المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في مخيّم اليرموك



غالب ياسين
17/12/2006, 10:56 AM
زرت دمشق ، بالأحرى مخيّم اليرموك ، في شهر واحد مرتين ، لا لشمّ الهواء ، ولا للتسوّق ، وبالتأكيد ليس للمشاركة في حوارات الطرشان الفلسطينيّة.

في المرّة الأولى ، وبعد أن فجعت بنبأ رحيل صديق العمر مأمون حيفاوي ، العميد ألركن في جيش التحرير الفلسطيني ، للمشاركة في (أربعينه) ، هو الذي رحل في اليوم الأوّل من شهر رمضان بنوبة قلبية .

تخرّج صديقي مأمون حيفاوي - المولود في صفد عام 1942 ، وأصل عائلته من حيفا - في الكليّة العسكريّة بحمص ، وبعد سنوات قليلة وقعت هزيمة 5 حزيران ، فحمل الكلاشنكوف وغادر ثكنات الجيش ، وتوّجه خفيفاً إلى أغوار الأردن ، ومن بعد جاب الجبال ، والتلال ، والوديان حتى جنوب لبنان .

هو عميد حقيقي ، وليس مّمن منحت لهم الرتب للترضيّة ، وشراء الولاء ، لمن صار بعضهم في هذا الزمن (نجوم) فضائيات ، مشهورين وإن بما لا يشرّف ، أثرياء (ثورة) ، ومراكز قوى يعبثون بمصير شعب ، بينما (الأبطال) الحقيقيّون مجهولون عند شعبهم !
نحن في زمن ينسى فيه العقيد عبد الله صيام ، والعميد سعد صايل و..ويشتهر فيه جنرالات خلّب !

الزيارة الثانية تلبية لدعوة للمشاركة بتكريم صديقي الروائي والقّاص الفلسطيني المقيم في دمشق ، وهو من مواليد منتصف الخمسينات ، يعني من الجيل الثالث بعد جيل غسّان كنفاني ، وجبرا إبراهيم جبرا ، وسميرة عزّام ، وإميل حبيبي ، والجيل الثاني الذي أنتمي إليه ...
في كل الزيارات ، ومهما كانت الأسباب ، فإنني لا أتخلّى عن الإقامة في مخيّم اليرموك ، ضيفاً في بيوت الأصدقاء القدامى .

يوم 6 الجاري ، الأربعاء ، وهو يوم تكريم الصديق حسن حميد ، توجّهت إلى دمشق ، مؤمّلاً أن أصل إليها في غضون ثلاث ساعات ، لآخذ قسطاً من الراحة قبل موعد الاحتفال في الساعة السادسة ، ولكن سفرتنا تعثّرت بسبب وجود سيّدة عراقيّة معنا ، وحال العراقيين بات كحال الفلسطينيين ، فهم موضع شّك وريبة ، ولذا يطول معهم السين والجيم في كّل حدود بلاد العرب ، ومطاراتهم .

سألت السيّدة العراقيّة وقد علمت أنها تحتاج إلى محرم معها ، وكان ذووها ينتظرونها ولكنهم لأمر ما تأخروا قبل الوصول إلى مركز الحدود (نصيب) ، ليسصطحبوها معهم بعد التعريف عليها :

- من أين من فلسطين حضرتك ؟

تأملتني بدهشة ، وأجابت :

- أنا عراقيّة أرمنيّة !

- أنت عراقيّة ولكنك بعد الاحتلال الأمريكي الديمقراطي صرت فلسطينيّة ، فبعضكم يقيم في الخيام ، وبعضكم تشرّد ، وبعضكم مشتبه به مشكوك في أمره على الحدود و..بعضكم يموت دون أن يعرف بأي ذنب يقتل ! ...

المسافرون ، والسائق الخبير بمتاعب الفلسطينيين ضحكوا ، أمّا الأرمنية العراقيّة فغرقت في الصمت ، ربّما متّاملّة كيف تحوّلت هي العراقيّة الأرمنيّة إلى .. فلسطينيّة!

في شارع اليرموك التقيت بصديق قديم هو محمود عبد العزيز ، الذي سيذكّركم اسمه بالممثل المصري الكبير بطل (الكت كات) ، ومسلسل (رأفت الهجّان) ، والكثير من الروائع .

هذا الصديق يباهي دائماً بأنه (بروليتاري) - حتى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي - وهو يحلم بالعدل والحريّة ، فالحياة هكذا لا تطاق ، وعلى رأيه : عيب ، عيييب نقبل بهالحال يا رفيق!

أمال رأسه ، وعلى وجهه طيف ابتسامة ذاوية ، وبعد أن شدّد بأن أتغدى عنده من الموجود ، فلا راتب منذ ستة أشهر ، وهو في قاع السلّم الوظيفي في منظمة التحرير ، وراتبه أقّل من مائة وخمسين دولاراً، خاطبني بعتب :

- يا رفيق ، أنتم الكتّاب ، ماذا تكتبون، ها؟!

لم ينتظر جوابي :

- هل تعلم أن أسر الشهداء ، تبيع الثلاّجات المتواضعة ، والمسجّلات ، والتفزيونات ، وحتى الكراسي ، والأسرّة المخلّعة ، والطاولات التي يدرس عليها الأبناء والبنات ؟! ستة أشهر والناس بلا دخل ، وأسر الشهداء تحصل على ملاليم ، ولكن هذه الملاليم كانت تكفي للخبز ، وأقلام ودفاتر ..؟ هل هؤلاء الذين (يتحاورون) ويدوّخوننا بالحديث عن حكومة الوحدة الوطنيّة ، وتلبيّة شروط الشرعيّة الدوليّة ، والاعتراف ..يجوعون هم وأسرهم ؟لماذا لا تكتبون ؟!

أخذ يروي لي حكايات مخجلة ، متعبة للنفس ، عن أسر باتت تنام على الطوى ، الأبناء يتركون المدارس ليبيعوا العلكة ، والكعك ، تقريباً يتسوّلون !

- نحن نكتب يا صديقي ، ولكن ما نكتبه لا يصل إليكم هنا ، فالقدس العربي لا تصلكم ، و..صمّت ، لأنني خجلت أن أنصحه بالدخول إلى الإنترنت ليبحث عن موقع القدس العربي ، متّبعاً أساليب حرب العصابات لتخطّي (الحصار) للاطلاع على ما نكتب ...

أبو أيمن لم يعد مرحاً كأيّام زمان ، وصاحب مقالب محببة ، فالحزن رغم الابتسامة على الفم ، يفيض على الكلام ، وتقاطيع الوجه ، وحتى مشيته المتثاقلة وهو يبتعد عنّي بظهر منحن ، وكتف مائل من ثقل غير منظور .

عريسنا عنتر عبس !

عريسنا ليس عنترة العبسي ، ولكن الفلسطينيين يغنّون عادة لعرسانهم هكذا :

عريسنا عنتر عبس

عنتر عبس عريسنا

في شارع متفرّع من (اليرموك) ، كان صخب الغناء للعريس الذي نذر والده أن يزفّه على حصان كأنه (أبجر) عنترة !

السيّارتان اللتان تضمّان زواّراً وفدوا من فلسطين ال48 ، لم تتمكنا من دخول الشارع الفرعي ...

مشهد الزفّة شدّ أنظار فلسطينيي ( البلاد) ، فهم يرون عرساً من أعراس الشتات لأوّل مرّة .

قالوا : ننزل ونتفرّج . نزلوا :

يا شمس غيبي من السما

عالأرض في عنّا عريس ،

قال القادمون من البلاد :

- يا عمّي هذي نفس الأغاني عندنا ، والزغاريد هي هي ، كأننا في الجليل ، في حارة (الصفافرة) في الناصرة ! ..

ثمّ تهامسوا ، ودسّوا أيديهم في جيوبهم ، وتداخلوا مع المحتفين بعريسهم ، وسألوهم عن ذوي العريس ، فهنأوهم ، وقالوا لهم :

- نحن من أهلكم من البلاد ...

وهات يا قبل ، ودموع ، وزغاريد ترحّب بالحبايب ...

لمّا عرف العريس أن هؤلاء من ريحة البلاد ، نزل عن الحصان ، فأخذه أهله القادمون من البلاد بالأحضان ، ودسّوا مبلغاً من المال في جيبه جمعوه من بعضهم ، وقالوا له :

- هذا نقوط من أهلك في الجليل ، يسلمون عليك ، ويقولون لك : أنجب أولاداً وبناتاً حلوين ، وربيهم كويّس ..ونحن ننتظرك وننتظرهم هناك..لا تتأخّروا علينا !

في شارع اليرموك قد تلتقي بزفّة عريس ، وقد تلتقي بمن يخبرك بأن أسر الشهداء تبيع ممتلكاتها الفقيرة لتعيش بشرف ، في زمن تبيع فيه (قلّة) من المارقين كّل شيئ ، وتدفع بشعبنا إلى الكارثة !
رشاد أبو شاور

كاتب وناقد فلسطيني - رئيس اللجنة التحضيرية لتجمع الكتّاب والأدباء الفلسطينيين

rashads@go.com.jo

12/13/2006