محمد فؤاد منصور
13/10/2008, 11:39 PM
أنا وحرب اكتوبر – حائط المبكى العربي
خمس وثلاثون سنة مضت منذ وقفنا في السادس من أكتوبر 1973 نرقص فرحين في الشوارع ونتابع انتصارات جيشنا بقلق ، أما الفرح فكان لأن الحرب ابتدأت بعد ست سنوات عجاف بدأ خلالها اليأس يتسرب إلى نفوسنا حتى تآكلت همتنا ونحن نرى التسويف والمماطلة من جانب قادتنا والصلف والغرور من جانب العدو القابع خلف جداره الرهيب على الضفة الشرقية لقناة السويس وتمنينا أن تنشب أي حرب وليكن مايكون حتى نخرج من حالة اللاسلم واللاحرب فإما انتصار يعيد لنا الكرامة المفقودة والهمة الضائعة وإما هزيمة نكراء لاتقوم لنا بعدها قائمة بعد أن صار الموت بكرامة أفضل من الخذلان والعار الذي يتبعنا أينما ذهبنا ..
أما القلق فكان مبعثه عدم الثقة فيمايصدر من بيانات عن القيادة العسكرية التي خدعتنا بياناتها في الحرب السابقة (1967) فصورت لنا أننا دخلنا إلى تل أبيب وأسقطنا طائرات العدو جميعاً حتى صار بعضنا يتساءل في دهشة .. معقول ؟ هل حقاً كان لديهم كل هذه العدد من الطائرات التي أعلن عن سقوطها .. وبينما كنا نرقص في الشوارع كلما أعلن المذياع عن سقوط المزيد من طائرات العدو كان العدو يحث الخطى ومعه كل عتاده العسكري يلاحق فلول جيشنا المبعثر فوق رمال الصحراء نحو الضفة الشرقية لقناة السويس وليس بينه وبين قلب القاهرة بندقية واحدة تستطيع ان تقف في وجهه فضلاً عن أن تقاومه أو تمنعه !! ..
استبد بنا القلق هذه المرة وعادت بنا الذاكرة إلى أيام يونيو (حزيران) السوداء ، ورحنا نسأل بعضنا البعض .. صحيح ؟ . هل حقاً عبرنا خط بارليف المنيع ؟ .. هل يحارب جنودنا الآن فوق أرض سيناء ؟ هل حقاً أخذنا بالثأر لكرامتنا المهدرة وعزتنا المفقودة .. عشرات التساؤلات استبدت بنا ,, وتجمعت في صدورنا كل فئران الأرض.. خوفاً من أن تتكرر المأساة من جديد .
**
يوم السبت السادس من اكتوبر 1973 ظهراً كنت قد عدت من كليتي ( كلية الطب / جامعة الأسكندرية ) وكانت امتحانات الشفوي للبكالوريوس للدور الأول قد تأجلت من موعدها المعتاد في يونيو انتظاراً لعودة الأساتذة من عطلاتهم الصيفية وكان مقرراً أن تبدأ في أوائل اكتوبر ، وكنت طالباً بالبكالوريوس وأتردد على الكلية رغم انتهاء الدراسة رسمياً لأتابع مع زملائي نزول جدول امتحانات الشفوي ولنتسامر قليلاً في الهم العام الذي يشغلنا جميعاً ، اذهب صباحاً وأعود ظهراً .. عدت في ذلك اليوم ودخلت غرفتي لأنام استعداداً لسهرة مذاكرة وتحضير للأمتحانات التي أوشكت على البدء .. قبل أن استغرق في النوم سمعت صوتاً عالياً آتياً من راديو الجيران ، موسيقى عسكرية صاخبة وصوتاً حماسياً عالياً للمذيع أطار النوم من عيني قفزت من فراشي وانطلقت إلى الخارج وكدت اصطدم بوالدتي رحمها الله التي كانت حريصة على هدوء المنزل لأتمكن من النوم ،قالت في جزع وقد ذهلت من اندفاعي السريع وغير المعتاد
- فيه ايه ؟
قلت : الظاهر الحرب قامت
صرخت في جزع
- ربنا يستر.
أما سبب جزعها فهو أن اثنين من أشقائي كانا على الجبهة .. الكبير كان ضابطاً احتياطياً بسلاح المدرعات تحت قيادة اللواء فؤاد عزيز غالي وهي القوة التي حررت مدينة القنطرة شرق وهو يكبرني بسنتين ( رحمه الله ) اما الثاني فكان أصغر مني بسنتين وكان حديث التجنيد ولولا أن دراسة الطب كانت طويلة جدا ً فربما كنت سأكون مكانه..
أخي الأكبر كان قد نزل في أجازة عادية كان من المقرر أن تنتهي في 8 اكتوبر لكن يوم 4 أكتوبر حضر إلى منزلنا اثنان من زملائه ليبلغوه بضرورة عودته فوراً ودون إبطاء وطبعاً لم يكن أحد يعلم سبب هذا الأستدعاء العاجل ولأن الأوامر كانت صارمة فقد سافر مساء نفس اليوم إلى الجبهة.
**
كنت ومازلت اعتبر نفسي ابناً باراً لعبد الناصر لأسباب كثيرة ، وكنا نتهكم كطلبة جامعيين تملؤنا الحماسة على أسلوب السادات الكوميدي في الحديث لأننا كنا نعتبر أنه تولى الرئاسة بصدفة قدرية وأنه لم يكن أهلاً لها وكنا مازلنا نذكر حضوره إلينا لتهدئة الطلاب الثائرين في مظاهرات 1968 وكيف اجتمع الطلبة في أحد مدرجات كلية هندسة الأسكندرية ليستمعوا إليه بوصفه أحد رجال عبد الناصر وكيف انهال الطلبة عليه تقريعاً وتوبيخاً حتى انهم جذبوه من كرافتته يومها ومن بين قيادات الطلبة آنذاك بالأسكندرية أذكر عاطف الشاطر من هندسة اسكندرية وأحمد عبد النعيم من طب الأسكندرية وكنت شخصياً في بداية حياتي الجامعية متفرجاً أغلب الوقت .
هذه كانت صورة السادات في عيوننا ، شخصية هزلية كاريكاتورية تثير الضحك والشفقة أكثر مما تبعث على الأحترام ولم نكن ننتظر ان يقود مثل هذا الرجل معركة بحجم معركة اكتوبر المجيدة ..
لكن للحق والتاريخ فقد ظلمنا ذلك الرجل كثيراً لأن قيادة دولة بحجم مصر وفي مثل ذلك الصراع والمواجهة بينها وبين الدول الكبرى واسرائيل لم يكن أمراً هيناً في ظل موارد معدومة وبنية تحتية منهارة وأشقاء عرب يسيئون الظن بالرجل حتى قيل إنه كان يستقبل في بعض العواصم العربية بمانشيتات صحف تقول وصل المتسول .. كان الأخوة - سامحهم الله - يتصورون انه لاهم له إلا جمع الأموال بحجة الحرب وانها تحولت لديه لدجاجة تبيض ذهباً .
**
هاأنا اليوم بعد مرور كل هذه السنين الطويلة أقول بملء الفم لم يكن الرجل خائناً ولاعميلاً ولامتاجراً بقضية شعبه ، بل كان منذ شبابه الأول رجلاً وطنياً مدافعاً عن القضية الوطنية وتحمل في سبيلها شظف العيش والطرد من الخدمة وهو ضابط كبير ليعمل سائقاً مرة وحمالاً مرة ويجوع ويعرى ويعطش لدرجة دفعته لتطليق زوجته الأولى لضيق ذات اليد .. وقد يبدو هذا الكلام إنشائياً أو عاطفياً للوهلة الأولى ولكن هيا نضع الأمور في نصابها حتى لانتوه وتتفرق بنا السبل ..
دعوني في البداية أضع هذا السؤال البسيط ؟
ماهو المطلوب من رئيس أي دولة ؟ ..
أن يراعي مصالح شعبه وأن يحافظ على كيان وطنه أم ان يدخل الحروب ويخسر أرض الوطن من أجل دول أخرى حتى لو كانت دولاً شقيقة ؟
لنتفق على أن دور أي رئيس لابد أن يكون رعاية مصالح شعبه الذي يضع فيه ثقته في المقام الأول ..
ثم سؤال آخر .. كيف تدخل الحرب إذا أردت كسبها ..؟
هل بالخطب العصماء والعنتريات التي ماقتلت ذبابة على رأي عمنا نزارقباني .. أم بإمكانيات مادية وتسليح جيد وتخطيط يحسب كل صغيرة وكبيرة قبل بداية المعركة ودراسة جيدة لأمكانياته وإمكانيات العدو ؟
فعلها عبد الناصر مرتين - رغم عشقي له كزعيم وطني واعترافي بانني ناصري تشرب روح عبد الناصر منذ بدايات الوعي- دخل الحرب مرتين وخسر في المرتين 1956 و1967 لأنه كان يعتمد على أهل الثقة لاأهل الخبرة ..
لم يكن من الممكن أن تجازف مصر بدخول حرب ثالثة لتلقى نفس المصير ..فكان لابد من الأعداد الجيد للحرب وبروح جديدة تماماً تضمن نجاح كل خطوة قبل تنفيذها - مع أنه لاشئ مضمون - ازاء قوة اسرائيل المتصاعدة وضمان الولايات المتحدة لتفوقها العسكري على جميع الدول العربية مجتمعة .
**
عندنا في مصر يعرفون أن عبد الناصر كان " صعيدي جلف" بينما السادات كان " فلاح إراري"..!
الصعيدي الجلف عندما يريد أن يزيل حائطاً من طريقه فإنه يدخل فيه برأسه وبكل قوته .. ينكسر رأسه ويبقى الحائط في مكانه ..أما الفلاح الإراري فإنه إذا أراد ان يصل إلى الشرق اتجه إلى الغرب وتظاهر بالسذاجة الشديدة وادعى الغفلة ورقة الحال حتى يتمكن من فريسته ويصل إلى غرضه .. هذا هو ملخص المقارنة بين الرجلين ..
بعد نكسة 1967 وتشرزم الجيش المصري وضياعه في صحراء سيناء وخلو الطريق بين سيناء وقلب القاهرة من أي قوة عسكرية مؤثرة ، كان لابد من شخصية عسكرية قوية تعيد الأنضباط للجيش و وتحافظ على الضبط والربط ويكون همها الأساسي هو إعادة بناء القوات المسلحة ولم يكن هناك أقدر من الفريق محمد فوزي المعروف بإنضباطه العسكري الشديد فقد كان الرجل المناسب تماماً لهذه المهمة ..
بدأت مرحلة البناء ثم الصمود ثم الردع حتى وصلنا إلى حرب الأستنزاف التي كبدت العدو خسائر فادحة كل ذلك في عهد عبد الناصر وانتهت المرحلة بقبوله لمبادرة روجرز لكي يتمكن خلال التهدئة من استكمال بناء قواعد الصواريخ ..
ثم جاء السادات ليستكمل المسيرة وصولاً إلى حرب اكتوبر ..
ولأن الدول لاتدخل إلى الحروب حباً في الحرب وإنما من أجل الوصول إلى حقوقها فقد اعتمد السادات " الفلاح الإراري " مبدأ المهادنة وتوقير الكبير وعدم الأنزلاق للشتائم والغلط في أمريكا ولاالتقليل والأستهانة بقوة اسرائيل وأرسل مستشاره للأمن القومي ( حافظ اسماعيل ) ليقابل وزير الخارجية الأمريكي ( هنري كيسنجر) ليعرض عليه مبادرته الأولى وصولاً إلى السلام وفيها بالطبع تنسحب إسرائيل إلى خط الممرات في سيناء ويتم فتح قناة السويس امام الملاحة البحرية كأغراء للدول الكبرى لمساندة المبادرة .. لكن هنري كيسنجر وبمنتهى الصلف والأستعلاء قال له ولكن هذه طلبات منتصرين .. لاتنسى أنكم مهزومون في الحرب فلايحق لكم المطالبة والتحدث كمنتصرين .. كان ذلك قبل حرب اكتوبر والتي لم يتوقف الأستعداد لها منذ نكسة 1967.
**
بدأ السادات مشواره بإنهاء مهمة الخبراء السوفيت ( 17000 ) في مصر وكان ذلك دليلاً قاطعاً امام مخابرات العدو على أن الرجل قد صرف النظر تماماً عن الدخول في حرب لاستحالة دخول الحرب بدون مساعدة السوفيت كما كان يتردد آنذاك بينما عرفنا فيما بعد أنها كانت ضربة معلم فقد كان السادات يريد ألا يدخل الحرب وهناك جندي سوفيتي واحد على أرض مصر يمكن أن تتخذ منه امريكا ذريعة للوقوف بجانب اسرائيل ..
ثم جمع قيادته العليا في اكتوبر 1972 قبل الحرب بعام واحد ليتعرف منهم على آخر استعداداتهم للمعركة وماهو مطلوب توفيره بالضبط وكان على رأس الجيش وقتذاك ضابط مشهود له بالكفاءة هو الفريق محمد صادق الذي صارح الرئيس بأننا لانمتلك من القوة العسكرية والأمكانيات مايمكننا من إلحاق هزيمة كاملة باسرائيل مع الأمداد الشحيح من قبل السوفيت لنا وكان لابد من إعفاء الفريق صادق لحساباته المادية الصرفة والتي لاتأخذ في الأعتبار الروح القتالية والرغبة في الثأر
وعلى خط مواز لكل ذلك كان هناك تنسيق كامل مع الرئيس السوري حافظ الأسد لدخول المعركة في توقيت واحد .. ثم وضعت قيادات جديدة معروفة بحنكتها وسعة خبرتها القتالية والعسكرية .. المشير أحمد اسماعيل علي وزيراً للحربية والفريق سعد الدين الشاذلي رئيساً للأركان والمشير محمدعبد الغني الجمسي رئيساً للعمليات واللواء محمد حسني مبارك قائداً للقوات الجوية واللواء محمد على فهمي قائداً للدفاع الجوي .. الخ .. نخبة من أكفأ وأعظم ضباط الجيش المصري علماً وكفاءة.. هكذا بدأت الحرب .. وهكذا بدأ البركان الذي اجتاح في طريقه أقوى مانع مائي في التاريخ ( خط بارليف ) وهكذا رفع العلم المصري على أرض سيناء الحبيبة .. وهكذا تمت بنجاح خطة الخداع المتشعبة والتي خدعت مخابرات العدو الأمريكي والصهيوني وهكذا تم توجيه لطمة قوية لهنري كيسنجر الذي استهان بقوة مصر والمصريين وحديثه الساخر من طلبات مستشار الأمن القومي المصري العادلة فجاء ذليلاً يطلب وقف إطلاق النار حتى لاتضطر الولايات المتحدة للوقوف بجيشها صراحة إلى جوار إسرائيل بعد أن صرخت وولولت جولدا مائير وأبرقت لواشنطون " انقذوا اسرائيل ".
**
من أسهل الأمور على المرء ان يطلق الأحكام الجاهزة دون روية ، او أن يجلس في مكتب مكيف ليعرض أرقاماً ويستخرج من الدلالات مايشاء أو أن يسم الناس بالخيانة وسوء الطوية .. نحن لانفرق بين مصر عبد الناصر ومصر السادات ومصر حسني مبارك حتى وإن اختلفت مواقفهم أزاء ظروف تاريخية ومرحلية معينة .. وكل واحد من حكامنا الثلاثة له أخطاؤه الفادحة بلاشك بل والكارثية أحياناً .. نحن نحب عبد الناصر لأنه قام بثورة اجتماعية حررت الناس من الأستغلال وسوء توزيع الثروة قام عبد الناصر بالأنحياز بوضوح لطبقات المجتمع الدنيا ورفع شأنها وحين أراد ان يلعب دوراً يتجاوز قدراته أراد الغرب أن يلجمه فساقه مغمض العينين إلى نهايته بتوريطه في صراعات خارجية وداخلية انتهت به مهزوماً منكسراً وقد ضاع ثلث أرضه وكل جيشه وسالت دماء المصريين انهاراً على رمال سيناء.. كانت لعبد الناصر إنجازات عظيمة .. وكانت له أخطاء قاتلة كذلك ..وترك للسادات تركة ثقيلة وواجباً صعباً أن يحرر الأرض وأن يستعيد ماضاع ..
بدأت الحرب كما خطط لها قادة العرب تماماً ولعب كل واحد دوره كأفضل مايكون .. حافظ الأسد في سوريا قام بدوره المتفق عليه وقام الملك فيصل رحمه الله بقيادة معركة البترول التي مازال الأمريكان يذكرون آثارها حتى اليوم ، ولم يكن من الممكن الأستمرار في الحرب اكثر مما حدث لتناقص الأمكانيات وقلة الموارد وضغط العدو وكان يجب ان تكون كل خطوة محسوبة بدقة فمظلة الصواريخ لم يكن بإمكانها أن تحمي الجيش إن هو تقدم اكثر في سيناء كان يجب ان تتوقف الحرب لألتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف والأهم هو التشبث بالمساحة التي وصلنا إليها بشق النفس .. أي خطوة زائدة أو غير محسوبة كانت ستلقي بالجيش المصري بكامله في مياه القناة وكانت اسرائيل ستحتل القاهرة .. كان الأفضل أن تنهي الحرب منتصراً وبإمكانيات قليلة بدلاً من أن تفقد كل شئ وتبوء بالخيبة كما حدث في المرات السابقة .. كان مهماً أن يعلم العدو والصديق أننا مصممون على استعادة الحقوق بأي وسيلة ومن بينها الحرب المسلحة..
قاد السادات بعد ذلك معركة السلام باقتدار، فض الأشتباك الأول فالثاني فمبادرة السلام ثم دعوة الأخوة العرب لمؤتمر السلام بمينا هاوس ورفع أعلام سوريا والأردن وفلسطين على مقر المؤتمر بالقاهرة .. لكن أزمة الثقة واتهامات التخوين والعمالة جعلت الأخوة ينفضون من حول الرجل بل يعقدون مؤتمر بغداد لمقاطعته وتجويعه وتركيعه وقطع العلاقات معه وسحب جامعة الدول العربية من أرضه .. كل ذلك أضعف موقفه ودفعه اكثر في اتجاه الحل المنفرد .. ولو .. ولو .. ولو ..
ولكن لو تفتح عمل الشيطان ..
بح صوت الرجل وهو ينادي الأشقاء لنواجه العدو صفاً واحداً في معركة السلام كما فعلنا أيام الحرب .. وطالب بسلام عادل ودائم وشامل وعودة اللاجئين وحقنا في القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية . ولكن غلب سوء الظن والقذف بالخيانة والأتهام ببيع القضية .. حتى صار أكبر همنا اليوم أن يفتح العدو لنا المعابر يوماً أو بعض يوم ! .. رحم الله السادات فقد كان زعيماً عربياً وقائداً فذاً .. سبق وقته وسبق امته وقتله أبناء جلدته الذين أخرجهم من غياهب السجون ثم راحوا جميعاً يترحمون على أيامه .. يبكون مثل النساء على قائد لم يحافظوا عليه مثل الرجال..
**
المؤكد أن العرب لأول ولآخر مرة في تاريخهم قد اتفقوا تماماً على موعد إعلان الحرب ولكنهم لم يتفقوا على كيفية إدارتها ولاتوقيت إنهائها !.. ربما كانوا معذورين في كثير من الأمور فهم يواجهون أعتى القوى المسنودة بأمبراطورية الشر في العالم ورغم الإعداد الجيد للمعركة والتدريب الجاد والقيادات الواعية إلا أن الأسلحة في أيدي العرب ظلت متخلفة عما في أيدي عدوهم حتى لحظة بدء العمليات القتالية !
كانت اسرائيل متفوقة عسكرياً ولم نكن نمتلك إلا الروح القتالية العالية والإيمان الشديد بأننا أصحاب حق وأن الله سينصرنا وسيعوض صبرنا خيراً ..
ربما لم أشر في المداخلات السابقة لقائد عربي عظيم هو الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كان من أبرز قادة حرب أكتوبر المجيدة وكما قاد الملك فيصل يرحمه الله معركة البترول التي زلزلت الغرب ، قاد هواري بومدين يرحمه الله معركة لاتقل أهمية عن تلك التي كانت تجري على جبهات القتال ، ذهب إلى الأتحاد السوفيتي أثناء سير المعارك ليضمن إمدادات السلاح للمقاتلين على جبهات القتال وكانت وقفته قوية ومؤثرة غير أن السوفييت على مايبدو لم يكونوا على ثقة كاملة من قدرات المقاتل العربي ، تلكأوا وماطلوا وساوموا ولم يراعوا أن كل لحظة تمضي تعني أن الأسلحة والذخائر في أيدي المقاتلين البواسل على الجبهة تتناقص باستمرار والأهم أن المزيد من الشهداء كانوا يتساقطون وأن لحظة لابد آتية يصير فيها مابيد العدو من سلاح أكثر بكثير ممابين أيدي مقاتلينا ، ونظرة على الجانب الآخر كانت تؤكد أن الحرب في ظل تلكؤ السوفييت قد تنتهي بكارثة جديدة .. أذكر أن اخي رحمه الله عقب الحرب مباشرة وكان أحد الذين حرروامدينة القنطرة شرق قال لي وهو يروي ماحدث : لقد كنا في نزهة ، لقد فتكنا بهم ولقناهم درساً قاسياً حتى يوم السادس عشر من أكتوبر ، لم يكن لسلاح الجو الأسرائيلي أي وجود في سماء المعركة لكن منذ السادس عشر وجدنا سماء المعركة تعج بطائرات العدو ، كان واضحاً أن ترسانة الأسلحة الأمريكية قد فتحت أبوابها على أرض المعركة ، وأننا أضطررنا لقبول وقف إطلاق النار وإلا خسرنا كل شئ..
نجح العرب في الحرب لكنهم فشلوا في السلام وكعادتهم الأبدية بدأوا يتبادلون الأتهامات ويرمون بعضهم البعض بالخيانة .. كان النجاح أكبر من كل توقعاتنا فنسينا أن نتفق على مايجب أن نعمله إن جنحوا للسلم .. ومنذ خمسة وثلاثين عاماً وحتى اليوم ونحن لانتفق على إدارة معارك السلام التي تحتاج لوحدة الصف والأتفاق على الحدود الدنيا لما نرضى به اكثر من حاجتنا للأتفاق على مجريات الحرب .
**
كلمة أخيرة لكل أولئك الذين لايعجبهم العجب ويلوكون كلمات الخيانة والعمالة والتخاذل دون تبصر ولابصيرة .. فلنتفق على أن الرجل رحمه الله قد تحول بين عشية وضحاها إلى خائن وعميل ، وأنه قد باع القضية وقبض الثمن بل وأكثر من ذلك فلنتفق على أنه وضع خليفة له يحمل جينات العمالة والخيانة .. وإلى آخر تلك الأتهامات التي لاتقف على ساقين .. لنتفق على كل هذا .. هذا الرجل قد تخلى بزعمهم عن القضية منذ مايزيد عن ثلاثين عاماً (نوفمبر1977) وأنتم دول مستقلة وذات سيادة وأعضاء في هيئة الأمم والمنظمات الدولية سواء بسواء مثل دويلة اسرائيل التي مازالت تحتل أجزاء غالية من أراضينا .. هل يتطوع أحدكم فيخبرنا ماذا فعل الأخوة النشامى منذ ثلاثين عاماً ومنذ اكتشفوا فجأة أن حليف الأمس قد خان وباع وتآمر ؟.. كم طلقة أطلقوا في اتجاه العدو وبالمقابل كم طلقة استقرت في صدور أشقائهم ؟
أم ترى حرب أكتوبر قد تحولت إلى حائط للمبكى نذرف عليه الدموع كلما هبت ذكراها ثم نجدد صيحات الأتهام بالخيانة والعمالة لرجل مات وشبع موتاً وصار أثراً بعد عين ؟
د. محمد فؤاد منصور
خمس وثلاثون سنة مضت منذ وقفنا في السادس من أكتوبر 1973 نرقص فرحين في الشوارع ونتابع انتصارات جيشنا بقلق ، أما الفرح فكان لأن الحرب ابتدأت بعد ست سنوات عجاف بدأ خلالها اليأس يتسرب إلى نفوسنا حتى تآكلت همتنا ونحن نرى التسويف والمماطلة من جانب قادتنا والصلف والغرور من جانب العدو القابع خلف جداره الرهيب على الضفة الشرقية لقناة السويس وتمنينا أن تنشب أي حرب وليكن مايكون حتى نخرج من حالة اللاسلم واللاحرب فإما انتصار يعيد لنا الكرامة المفقودة والهمة الضائعة وإما هزيمة نكراء لاتقوم لنا بعدها قائمة بعد أن صار الموت بكرامة أفضل من الخذلان والعار الذي يتبعنا أينما ذهبنا ..
أما القلق فكان مبعثه عدم الثقة فيمايصدر من بيانات عن القيادة العسكرية التي خدعتنا بياناتها في الحرب السابقة (1967) فصورت لنا أننا دخلنا إلى تل أبيب وأسقطنا طائرات العدو جميعاً حتى صار بعضنا يتساءل في دهشة .. معقول ؟ هل حقاً كان لديهم كل هذه العدد من الطائرات التي أعلن عن سقوطها .. وبينما كنا نرقص في الشوارع كلما أعلن المذياع عن سقوط المزيد من طائرات العدو كان العدو يحث الخطى ومعه كل عتاده العسكري يلاحق فلول جيشنا المبعثر فوق رمال الصحراء نحو الضفة الشرقية لقناة السويس وليس بينه وبين قلب القاهرة بندقية واحدة تستطيع ان تقف في وجهه فضلاً عن أن تقاومه أو تمنعه !! ..
استبد بنا القلق هذه المرة وعادت بنا الذاكرة إلى أيام يونيو (حزيران) السوداء ، ورحنا نسأل بعضنا البعض .. صحيح ؟ . هل حقاً عبرنا خط بارليف المنيع ؟ .. هل يحارب جنودنا الآن فوق أرض سيناء ؟ هل حقاً أخذنا بالثأر لكرامتنا المهدرة وعزتنا المفقودة .. عشرات التساؤلات استبدت بنا ,, وتجمعت في صدورنا كل فئران الأرض.. خوفاً من أن تتكرر المأساة من جديد .
**
يوم السبت السادس من اكتوبر 1973 ظهراً كنت قد عدت من كليتي ( كلية الطب / جامعة الأسكندرية ) وكانت امتحانات الشفوي للبكالوريوس للدور الأول قد تأجلت من موعدها المعتاد في يونيو انتظاراً لعودة الأساتذة من عطلاتهم الصيفية وكان مقرراً أن تبدأ في أوائل اكتوبر ، وكنت طالباً بالبكالوريوس وأتردد على الكلية رغم انتهاء الدراسة رسمياً لأتابع مع زملائي نزول جدول امتحانات الشفوي ولنتسامر قليلاً في الهم العام الذي يشغلنا جميعاً ، اذهب صباحاً وأعود ظهراً .. عدت في ذلك اليوم ودخلت غرفتي لأنام استعداداً لسهرة مذاكرة وتحضير للأمتحانات التي أوشكت على البدء .. قبل أن استغرق في النوم سمعت صوتاً عالياً آتياً من راديو الجيران ، موسيقى عسكرية صاخبة وصوتاً حماسياً عالياً للمذيع أطار النوم من عيني قفزت من فراشي وانطلقت إلى الخارج وكدت اصطدم بوالدتي رحمها الله التي كانت حريصة على هدوء المنزل لأتمكن من النوم ،قالت في جزع وقد ذهلت من اندفاعي السريع وغير المعتاد
- فيه ايه ؟
قلت : الظاهر الحرب قامت
صرخت في جزع
- ربنا يستر.
أما سبب جزعها فهو أن اثنين من أشقائي كانا على الجبهة .. الكبير كان ضابطاً احتياطياً بسلاح المدرعات تحت قيادة اللواء فؤاد عزيز غالي وهي القوة التي حررت مدينة القنطرة شرق وهو يكبرني بسنتين ( رحمه الله ) اما الثاني فكان أصغر مني بسنتين وكان حديث التجنيد ولولا أن دراسة الطب كانت طويلة جدا ً فربما كنت سأكون مكانه..
أخي الأكبر كان قد نزل في أجازة عادية كان من المقرر أن تنتهي في 8 اكتوبر لكن يوم 4 أكتوبر حضر إلى منزلنا اثنان من زملائه ليبلغوه بضرورة عودته فوراً ودون إبطاء وطبعاً لم يكن أحد يعلم سبب هذا الأستدعاء العاجل ولأن الأوامر كانت صارمة فقد سافر مساء نفس اليوم إلى الجبهة.
**
كنت ومازلت اعتبر نفسي ابناً باراً لعبد الناصر لأسباب كثيرة ، وكنا نتهكم كطلبة جامعيين تملؤنا الحماسة على أسلوب السادات الكوميدي في الحديث لأننا كنا نعتبر أنه تولى الرئاسة بصدفة قدرية وأنه لم يكن أهلاً لها وكنا مازلنا نذكر حضوره إلينا لتهدئة الطلاب الثائرين في مظاهرات 1968 وكيف اجتمع الطلبة في أحد مدرجات كلية هندسة الأسكندرية ليستمعوا إليه بوصفه أحد رجال عبد الناصر وكيف انهال الطلبة عليه تقريعاً وتوبيخاً حتى انهم جذبوه من كرافتته يومها ومن بين قيادات الطلبة آنذاك بالأسكندرية أذكر عاطف الشاطر من هندسة اسكندرية وأحمد عبد النعيم من طب الأسكندرية وكنت شخصياً في بداية حياتي الجامعية متفرجاً أغلب الوقت .
هذه كانت صورة السادات في عيوننا ، شخصية هزلية كاريكاتورية تثير الضحك والشفقة أكثر مما تبعث على الأحترام ولم نكن ننتظر ان يقود مثل هذا الرجل معركة بحجم معركة اكتوبر المجيدة ..
لكن للحق والتاريخ فقد ظلمنا ذلك الرجل كثيراً لأن قيادة دولة بحجم مصر وفي مثل ذلك الصراع والمواجهة بينها وبين الدول الكبرى واسرائيل لم يكن أمراً هيناً في ظل موارد معدومة وبنية تحتية منهارة وأشقاء عرب يسيئون الظن بالرجل حتى قيل إنه كان يستقبل في بعض العواصم العربية بمانشيتات صحف تقول وصل المتسول .. كان الأخوة - سامحهم الله - يتصورون انه لاهم له إلا جمع الأموال بحجة الحرب وانها تحولت لديه لدجاجة تبيض ذهباً .
**
هاأنا اليوم بعد مرور كل هذه السنين الطويلة أقول بملء الفم لم يكن الرجل خائناً ولاعميلاً ولامتاجراً بقضية شعبه ، بل كان منذ شبابه الأول رجلاً وطنياً مدافعاً عن القضية الوطنية وتحمل في سبيلها شظف العيش والطرد من الخدمة وهو ضابط كبير ليعمل سائقاً مرة وحمالاً مرة ويجوع ويعرى ويعطش لدرجة دفعته لتطليق زوجته الأولى لضيق ذات اليد .. وقد يبدو هذا الكلام إنشائياً أو عاطفياً للوهلة الأولى ولكن هيا نضع الأمور في نصابها حتى لانتوه وتتفرق بنا السبل ..
دعوني في البداية أضع هذا السؤال البسيط ؟
ماهو المطلوب من رئيس أي دولة ؟ ..
أن يراعي مصالح شعبه وأن يحافظ على كيان وطنه أم ان يدخل الحروب ويخسر أرض الوطن من أجل دول أخرى حتى لو كانت دولاً شقيقة ؟
لنتفق على أن دور أي رئيس لابد أن يكون رعاية مصالح شعبه الذي يضع فيه ثقته في المقام الأول ..
ثم سؤال آخر .. كيف تدخل الحرب إذا أردت كسبها ..؟
هل بالخطب العصماء والعنتريات التي ماقتلت ذبابة على رأي عمنا نزارقباني .. أم بإمكانيات مادية وتسليح جيد وتخطيط يحسب كل صغيرة وكبيرة قبل بداية المعركة ودراسة جيدة لأمكانياته وإمكانيات العدو ؟
فعلها عبد الناصر مرتين - رغم عشقي له كزعيم وطني واعترافي بانني ناصري تشرب روح عبد الناصر منذ بدايات الوعي- دخل الحرب مرتين وخسر في المرتين 1956 و1967 لأنه كان يعتمد على أهل الثقة لاأهل الخبرة ..
لم يكن من الممكن أن تجازف مصر بدخول حرب ثالثة لتلقى نفس المصير ..فكان لابد من الأعداد الجيد للحرب وبروح جديدة تماماً تضمن نجاح كل خطوة قبل تنفيذها - مع أنه لاشئ مضمون - ازاء قوة اسرائيل المتصاعدة وضمان الولايات المتحدة لتفوقها العسكري على جميع الدول العربية مجتمعة .
**
عندنا في مصر يعرفون أن عبد الناصر كان " صعيدي جلف" بينما السادات كان " فلاح إراري"..!
الصعيدي الجلف عندما يريد أن يزيل حائطاً من طريقه فإنه يدخل فيه برأسه وبكل قوته .. ينكسر رأسه ويبقى الحائط في مكانه ..أما الفلاح الإراري فإنه إذا أراد ان يصل إلى الشرق اتجه إلى الغرب وتظاهر بالسذاجة الشديدة وادعى الغفلة ورقة الحال حتى يتمكن من فريسته ويصل إلى غرضه .. هذا هو ملخص المقارنة بين الرجلين ..
بعد نكسة 1967 وتشرزم الجيش المصري وضياعه في صحراء سيناء وخلو الطريق بين سيناء وقلب القاهرة من أي قوة عسكرية مؤثرة ، كان لابد من شخصية عسكرية قوية تعيد الأنضباط للجيش و وتحافظ على الضبط والربط ويكون همها الأساسي هو إعادة بناء القوات المسلحة ولم يكن هناك أقدر من الفريق محمد فوزي المعروف بإنضباطه العسكري الشديد فقد كان الرجل المناسب تماماً لهذه المهمة ..
بدأت مرحلة البناء ثم الصمود ثم الردع حتى وصلنا إلى حرب الأستنزاف التي كبدت العدو خسائر فادحة كل ذلك في عهد عبد الناصر وانتهت المرحلة بقبوله لمبادرة روجرز لكي يتمكن خلال التهدئة من استكمال بناء قواعد الصواريخ ..
ثم جاء السادات ليستكمل المسيرة وصولاً إلى حرب اكتوبر ..
ولأن الدول لاتدخل إلى الحروب حباً في الحرب وإنما من أجل الوصول إلى حقوقها فقد اعتمد السادات " الفلاح الإراري " مبدأ المهادنة وتوقير الكبير وعدم الأنزلاق للشتائم والغلط في أمريكا ولاالتقليل والأستهانة بقوة اسرائيل وأرسل مستشاره للأمن القومي ( حافظ اسماعيل ) ليقابل وزير الخارجية الأمريكي ( هنري كيسنجر) ليعرض عليه مبادرته الأولى وصولاً إلى السلام وفيها بالطبع تنسحب إسرائيل إلى خط الممرات في سيناء ويتم فتح قناة السويس امام الملاحة البحرية كأغراء للدول الكبرى لمساندة المبادرة .. لكن هنري كيسنجر وبمنتهى الصلف والأستعلاء قال له ولكن هذه طلبات منتصرين .. لاتنسى أنكم مهزومون في الحرب فلايحق لكم المطالبة والتحدث كمنتصرين .. كان ذلك قبل حرب اكتوبر والتي لم يتوقف الأستعداد لها منذ نكسة 1967.
**
بدأ السادات مشواره بإنهاء مهمة الخبراء السوفيت ( 17000 ) في مصر وكان ذلك دليلاً قاطعاً امام مخابرات العدو على أن الرجل قد صرف النظر تماماً عن الدخول في حرب لاستحالة دخول الحرب بدون مساعدة السوفيت كما كان يتردد آنذاك بينما عرفنا فيما بعد أنها كانت ضربة معلم فقد كان السادات يريد ألا يدخل الحرب وهناك جندي سوفيتي واحد على أرض مصر يمكن أن تتخذ منه امريكا ذريعة للوقوف بجانب اسرائيل ..
ثم جمع قيادته العليا في اكتوبر 1972 قبل الحرب بعام واحد ليتعرف منهم على آخر استعداداتهم للمعركة وماهو مطلوب توفيره بالضبط وكان على رأس الجيش وقتذاك ضابط مشهود له بالكفاءة هو الفريق محمد صادق الذي صارح الرئيس بأننا لانمتلك من القوة العسكرية والأمكانيات مايمكننا من إلحاق هزيمة كاملة باسرائيل مع الأمداد الشحيح من قبل السوفيت لنا وكان لابد من إعفاء الفريق صادق لحساباته المادية الصرفة والتي لاتأخذ في الأعتبار الروح القتالية والرغبة في الثأر
وعلى خط مواز لكل ذلك كان هناك تنسيق كامل مع الرئيس السوري حافظ الأسد لدخول المعركة في توقيت واحد .. ثم وضعت قيادات جديدة معروفة بحنكتها وسعة خبرتها القتالية والعسكرية .. المشير أحمد اسماعيل علي وزيراً للحربية والفريق سعد الدين الشاذلي رئيساً للأركان والمشير محمدعبد الغني الجمسي رئيساً للعمليات واللواء محمد حسني مبارك قائداً للقوات الجوية واللواء محمد على فهمي قائداً للدفاع الجوي .. الخ .. نخبة من أكفأ وأعظم ضباط الجيش المصري علماً وكفاءة.. هكذا بدأت الحرب .. وهكذا بدأ البركان الذي اجتاح في طريقه أقوى مانع مائي في التاريخ ( خط بارليف ) وهكذا رفع العلم المصري على أرض سيناء الحبيبة .. وهكذا تمت بنجاح خطة الخداع المتشعبة والتي خدعت مخابرات العدو الأمريكي والصهيوني وهكذا تم توجيه لطمة قوية لهنري كيسنجر الذي استهان بقوة مصر والمصريين وحديثه الساخر من طلبات مستشار الأمن القومي المصري العادلة فجاء ذليلاً يطلب وقف إطلاق النار حتى لاتضطر الولايات المتحدة للوقوف بجيشها صراحة إلى جوار إسرائيل بعد أن صرخت وولولت جولدا مائير وأبرقت لواشنطون " انقذوا اسرائيل ".
**
من أسهل الأمور على المرء ان يطلق الأحكام الجاهزة دون روية ، او أن يجلس في مكتب مكيف ليعرض أرقاماً ويستخرج من الدلالات مايشاء أو أن يسم الناس بالخيانة وسوء الطوية .. نحن لانفرق بين مصر عبد الناصر ومصر السادات ومصر حسني مبارك حتى وإن اختلفت مواقفهم أزاء ظروف تاريخية ومرحلية معينة .. وكل واحد من حكامنا الثلاثة له أخطاؤه الفادحة بلاشك بل والكارثية أحياناً .. نحن نحب عبد الناصر لأنه قام بثورة اجتماعية حررت الناس من الأستغلال وسوء توزيع الثروة قام عبد الناصر بالأنحياز بوضوح لطبقات المجتمع الدنيا ورفع شأنها وحين أراد ان يلعب دوراً يتجاوز قدراته أراد الغرب أن يلجمه فساقه مغمض العينين إلى نهايته بتوريطه في صراعات خارجية وداخلية انتهت به مهزوماً منكسراً وقد ضاع ثلث أرضه وكل جيشه وسالت دماء المصريين انهاراً على رمال سيناء.. كانت لعبد الناصر إنجازات عظيمة .. وكانت له أخطاء قاتلة كذلك ..وترك للسادات تركة ثقيلة وواجباً صعباً أن يحرر الأرض وأن يستعيد ماضاع ..
بدأت الحرب كما خطط لها قادة العرب تماماً ولعب كل واحد دوره كأفضل مايكون .. حافظ الأسد في سوريا قام بدوره المتفق عليه وقام الملك فيصل رحمه الله بقيادة معركة البترول التي مازال الأمريكان يذكرون آثارها حتى اليوم ، ولم يكن من الممكن الأستمرار في الحرب اكثر مما حدث لتناقص الأمكانيات وقلة الموارد وضغط العدو وكان يجب ان تكون كل خطوة محسوبة بدقة فمظلة الصواريخ لم يكن بإمكانها أن تحمي الجيش إن هو تقدم اكثر في سيناء كان يجب ان تتوقف الحرب لألتقاط الأنفاس وإعادة تنظيم الصفوف والأهم هو التشبث بالمساحة التي وصلنا إليها بشق النفس .. أي خطوة زائدة أو غير محسوبة كانت ستلقي بالجيش المصري بكامله في مياه القناة وكانت اسرائيل ستحتل القاهرة .. كان الأفضل أن تنهي الحرب منتصراً وبإمكانيات قليلة بدلاً من أن تفقد كل شئ وتبوء بالخيبة كما حدث في المرات السابقة .. كان مهماً أن يعلم العدو والصديق أننا مصممون على استعادة الحقوق بأي وسيلة ومن بينها الحرب المسلحة..
قاد السادات بعد ذلك معركة السلام باقتدار، فض الأشتباك الأول فالثاني فمبادرة السلام ثم دعوة الأخوة العرب لمؤتمر السلام بمينا هاوس ورفع أعلام سوريا والأردن وفلسطين على مقر المؤتمر بالقاهرة .. لكن أزمة الثقة واتهامات التخوين والعمالة جعلت الأخوة ينفضون من حول الرجل بل يعقدون مؤتمر بغداد لمقاطعته وتجويعه وتركيعه وقطع العلاقات معه وسحب جامعة الدول العربية من أرضه .. كل ذلك أضعف موقفه ودفعه اكثر في اتجاه الحل المنفرد .. ولو .. ولو .. ولو ..
ولكن لو تفتح عمل الشيطان ..
بح صوت الرجل وهو ينادي الأشقاء لنواجه العدو صفاً واحداً في معركة السلام كما فعلنا أيام الحرب .. وطالب بسلام عادل ودائم وشامل وعودة اللاجئين وحقنا في القدس لتكون عاصمة للدولة الفلسطينية . ولكن غلب سوء الظن والقذف بالخيانة والأتهام ببيع القضية .. حتى صار أكبر همنا اليوم أن يفتح العدو لنا المعابر يوماً أو بعض يوم ! .. رحم الله السادات فقد كان زعيماً عربياً وقائداً فذاً .. سبق وقته وسبق امته وقتله أبناء جلدته الذين أخرجهم من غياهب السجون ثم راحوا جميعاً يترحمون على أيامه .. يبكون مثل النساء على قائد لم يحافظوا عليه مثل الرجال..
**
المؤكد أن العرب لأول ولآخر مرة في تاريخهم قد اتفقوا تماماً على موعد إعلان الحرب ولكنهم لم يتفقوا على كيفية إدارتها ولاتوقيت إنهائها !.. ربما كانوا معذورين في كثير من الأمور فهم يواجهون أعتى القوى المسنودة بأمبراطورية الشر في العالم ورغم الإعداد الجيد للمعركة والتدريب الجاد والقيادات الواعية إلا أن الأسلحة في أيدي العرب ظلت متخلفة عما في أيدي عدوهم حتى لحظة بدء العمليات القتالية !
كانت اسرائيل متفوقة عسكرياً ولم نكن نمتلك إلا الروح القتالية العالية والإيمان الشديد بأننا أصحاب حق وأن الله سينصرنا وسيعوض صبرنا خيراً ..
ربما لم أشر في المداخلات السابقة لقائد عربي عظيم هو الرئيس الراحل هواري بومدين الذي كان من أبرز قادة حرب أكتوبر المجيدة وكما قاد الملك فيصل يرحمه الله معركة البترول التي زلزلت الغرب ، قاد هواري بومدين يرحمه الله معركة لاتقل أهمية عن تلك التي كانت تجري على جبهات القتال ، ذهب إلى الأتحاد السوفيتي أثناء سير المعارك ليضمن إمدادات السلاح للمقاتلين على جبهات القتال وكانت وقفته قوية ومؤثرة غير أن السوفييت على مايبدو لم يكونوا على ثقة كاملة من قدرات المقاتل العربي ، تلكأوا وماطلوا وساوموا ولم يراعوا أن كل لحظة تمضي تعني أن الأسلحة والذخائر في أيدي المقاتلين البواسل على الجبهة تتناقص باستمرار والأهم أن المزيد من الشهداء كانوا يتساقطون وأن لحظة لابد آتية يصير فيها مابيد العدو من سلاح أكثر بكثير ممابين أيدي مقاتلينا ، ونظرة على الجانب الآخر كانت تؤكد أن الحرب في ظل تلكؤ السوفييت قد تنتهي بكارثة جديدة .. أذكر أن اخي رحمه الله عقب الحرب مباشرة وكان أحد الذين حرروامدينة القنطرة شرق قال لي وهو يروي ماحدث : لقد كنا في نزهة ، لقد فتكنا بهم ولقناهم درساً قاسياً حتى يوم السادس عشر من أكتوبر ، لم يكن لسلاح الجو الأسرائيلي أي وجود في سماء المعركة لكن منذ السادس عشر وجدنا سماء المعركة تعج بطائرات العدو ، كان واضحاً أن ترسانة الأسلحة الأمريكية قد فتحت أبوابها على أرض المعركة ، وأننا أضطررنا لقبول وقف إطلاق النار وإلا خسرنا كل شئ..
نجح العرب في الحرب لكنهم فشلوا في السلام وكعادتهم الأبدية بدأوا يتبادلون الأتهامات ويرمون بعضهم البعض بالخيانة .. كان النجاح أكبر من كل توقعاتنا فنسينا أن نتفق على مايجب أن نعمله إن جنحوا للسلم .. ومنذ خمسة وثلاثين عاماً وحتى اليوم ونحن لانتفق على إدارة معارك السلام التي تحتاج لوحدة الصف والأتفاق على الحدود الدنيا لما نرضى به اكثر من حاجتنا للأتفاق على مجريات الحرب .
**
كلمة أخيرة لكل أولئك الذين لايعجبهم العجب ويلوكون كلمات الخيانة والعمالة والتخاذل دون تبصر ولابصيرة .. فلنتفق على أن الرجل رحمه الله قد تحول بين عشية وضحاها إلى خائن وعميل ، وأنه قد باع القضية وقبض الثمن بل وأكثر من ذلك فلنتفق على أنه وضع خليفة له يحمل جينات العمالة والخيانة .. وإلى آخر تلك الأتهامات التي لاتقف على ساقين .. لنتفق على كل هذا .. هذا الرجل قد تخلى بزعمهم عن القضية منذ مايزيد عن ثلاثين عاماً (نوفمبر1977) وأنتم دول مستقلة وذات سيادة وأعضاء في هيئة الأمم والمنظمات الدولية سواء بسواء مثل دويلة اسرائيل التي مازالت تحتل أجزاء غالية من أراضينا .. هل يتطوع أحدكم فيخبرنا ماذا فعل الأخوة النشامى منذ ثلاثين عاماً ومنذ اكتشفوا فجأة أن حليف الأمس قد خان وباع وتآمر ؟.. كم طلقة أطلقوا في اتجاه العدو وبالمقابل كم طلقة استقرت في صدور أشقائهم ؟
أم ترى حرب أكتوبر قد تحولت إلى حائط للمبكى نذرف عليه الدموع كلما هبت ذكراها ثم نجدد صيحات الأتهام بالخيانة والعمالة لرجل مات وشبع موتاً وصار أثراً بعد عين ؟
د. محمد فؤاد منصور