المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الإمبراطورية الوهم !!!



ناصر عبد المجيد الحريري
16/10/2008, 01:59 PM
الإمبراطورية الوهم !!!
الولايات المتحدة ليست السلطة العظمى!!!!
(1-3)

بدأ الجدل الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية ، حول الإمبراطورية.- وهذا ليس بالأمر الجديد- إذ أن الولايات المتحدة تهيمن على العالم كما لم تفعل أية دولة من قبل. لقد برزت الولايات المتحدة قوة "عظمى وحيدة بعد الحرب الباردة ولم يكن لها أي منافس من الجانب السياسي الطبيعي أو الجانب العقائدي المذهبي فأوروبا منسحبة تماماً واليابان في حالة ركود. وبعد نصف قرن من احتلال اليابان وألمانيا مازالت أمريكا توفر لهما الأمن وهما أكبر ثاني وثالث قوة اقتصادية في العالم. إن القواعد العسكرية الأمريكية وحاملات الجند تلف العالم. وهنالك مشاركة أمن شبه رسمية بين روسيا والولايات المتحدة. والصين وضعت نفسها تحت سيطرة الولايات المتحدة على الأقل حالياً. ولأول مرة في العصر الحديث استطاعت أعظم دولة في العالم أن تدير مسرح الأحداث الدولية دون تقييد من القوى العظمى الأخرى.. لقد دخلنا العصر الأمريكي أحادي القطب.
غالباً ما تكون السلطة خافتة الصوت أو مقنّعة ولكن عندما تنكشف وتُفهم على أنها سيطرة فإنها تستدعي ردة فعل لا مناص منها. إذا استعدنا ما قاله "جورج كليمنصو" الذي كان سياسياً شاباً عن حالة الاستقرار التي أنهت الحرب الفرنسية-البروسية: "تعتقد ألمانيا أن منطق نصرها يعني السيطرة بينما لا نعتقد أن منطق هزيمتنا يعني العبودية" وبعد نصف قرن في "فيرساي" سيفرض سلام مؤلم على ألمانيا المهزومة.
إن الجدل القائم حالياً حول الإمبراطورية ما هو سوى محاولة لتبرير الواقع أحادي القطب. إن التأكيد على أن الولايات المتحدة مصممة على الإمبراطورية ليس بالأمر الجديد. فالكاتب البريطاني "هارولد لاسكي" وهو سياسي في حزب العمل أثار فكرة
الإمبراطورية الأمريكية التي تلوح في الأفق في عام 1947 عندما قال أن: "أمريكا تتخطى العالم بقدميها كتمثال ضخم.. فلا روما في أوج سلطتها ولا بريطانيا العظمى في قمة تفوقها الاقتصادي تمتعت بنفوذ مباشر وعميق ومتغلغل كهذا" وفي الواقع أن "دين آكسون" ومهندسون آخرون في فترة ما بعد الحرب كانوا معجبين جداً بالإمبراطورية البريطانية. وفيما بعد وأثناء حرب فيتنام كان المفكرون من جناح اليسار والمؤرخون قد تتبعوا الاندفاع المتأصل نحو النزعة العسكرية والإمبراطورية عبر تاريخ السياسة الخارجية لأمريكا. إن عميد هذه المدرسة "ويليام آلبتون" ويليامز طرح في كتابه (مأساة الدبلوماسية الأمريكية) أن مثالية الأمة دمرها السعي الإمبريالي نحو القوة والجشع الرأسمالي.
اليوم.. مصطلح الإمبراطورية الأمريكية مدعاة لتفاؤل البعض ومدعاة للاستخفاف والسخرية والشعور بالخطر بالنسبة للبعض الآخر. يحتفل المحافظون الجدد بالتطبيق الإمبريالي للسلطة الأمريكية التي نجدها في طبعة حديثة "لروديارد كيبلنغ" "أعباء الرجل الأبيض" كقوة تحررية تعزز وجود الديمقراطية وتحد من الاستبداد والإرهاب والعدوان العسكري وانتشار الأسلحة. وفي غضون ذلك نجد النقاد الذين يعرفون الإمبراطورية الأمريكية المنبثقة، يقلقون من الأعباء المالية غير المقبولة وآثارها المزعجة على الديمقراطية والتهديد الذي تفرضه على المؤسسات والحلفاء الذين طالما صانوا المصالح القومية الأمريكية منذ الحرب العالمية الثانية.
القوة الأمريكية خارقة .. ولكن خرقاء !!!!
لا يوجد أحد لا يوافق على أن القوة الأمريكية خارقة وإنما موضوع الجدال حول الإمبراطورية هو في سمات ومنطق الهيمنة الأمريكية. فالولايات المتحدة ليست مجرد قوة عظمى تسعى وراء مصالحها وإنما هي أساس النظام في العالم فعلى مدى عقود ومع دعم أكثر من مقاومة الأمم الأخرى وطدت أمريكا نظاماً عالمياً صريحاً ويعتمد على القوانين. إن الكم الديناميكي الكبير من القدرات الأكبر من المعتاد، والمصالح، والمثاليات فإن أمريكا تشكل مشروعاً أمريكياً في الانتشار العالمي لم يسبق له مثيل. وفي مختلف الأحوال والظروف لابد للدول الأخرى من التوصل إلى تفاهم أو العمل على إصلاح هذا النظام المتقلب.
كثيراً ما يصف الدارسون العلاقات الدولية على أنها تفاعل بين الدول ذات السيادة في عالم تعمه الفوضى.
في نظام العالم "الوستفاليان" الكلاسيكي كانت الدول تحتكر استخدام القوة في المناطق الخاصة بها بينما كان يتم حفظ النظام على المستوى الدولي من خلال انتشار السلطة بين الدول، ولكن عالم اليوم أحادي القطب قلب الصورة إلى ضدها. تحتكر أمريكا اليوم تقريباً استخدام القوة عالمياً وعلى المستوى المحلي في هذه الأثناء تصبح تصرفات الدول ومؤسساتها مكشوفة لفحص عالمي –أي أمريكي. منذ اعتداءات 11 أيلول كان لتأكيد إدارة بوش على "السيادة المعسكرة" والحق في الحركات الإجهاضية قد جعل هذا التحول واضحاً جداً. إن نشوء أحادية القطب وعدم التجهيز لسيادة الدولة في آنٍ معاً إنما هو تشكيل سريع الزوال.
ولكن هل سيكون في هذه الصياغة السياسية الناتجة إمبراطورية؟ وإذا كان الأمر كذلك هل ستعاني الإمبراطورية الأمريكية مما واجهته الإمبراطوريات العظيمة في الماضي: نهب ثروات العالم لتحقيق طموحاتها، الإفراط إلى حد التوسع بلا نهاية، سوء الحساب، المعارضة المتزايدة التي ستسرع من انهيارها؟
إن مصطلح إمبراطورية يشير إلى السيطرة السياسية لبلد مهيمن على السياسات الداخلية والخارجية للبلدان الضعيفة. وقد كانت إمبراطورية المستعمرات الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر الشكل الأكثر رسمية ومباشرة لهذا النوع. إن مناطق النفوذ السوفييتية في أوروبا الشرقية كانت تستلزم شكلاً قسرياً مماثلاً ولكن أقل مباشرة في السيطرة. لقد تضمنت الإمبراطورية البريطانية كلاً من الحكم الاستعماري والإمبراطورية اللارسمية.
إذا عرّفنا الإمبراطورية بشكل أوسع على أنها النظام الهرمي في العلاقات السياسية يكون فيه للدولة الأقوى حق تطبيق النفوذ الحاسم والفاصل فإن الولايات المتحدة اليوم تتوفر فيها حقاً هذه المؤهلات.
وإذا كانت الولايات المتحدة إمبراطورية فإنها لم يسبق لها مثيل ولتتأكد من ذلك فإن لها باعاً طويلاً في ملاحقة السياسات الإمبريالية الخام والأبرز ذكراً في أمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. ولكن بالنسبة لأغلب الدول فإن النظام الذي تقوده أمريكا هو قابل للتفاوض حيث أنها تسعى للمشاركة مع الدول الأخرى للتوصل إلى شروط يقبلها كلا الطرفين وهذا صحيح من ثلاث نواحٍ: أولاً- لقد أمنت الولايات المتحدة المنافع العامة وخصوصاً نشر الأمن ودعم نظام التجارة الحرة مقابل تعاون الدول الأخرى. ثانياً- تتم ممارسة السلطة في النظام الأمريكي من خلال القوانين والمؤسسات وسياسات القوة التي ماتزال موجودة ولكن السلطة التحكمية وغير المقيدة هي السائدة. وأخيراً- يتم إعطاء الولايات الضعيفة ضمن النظام الذي تقوده أمريكا فرصة التعبير عن الرأي كوصول غير رسمي إلى عملية وضع السياسة للولايات المتحدة والمؤسسات الحكومية العالمية التي تكون النظام الدولي. إن هذه الصفات للنظام العالمي في مرحلة ما بعد عام 1945 هي التي قادت ببعض المؤرخين مثل "تشارلز ماير" في أن يتحدث عن "الإمبراطورية الرضائية" والتي جعلت "جيرلوندستاد" يتحدث عن "إمبراطورية الدعوة". إن النظام الأمريكي ذو تسلسل هرمي وتتم المحافظة عليه في النهاية من منطلق القوة العسكرية والاقتصادية ولكنه موضوع في خدمة نظام واسع من الديمقراطية والرأسمالية.
فالأساس إذاً في الجدل حول الإمبراطورية الأمريكية يتوقف على تأصل هذه المواصفات وشموليتها وفيما إذا كان تأكيدها على القوة منذ 11 أيلول يشكل قطيعة أساسية للماضي التحرري.

أحزان الإمبراطورية :
في كتابه "أحزان الإمبراطورية" يقدم "تشالمرز جونسون" الادعاء المشوش أن القوة العسكرية لأمريكا في عهد الحرب الباردة ونظام القواعد المنتشرة على نحو واسع في العقد الماضي قد تم تعزيزها ودمجها في شكل جديد من الحكم الإمبريالي العالمي. لقد أصبحت الولايات المتحدة وفقاً لرواية "جونسون" قوة عسكرية ماحقة هدفها السيطرة على العالم.
وطالما يدفعها مبدأ الانتصار العسكري والإحساس المبالغ فيه بالتهديد وعقدة خدمة الذات عسكرياً وصناعياً فإن هذه القوة الماحقة تحكم قبضتها على أغلب العالم. لقد حل البنتاغون محل وزارة الدولة في صياغة السياسة الخارجية وقد أصبح الضباط العسكريون في إدارات المناطق حاكماً عسكرياً ودبلوماسياً مقاتلاً يوجه المد الإمبريالي الأمريكي. ويخشى جونسون أن تفسد هذه الإمبراطورية العسكرية الديمقراطية، وتفلس الأمة، وتوقد شرارة المعارضة وتنتهي آخر المطاف إلى الانهيار الذي آل إليه الاتحاد السوفييتي.
بهذا التصوير تكون الإمبراطورية العسكرية الأمريكية شكلاً جديداً من الهيمنة. يصف جونسون هذا على أنه خديعة الحماية الدولية:
معاهدات دفاع مشتركة، استشارات عسكرية، قوات عسكرية تتمركز في بلاد أجنبية لمقاومة تهديدات تم التعبير عنها بشكل ضعيف، هشة أو غير موجودة. إن هذه الاتفاقيات خلقت دولاً مستقلة ظاهرياً على المحطات الفضائية في حين تدور علاقاتها الخارجية حول الدولة الإمبريالية. يطرح جونسون فكرة أن هذا التنوع في شكل الإمبراطورية كان رائده الاتحاد السوفييتي أثناء الحرب الباردة في أوروبا الشرقية والولايات المتحدة في شرق آسيا. إن الإمبراطوريات العظمى في الماضي مثل إمبراطورية الرومان وسلالة هان في الصين حكموا مقاطعاتهم بإقامة المخيمات العسكرية الدائمة في المناطق التي تم الاستيلاء عليها. أما الإمبراطورية الأمريكية فقد لجأت إلى الابتكار لأنها لم تعتمد على كسب مزيد من الأراضي وإنما جعلت من نفسها إمبراطورية القواعد.
إن هجوم جونسون العنيف هذا يؤكد أن مناطق النفوذ الأمريكية بعد عام 1945 في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية إنما كانت قسرية واستغلالية مثل نظيرتها السوفييت.
يؤكد جونسون أن نظام الأمن في الحرب الباردة المعتمد على الحلفاء والقواعد إنما نشأ على تهديدات مصطنعة وتدفعه الرغبة الشديدة في التوسع. لم تكن الولايات المتحدة تتصرف من منطلق دفاعها الذاتي وإنما كانت تستغل كل فرصة سانحة لإنشاء الإمبراطورية.

الإمبراطورية الوهم !!!
الولايات المتحدة ليست السلطة العظمى!!!!
(2-3)

لقد تشابه الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة وفقاً لهذا الجدل أكثر مما اختلفا: فكلاهما فرض الجانب العسكري على مجتمعه وسياسته الخارجية وتوسعوا خارج بلادهم وأنشئوا حكماً امبريالياً من خلال النظام المعتمد على الدول العميلة والاتكال السياسي.
من وجهة نظر جونسون تمثل نهاية الحرب الباردة فرصة وأزمة للحكم الأمريكي العالمي: فرصة لأن مناطق النفوذ السوفييتي أصبحت الآن مكشوفة للتوسع الإمبريالي، وأزمة لأن سقوط الاتحاد السوفييتي ألغى تبرير النظام العالمي لوجود القواعد البحرية، ميادين الطيران، الحاميات، أعمدة الالتقاط الجاسوسية، والمناطق الإستراتيجية المحاذية لأراضي أجنبية. ولم يكن بالإمكان حل هذه الأزمة إلا بهجمات 11 أيلول إذ توفر لبوش فجأة عذر لتوسيع الهيمنة العسكرية الأمريكية كما سمحت هجمات 11 أيلول لأمريكا بأن ترمي ورقة التين عن شراكتها مع الحلفاء.
وأصبحت واشنطن الآن تستطيع حل نفسها من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وحتى من القانون وأن تبدأ حكماً امبريالياً مباشراً. لسوء الحظ أن جونسون لم يقدم نظرية مترابطة منطقياً لما يجعل أمريكا تسعى وراء إقامة الإمبراطورية. لقد قال بأن "الإمبراطورية العسكرية الأمريكية قد تأسست على مجموعة معقدة وواسعة من المصالح والالتزامات والمشاريع". لقد أصبحت إمبراطورية القواعد ترعاها المؤسسات ضمن إطار عسكري وقد اتخذت لها حياة خاصة بها. ولكن لا توجد مناقشة للقوى التي ترفض أو تعارض الإمبراطورية داخل السياسة الأمريكية.
ونتيجة لذلك فإن جونسون يجد الإمبريالية في كل مكان وفي كل شيء تفعله الولايات المتحدة، في قبولها للأسواق المفتوحة، والدمج الاقتصادي العالمي وفي سعيها لمكاسب اقتصادية ضيقة. يذكر جونسون القليل عن المجتمعات التي من المفترض أنها تحت سيطرة واشنطن. لا تكون الهيمنة والاستغلال طبعاً دائماً بدهية.
إن المواثيق العسكرية والشراكات الأمنية هي جزء واضح من تكوين السلطة العالمية الأمريكية التي تعزز الحكومات الهشة الفاسدة لإسقاط الضوء على النفوذ الأمريكي. ولكن تستطيع البلدان أيضاً استخدام روابط أمنية مع الولايات المتحدة بحيث تكون لصالحها هي. ربما تكون اليابان شريكاً أمنياً ثانوياً ولكن الحلف بين أمريكا واليابان يضيع على اليابان فرصة تعزيز قدرتها العسكرية التي من شأنها أن تزعزع الاستقرار في شرق آسيا.
وللبلدان خيارات أخرى أيضاً: أن بإمكانهم، وهم غالباً يفعلون، النجاة من الهيمنة الأمريكية بأن يطلبوا من أمريكا الرحيل. لقد فعلت الفلبين هذا و ربما تكون كوريا الجنوبية الثانية. إن تنوع وتعقيد روابط الأمن الأمريكية مع الدول الأخرى يجعل من وجهة نظر جونسون المبسطة عن السيطرة العسكرية أمراً مضللاً.
في الواقع أن نظام التحالف الأمريكي –الذي بقي سليماً لا يصاب بأذى ملحوظ بعد نصف قرن- ساعد في خلق فضاء سياسي رحب ومستقر. إن الأمن المشترك ليس مجرد أداة للسيطرة الأمريكية وإنما هو أداة للبناء السياسي. ولكن جونسون يهمل التعقيد الواسع للقوانين والمؤسسات التي تدعمها أمريكا وأطراف متعددة والتي تضفي صفة العمق والتعقيد على النظام الدولي. يتضح في النهاية أن الولايات المتحدة تستطيع أن تفعل ما يحميها من إدانات مثل إدانة جونسون كالتراجع إلى حدودها وتسهيل العيش.


أمريكا تمثال ضخم فقط :
في كتابه "التمثال الضخم" يقول "نيال فيرغسن" أن الولايات المتحدة إمبراطورية في الواقع وقد كانت كذلك منذ زمن طويل. ولكنها بالنسبة "لفيرغسن" فهي إمبراطورية تحررية إذ ترفع راية القوانين والمؤسسات وتكفل المنافع العامة بالمحافظة على السلام وتامين سلامة البحر والجو وإدارة نظام دولي في التجارة والتعامل المالي. ليست الولايات المتحدة التقليد المثالي وإنما الوارث الطبيعي للنظام البريطاني في حكم العالم. إنها حرة متكاملة وتميل إلى القوانين غير الرسمية. ووفقاً لرأي "فرغسن" فإن الخشية هي ألا يحظى العالم بالكثير من الإمبراطورية الأمريكية. والقادة الأمريكان رغم نواياهم الحميدة يبدو أنهم مترددين بشكل غير معتاد.
من وجهة نظر "فيرغسن" تتقاسم الولايات المتحدة الكثير من الصفات مع الإمبراطوريات الماضية. فكما أن روما منحت حق المواطنية "فإن أمريكا قد منحت وسام القلب الأرجواني لكل جرحى الحرب في العراق كما منحت حق المواطنية الأمريكية لعدد من الجنود الذين خدموا في حرب العراق كتقليد لما كان عليه الحال يوماً من أن خدمة الجيش تمنح صفة المواطنية في عهد الإمبراطورية الرومانية". ويقول "فيرغسن" في الواقع إن عمارتها الكلاسيكية وعاصمتها والبنية الجمهورية لدستورها فإن الولايات المتحدة تمثل روما الحديثة أكثر من أية إمبراطورية سابقة.. روما حديثة يحكم فيها مجلس الشيوخ قبضته على من سيكون الإمبراطور" إن الانتشار الواسع للغة الأمريكية وأفكارها وثقافتها كل هذا يجعلها مدعاة للمقارنة مع روما في أوجها. و"فيرغسن" مفتون أيضاً بنظيرتها الإمبراطورية البريطانية. إن رؤساء الولايات المتحدة بدءاً من "وودرو ويلسن"، "فرانكلين روزفلت"، "جون ف كندي"، إلى "رونالد ريغان"، "بل كلنتون"، و"جورج دبل يو بوش" قد حشدوا قواهم للعمل على تعزيز المبادئ المثالية التحررية العظيمة في الانفتاح الاقتصادي والديمقراطي والحكومة المحدودة والكرامة البشرية ودور القانون.. "إستراتيجية الانفتاح" التي تشبه إلى حد كبير حسب ما يقول "فيرغسن" طموحات الإمبراطورية البريطانية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لقد قال "ونستون تشرشل" الشاب أن الهدف من الإمبراطورية البريطانية هو "إحلال السلام بين القبائل المتقاتلة، إقامة العدل مكان العنف، تحطيم أغلال العبودية، انتزاع الغنى من التراب، زرع البذور الأولى للعلم والاقتصاد، زيادة قدرة الشعوب على السعادة وإبادة أي فرصة للألم
. أما الجانب المميز في الإمبراطورية الأمريكية حسب رأي فيرغسن أنها نشأت تحت اسم العداء للامبريالية وعلى كل مرحلة من تاريخ أمريكا يزخرف فيرغسن بشكل أنيق كل التوترات الناشئة بين المثاليات الجمهورية وممارسة السلطة الدولية ويبين كيف تم حل أي توتر حاصل بينهما. إن الحرب الباردة –ومبدأ جورج كنان لمنع انتشار العقائد المعادية – يقدمان مثالاً جوهرياً على التشويش بين السلطة القوية والعداء للامبريالية. إن الأمن والانفتاحية، والمجتمع الديمقراطي، والاتفاقيات السياسية وتجنيد القوة الأمريكية كلها تسير جنباً إلى جنب. إن جوهر الحكم الأمريكي للعالم يتضمن فرض وتعزيز قوانين الانفتاح الاقتصادي ولكن الولايات المتحدة رغبت باللجوء على القوة لدمج البلدان الأخرى في النظام التحرري. إن الادعاء الممتع الذي طرحه فيرغسن هو أن العالم يحتاج إلى مزيد من هذه الإمبراطورية الأمريكية التحررية. ويتفرع هذا النقاش جزئياً من الادعاء الذي لا خلاف فيه من أن النظام الدولي الحالي يحتاج إلى قيادة مستنيرة والتي لا تتوفر إلا في واشنطن. (لدى فيرغسن أملاً ضئيلاً في أن تتغلب أوروبا على سبق امتلاكها بالتناقضات الداخلية لتوسعها) إن في واشنطن النظام الواسع للسيادة والدول التي أخفقت تحتاج إلى إشراف إمبراطوري من واشنطن. ففي مناطق صغيرة كثيرة من أفريقيا وفي آسيا والشرق الأوسط قاد تطبيق مبدأ تقرير المصير إلى الكثير من المآسي. يقول فيرغسن عن فقدان الكفاءة والأهلية "أن تجربة الاستقلالية السياسية وخصوصاً في أفريقيا كانت كارثة حقيقية بالنسبة لأغلب البلدان الفقيرة" ويقول فيرغسن أن توسيع الإمبراطورية التحررية إلى هذه المناطق وحتى إذا لزم الأمر تطبيق شكلاً ما من الحكم الاستعماري يعتبر أمراً ضرورياً. ولكن الكيفية التي ستكون عليها هذه الإجراءات والتدابير الإمبراطورية تبقى غير واضحة بعد.
عندما يقول فيرغسن أنه يؤيد الإمبراطورية من حيث المبدأ فإنه إلى حد ما يعبر عن براعة في الخداع فما يقصده فيرغسن بالإمبراطورية التحررية هو ما سماه الدارسون من قبل سيطرة دولة على دولة أخرى وهو ترتيب هرمي مايزال مختلفاً تماماً عن الأشكال التقليدية للإمبراطورية. إذ بتمتعها بالسلطة فإن الدولة المسيطرة يمكنها أن تتصرف وفقاً لمصالحها على المدى الطويل أكثر من النزاع على مكاسب قصيرة الأمد مع الدول الأخرى ويمكنها أن تحدد مصالحها القومية بانفتاحية واستقرار نظام أوسع. وبهذا فإن الولايات المتحدة تصيغ وتهيمن على النظام الدولي بضمان منافع الحكومات الأخرى التي تعلن إذعانها لها. وبما يتناقض مع الإمبراطورية فإن هذا النظام الذي يتم بالتفاوض يعتمد على الاتفاقيات المتعلقة بقواعد النظام بين الدولة التي تتولى القيادة والأطراف الأخرى.
وبهذه الطريقة فإن القواعد والمؤسسات التي تطورت حول السيطرة الأمريكية تحد من التطبيق القسري للسلطة الأمريكية ويجر الدول الأخرى إلى إدارة النظام.
إن حجة فرغسن عن فضائل الإمبراطورية الأمريكية تتوقف على ادعائه أنه عقب الآثار الناتجة عن كارثة انهيار الاتحاد السوفييتي كان للعالم أن ينقسم في طريقين: دول مستقلة في نظام دولي منظم أو السيادة الأمريكية. وهو يؤكد أن عالم من اللامركزية والدول المتنافسة حيث العديد منها لا يتمتع بالديمقراطية سوف يؤدي إلى فوضى عارمة. ربما كان هذا صحيحاً وهو بالتأكيد مصيب في فكرة أن الاستقرار والأسواق المفتوحة ليس من السهل الحفاظ عليها دون دعم دولة قوية. ولكن فكرة الإمبراطورية التحررية تدمج أنواعاً مختلفة من الأنظمة التي تقودها أمريكا حيث أمريكا تفرض بالقوة إذعان الدول الأخرى لها وهذا يختلف تماماً عن نظام القوانين التي تؤيدها جميع الأطراف والشراكات الحميمة. يقول فيرغسن أن أفضل طريقة لمواجهة تحديات السلام والتطور الاقتصادي هي في أن تعمل الديمقراطيات الحديثة معاً. وفي النهاية إن نظاماً تعاونياً كهذا يتطلب من واشنطن أن تتجاوز عادات الأسلاف من الإمبراطوريات بدلاً من أن تسعى إلى إدراك كامل لها.

وفي النهاية يجد فيرغسن أن تطبيق صورة الإمبراطورية مفيد لأسباب سياسية. فعلى خلاف الإنكليز لا يرى الأمريكان أنهم يديرون إمبراطورية وكنتيجة لذلك تقيم الولايات المتحدة سلطة سريعة الزوال وقليلة الاحتمال (وهذا يناقض الإنكليز الذين احتاجوا إلى ذكاء وعقلية ثقافية للوصول إلى حكم العالم) يعتقد فيرغسون أن التحدث بأمانة عن واقع الإمبراطورية الأمريكية سوف يعزز فهم واجباتها والتزاماتها.
ومع ذلك فالعكس صحيح إذ لا تحتاج الولايات المتحدة أن تنظر إلى العالم من خلال حكمها له وأن تنشر مستعمراتها في مساحات واسعة وإنما تحتاج إلى إيجاد سبل لممارسة سلطتها بطريقة شرعية تحظى بالتأييد وأن تعمل مع الآخرين لتطوير أشكال معقدة أخرى من الحكم الدولي المشترك. ومن المشكوك فيه أن يقبل الشعب الأمريكي عبئاً إمبراطورياً ضخماً كهذا ففي الفترة الماضية وحالما أعلن الرئيس بوش الثمن الذي تكبدته أمريكا في غزو العراق هبط الدعم الشعبي هبوطاً حاداً على الفور.



الإمبراطورية الوهم !!!
الولايات المتحدة ليست السلطة العظمى!!!!
(3-3)

أمريكا أمبراطورية خائفة :
"إمبراطورية الخوف" لبنيامين باربر تقدم قضية ضد الاندفاع أحادي الجانب في السياسة الخارجية الأمريكية الحديثة. يقول "باربر" أن الإمبراطورية ليست أمراً متأصلاً في السيادة الأمريكية وإنما هي تحريض استسلمت له إدارة بوش بشكل متزايد. وفي مواجهة الإرهاب التي تأرجحت أمامه واشنطن ما بين الاحتكام إلى القانون وتقويضه. إن فرضية باربر تقول أن إحداث حق بفعل أحادي الجانب، الحرب الوقائية وتغيير النظام فإن الولايات المتحدة تقوض هيكل التعاون والقانون اللازمان لمحاربة فوضى الإرهاب. إن السياسة الخارجية المواجهة نحو استخدام القوة العسكرية ضد الدول المتمردة تعكس سوء فهم لنتائج الاتكال المتبادل للدول وصورة الديمقراطية. ليس بإمكان واشنطن أن تدير نظاماً عالمياً من خلال الفعل العسكري والخوف من الإرهاب. ببساطة لن تكون الإمبراطورية الأمريكية طويلة البقاء.
بالنسبة لباربر يتفوق منطق العالمية على منطق الإمبراطورية: إن انتشار "عالم ماكدونالد" يقوض الإستراتيجية الإمبراطورية العظيمة. إن أمريكا من عدة جوانب اقتصادية وسياسية تعتمد على الدول الأخرى إلى حد كبير.. فالعالم معقد جداً واعتماد الدول على بعضها كبير جداً بحيث لا يمكن حكم هذا العالم من مركز إمبراطوري واحد. في "إمبراطورية الخوف" تحاول الولايات المتحدة ترتيب العالم من خلال قوة السلاح ولكن هذه الإستراتيجية بحد ذاتها مدعاة للهزيمة فهي تخلق دولاً معادية تهدف إلى إسقاط النظام الإمبراطوري ولا تكون شركاء مطيعين وأقل شأناً.
ويقدم باربر نظاماً عالمياً متحرراً أساسه القانون الذي يقره المجتمع البشري "يسعى البشر جميعاً ليصبحوا جماعة عالمية ضمن إطار عالمي من الحقوق والقانون ويتمثل في التعاون الثقافي والاقتصادي والسياسي وتؤيده كل الأطراف ويكون الفعل العسكري بالقدر الذي تسمح به أية سلطة شرعية سواء كانت الكونغرس أو المعاهدات متعددة الأطراف أو من خلال الأمم المتحدة" "وأما التهديدات الإرهابية فمن الأفضل مجابهتها بالديمقراطية كإستراتيجية وقائية" إذ تعمل الدول الديمقراطية معاً لتقوية وتوسيع التحرر.
إن الرؤية المثالية المبالغ فيها لباربر للحكم العالمي المتحرر تبدو أقل إقناعاً من تحذيراته من الحكم العسكري أحادي الجانب.
في الواقع أنه يقدم ملاحظة تحذيرية مفيدة لأولئك المتحمسين للإمبراطورية التحررية من جانبين: الأول- أن هنالك صراعاً بين هدفي الإمبراطورية التحررية وهما رفع راية قواعد النظام الدولي وتوظيف قوة عسكرية أحادية الجانب ضد أعداء النظام الأمريكي. ويوضح باربر أن واضعي السياسة المتحمسين غالباً ما يوقظون حس الخوف من الإرهاب لتبرير ممارستهم أحادية الجانب للقوة والتي بدورها تقوض القوانين والمؤسسات التي يدعون حمايتها. الثاني- إن التهديدات التي يشكلها الإرهاب وأسلحة الدمار الشامل ليست كافية لإضفاء صفة الشرعية على الإمبراطورية الأمريكية التحررية.. فأثناء الحرب الباردة عبرت الولايات المتحدة بصراحة ووضوح عن رؤيتها للمجتمع والتقدم في عالم حر تقوده الولايات المتحدة بسكب ممارسة أمريكا للقوة ضمن قالب الشرعية. ولكن من المشكوك فيه أن الحرب على الإرهاب- حيث أصبحت الدول في حالٍ ليست معنا وليست ضدنا- كان فيها من الإغراء الكثير لكسب دعم كافٍ يبرر النظام الذي تسيطر عليه أمريكا.
فصام سياسي ، سراب فكري:
يحذر "ميشيل مان" أيضاً من التحول الإمبريالي في السياسة الخارجية الأمريكية والذي لا يمكن البقاء عليه في النهاية ويقول أن هذه الإمبريالية الجديدة في إمبراطورية مفككة تدفعها رؤية متطرفة حيث القوة العسكرية أحادية الجانب تعزز الدور الأمريكي وتتغلب على الفوضى في العالم.
يعتقد مان أن مشروع الإمبراطورية يعتمد على قياس متضخم جداً للقوة الأمريكية، ربما تكون الولايات المتحدة موقع الرهبة في النفس من قدرتها العسكرية ولكن قدراتها السياسية والاقتصادية ليست بالقوة الساحقة وعدم وجود التوازن بين الجانبين دعا واشنطن إلى المبالغة في التأكيد على استخدام القوة. وبتحويل مطلب الإمبراطورية إلى فرط الثقة وفرط الفعالية العسكرية فإن النزعة العسكرية سوف تخلق ما يسميه مان "الإمبراطورية المفككة" التي تقوض دعائم القيادة الأمريكية وتزيد من عدد الإرهابيين والدول المشردة.
لقد قدم مان عملاً دراسياً مميزاً عن تاريخ السلطة الاجتماعية فهو كعالم اجتماع يقول بأن هنالك أربع أنواع من القوى التي تؤدي إلى نهوض أو سقوط الأمم والدول والإمبراطوريات والمناطق والحضارات وهي: عسكرية، سياسية، اقتصادية وفكرية.
ويختم "مان" قائلاً أنه بتطبيق هذه الفئات على الولايات المتحدة سنجد مجموعة مختلطة من الاستعارات المجازية: "العملاق العسكري، قائد اقتصادي ضئيل الشأن، الفصام السياسي، السراب الفكري".
ويعترف "مان" بأن الولايات المتحدة محور الاقتصاد العالمي وأن الدور الذي يلعبه الدولار كعملة الادخار الأولى يضفي مزايا هامة على المسائل الاقتصادية، ولكنه يعتقد أن القدرة الفعلية لواشنطن على استخدام التجارة والمعونات كوسائل ضغط سياسية يعتبر أمراً محدوداً جداً كما اتضح ذلك في فشلها لتأمين الدعم اللازم لبلدان مثل أنغولا، تشيلي، غينيا، المكسيك وباكستان في مجلس الأمن قبل الحرب على العراق.
والأكثر من ذلك أن الدول العميلة لواشنطن تفقد موثوقيتها بازدياد والذين كانوا سابقاً حلفاء لها تتقد لديهم نزعة العدائية للأمريكان. لم يعد في هذه الأثناء للثقافة وغايات المثل الأعلى الأمريكية البريق الذي كان لها في عهود سابقة. ورغم أن العالم مازال يرنو بإعجاب إلى الانفتاح في المجتمع الأمريكي واحترام الحريات الأساسية إلا أنه يتذمر من الإمبريالية الثقافية والتعدي الأمريكي على حقوق الآخرين. لقد شكلت مذاهب العصمة الدينية والقومية ثقافات تهدف إلى مقاومة مشروع الإمبراطورية الأمريكية.
يتفق كلاً من مان وباربر على نقطة هامة جداً وهي أن إقامة إمبراطورية على أساس الهيمنة العسكرية فقط أمر يكتنفه الفشل. وفي وصفهم لخصائص قيامها بذلك يصورون الولايات المتحدة على أنها تقدم الأمن مقابل إذعان هذه الدول لها- وهي تتصرف بذلك كدولة ذات نظام دكتاتوري لتحل مشاكل هذا العالم المقهور- إن واشنطن من خلال رؤيتها الإمبريالية تأبى القيام بدور الحكومات التي سبقتها وهي ترى بأن هذا هو الثمن الذي يجب على العالم أن يدفعه مقابل توفير الأمن له.
ولكن هذا النظام الذي تفرضه أمريكا قسراً لن يدوم إذ يرى باربر أن لدى الولايات المتحدة الكثير من التعاملات مع بقية دول العالم بحيث لا يمكنها ضبط هذا النظام دون ترتيبات معقدة للتعاون المشترك.
أما" مان" فيرى بأن من شأن الصدمة والرعب العسكري أن يضاعف من المقاومة وهو يستشهد بما قاله عالم الاجتماع "تالكوت بارسنز" الذي أشار قبل زمن بعيد إلى أن القوة الصرفة، على

خلاف السلطة المعتمدة على اتفاق الرأي، تؤول إلى الانكماش وكلما زاد استخدامها زادت سرعة تلاشيها.

- إمبراطورية الألغاز !!:
يعتقد كاتب المقالة الفرنسي إيمانويل تود أن الانحدار الذي تنبأ به مان وباربر منذ زمن طويل قد بدأ الآن. وبتفكير رغبي مليئ باللباقة الفرنسية يناقش تود أنه بعد الإمبراطورية سوف تتقلص الأهمية الجغرافية-السياسية للولايات المتحدة.. فالعالم ينسحب.. لا يدخل عهد الهيمنة الأمريكية. ربما كانت رغبة واشنطن أن تدير إمبراطورية تحررية ولكن العالم قادر ويزداد رغبة في أن يصد حتى الولايات المتحدة نفسها.
لقد استقى تود تنبؤاته من نظرة خلاقة إلى تحول العالم اقتصادياً واجتماعياً وإن كانت في النهاية ربما نظرة مشكوك بها. إنه يعترف بأن الولايات المتحدة قد لعبت دوراً هاماً جداً في إنشاء الاقتصاد العالمي في العقود التي تلت الحرب العالمية الثانية. ولكن تود في سياق حديثة يقول أن هنالك مراكز قوى جديدة ذات مصالح متباينة ومتباعدة قد نشأت في كل من آسيا وأوروبا في الوقت الذي كان الاقتصاد والمجتمع الأمريكي يصبح ضعيفاً وفاسداً. إن نقطة الضعف في القوة الأمريكية هو رفضها الآخذ بالأسباب لكي تتحمل نفقات إعادة بناء المجتمعات التي تجتاحها.. وفي غضون ذلك ومع ضعف الديمقراطية الأمريكية كان لانتشار الديمقراطية في العالم دعماً للمقاومة ضد واشنطن. ويعبر تود عن ذلك بقوله: "في الوقت الذي يمر فيه العالم بمرحلة من الاستقرار بفضل التحسنات في مجال التعليم والدراسات السكانية والديمقراطية يجد العالم نفسه على حافة اكتشاف أنه يمكن أن يتدبر أموره ويتقدم دون أمريكا.. في حين تدرك أمريكا في الآن ذاته أنها لا يمكن أن تتدبر كل أمورها دون بقية العالم".
هنالك معنيان تتضمنهما الحالة الغريبة التي آلت إليها أمريكا في أنها ذات اتكال اقتصادي وليست ذي نفع سياسي..
أولاً- لقد أصبحت أمريكا الناهب الأكبر لثروات العالم الاقتصادية وتؤازر نفسها من خلال نظام هش من الضرائب الثقيلة.. لقد فقدت قدرتها على أن توافق بين مكاسبها الاقتصادية والتقدم الاقتصادي للمجتمعات الأخرى.
ثانياً- إن الولايات المتحدة التي تزداد ضعفاً تلجأ إلى أفعال تعبر عن المزيد من اليأس والعدوانية بهدف الإبقاء على حالة هيمنتها على الدول الأخرى. ويعرف تود هذا الدافع بما حدث في العراق وإيران وكوريا الشمالية. إن تود في ادعاءاته المريبة يريد أن يقول بأن فساد الديمقراطية الأمريكية سيؤدي إلى نشوء طبقة حاكمة سيئة الإشراف والتي لن تعيق استخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد الديمقراطيات الأخرى حتى في أوروبا. وفي النتيجة كل هذا بالنسبة لتود يشير إلى انحلال الإمبراطورية الأمريكية.
إن تود محق في أن قدرة أي دولة على السيطرة على النظام العالمي يعتمد على قوتها الاقتصادية. ومع التحولات الحاصلة في الهيمنة الاقتصادية فإن أحادية القطب الأمريكية سوف تفسح المجال في النهاية لتوزيع جديد للسلطة. ولكن خلافاً لتشخيص تود فإن الولايات المتحدة مازالت تحتفظ لنفسها بكم هائل من المزايا الاقتصادية-الاجتماعية. وادعاء تود بأن زمرة جشعة من الأوليغاركيين المؤيدين لحكم القلة هم الذين لهم الغلبة على الديمقراطية الأمريكية ماهو ببساطة إلا ادعاء غريب. والأهم من هذا كله هو تأكيد تود على أن روسيا وقوى عظمى أخرى تحضر لتصبح بتوازن القوة الأمريكية الذي يغفل وجود نماذج أكبر من السياسات المبنية على أساس الجغرافيا السياسية. لقد سعت كل من أوروبا، اليابان، روسيا، والصين إلى الارتباط الاستراتيجي مع الولايات المتحدة وليس إلى مقاومتها. إنهم يسعون إلى تسوية الخلافات والنفوذ مع النظام القائم وليس إلى محاولة الانقلاب عليه. في الواقع أن القوى العظمى تقلق أكثر إذا كانت الولايات المتحدة منعزلة ومفككة على أن تكون حاكمة للعالم. في الحقيقة أن أكثر الانتقادات الموجهة إلى أحادية الجانب في الولايات المتحدة تعكس اهتماماً يتعلق بأن تتوقف الولايات المتحدة عن تأمين الاستقرار والأمن ولا تعكس الأمل في أن تنحدر وتتلاشى.

هل الولايات المتحدة إمبراطورية؟ إذا كان الأمر كذلك فإن إمبراطورية فيرغسن التحررية أكثر إقناعاً من إمبراطورية جونسون العسكرية. ولكن في النهاية تكون فكرة الإمبراطورية أمراً مضللاً وتفتقر إلى الجوانب المميزة للنظام السياسي العالمي الذي تطور حول قوة الولايات المتحدة.
لقد سعت الولايات المتحدة وراء السياسات الإمبراطورية وخصوصاً تجاه البلدان الضعيفة في المحيط. ولكن علاقات الولايات المتحدة مع أوروبا، اليابان، الصين، وروسيا لا يمكن أن تتصف بالعلاقات الإمبراطورية حتى لو أضفنا ملحقاً للمصطلح يضفي عليه صفة الحداثة أو التحررية.. فالديمقراطيات المتقدمة تعمل ضمن مجال الأمن الجماعي الذي يكون فيه استخدام التهديد أو القوة أمراً بعيداً عن التصور أو التطبيق، وتكون اقتصاديات هذه البلدان متماسكة ومتأصلة وهي تشكل معاً شكلاً من النظام السياسي يقوم على الصفقات الرابحة، وانتشار التبادل في شتى المجالات ومنظومة مرتبة من المؤسسات المتداخلة مع الحكومة وعلاقات العمل المتبادلة ذات الصلة بهذا الجانب. إن هذا ليس بالإمبراطورية، إنما هو نظام سياسي ديمقراطي تقوده أمريكا وليس له تسمية سالفة في التاريخ.
لقد أعلن المحافظون الجدد بصوت عالٍ في واشنطن عن رؤيتهم الإمبراطورية: إنه عهد من الحكم العالمي المنظم حول تطبيق القوة العسكرية الجريء من جانب واحد والتحلل التدريجي من قيود التعددية والسعي العدواني لنشر الحرية والديمقراطية، ولكن هذه النظرة تأسست على أوهام الإمبراطورية الأمريكية. وقد فشلت هذه النظرة في تقدير دور التعاون وقوانين تطبيق هذه القوة والمحافظة عليها. إن هذا السعي العدواني سوف يجرد أمريكا من شرعية وجودها كقوة عالمية بارزة، ويعرض سلطتها للشبهة والفضيحة. وفي النهاية يلتزم المحافظون الجدد الصمت حيال مجموعة كبيرة من التحديات العالمية والفرص التي تواجهها الولايات المتحدة. ويقول فيرغسن أن الأمريكان لا يرغبون بإدارة المستعمرات أو تدبر شؤون إمبراطورية عالمية وهكذا توجد حدود تحيط بالطموحات الإمبراطورية الأمريكية حتى في عصر القطب الواحد.
ونجد في النهاية أن الجدل القائم حول الإمبراطورية يتغافل عن أهم التطورات الدولية في السنوات الأخيرة:
السلام الذي حل لزمن طويل بين القوى العظمى مما يجعل بعض الدارسين يعتبرونه دلالة على نهاية الحروب العالمية. إن الرأسمالية، الديمقراطية، والأسلحة النووية كلها تساعد في تفسير هذا السلام، وكذلك أيضاً الطريقة الفريدة التي تتبعها أمريكا في إقامة نظام دولي.. لقد نشأ نجاح الولايات المتحدة من ابتكارها وتوسيعها لمؤسسات دولية حدث من السلطة الأمريكية وأضفت عليها صفة الشرعية.
تواجه الولايات المتحدة صراعاً بين الحكم التحرري والحكم الإمبراطوري ويتأصل كلاهما في كيان السياسة الأمريكية ولكن المخاطر والتكاليف التي تكتنف إدارة العالم كإمبراطورية أمريكية تعتبر عظيمة جداً كما أن إيمان الأمة العميق بحكم القانون لم يتلاشى. وعند إنجاز كل شيء ستكون رغبة الأمريكان في حكم العالم أقل من رغبتهم في خلق عالم تسوده القوانين.