والطبيعي عن ذلك الحداد والحزن المرضي. فالحداد الطبيعي يبدأ عادة مباشرة أو بعد فترة قليلة من فقدان موضوع الحب والأعزاء ورفاق الحياة. ومن علامات الحداد الطبيعي و أعراضه: الحزن و الانشغال في التفكير بالراحل العزيز والخوف من المستقبل والأرق و صعوبات ممارسة الحياة والنشاطات المعتادة.

والحداد الطبيعي يمكن أن يتحول إلى حداد مرضي و اكتئاب، وفي هذه الحالة يجب إخضاعه للعلاج كأي اضطراب اكتئابي آخر. و محك التمييز بين الحداد الطبيعي والحداد المرضي يتمثل في طول الفترة التي يظل فيها الحزن مسيطرا على الأحياء، و المحك المستخدم بين الأطباء النفسيين هو مرور أكثر من شهرين على فقدان موضوع الحب و الأعزاء مع استمرار مشاعر الحداد بنفس الحدة. ومن أعراض الحداد المرضي الشعور الشديد بالذنب و التقصير والانشغال الدائم بذكري الراحلين بما في ذلك الأفكار الآلية بمشاعر الذنب والشغف والصور الذهنية و الأحلام والتي تتمحور تجاه الراحل أو الراحلة العزيزة. كذلك يتزايد التفكير في الموت، فضلا عن الإصابة بالأعراض السيكوسوماتية الدالة على ضعف النشاط الحركي والعزوف عن الخروج و تكوين العلاقات الاجتماعية بالآخرين. و في مثل هذه الحالات على المعالج المعرفي أن يكون واعيا بالتأثير السلبي للأساليب المعرفية الخاطئة بما فيها: المبالغة، والنظرة المتشائمة، وامتهان الذات، و تحميل الذات مسئوليات غير واقعية/ وتعالج هذه ألخطاء بنفس الفنيات المعرفية بما فيها الدحض، و الإيقاف المتعمد للهواجس المرضية، و الالتزام بالهدوء والاسترخاء اليومي المنتظم.

التعرض للانتهاك و سوء المعاملة:
يتعرض المسنون للكثير من جوانب الانتهاك وسوء المعاملة التي يجب التنبه لها في حالات العلاج النفسي واستخدام الأساليب المعرفية التي تسمح لهم بتأكيد الذات والدفاع عن النفس و التشجيع على الإفصاح عن مصادر الألم والشكوى. و تمتد أنماط سوء المعاملة وانتهاك الذات لتشمل:
• الانتهاك العضوي والجنسي كالكسور والكدمات و الحروق و تقييد الحركة و الحبس والتجويع و الإصابة بالأمراض الجنسية المعدية و التقيحات والاحتقان خاصة في المناطق الجنسية.
• الانتهاك النفسي مثل التعرض للتهديد والسخرية و الشتائم والألقاب المهينة و تهديد الأمن و إعطاء الأوامر الصارمة.
• سوء الاستخدام و المعاملة مثل استغلال نقوده، أو ممتلكاته أو حرمانه من التصرف في مدخراته.
• سوء الاستخدام الطبي بما في ذلك حرمانه من العلاج أو العقاقير الضرورية لصحتهن و حرمانه من وسائل التحسين السمعي والبصري مثل حرمانع من الحصول على سماعات مقوية للسمع أو نظارات طبية مقوية للإبصار.

مدخل إيجابي- معرفي متعدد المحاور لفهم و علاج الاضطرابات المزاجية
المرتبطة بالتقدم في العمر.

يمثل العلاج السلوكي-المعرفي أحد التطورات المعاصرة في حركة العلاج النفسي، هذا التطور الذى أطلق "كريزنر" عليه الثورة السلوكية الثانية (أنظر: عبدالستار إبراهيم، 2000، 1998). و يتبنى العلاج السلوكي المعرفي متعدد المحاورمنهجا يستند في تناوله للسلوك المضطرب على عدد من المسلمات والاستراتيجيات العلاجية التي يمكن حصرها في أربع مسلمات:
• التكامل بين التعلم والتطور في السلوك والاستناد على التعلم كمدخل لفهم اضطرابات السلوك والمزاج.
• استخدام أساليب علاجية متنوعة بحسب تنوع محاور الاضطراب.
• التحالف بين العقلانية والإيجابية في التوجهات العلاجية.
• التكامل بين أساليب التشخيص و أساليب العلاج

1. التكامل بين التعلم و التطور الارتقائي في السلوك: يستند المعالج السلوكي المعرفي في تعامله مع الاضطراب النفسي والمعرفي على نظرية التعلم، التى ترى أن الإنسان يتعلم من خلال تفاعلاته المشتركة بالعالم وخبراته به. كما يتبنى وجهة النظر التي ترى أن ما نتعلمة يمكن أن لانتعلمة، أو أن نتعلم أساليب بديلة أفضل منه. فضلا عن هذا، ينظر المعالج السلوكي المعرفي متعدد المحاور للأعراض المرضية بصفتها جوانب من السلوك والتصرفات لا تخدم مصلحة الفرد أو تطوره من و جهة نظر الصحة النفسية وتعوقه عن التوافق والتكيف، وعن تحقيق إمكانياته الشخصية والعقلية التي يفترض أنها تحقق للفرد ولمن حوله الرضا والفاعلية والسعادة.
2. فضلا عن هذا يوجه المعالج السلوكي المعرفي الحديث نشاطه نحو التعامل مع السلوك بصفته ذى أبعاد متعددة، وأنه توجد إمكانيات متعددة لتطويره علاجيا . بعبارة أخرى: يتبنى منهجنا العلاجي في فهم جوانب الاضطراب النفسي والاجتماعي المصاحبة للتقدم في العمر نوعا مماثلا من التفكير الذي يولى إهتمامه بالمشكلة النفسية أو الإضطراب النفسى على أنه يؤثر في أربعة جوانب من الشخصية، أي السلوك الظاهر (الأفعال الخارجية)، والانفعال (بجانبيه الوجداني والعضوي)، والتفكير (طرق التفكير والقيم)، وأساليب التفاعل الإجتماعى وأنماط العلاقات بالآخرين. وبالتالى فإن العلاج الناجح للاضطرابات الوجدانية بين المسنين يجب أن يتجه إلى استخدام أساليب علاجية متنوعة بحسب تنوع محاور المشكلة،. فمن الممكن أن نعلم الشخص عند المعاناة من أي من الاضطرابات الوجدانية والاكتئاب: أساليب جديدة للضبط الوجداني-الانفعالي، من خلال المواجهة التدريجية للضغوط و المواقف المهددة والمثيرة للاكتئاب. كما يمكن أن نعلمه- معرفيا- بأن يتجنب الأنماط السلبية اللاعقلانية الآلية من التفكير بما فيها لوم الذات، والتهوين من الجوانب الإيجابية في الشخصية، والمبالغة في التفكير السلبي، و التضخيم من المواقف المثيرة للاضطراب والفشل بإضفاء قيمة متطرفة علي بعض المواقف المرتبطة بإثارة الاضطراب والتوتر مثل فقدان الطاقة على العمل، أو فقدان الأحباء، أو انخفاض الرغبة الجنسية. كما يمكن أن نعلمه أساليب بديلة وجديدة من السلوك المناقض للاكتئاب وأن نستفيد بالتطورات المعاصرة في نمو حركة علم النفس الإيجابي، بأن نساعده أو نساعدها على اكتساب طرق جديدة وإيجابية من التفكير الإيجابي والعقلانية، والتعديل الإيجابي في طرق التفكير والقيم. ويمكن أيضا أن نعلمه طرقا جديدة في تنمية علاقاته الاجتماعية وتدريبه على اكتساب بعض مهارات النواصل بالعالم الخارجي وتعديل طرق التفاعل الإجتماعى.
3. كما نشهد اليوم تطورا آخر في حركة العلاج النفسي المعرفي نتيجة لتطور ما يسمى بعلم النفس الإيجابي ، وهو اتجاه نبع من الإحساس بالحاجة إلى التمييز بين العلاج الطبي والعلاج النفسي. ففي العلاج الطبي التقليدي عندما يعاني فرد ما من مرض نفسي أو عقلي كالاكتئاب فعادة ما يكتفي البعض باللجوء بالتخلص أو التقليل من الأعراض المرضية التى عانى أو بعاني منها المريض. ل أما في حالة الأمراض النفسية والعقلية فإننا لا نكتفي بالقول بأن المريض قد تخلص من قلقه أو حالة الاكتئاب التي تملكته- أو أي اضطراب نفسي آخر- لنحكم بأنه أصبح الآن معافي وسليما . الحكم بالصحة النفسية أو العقلية تتطلب التخلص من المرض والتخفف من الأعراض التي تصيب الشخص نتيجة لهذا المرض، وتتطلب فضلا عن هذا أن يتسم سلوك المريض بخصائص صحية جديدة يمكن من خلالها أن نحكم عليه بأنه مثلا أصبح يتصف بالإيجابية والفاعلية والرضا النفسي وغيرها من الصفات الدالة علي الصحة النفسية والاتزان الاجتماعي والوجداني. فهدف تحقيق الصحة النفسية والعلاج النفسي يختلف عن هدف العلاج الطبي، من حيث أن المعالج النفسي يوجه هدفه العلاجي لا إلي التحرر من الأعراض المرضية فحسب، بل وأن يساعد مريضه على اكتساب خصائص وصفات صحية و شخصيةإيجابية لم تكن موجودة لديه من قبل .

يبقى أن نشير مع هذا إلى أنه بالرغم من التطور الواضح الذي حققته حركة العلاج النفسي السلوكي المعرفي الحديث في السنوات الأخيرة في علاج الكثير من حالات الاضطراب النفسي والعقلي ، فإن أساليب التشخيص والعلاج في حالات الشيخوخة لازالت نادرة، وأندر منها ما تقدمه هذه المناهج العلاجية في فهم هذه الحالات في المجتمع العربي، حيث لازلنا نفتقر إلي وجود إطار منهجي ملائم للتطبيق والممارسة الاكلينيكية لتقديم يد العون والرعاية النفسية والاجتماعية للمرضي ذاتهم أو لمن يحتكون بهم من أفراد الأسرة والمجتمع الخارجي. ويستدعي هذا منا توضيحا لبعض المشكلات الخاصة في التعامل مع المسنين و التي يجب أن يدرب المعالج المعرفي نفسه على التعامل معها تشخيصيا و علاجيا بالتركيز على علاج الاكتئاب بين المسنين.

العلاج المعرفي للاكتئاب بين المسنين

تتفشى أعراض الاكتئاب في أكثر من 15% بين المسنين فوق السبعين في المؤسسات العلاجية. ويفصح – الاكتئاب شأنه شأن الكثير من حالات الاضطراب النفسي والوجداني- عن نفسه بين المسنين في مجموعة من الأعراض المتزاملة، بعضها عضوي، وبعضها نفسي-سلوكي (ذهني ومزاجي)، وبعضها الثالث اجتماعي. وهذه المجموعة من الأعراض تشتمل ببساطة على جوانب من السلوك والأفكار، والمشاعر التي تحدث مترابطة فيما بينها، وهدفها أن تساعد في النهاية على وصف هذا السلوك وتشخيصه.
و تختلف أعراض الاكتئاب من فرد إلى آخر، فالبعض قد يظهر لديه هذا السلوك في شكل أحاسيس قاسية من اللوم، وتأنيب النفس خاصة في فترات الحداد والحزن. ويكون الاكتئاب مصحوبا في كثير من الأحيان بأعراض مرضية منها: التأنيب المستمر للذات ومشاعر الذنب المبالغ فيها، واليأس، والأرق، ، وفقدان الشهية، والبكاء المتكرر، وانعدام الثقة بالنفس. وعند نشأة الاكتئاب نجد أن نشاط الشخص يضعف ويبلد، وعلاقاته الاجتماعية تتقلص، ويتقوقع الشخص على ذاته في خيبة أمل، وعجز. ويتجنب المكتئبون، التعبير عن العدوان وتأكيد الذات أما بسبب شعورهم الشديد بالذنب في التعامل مع الناس، أو لخشيتهم من أن ذلك قد يؤدى إلى المزيد من رفضهم من قبل الآخرين، أو لافتقادهم للمهارات الاجتماعية الضرورية للتفاعل بالحياة على نحو إيجابي بسبب العزلة التي تفرضها ظروف العمر، أو عدم توفر مصادر الدعم والعلاج النفسي، أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. وتسيطر على بعض المكتئبين من المسنين أكثر من غيرهم هواجس وأفكار ثابتة بأن حياتهم عديمة الجدوى.
ومن أكثر أعراض الاكتئاب ظهورا بين المسنين هبوط مستوى النشاط وانخفاض الطاقة و ضعف التذكر و اضطرابات النوم خاصة اليقظة المبكرة، او النوم المتقطع، فضلا عن تناقص الوزن وضعف الشهية
ويعد الانتحار من أقصى درجات العدوان نحو الذات وأعنفها. والانتحار عموما والتفكير فيه يأتي بسبب رغبة في إنهاء مشكلة أو ألم نفسي عميق. ولهذا يبدو الموت أمام المنتحر وكأنه الطريق الوحيد للخلاص. ومن ناحية أخرى، فإن تنوع أعراض اضطراب الاكتئاب في الأعمار الكبيرة، والتباين الشديد بين الأفراد في اختبار هذا الإحساس، قد يثير أمام العين غير المدربة صعوبة في التعرف عليه، بأعراضه المتنوعة، وأوجهه المتعددة. ومن هنا، تقل فرصة تعرفنا عليه عندما يصيبنا، أو يصيب المقربين منا وأعزائنا، فلا نقدم لهم العون الذي ينشدونه.
كما نلاحظ أن الفروق الفردية، والخبرات الشخصية الخاصة، تلعب دورا هاما في نوع الأعراض المميزة لسلوك الاكتئاب وشيوعها لدى المسنين. فالشخص الذي كان معتادا في السابق على التفكير في الانتحار أو محاولته، قد يجنح لتكرار هذا السلوك في فترات الاكتئاب والاضطراب النفسي والاجتماعي في هذه المرحلة من العمر.
وقد أمكن للكاتب أن يحدد تفاصيل الأعراض المميزة لهذه الزملة بين المسنين بالاعتماد علي ملاحظاته الخاصة في معالجة بعض حالات الاكتئاب (إبراهيم، ،1998، Ibrahim & Ibrahim,1996,). ومن ثم أمكن وصف الأعراض المرتبطة بالاضطراب الوجداني والاكتئاب بين المسنين وتحديدها وفق الجوانب المعرفية التي يقيسها مقياس الأفكار غير العقلانية المعرب وهي:
1. امتهان الذات: من العلامات المميزة لأصحاب هذا السلوك أنهم يميلون لتجريح الذات والسخط العام على المظهر الشخصي والسلوكي، فهو أو هي غالبا ما يبالغ في إظهار عدم الرضا والقبح علي ملبسه أو شكله أو هندامه.
2. التركيز على جوانب النقص في الشخصية: إذ يتسم المسنون المصابون بالاكتئاب بدرجة عالية من الانتباه والتيقظ لجوانب الفشل والقبح في الذات، من خلال سلسلة طويلة من اتهام الذات بالقصور والضعف والفشل والنقد الحاد، بما في ذلك وصفهم لذواتهم في مختلف جوانب الشخصية. بعبارة أخرى، ومهما اختلف مجال المقارنة بالآخرين فإن الشخص الذي يتسم بتدمير الذات يري في ذاته علامات القصور أكثر من الكمال والقبح أكثر من الجمال والفشل أكثر من النجاح، والشر أكثر من الخير.
3. التضحية بالسعادة الشخصية: كذلك يشيع بين أصحاب هذه الفئة الاتجاه نحو التصرف بمنطلق التضحية من أجل الآخرين، وبالرغم مما قد تبدو عليه هذه الخاصية من إيجابية واهتمام بالآخر، فإن طريقة التعبير عنها تنبني على إطار ذهني غير عقلاني، أي فكرة "أن الآخر أهم مني لأن لديه مواهب وقدرات أفضل مني، فإنه جدير بأن أمنحه وقتي وكل جهدي." ومن مظاهر هذا السلوك الزوجة أو الأم التي تضحي براحتها ووقتها وسعادتها الشخصية من أجل أبنائها أو أخواتها أو أحد أفراد أسرتها، أو تضحي بمواهبها وقدراتها من أجل زوجها أو أبنائها انطلاق من بعض الأفكار غير العقلانية " بان الآخرين أولى بالرعاية مني،" أو " أن الآخرين أفضل وأجدر بالراحة والنجاح،" بالرغم من أن لا يوجد تعارض بين أن يسعد الشخص الآخرين دون يكون الثمن بالضرورة القسوة على الذات وحرمانها من الراحة والاسترخاء.
4. الشعور بتثاقل الأعباء: والشخص يشعر بأنه غير مسئول عن عوامل الهدم في ذاته، ومن ثم تتزايد شكاوى التقدم في العمر بأن الآخرين يحملونهم مالا طاقة لهم به، وتجدهم يلومون الظروف الخارجية والضغوط الموضوعة عليهم. وذلك كربة الأسرة التي تشعر أن تعاستها وما يتملكها من كرب قد يختفيا إذا ما قلل زوجها وأبناؤها إلحاحا تهم عليها، ومتطلباتهم المفرطة منها.
5. توتر العلاقات الاجتماعية: كذلك تؤيد البحوث أن هناك جوانب كثيرة من الاضطراب النفسي والاكتئاب ترتبط باضطراب العلاقات الاجتماعية، ومن مظاهر ذلك أن كبار السن و المتقاعدين عن العمل يعزفون عن الاندماج في مواقف التفاعل وما تتطلبه العلاقات الاجتماعية من تبادل ومهارات اجتماعية ومقدرة على تأكيد الذات.
6. مشاعر الذنب واللوم المرضى للنفس: يعبر المرضى عن الاكتئاب عن مشاعر حادة من الذنب ولوم النفس، فتجدهم يصفون أنفسهم بأنهم أسوأ مما هم عليه فعلا أو أسوأ مما يراهم الناس عليه.
7. الإدراك السلبي للبيئة: وأخيرا لا يمكن عزل الاكتئاب عن الطريقة التي يفكر بها الشخص، ويدرك من خلالها أمور حياته، وعما يحمله من أراء ومعتقدات عن نفسه وعن الأحداث الخارجية التي تمر به. ويمثل الإدراك السلبي للمواقف والأحداث الخارجية عرضا آخر من أعراض الاضطراب الوجداني بين المسنين مما يجعل الاتجاهات الحديثة من العلاج السلوكي المعرفي ذات أهمية خاصة.

عملية التشخيص وتقييم الأعراض

لعل أول ما يجب أن ينتبه له المعالج في هذه المرحلة القيام بعملية حصر وغربلة الأعراض بهدف تحديد طبيعة الاضطراب الوجداني ومصادره لدى الشخص. ومن ثم على المعالجة أو المعالج أن يتعرف أولا على طبيعة الاضطراب ومدي خطورته، وما إذا كانت هناك اضطرابات سيكياترية تتطلب علاجا خاصا او الالتحاق بمصحة أو مستشفي. فمثلا: يجب الانتباه إلى النوايا الانتحارية، والحالات الذهانية أو ألمصابة بمرض عصبي أو عضوي في االمخ أو الجهاز العصبي قبل بدء العلاج المعرفي. إن وجود أي من هذه الاضطرابات يتنطلب من المعالج استجابات مختلفة تتراوح ما بين ضرورة وضع الحالة تحت الرقابة العلاجية في عيادة نفسية أو مستشفي، أو إلاخضاع لعلاج كيميائي بالعقاقير، أو علاجا نفسيا أو سلوكيا أو معرفيا بالتعاون مع أعضاء الفريق العلاجي. وبعض الحالات بالطبع قد تتطلب علاجا طويل المدى أو علاجا نفسيا لفترات قصيرة يتعاون في تنفيذها فريق علاجي متنوع التخصصات.
أجد شخصيا أن الهدف الأساسي من المقابلة في حالات العلاج المعرفي أن نحظى منها بتفهم أكبر للظروف المحيطة بالعميل وبتكون المشكلة، بما في ذلك:
1. التعرف علي المشكلة وصياغتها سلوكيا ومعرفيا ويتضمن ذلك:
• طبيعة المشكلة كما يراها العميل بلغته الخاصة
• مدي خطورة المشكلة أو حدتها من وجهة نظر العميل ومن الوجهة القانونية والأخلاقية.
• عمومية المشكلة، وهل تشكل هذه المشكلة نمطا أم أنها حادثة أو موقف منعزل.
2. الشروط أو الظروف السابقة المحيطة بالمشكلة (السوابق واللواحق)، أي: الشروط الخارجية أو الشخصية التي تؤدي إلي زيادة حدة المشكلة بما في ذلك الشروط التي تسبق المشكلة.
3. بما فيها أي نتائج اجتماعية والنتائج الشخصية.
4. العلاجات المقترحة: أي العلاج كما يتصوره المريض والنتائج التي يتوقع تحقيقها من العملية العلاجية.

ولا نقصد من عملية التشخيص هنا هو تصنيف الشخص إلي فئة مرضية، بقدر ما نهدف إلي القيام بعملية تقييم تشخيصية متسعة ونوعية، نركز خلالها على التعرف علي مصادر الاضطراب و أبعاده، والمعايير الأساسية ، والتي تتطلبها العملية العلاجية اللاحقة لعملية التقييم. بعبارة أخري تتضمن عملية التقييم الانتباه لعدد من العناصر والجوانب الشخصية الاجتماعية ومن أهمها أنماط الإستجابة للسنوات الأخيرة من العمر وأساليب التفكير والمعتقدات الشخصية عنها.

ومن أهداف العملية التشخيصية أيضا وضع اقتراحات العلاج، والتوصية بالشكل الملائم للعلاج النفسي أو الطبي، فضلا عن وصف للبرنامج العلاجي الذي سيقوم به المعالج منفردا أو بالاستعانة بآخرين. وعادة ما تعتمد هذه المرحلة علي استخدام أداتين أو أسلوبين منهججين من أساليب التشخيص هما:
أولا: المقابلة الاكلينيكية التشخيصية (Diagnostic clinical Interview).
ثانيا: القياس النفسي.
وسنقدم في الجزء التالي، وصفا لأسلوبي التشخيص بهدف تحديد أهدافهما ووظائفهما في العملية العلاجية ككل.

المقابلة التمهيدية للعلاج المعرفي ومتطلباتها:

تتبع عملية التقويم النفسي و التشخيص في حالة المسنين نفس الخطوط العريضة و شروط هذه العملية كما يعرفها المختص النفسي أو الطبيب النفسي مع مراعاة فروق السن، وما يمكن توقعه في حالات الشيخوخة من بعض فروق التدهور المعرفي والانفعالي بما في ذلك تباطؤ الفهم، صعوبات التركيز، و بطء عمليات التآذر الحسي والحركي. ومن ثم يجب التأكد من أن يكون المريض واعيا بالتعليمات المطلوب تنفيذها و أن يفهما جيدا. وفي حالات التدهور المعرفي الشديد يجب الاستعانة بأحد أفراد الأسرة للحصول على المزيد من المعلومات بصورة أدق. كل ذلك دون خرق لمبدأ الخصوصية والسرية و احترام حق المريض أو حقها في السرية و عدم إفشاء أي معلومات خاصة فيما عدا ما تتطلبه الضرورة في حالات الخوف من الانتحار و ضرورة مشاركة أفراد الأسرة في عملية المراقبة له أو لها.
ومن متطلبات نجاح المقابلة الاكلينيكية وفاعليتها في المسنين أن يراعي المعالج أن كبار السن يختلفون فيما بينهم في كثير من الشروط مما يستدعي أن لا نتعامل مثلا مع الواحد منهم أو منهن بأنه مسن و حسب. فالمريض النفسي المتقاعد في ال 75 سنة من العمر يختلف تماما عن مريض عمره 95 و قد فقد توا زوجته أو القائم برعايته.
فضلا عن هذا يراعي أن يتوافر المناخ العام الملائم لإجراء المقابلات بمزيد من الاهتمام بظروف المسنين بما فيها أن نخلق جوا طبيعيا خاليا من التوتر والتسلط وأن تبعد المقابلة عن جو الاستجوابات. و على المعالج أن ينمى قدراته على سرعة ملاحظة التغيرات الانفعالية، وأن يفطن لمناطق التوتر لدي الحالة في أقرب وقت، وأن يكون أكثر تعاطفا وإحساسا بمشاعر المريض. حذرا في التعامل معها، و بتعاطف. و أن يدرب نفسه جيدا على تفهم مسارات مشاعر الفرد بحيث يراعي مشاعر الشخص وأن يعرف متى يعمل على إثارتها دون أن يقمعها أو يغير مسارها في الوقت غير الملائم. ومن المهم أن يلاحظ بشكل خاص فترات الصمت أو القلق وأن يتعامل معها بطريقة مهنية. ومن الأشياء الجديرة بالاهتمام والملاحظة: الجوانب غير اللفظية من التواصل بما في ذلك مدى التواصل البصري، وتعبيرات الوجه، والحركات اللاإرادية، الإشارات الآلية وأن يتفهم دلالاتها إن كانت لالة على الحرج، أو الحزن، أو الأسف..إلخ.
وقبل انتهاء المقابلة ينبغي أن يقوم المعالج بعملية تلخيص وتفسير لما دار في الجلسة، وأن يخطط مع عميله للجلسات التشخيصية أو العلاجية المقبلة، بما في ذلك عدد الجلسات التكاليف المادية إن وجدت، وما هي التوقعات العلاجية والتوصيات التي ينصح بها للتغلب على مشكلات الاكتئاب وتعتبر مرحلة انتهاء المقابلة فترة حرجة بشكل خاص، حيث يجب التمهيد لذلك بتلخيص يبعث علي التفاؤل وإظهار التفهم، وبعث الأمل في الحل الناجح ومن إمكانيات الخلاص من مصادر تدمير الذات، ومن ثم إنهاء المقابلة دون إحباط أو آثار سلبية.

أساليب القياس النفسي لأنماط التفكير الإيجابي والتفكير السلبي

يلعب القياس النفسي دورا هام في العملية التشخيصية والعلاجية للتعرف على أساليب التفكير التي يلجأ لها المسنون في حالات الاكتئاب. و تظهر أهمية المقاييس النفسية في كل مراحل العملية العلاجية بجانبيها التشخيصي والعلاجي. و يهمنا هنا أن الكاتب استطاع أن يقنن أداتين من شأنهما إطلاع المعالج علي الجوانب السلوكية والمعرفية التي ستخضع للعلاج. وقد قمنا بإعداد هاتين الأداتين وتقنينهما في البيئة العربية، انطلاقا من الاعنراف باهمية العوامل المعرفية بجانبيها السلبي والإيجابي في العملية التشخيصية-العلاجية، وعما تلعبه العوامل الذهنية بما فيها طرقنا في التفكير والتذكر والإدراك والاتجاهات العقلية والتوقعات والتفاؤل والتشاؤم من آثار مباشرة أو غير مباشرة على مدي ما نتصف به من صحة نفسية أو ما نتعرض له من اضطرابات واختلال. وفيما يلي شرح مختصر للمحاور والأبعاد التي يقيسها كل مقياس منهما، كما يجد القاري في نهاية المقال نماذج من الأسئلة لكل مقياس منهما.

الأداة الأولى: مقياس الأفكار السلبية المعرب:
يتكون من مجموعة من العبارات يجاب عن كل منها على مقياس يتراوح من الانطباق الكامل على الذات إلى عدم التطابق بالمرة في وصف الذات. و تتضافر عبارات هذا المقياس في الكشف عن ألأبعاد المرضية في السلوك والتفكير، التي تصلح للتعامل مع حالات الاكتئاب. من بينها:

1. التهويل والمبالغة: إضفاء دلالات مبالغ فيها علي الموضوعات المحايدة، أو التي يتعذر تفسيرها. المبالغة في إدراك جوانب القصور الذاتي، والتهوين من المزايا والنجاح الشخصي.
2. قراءة الأفكار أو "خطأ المنجم"
صياغة توقعات سلبية بالاستناد على تخمينات غير مبررة لما يفكر فيه الآخرون تجاهنا و التصرف كما لو كانت قراءتنا لأفكار الآخرين حقيقة.
3. التأويل الشخصي للأمور "تلطيخ الذات": أن ينسب الشخص لنفسه مسئولية النتائج السلبية في المواقف التي يمر بها.
4. تعميم السلبيات: تعميم خبرة فشل شخصية منعزلة علي الذات ككل. أو تعميم المشاعر والخبرات الجزئية أو الفردية على الناس ككل.
5. التفسير السلبي للأحداث الحاضرة أو السابقة: النظر للماضي والخبرات الطفلية المبكرة بمنظور قاتم لا نري من خلاله إلا حوادث الفشل والتعرض للاضطهاد والخسارة وفقدان الاعزاء والرفض .. إلخ. مع وضع اهمية مبالغ فيها للأحداث الماضية و إعطائها وزنا ضخما في إثارة الاضطراب والتوتر. فضلا عن تفسير الأمور التي يكون من الواضح أنها إيجابية وطيبة، تفسيرا سلبيا، ودراك أن الموقف ينطوي علي تهديد وخطر وامتهان دون تبرير فعلي.
6.الثنائية والتطرف (الكل أو لاشئ): إدراك الأشياء علي أنها إما سيئة تماما أو لاشيء (عدم إدراك أن الشيء الذي قد يبدو سلبيا او مختلفا قد ينطوي علي فائدة الآن أو مستقبلا). والتصرف مع المختلفين في الرأي أو العقيدة أو الجنس بحذر وخوف و عداء (تعصب) والشك في النوايا.
7. المثالية والنزوع المتطرف للكمال: التفكير والسلوك كلاهما يجنحا للتطرف في المثالية والكمال عير الواقعي، بشكل يعطل الفرد عن النشاط والإنجاز وابلبحث عن الحلول الواقعية التي تسمح له أو لها أن يتقبل الاخرين ببعض مثالبهم لتحقيق عمليات تواصل فعالة بالعالم الخارجي.
8. الترصد (الانتباه السلبي الانتقائي): أي اليقظة الذهنية الشديدة و الملاحظة السريعة و رصد الاستجابات الخارجية المثيرة للخوف والعداء.
9. الإ فراط في الإيجابية والتوقع: الإفراط والمبالغة الشديدة في إدراك الواقع بإيجابية والغفلة عمابه من عقبات قد ترتبط بكثير من أنواع الإحباط والفشل وخيبة الأمل التي تحيق بالفرد من جراء تفاؤله الشديد أو توقعاته بتحقيق أهدافه بغض النظر عما ينطلبه هذا منه من انتباه للعقبات والوقت و مشكلات التفاعل بالآخرين. ومن ثم يعتبر هذا الأسلوب المعرفي علامة من علامات اللاعقلانية بسبب ما قد يؤدي إليه على المدى الطويل من ألم وخيبة أمل. وتشير البحوث إلى أن بعض الأمراض العضوية-النفسية التي تحتاج لمراقبة النظام الغذائي والصحي سيتزايد انتشارها لدي الأشخاص الذين يشيع بينهم أسلوب التفكير المفرط في إدراك ما هو سلبي ومرضي علي أنه عادي أو إيجابي
10. التفكير القائم على المنافسة والمقارنة الخارجية: الميل للتفكير والسلوك الدال على الرغبة في منافسة الآخرين والمقارنة بهم. وتشير البحوث إلي أن المقارنة الدائمة بما يحققه الآخرون من نجاح مهني أو مادي أو شهرة يلعب دورا مهما في إثارة القلق و تطور الاكتئاب والإحباط السريع.
ويوضح الملحق في نهاية المقال بعض الأسئلة الممثلة لكل بعد من ألأبعاد السابقة، و لمن يرغب في الحصول على المقياس بأهداف البحث العلمي أن يتواصل مع الكاتب بهذا الصدد.

الأداة الثانية: مقياس التفكير الإيجابي المعرب:
ليس ثمة اتفاق في الحقيقة بين المهتمين بعلم النفس الإيجابي حول قائمة الصفات التي تستتبعها عملية الصحة النفسية في السنوات المتقدمة من العمر، ولكننا إذا نظرنا إلي أي كتاب من كتب العلاج الإيجابي الجديدة، سنجد اهتماما بتطوير برامج علاجية تهتم بتنمية الجوانب الإيجابية من الشخصية، فنجد مثلا برامج لاكتساب السعادة الشخصية (عبدالستار إبراهيم، 2005، 2000,Selligman, 2002, 2002b, Selligman & Csikzentmihalyi) والرضا، وبرامج لتنمية التفكير العقلاني. ومن عباءة علم النفس الإيجابي ظهرت مفاهيم و تيارات جديدة من التفكير مثل مفهوم الجودة والسعادة الشخصية (إبراهيم، 2005،2002 Seligman,)، وازدهار الشخصية (Keyes & Haidt, 2003) ، والتفاؤل ( Peterson, 2000; Seligman, 1995 سيليجمان 2003) والذكاء الوجداني. وبفضل هذه التطورات، أصبح المعالج النفسي الحديث، لا يكتفي بالفنيات التقليدية التي تساعد المسنين علي التخلص مثلا من الخوف أو الاكتئاب، بل طوروا فنيات أخري تساعد علي تنمية توجهات إيجابية تعتبر مؤشرا علي الصحة النفسية وعلامة جيدة علي التكامل والنضوج النفسي، بغض النظر عما يمكن أن يعاني منه الشخص من اضطرابات أو أمراض. يعبارة أخرى إن التطور الذي نلاحظه اليوم في حركة العلاج النفسي يمثل تحالفا بين علم النفس الإيجابي و العلاج السلوكي المعرفي(Leichsenring& Snyder, 2003; Winnubst & Maes, 1992) بحيث سيصبح في قدرة الشخص العادي أن يتبنى أنواعا من الإدراك والتفكير والسلوك تساعده لا أن يتخلص من الشوائب المرضية وأعراض الاضطراب السيكياترية. بل وأن يتمكن من تحقيق ما تتطلبه الحياة الفعالة من سعادة شخصية وكفاءة عملية، وازدهار وتفاؤل.
وانطلاقا من هذا الفهم لعلم النفس الإيجابي قمنا بتقنين أداة للتفكير الإيجابي، وهي فيما يوحي الإسم تتكون من عبارات تتعلق بتقدير بعض السمات الإيجابية في الشخصية ومنها:
1. التوقعات الإيجابية والتفاؤل: أي التوقعات لإيجابية من تحقيق مكاسب مهنية أو علاجية، وزيادة مستوى التفاؤل وما يتوقعه من نتائج إيجابية في حياته الشخصية والاجتماعية والمهنية.
2. الضبط الانفعالي التحكم في العمليات العقلية: مهارات الشخص في توجيه انتباهه و ذكرياته في اتجاهات سليمة و مفيدة لتنمية رصيده من الصحة النفسية والتوافق الاجتماعي.
3. الاتجاه العقلاني وحب التعلم: أي ما يميزه من اتجاهات إيجابية نحو المعالج، ونحو العلاج النفسى بشكل عام.
4. الشعور بالرضا: مشاعر عامة بالرضا عن النفس والحياة.
5. الرصيد المعرفي الصحي: أي رصيده من المعلومات والمعرفة بما في ذلك المعلومات التى حصلها أو يحصلها عن مواقف الخوف، والقلق، والاكتئاب والاضطراب النفسي والسلوكي.
6. التسامح مع الاختلاف عن الآخرين: مجموعة من الاتجاهات والأفكار واالسلوك التي تتحد معا لتدل على تقبل الاختلاف والتعايش مع أنواع مختلفة من البشر بعض النظر عن انتمائاتهم الفكرية أو العقيدية.
7. التفكير القائم علي الاعتزاز بالنفس و التسامح مع الخطأ أي أن تتقبل ذاتك وتعرف قيمتها. وتقبل الذات يعني ضمن ما يعني غياب الشكوى من حياتك فالناجح لا يعرف الشكوي ولا يتذمر. التقبل. يعنى السعادة والعقلانية لأنك لا تتذمر من الأشياء الخارجة عن إرادتك. الشكوى وقت يتم إهداره وكان يمكن أن تستغله للتدريب على الأنواع المختلفة من الأنشطة التي تعلمان المزيد من حب الذات أو مساعدة الآخرين على تحقيق دواتهم
8. التحرر من قيود الماضي: النظر للماضي بصفته ملئ خببرات مفيدة مرت بنا بحلوها ومرها، ويعالجها بمنظور وجداني يساعدنا على التنبه لأخطائنا، وتجنب تكرار أنواع السلوك التي أدت في السابق إلى مشاعر الإحباط والفشل. الشعور بالتسامح مع الأخطاء التي ارتكبناها في الماضي، و معالجتها على أنها تمت في ظروف كنا فيها أقل خبرة و حنكة مما يترك مشاعر بالتسامح مع الذات والتخفف من مشاعر الذنب ولوم النفس.
9. الذكاء الوجداني: مجموعة من الصفات الشخصية والمهارات الاجتماعية والوجدانية التى تمكن الشخص من تفهم مشاعر و انفعالات الآخرين، ومن ثم يكون أكثر قدرة علي ترشيد حياته النفسية والاجتماعية انطلاقا من هذه المهارات .
10. (أنظر نماذج من الأسئلة في نهاية الدراسة الحالية، أو الرجوع إلي: عبد الستار إبراهيم: العلاج المعرفي، 2008).

الحاجة لتعدد محاور العلاج
في التعامل مع مشكلات المسنين

يمكن تعريف العلاج النفسي لحالات الاضطراب الوجداني و المزاجي في الفترات المتقدمة من العمر بأنه نشاط مخطط يقوم به المعالج النفسي بهدف:

• إعانة الشخص على التخلص من أساليب التفكير المعززة للأعراض المرضية بما فيها التوتر، والقلق.
• تحقيق تغيرات إيجابية في الفرد لتصبح أساليبه في التفكير و أنماط تفاعلاته بالعالم الاجتماعي أكثر إيجابية، وصحة، وأسـعدً حالا.

ولتحقيق ذلك لا يوجد هدف واحد للعلاج النفسي لحالات الاكتئاب بين المسنين، بل أهداف متعددة ينبغي الاتفاق عليها مسبقا مع الشخص. فقد يأتي الشخص وهو يتوقع انطلاقا من مبادئ الممارسات الطبية التقليدية التخلص من الأعراض ولكن أهداف العلاح النفسي تتنوع، وتشمل:
• اكتشاف جوانب القوة والضعف.
• تيسير القدرة على اتخاذ القرارات الضرورية للتكيف لمراحل العمر المتأخرة و تغيرات الدور الاجتماعي.
• إعانته على استكشاف العراقيل القديمة والراهنة التي تتعارض مع إيجابية النمو في هذه المرحلة.
• اكتشاف ما ينطوي عليه المستقبل من إمكانيات للتطور بالذات مهنيا أو اجتماعيا.
• الكشف عن الجوانب السلبية المبكرة والراهنة في العلاقات الاجتماعية، وبالتالي إعادة إدراكها ومن ثم التمكن من السيطرة على مصادر الألم فبها.

ومن الصحيح أننا نحتاج أحينا- كمطلب علاجي- أن نركز على هدف منها أكثر من الأهداف الأخرى، إلا أن من المؤكـد أن كثيراً من هذه الأهداف تتداخل فيما بينها بشكل بفرض على المعالج السلوكي المعرفي الإيجابي أن يتعامل مع أكثر من هدف منها عند تعامله مع مرضاه.

محكات أربعة لتحقيق علاقة علاجية فعالة بالمسنين:

يتطلب تحقيق أكبر قدر ممكن من النجاح في ممارسة العلاج النفسي في حالات الشيخوخة، التعرف على جوانب الخطأ في الممارسة و بالتالي تجنبها و استبدالها بعدد من الشروط الضرورية لتحقيق الفاعلية العلاجية ومن أهمها:

• بناء علاقات تواصل فعالة بالشخص
• تحقيق التطابق في الأهداف العلاجية
• الاتفاق على الأهداف العلاجية المحورية
• الاهتمام بمتطلبات الارتقاء النفسي و الاجتماعي في الشيخوخة.

وهو ما سنعرض له في هذه السطور المتبقية.

تجنب الأساليب العلاجية الخاطئة:

من المعلوم أن كثيراً من المرضى لا يتجهون للعلاج النفسي لمجرد وجود معالج دافيء ومتعاطف، ولكنهم أيضا يبحثون بجوار ذلك عن شخص كفء وخبير وله أساليب علاجية فعالة ومدروسة. ولهذا تكشف بعض البحوث أن هناك أيضا معالجون يستخدمون طرقا علاجية من شأنها أن تعطل من نجاح العملية العلاجية، وتعمل على إفشالها. من هذه الطرق المعطلة للعملية العلاجية ما يأتي:
• التجاهل غير المبرر، وإبداء الامتعاض أو مشاعر الحرج
• تجنب الاستمرار في مناقشة موضوعات يثيرها الشخص أويشعربأهميتها له.
• تكليف الشخص بواجبات غير ملائمة لظروفه الاجتماعية أو الأسرية أو للعملية العلاجية.
• تكليف الشخص بأداء واجبات علاجية في أوقات غير مناسبة أو مع أشخاص غير مناسبين.
• تدعيم لخصائص غير مناسبة لصحة الشخص العقلية ونضوجه (مثل تدعيم الاعتماد علي المعالج، أو تدعيم بعض الهواجس المرضية بهز الرأس أو بإبداء الموافقة عليها).
• الخوف من لحظات الصمت وشغلها بأي حديث بدلا من إعطاء الفرصة للمريض للتأمل وإعطاء المعلومات الشارحة لمشاعره.
• خرق القواعد المرتبطة بحقوق الشخص مثل التلامس والقرب البدني الشديد بشكل لا يراعي السن أو والحدود الشخصية الملائمة له أو لها.
• السيطرة على موضوع أو موضوعات الحديث بما في ذلك تغيير الموضوع وإعطاء اقتراحات علاجية تفسيرية دون أن يشرك الشخص في ذلك.

بناء علاقات تواصل فعالة بالشخص:
ثمة ما يشير إلى أن المسنين خاصة ممن يعانون من الاكتئاب يحتاجون أكثر من غيرهم إلي بناء علاقات تواصل فعالة بالمعالج حتى تمتد العملية العلاجية إلى ما يتناسب مع تحقيق الحماية الإيجابية المطلوب تحقيقها. ويتوقف النجاح في ذلك على شخصية المعالج، و على المحافظة على أسرار الشخص بهدف خلق إحساس بالأمان والاطمئنان بشكل يمكن الشخص من احتمال مشاعر القلق وبالتالي يمنحه القدرة على مواجهة مصادر مشكلاته وخططه العلاجية في المستقبل بأقل قدر ممكن من التوتر والصراع.
ومن المهارات الشخصية العامة المطلوبة في المعالج النفسي أن يكون قادرا علي بناء علاقة بمريضة تقوم على ثلاثة عناصر تقليدية هي: التعاطـف والدفء والصدق.
وبالرغم من أهمية العوامل الخاصة بشخصية المعالج كالدفء والتعاطف، فإن الكفاءة المهنية والمهارة وحسن التدريب تلعب أدواراً شديدا في نجاح العلاج. ولهذا فإن الترخيص بمزاولة مهنة العلاج النفسي المتعدد المحاور يجب أن تراعى توافر عوامل الخبرة والتدريب، فضلا عن الإلمام النظري والأكاديمي بالنظريات النفسية والاجتماعية، خاصة نظريات التعلم والشخصية.
قد لا يستطع المعالج النفسي أن يمارس عمله بفاعلية دون أن يراعى خصائص الاٍطار الاجتماعي-النفسي الذى ينشأ فيه السلوك المرضى ويتدعم بما في ذلك القيم والاتجاهات الاجتماعية السائدة في حياة الشخص والتى تمارس تأثيراتها على سلوكه وتدعم اٍتجاهاته المرضية على نحو مباشر أو غير مباشر .(Sue, 1981; Sue & Morishima, 1982; Sue & Zane, 1987) ويؤدى الانتباه لدور العوامل الاجتماعية والقيم الحضارية الشائعة في عملية العلاج المعرفي المتعدد المحاور اٍلي فوائد متعددة (Ibrahim, 2000; Ibrahim & Ibrahim, 2000; Ibrahim & Ibrahim, 1993; Ibrahim & Al-Naffie, 1991) في مختلف جوانب وعمليات العلاج بما في ذلك الاهتمام بمتطلبات الارتقاء وواجباته في الشيخوخة، تحديد المشكلة المحورية بما فيه المشاعر و أساليب التفكير فيها واٍختيار الفنيات العلاجية الملائمة ، وأهداف العلاج ومساره . كما سنرى فيما يأتي.

تحديد أهداف العلاج:

اٍذا اختلفت أهداف المعالج من العلاج عن تلك التى عند الشخص، فاٍن العملية العلاجية ستعانى معاناة سلبية شديدة، وستتأثر مصداقية المعالج بنفس الاٍتجاه السلبى. ومن المعتقد، أن اٍنقطاع المرضى المفاجىء عن جلسات العلاج يتزايد بسبب هذا العامل نتيجة لمشاعر عدم الراحة، وخيبة الأمل، والحرج الناتج عن التعارض بين الأهداف المرسومة للعلاج. ومن المؤكد أن كثيرا من الأهداف العلاجيةالتى يبنيها الشخص تكون متأثرة اٍلى حد بعيد بالإطار الحضارى ومايفرضه على الفرد من جزاءات، أو مايمنح من اٍثابات لسلوك معين. ومن ثم، فإن صياغة أهداف العلاج بشكل لايتسق مع التوقعات العلاجية يؤدى الى تعطيل العملية العلاجية، وربما اٍنهائها بشكل مبتور.

اختيار الأساليب العلاجية الملائمة:
قد تتعرض مصداقية المعالج وفاعليته للخطر أو على أحسن الأحوال للتشكك، اٍذا أصر على أن يستخدم مريضه أساليب علاجية تتعارض أو تتنافر، مع وجهة نظر الشخص. و قد عرضنا في موقع آخر Ibrahim, A-S., & Ibrahim, R. (1999-2000). لعدد من الحالات التي تعثر فيها العلاج بسبب تشجيع المعالج أو المعالجة للمرضى لتبنى فنية علاجية غير مقبولة وفق الإطار الحضارى للمريض أو المريضة (مثلا بعض فنيات العلاج الجنسي، أو بعض أشكال تأكيد الذات في العلاقات الزوجية..

الاهتمام بمتطلبات الارتقاء في الشيخوخة:

نقترح ثلاثـة أسـاليب يمكن من خلالها مواجهـة أزمات هذه المرحلة هى:
• إعادة توجيه الطاقة لأدوار جديدة ونشاطات مبتكرة: فالأعمال التطوعية، وشغل وقت الفراغ، والهوايات الخاصة قد تخلق بالنسبة للمسن "حياة جديدة" ربما تكون أكثر إشباعاً من قبل. إلا أن هذا التحول يحتاج لجهد وصبر ونشاط. وفي رأينا أن النشطين في هذا السن والإيجابيين أكثر إحساساً بالرضا من السـلبيين المتقاعسـين .
• تقبل الحيـاة: ونعنى هنا التقبل بالمعنى الفلسفي وليس بالمعنى السـلبي الذي يدعو للهزيمة واليأس. بعبـارة أخرى ، فإن الحكمة تتطلب من الأشخاص في هذا السـن أن يدربوا على السلبيات والإيجابيات وأن يسـتمدوا بعض الرضا من خلال ما أنجزوه في سنوات العمر السابقة من أطفـال ، أو أعمـال ، أو علاقـات ، وبهذا يمكنهم دمج الماضي في الحاضر بصورة هادئـة وعقلانية .
• التعامل مع قلق الموت والإعداد لمواجهـته و تقبله كحقيقة جديرة بالاهتمام والإعداد لها، بدلا من رؤيته مصدرا للخوف والفزع و الاكتئاب. بعبارة أكثر إيجابية التقبل العقلاني والإيجابي للنهاية المحتومة مع عدم السماح لفكرة الموت أن تسيطر في نشـاطاتنا ومسؤولياتنا تجاه الآخريـن. بعبارة أخرى التقبل الهادئ للموت لا يعني السعادة به إنه يعنى ببساطة التقبل الهادئ لمرحلة ضرورية تحتاج للإعداد و توفير مناخ اجتماعي آمن وصحي يحمي من الآلام والأمراض التي قد تتكون بسبب ما يعترينا في هذه المرحلة من عجز أو تدهور مفاجئ دون رعاية كافية.

والخلاصة أن نجاح العلاج النفسي يحتاج أيضا لمحاور متعددة تشتمل أولاً على وجود معالج يخلق ويؤكد رابطة علاجية تتميز بروح الاهتمام والاحترام، والفهم والتقدير والكياسة، مع إيمان عميق بإمكانية الشـفاء. ومن خلال ذلك يستطيع المعالج ثانياً أن يتجنب الأساليب العلاجية الخاطئة بما فيها شدة السيطرة على الموقف العلاجي، والتعدى على حدود مريضه المكانية والشخصية، وغيرها من أساليب خاطئة. ونحتـاج ثالثاً إلى مريض لديـه القدرة والرغبة للاستفادة من العلاج النفسي من خلال ما يبنيه من توقعات عن كفاءة المعالج ومهارته. بعبارة أخرى: معالج، وإيمان بالتغيير، وأسلوب علاجي فعال، ومريض بدوافع قوية للعلاج، هذه هي محاور العلاج الناجح.


نموذج لحالة
حالة السيدة هند العلمي:

السيدة هند مريضة في ال75 من العمر، أحيلت للتقيييم والفحص النفسي، و إمكانية التعاون مع الفريق الطبي النفسي في علاجها معرفيا بسبب المعاناة من الحزن والضغط النفسي نتيجة لتزايد المسئوليات عليها إثر إصابة زوجها بمرض مقعد هو الباركنسون الذي أدى لتدهور حالته الصحية التي تتلاحق بشكل مسرع.
للتعرف على المشكلات التي أدت لطلبها للعلاج، أمكن من خلال المقابلة الشخصية التمهيدية ومن إجاباتها على مقياسي التفكير السلبي المعرب والتفكير الإيجابي على وجودعدد من المشكلات المتداخلة التي ساهمت في معاناتها و اضطرابها الوجداني:
• صراعات سطحية ظاهرة وتغيرات أسرية مباشرة مثيرة للاضطراب.
• الافتقار للدعم و مشاعر الوحدة
• المبالغة و تضخيم السلبيات.
• الرؤية المتشائمة للمستقبل والافتقاد للتفاؤل.
• لوم الذات الناتج عن تفسير السلبيات على أنها نتاج لتقصيرها و عجزها.
• التناقض الوجداني في التعامل مع زوجها المقعد.
من حيث الصراعات السطحية الظاهرة تبين أن السبب المباشر الذي صرحت به للمعالج هو افتقادها للدعم النفسي والمعنوي من الزوج نتيجة لتقاعده إثر تزايد حدة مرض الباركنسون، فضلا عن شعورها بالعجز عن تقديم يد العون والمساعدة له على التعامل مع تدهور حالته الصحية بشكل سريع. فهو مثلا لم يكن قادرا على الرقود و الاسترخاء على سريره و في فراشه المعتاد. نتيجة لهذا كان يقضي معظم أوقات الليل جالسا على كرسيه، و هذا ما لم يكن بإمكانها تحمله و السكوت عليه.
كانت أيضا شديدة الانزعاج والقلق على حالتها الصحية بسبب التقدم في العمر و خوفها من أنها ستتعرض مثله للعجز والمرض.
لمعالجة هذا الجانب تركز العلاج المعرفي علىمخاوفها غير الواقعية و مبالاغاتها و تهويلها للأمور، وإثارة مخاوف متشائمة من المستقبل. و تطلب ذلك تعريفها بالأساليب المعرفية الخاطئة في إدراك الأمور بحيث تصبح الأمور المعتادة مصدرا للقلق و الانزعاج، بما في ذلك المبالغة، و العجز عن تحمل الأمور المعتادة التي لا يمكن تغييرها، فضلا عن أن حالتها الصحية لا تدعو للقلق والانزعاج و أنها تحت رعاية طبية جيدة.
تم التركيز أيضا على مشاعر الفشل و الوحدة و أن نبين لها أن معاناتها تستند على تفكير سلبي يدعوها للتقاعس و إدراك الواقع على أنه أسوأ مما هو عليه "أي أن تفكيرها في الأمور كان أسوأ من الأمور ذاتها." ومن هذا الجانب بينا لها أيضا أن ما حدث من عجز و مرض الزوج لم يحدث بسبب أخطاء منها أو مسئولية أو فشل أو قصور من جانبها، و لكن حدث لاعتبارات طبية خاصة بالظروف الصحية للزوج، ومن ثم يمكن مواجهة ذلك بطرق غير انهزامية لا تعالج الأزمة التي هي فيها الآن بل تدعو لليأس و لوم الذات.
بينا لها أن إعادة إدراك الواقع الذي فرضته ظروف مرض الزوج يتطلب منها تعديلا سلوكيا مماثلا للتطور الإيجابي في التفكير. فمثلا ساعدناها على البحث عن بدائل سلوكية إيجابية و بذل الطاقة دون خوف من مساعدة الزوج بدلا من لوم الذات والقلق واليأس من مساعدته و كأنها مسئولة عما حدث له.
و من باب استبدال السلبي يالإيجابي، كشفنا لها عن مدي مبالغتها و تهويلها لموضوع بقاء الزوج بالليل فاعدا على كرسيه بدلا من النوم على فراشه المعتاد. "إنها ليست مأساة مهولة أو كارثة أن يغير مكان نومه المعتاد طالما ان هذا يريحه و لا يسبب أي إزعاج لكي أو خطر له." هكذا قلت لها في أحد الجلسات، و قد أشعرها هذا بالارتياح و مشاعر الخلاص من مخاوف لم تكن تدرك من قبل طبيعتها المبالغ فيها في تشويه واقع غير مثير للخطر على أنه مصدر للخطر و للانزعاج.
أمن من حيث غضبه على الزوج لأن مرضه أقعدها بجواره، فقد تبين بعد تقد العلاج و اكتساب ثقة المريضه أنها كانت تردد في داخلها " انه لم يقدم لها الرعاية الكافية التي كانت تتوقعها منه في بعض الأزمات التي أحاطت بها، قبل إصابته بالمرض و خلال فترات صحته".
و قد اكتشفت من خلال عمليات الدحض و التفنيد لهذا النوع من التفكير أن يثير مشاعر بالحب و الكراهية معا، أي بلغة علم النفس ما يمكن تسميته بالتناقض الوجداني أو صراع الحب والتفاني مع النفور و التجنب. و مثل هذا اللتفكير يثير فيها الكثير من مشاعر التردد عن تقديم المساعدة الإيجابية بل و ربما يكون السبب في إثارة الكسل و التعب السريع عندما تجد نفسها مضطرة لمساعدته على قضاء حاجاته الإيجابية. فضلا عن هذا ساعدناها من خلال الاسترخاء بالصور الذهنية الإيجابية على إستعادة بعض الذكريات الحلوة في السابق مما جعلها أقل قلقا و أكثر إدراكا لجانب الحب و التغلب على مشاعر التناقض الوجداني في تفسير علاقتها بزوجها. و بالفعل اصبحت أقل قلقا و أكثر قدرة على تحمل القيام بدورها الاجتماعي بمفهوم متجدد و داعم لصحتها النفسية و إعانة زوجها بطريقة أفضل في محنته الصحية التي يعيشها ألآن.
نتيجة لهذه التغيرات في أساليب التفكير و ما أثاره ذلك من تغيرات إيجابية في سلوكها نحو زوجها ، أصبح بإمكان السيدة هند من خلال 6 لقاءات أن تكون عادات مريحة، وأن تقبل حياتها الزوجية بإيجابية مماثلة لأنماط التفكير والسلوك التي اكتسبتها. و بالرغم من أن متابعة الحالة الصحية لزوجها لم تكن من أهدافي العلاجية، فقد كشفت التقارير الطبيةعن الزوج تباطؤ تدهور حالته الصحية، و أن مرضه استقر بدون تغيرات مرضية سريعة كما كان يحدث في السابق كل ذلك و السيدة هند تسيطر على مشاعرها السلبية و تحيا في ظروف نفسية تحقق لها و لزوجها السلام والكفاءة في معالجة ما تثيره الحياة من ضغوط.

مصادر

1. عبدالستار إبراهيم (2008). الاكتئاب والكدر النفسي: دليل معرفي للممارس (سلسلة الممارس النفسي). القاهرة: دار الفكر.
2. عبدالستار إبراهيم (2008). العلاج المعرفي: دليل علاجي نفسي متعدد المحاور لتنمية المهارات العقلانية والإيجابية ، (سلسلة الممارس النفسي). القاهرة: دار الفكر.
3. عبدالستار إبراهيم (2008). إنه من حقك يا أخي: دليل علاجي- نفسي- معرفي لتنمية مهارات الحياة الاجتماعية والتوكيدية (سلسلة الممارس النفسي). القاهرة: دار الفكر.
4. عبدالستار إبراهيم و عبدالله عسكر (2003).علم النفس الإكلينيكي: مناهج التشخيص والعلاج النفسي. القاهرة: مكنبة الأنجلو المصرية (الطبعة الثالثة).
5. عبدالستار إبراهيم (2000). العلاج النفسي السلوكي المعرفي الحديث: أساليبه ونماذج من تطبيقاته. القاهرة: دار الفجر للنشر والتوزيع.
6. American Psychiatric Association (2000.) Diagnostic and statistical manual of mental disorders, 4th ed.: DSM-IV. Washington, D.C.
7. Bruce M.L., Ten Have T.R., Reynolds C.F., et al. (2004). Reducing suicidal ideation and depressive symptoms in depressed older primary care patients: a randomized controlled trial. JAMA; 291:1081-1091.
8. Clark, DM; Fairburn, CG. (1997.) Science and practice of cognitive behavior therapy. Oxford: Oxford University Press.
9. Charney D.S., Reynolds C.F., Lewis L., et al. (2003). Depression and Bipolar Support Alliance consensus statement on the unmet needs in diagnosis and treatment of mood disorders in late life. Arch Gen Psychiatry; 60:664-672.
10. Sadock, B. J. & Sadock, V. A. (2003). Synopsis of Psychiatry, 9th Ed., Philadelphia, PA: Lippincott, Williams, and Wilkins.
11. Tarrier N, Wells A, Haddock G., editors. (1998.) Cognitive behavior therapy for complex cases: an advanced guidebook for the practitioner. Chichester: Wiley.
12. Unuttered J, Kato W, Callahan CM, et al. (2002). Collaborative care management of late-life depression in the primary care setting: a randomized controlled trial. JAMA; 288:2836-2845.

محمود عبد الستار
01/04/2010, 11:56 PM
بارك الله فيك يا دكتور عبد الستار