المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : استهداف المسيحيين في الموصل ... تحت المجهر



عبدالوهاب محمد الجبوري
16/10/2008, 08:29 PM
استهداف المسيحيين في الموصل ... تحت المجهر

الباحث : عبدا لوهاب محمد الجبوري


المسيحيون في العراق شريحة عراقية مهمة من شرائح المجتمع العراقي مهما صغر حجمها أو كبر .. وبوجود هذه الشرائح وتعايشها بمحبة ووئام منذ آلاف السنين تتشكل الفسيفساء العراقية الزاهية بأبهى حللها وتتبلور صورة الوحدة الوطنية في الجسد العراقي ، فإذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى .. فهذه الشريحة مسالمة تؤمن بحب الوطن ووحدته ولا تؤمن بالعنف وحتى أحلامها بسيطة ومشروعة وتصب في وحدة النسيج العراقي ، وما لجأت يوما إلى السلاح لأنها ظلت محمية عبر قرون من الزمن بسماحة الإسلام وعدله ومساواته بين الرعية ، كما ظلت محمية بالجوهر الإنساني للوطنية العراقية كونها الأم الحاضنة الرحيمة لأبنائها من كل دين ومذهب وقومية ومنشأ اجتماعي ، ومن هنا فانه من الخطأ الاستراتيجي المزايدة على وطنيتها وانتمائها ومن العيب والمخجل أن يزج بها في أتون صراعات سياسية ومصالح حزبية ضيقة كي تكون ورقة سياسية أو مزايدات انتخابية محددة لهذا الطرف أو ذاك .. فقد شهدت محافظة نينوى ، ومركزها مدينة الموصل ، في الآونة الأخيرة قتل ما لا يقل عن 15 مسيحيا وتفجير ثلاثة منازل وتهديدات بالقتل والخطف مما تسبب في حركة نزوح لم يسبق لها مثيل في تاريخ العراق شملت حتى ألان أكثر من 2400 عائلة مسيحية باتجاه منطقة سهل نينوى شمال وشرق الموصل ..
وأشارت تقارير صحفية إلى أن منظمات مسلحة بدأت منذ بعض الوقت بتوزيع منشورات تهديد ، وقامت بقتل مسيحيين وتفجير منازل آخرين في الموصل لإجبار هذه الشريحة على النزوح إلى قراهم التي تشكل كتلة انتخابية غير مضمونة ، من ناحية ، ولإيجاد ظرف عصيب قد يدفع أولئك المسيحيين لتغيير قناعاتهم السياسية ، حسبما أوردته تلك التقارير .. وفي محاولة لمعرفة حقيقة هذه الأحداث المأساوية سنلقي الضوء على ابرز ردود الفعل والتعليقات الرسمية والشعبية التي مازالت تتفاعل على خلفيات عمليات التهجير هذه ..

ردود الفعل الرسمية والشعبية

لاقت هذه الجريمة البشعة استهجانا وإدانة واسعة في الأوساط السياسية والشعبية ، في وقت أعلن فيه رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي اتخاذ الإجراءات (الفورية اللازمة) لإعادة المسيحيين إلى الموصل بعد حركة نزوح جماعية اثر مقتل أكثر من خمسة عشر منهم والتهديد بالمزيد إذا لم يرحلوا ، وأكد بيان أن المالكي أمر بإجراء (تحقيق فوري حول أسباب هذا النزوح والجهة التي تقف وراءها ....)
وفي النجف أعلن مصدر في مكتب المرجع آية الله علي السيستاني الثلاثاء 14/10/ 2008 أن المرجعية الدينية العليا تشجب وتستنكر عمليات التهجير التي يتعرض لها المسيحيون في مدينة الموصل ، وقال المصدر رافضا الكشف عن اسمه لوكالة الصحافة الفرنسية (كون المرجعية تمثل حالة أبوية لكافة الطوائف العراقية ، فهي تعرب عن شجبها واستنكارها للممارسات اللانسانية التي يتعرض لها المسيحيون في الموصل) ، وأضــــــــاف أن المرجعية ( تطالب الحكومة باتخاذ إجراءات للحد من الاعتداءات ومنعها والعمل على عودة المــــهجرين إلى مناطقهم) .. كما أعرب مكتب التيار الصدري عن استنكاره لهذه العمليات وذكر أن مقتدى الصدر أوعز بإرسال وفد إلى ممثلي الطوائف المسيحية في بغداد معربا لهم عن تقديم كافة أنواع الدعم المادي والمعنوي لهم ..
وعلى صعيد الحكومة العراقية ذكر على الدباغ أن مجلس الوزراء قرر إرسال وفد من سبعة وزراء إلى الموصل لتتقصي الحقائق وتقديم الدعم لمعالجة الحالة والعمل على إعادة المهجرين ، وفي خبر لاحق أن هؤلاء الوزراء وصلوا الموصل وباشروا لقاءاتهم بالعوائل المهجرة لمعرفة تفاصيل أكثر عن هذه الأحداث وتطوراتها ..
وذكرت وكالة سي إن إن ( أن كلا من الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس الحكومة نوري المالكي أدانا الهجمات الأخيرة التي استهدفت أسراً عراقية من الطائفة المسيحية) ..
كما التقي الرئيس العراقي الأحد الماضي ، بسفير واشنطن لدى بغداد ريان كروكر لبحث هذا الموضوع دون معرفة تفاصيل اللقاء ..
وفي الوقت نفسه عقد نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي مؤتمراً صحفياً مع مجموعة من القيادات الروحية المسيحية، وقال خلال المؤتمر : (الدولة وأجهزتها الأمنية والقوات المسلحة عليها اتخاذ موقف موحد كي تقوم بدورها في هذه الظروف وحماية أخوانهم المسيحيين لأنهم شركاؤنا في إعادة بناء هذه الأمة) ..
وفي بغداد قال ممثل الأمم المتحدة الخاص في العراق ستافان دي ميستورا -في بيان نقلت وكالة الأنباء الفرنسية مقتطفات منه- أن الأمم المتحدة تراقب الوضع في الموصل عن كثب، وذكر دي ميستورا أن موجة العنف التي استهدفت الأقلية المسيحية تتزامن مع توتر متصاعد بسبب الخلاف على مدى تمثيل الأقليات في الانتخابات المحلية ..
على صعيد آخر ذكر موقع المحيط يوم 14/10/2008 أن المقاومة العراقية نفت علاقتها بالتهديدات التي وجهت للمسيحيين المقيمين في الموصل والتي تطورت خلال اليومين الماضيين إلى تنفيذ عمليات قتل لعدد من الأبرياء منهم ، وحسـب وكالات الأنباء أن تنظيم ( القاعدة ) نفى أي علاقة له بهذه العمليات فيما استبعد أيضا قائد عمليات وزارة الداخلية والمتحدث الرسمي باسمها اللواء الركن عبد الكريم خلف ضلوع تنظيم القاعدة في الهجمات التي تستهدف مسيحيي الموصل ، وقال في تصريحات خاصة بـ (راديو سوا) أن لدى الوزارة معلومات مهمة حول الجهات التي تقف وراء تلك العمليات الإجرامية وتوصلت إلى نتائج مهمة سوف تعلن خلال اليومين القادمين .. كما أصدرت هيئة علماء المسلمين بيانا نددت فيه بهذه الأفعال الإجرامية التي وصفتها بأنها أفعال لا يقرها الإسلام ولا تعاليمه السمحاء، التي عاش في ظلالها المسلمون وغيرهم من أبناء الديانات الأخرى في تسامح وامن وسلام قلّ نظيره في التاريخ الإنساني، حيث حفظ الإسلام حقوق الأقليات ونالت في ظله كامل حقوقها ..
وأصدرت حركة الوفاق الوطني بيانا شجبت فيه ما يتعرض له المسيحيون في الموصل ، معلنة عن تضامنها مع المسيحيين من (منطلق الشعور بالمواطنة ومبدأ التكافؤ المبني على أساس العدالة والمساواة وسيادة القانون) ..
كما استنكر ديوان الوقف السني عمليات تهجير واستهداف العائلات المسيحية والاعتداء عليها خلافاً لما تدعو إليه الشرائع السماوية ، وقال في بيان (إن الديوان يستنكر ويدين مثل هذه الأعمال الإجرامية التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين كونهم تعايشوا سلمياً مع إخوانهم من جميع الطوائف على مدى القرون الماضية) ..
وفي سياق متصل أدان رئيس التيار الوطني العراقي المرجع الديني الإمام حسين المؤيد بشدة ما يتعرض له المسيحيون في العراق من هجمة شرسة ومحاولات التضييق والتهميش معتبرا أن ذلك يشكل ضربة للسلم الأهلي والأمن المجتمعي والعيش المشترك ..
في وقت حمّل النائب أسامة النجيفي عن القائمة العراقية الحكومة مسؤولية ما تتعرض له الطائفة المسيحية في مدينة الموصل ، متهما ما اسماه (البيشمركة ) بالوقوف وراء عمليات التهجير القســـري التي يتعرض لها المسيحيون في المدينة ، الأمر الذي نفاه برلمانيون أكراد وعدّوه اتهامات انتخابية ، فقد نفى النائب عن التحالف الكردستاني عبد الباري زيباري ما أشيع عن تورط قوات البيشمركة الكردية في تهجير المسيحيين من مدينة الموصل خلال الأيام الماضية، واصفا تهجير المسيحيين بالأمر المخزي والمعيب بحق الشعب العراقي ،
وقال زيباري في حديث لـ (نيوزماتيك) أن (التصريحات التي تتحدث عن تورط قوات البيشمركة في تهجير المسيحيين من الموصل تأتي في إطار المزايدات السياسية، فضلا عن أنها تحاول لفت الأنظار عن المسئول الحقيقي عن هذه العمليات) ..
كما وأبدى أهالي الموصل اســـتياءهم واستنكارهم الشديدين من الحملة المنظمة لتهجير وقتل المسيحيين ، وقد اجتمع عدد من الوجهاء وشيوخ العشائر والعلماء من مدينة الموصل في الحمدانية وبعشيقة التابعتين لمحافظة نينوى للقاء العائلات المهجرة والتنديد بما تتعرض له من أعمال إجرامية من قبل عناصر مسلحة لا تريد الخير لهذا البلد ..
من جانبه أستبعد عضو مجلس النواب العراقي النائب عن الكتلة العربية للحوار الوطني عمر الجبوري إمكانية اتهام جهة بعينها بالوقوف وراء تهجير المواطنين المسيحيين من مدينة الموصل ، مشيرا إلى أن (العراق يشهد صراعا خفيا بين قوى متعددة خارجية وداخلية في محاولة للسيطرة على مقاليد الأمور بالبلاد) ، وأوضح الجبوري الذي ينتمي للتجمع التنسيقي البرلماني في حديث لـ(نيوزماتيك) أن (هجرة المواطنين المسيحيين تمت بسبب الوضع الأمني الحالي الذي يشهده العراق والذي يتيح لأجهزة المخابرات الدولية والإقليمية التدخل في الشأن العراقي بشكل كبير، فضلا عن أنه يأتي ضمن سياق الصراع بين جهات عراقية للسيطرة على بعض المحافظات ومن بينها محافظة نينوى) ..
أما المطران لويس ساكو، رئيس أساقفة كركوك ورئيس مجلس مسيحيي كركوك والموصل فقد أدان الحملة الهادفة لقتل وترحيل مسيحيي الموصل ، وقال في بيان له : ( نحن قلقون من حملة التقتيل والتهجير التي يتعرض لها مسيحيو الموصل) معتبراً أن هذه الممارسات تضر بالوحدة الوطنية، فالمسيحيون يريدون العيش بسلام ووئام مع كل العراقيين من اجل خير العراق ، وأضاف أن هذه الانتهاكات تمثل تهديدا للوحدة الوطنية التي نسعى جميعا لبنائها وان المسيحيين لا علاقة لهم بالسياسات التي تتعامل مع مستقبل البلاد ، محذرا من الانجرار وراء ما وصفها بسياسة التصفية وفق مخططات إقليمية وداخلية ، وطالب بعدم الانصياع وراء قوى الشر والظلام قائلا : ( لا استبعد أن تتم تصفيتنا وفق خطط إقليمية وداخلية لأنها جزء من مشروع الفوضى) موضحا أن استهداف المسيحيين يرمي إلى دفعهم إلى الهجرة أو التحالف مع جهات لا نتفق مع مشاريعهم ، لكن يجب التمسك بالوطن وعدم الانجرار وراء هذه الخطط ..
وفي نفس السياق اتهمت المنظمات المسيحية السلطات المحلية في الموصل بالتقاعس عن حماية المسيحيين ، وذكرت في بيان لها أنها تطالب الحكومة العراقية بتحمل مسؤولياتها بتوفير الأمن ووقف سفك دماء المواطنين الأبرياء ..
وأخيرا نقول :
بعد هذا الاستعراض الموجز لأبرز ردود الفعل والآراء التي طرحت من خلالها حول مرتكبي هذه الأفعال ، يبقى السؤال الذي لم نجد له إجابة رسمية حتى ألان : من يا ترى له مصلحة فيما حصل ولماذا في هذا الوقت الحساس والخطير من تاريخ العراق خاصة وانه مقبل على عملية انتخابات مجالس المحافظات قريبا ؟ ..
الإجابة على هذا السؤال قد تكون تكهنات أو وجهات نظر ما لم تقم الحكومة العراقية بإماطة اللثام عن هذه الأعمال خاصة وان المتحدث باسم الداخلية العراقية ذكر (أن لدى الوزارة معلومات مهمة حول الجهات التي تقف وراء تلك العمليات الإجرامية وتوصلت إلى نتائج مهمة سوف تعلن خلال اليومين القادمين )..
ومرت أيام ولم يعلن شيء رسمي حتى الآن كما وعد به رئيس الوزراء ووزارة الداخلية ونحن ما زلنا ننتظر ...
الذي يمكن قوله من باب الاستقراء أو الاستنتاج هو أن الجهات المعادية للعراق ، سواء أكانت محلية أو إقليمية أو دولية ، هي التي تسعى بشتى الوسائل لضرب وحدته الوطنية ومحاولة تمزيق نسيجه الاجتماعي وتجزئة البلاد وخلق الأجواء والمسوغات لاستمرار الاحتلال والتدخل الأجنبي في شؤونه الداخلية ..و إن ما حصل أمر مهين بحق الشعب العراقي وهو ذو أهداف مشبوهة لان المسيحيين مكون أساسي من مكونات الشعب العراقي ، وهم جزء من السكان الأصليين للعراق ، وتشير الدلائل أيضا أن هذه العمليات تأتي في وقت يتسم بالحساسية وسط أجواء من تصاعد التوترات السياسية والمصالح الناجمة عن مسألة تمثيل الأقليات في انتخابات المحافظات والتي لم يتم التوصل لحل بشأنها بعد ، وفي ضوء أطماع استحواذٍ خاصة ببعض القوى السياسية وأجندات خارجية مازالت تخطط لتحقيق أهدافها المعادية للشعب العراقي ..
والأمر الملح حاليا والمطلوب تنفيذه من قبل الحكومة العراقية هو وقف عمليات التهجير والتهديد للمواطنين المسيحيين وأعادتهم فورا إلى دورهم وتامين الأمن والحماية لهم كي يواصلوا حياتهم بشكل طبيعي بعد أن ترك طلاب الجامعات والموظفين وطلاب المدارس وأصحاب المصالح المسيحيين الدراسة في جامعاتهم ومدارسهم ومقرات عملهم ومصالحهم في مدينة الموصل ، وكذلك كشف نتائج التحقيق الذي وعدت به الحكومة ..
وإذا ما تم الإعلان فعلا عن نتائج التحقيق فان العدالة يجب أن تأخذ مجراها بتقديم المتهمين للقضاء واتخاذ الإجراءات اللازمة للحيلولة دون تكرارها مستقبلا .. والاستنتاج النهائي الذي يعتقده محللون وخبراء إستراتيجيون في الشأن العراقي هو أن هذه القضية وهذا الملف هو سياسي بحت ، وأن هذه الخطوات ربما تكون مدروسة ومتفق عليها بين لاعبين محليين و دوليين .. وأيا كانت صحة الاستنتاجات فان الأيام القادمة سوف تكشف حقيقة اللاعبين الرئيسيين في هذه الأحداث الخطيرة التي تمس امن البلاد ومستقبلها ..