المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة الحلاب



أدهم مطر
28/10/2008, 10:56 PM
"الحلّاب"

" تازة يا حليب ، تازة الحليب "، كان صباحنا يبدأ بهذه العبارة ، بهذه الجملة ، بهذه الأغنية اليومية التي يتفنّن الحاج " أبو يوسف"بغنائها لأهل الحي مُعلِناً بذلك بدء صباح جديد .
كنت أضبطُ ساعتي يومياً على نغمة هذا الصوت ، " تازة الحليب "يعني أن الساعة الآن السادسة
والربع بالضبط .
منذ عشرين عاما ، كان والدي – الحي آنذاك و الشهيد الآن – يضبط ساعته أيضاً على صوت الرجل كما يفعل معظم رجال الحي ،كان لصوته نغمة مميزة ، حنونة ، تدخل بيوتنا و آذاننا و قلوبنا كل صباح ودونما استئذان فصوت الحلاب الذي صقلته الخبرة بالإضافة لفنجان القهوةوصوت فيروز ُيشكّلون زاداً معنوياً لنفوسنا القلقة .
كنا نمُيّز صوته فوراً ، رغم أنه يختلط في بعض الأحيان بأصوات الأطفال الذين تركوا المدرسة وراحوا يجوبون الشوارع ، يشترون الخبز اليابس من الأهلين لكسب لقمة العيش ، و أحياناً يخلطون كسرات الخبز الجافة بالماء ليصنعوا منها عجينة للصق الأكياس الورقية ،و بيعها للبقاليات من أجل كسب إضافي – ودائما نتعاطف معهم ، فنعطيهم الخبز اليابس الذي يكون قد تجمّع على مدار الأسبوع دون مقابل ،كانوا يفرحون بذلك كمن وجد ثروة ،أبو يوسف أيضاً ، الرجل الستيني المحدودب الظهر ، الفلاح الفقير الذي أفنى حيا ته بين المواشي،وبيع الحليب،يتعاطف معهم، يأسف لأجلهم ، و يجود عليهم ببعض الحليب ليكون إفطارهم الوحيد .
حلَّ الشتاء سريعاً هذا العام و دونما إنذار ، استيقظنا في ذلك الصباح المعطر برائحة المطر ، و رائحة التراب الرطب المنُعشة،أفقنا لوحدنا،لم يدغدغ صوت الحلاب آذاننا،شعرنا بأن شيئاًما ناقصاً ، إنه كوب الحليب اليومي الطازج الذي لم يكن على مائدة الفطور .
تجاوزت الساعة السابعة صباحاً،والحلاب العجوز لم يأت بعد ، ارتديت معطفي و خرجت إلى الشرفة ، جلت بنظراتي على طول الشارع ، لم أره ، رأيت بعض رجال الحي ممن افتقدوه أيضا واقفين على شرفات منازلهم ، يتساءلون فيما بينهم عن تأخر الرجل و هو الحريص على توزيع الحليب كل صباح وفي أقسى الظروف دون تأخيركان يفتخر بدقته،ويردد باشّاً"أنامثل ساعةبيغ بن"
فتح أحد الجيران باب شرفته،وآثارالنوم بادية على وجهه،ألقى علينا تحية الصباح ، ثم فاجأنا جميعا :
- لا تنتظروا الحلاب هذا الصباح فهو لن يأت لأنه طريح الفراش لا يستطيع حراكا!!.. المسكين تعرض بالأمس لحادث سير رهيب كاد أن يودي بحياته .
صَدَمَنا الخبروأَسِفنا له، ثم تابع الرجل حديثه :
-كما تعلمون ، فنحن نشتري الحليب منه منذ عشرين عاما ، لا أذكر أنه تخلف يوما لكنه اعتاد أن يقود حماره إلى السوق القريب كل يوم بعد انتهائه من بيع الحليب ليجمع بقايا الخضار من أجل المواشي،وبالأمس،بينما كان يحاول عبور الشارع صدمته سيارة سوداء،فأغمي على الشيخ ونفق الحمار،شاهدت الحادث بأم عيني ،يا لطيف كان حادثاً رهيباً، و لو لم يكن أبو يوسف بجانب الحمار لمات أيضا لكن الحيوان امتصّ الصدمةَ و انقلب جسده إلى حجرة القيادة ، فتكسّر زجاج السيارة الأمامي ، و سقط الحمار على السائق فاختنق الأخير ، وحين أسعفنا الرجلين بإحدى شاحنات الخضار إلى المشفى ، تبيّن أنّ ظهر الحلاب مكسور و لديه بعض النزف في أحشائه ، ما رأيكم لو نزوره فلرّجل فضل علينا و على أطفالنا .
وافق الجميع بدون تردد ، و اتفقنا على عيادته في منزله ، فكلنا نعرف أين يعيش .
في مساء ذات اليوم ، ذهبت مع رجال الحي لزيارة الحلاب ، كان البستان الذي يعيش فيه جميلاً واسعاً ، و أشجار الزيتون و الورد تُغطّي المكان ، و تلك الرائحة المميزة للخضرة أشعرتنا بأريحيّة .
لم يكن في البستان الفسيح إلا بيت الحلاب الطيني بالإضافة لزريبة المواشي الملاصقة،دخلنا المنزل المتواضع ، أذهلتنا رؤيته مُكفَّناً بالجّبس ، و ما إن رآنا ، حتى اغرورقت عيناه بالدموع ، لم يستطع تحريك مفاصله ، واسيناه ببضع كلمات رقيقة ، وبأن يحمد الله و يصبر ، جلست بقربه وبدأ يشرح لنا الحادث بصوتٍ واهن ، و قد اختفت تلك النغمة العذبة :
- لا أدري يا جماعة إن كان الحمار هو السبب في موت الرجل أم سرعته ، لقد رآني و أنا أعبر الشارع لكنه لم يقف ، كأنه يريد أن يمَُرَّ فوقنا ، لقد كان مُستعجلاً جداً ، ولم أستطع رؤيته لأن نوافذ سيارته سوداء ، لكن، ألم يرني هو ؟؟ ألم ير الحمار؟؟ لقد كان هذا البهيم رفيقي منذ عشر سنوات ، يفهم علي و أفهم عليه."
تعوَّدنا بعد ذلك على شراء الحليب المبستر من البقالية ، لم يعد له تلك النكهة ، لم يعد للفطور أهمية و أصبحنا نستيقظ متأخرين .
في ذلك الصباح التشريني الرطب ، أفاق أهل الحي على صوت مختلف ، قوي النبرة صوت شاب صغير ، دفعنا الفضول لمعرفة صاحب الصوت،إنه يوسف،ابن الحلاب"تازة الحليب،تازة الحليب " تحلّقنا حوله ، سألنا ه عن أحوال أبيه ، صمت قليلا ثم قال بأسى :
" – لقد أعطاكم عمره منذ عشرين يوماً بعدما أُصيب بنزيفٍ حاد ، و دفنّاهُ في البستان كما أوصى وأنا تركت المدرسة لأنه لا يوجد من يعيل الأسرة غيري ويجب أن يكمل أخوتي تعليمهم ."
ثم مسح دموعه بكمّ قميصه ، و أمسك برسن حماره الصغير و قال باسماً :
_ " ماذا ؟ ألا تريدون حليباً هذا الصباح ؟؟؟."
- انتهت-

أدهم وهيب مطر