المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة شهيد



أدهم مطر
28/10/2008, 11:00 PM
" شهيد "

أعلن جرس مدرسة اسكندرون الابتدائية انتهاء الدرس الخامس و الأخير من ذلك اليوم الموتور المليء بالقلق الذي بدا واضحاً على تقاسيم وجوه الأساتذة ، ذلك القلق الذي لم يكترث له التلاميذ كثيراً فحين فتحتُ أبواب المدرسة ،خرج الأطفال كعادتهم دفعة واحدة ، يتزاحمون وكأنهم كانوا في سجن سيما ، و أن الجوع قد احتلّ بطونهم الصغيرة الخاوية بعد ذلك اليوم الطويل ، وانتشروا في الطرقات شبه الخالية.
كان ثمة آباء ينتظرون أطفالهم على باب المدرسة بلهفةٍ بادية،وخصوصاً أولئك التلاميذ الصغار الذين يدخلون المدرسة لأول مرة ، و لأول مرة ينسلخون عن جحور أمهاتهم .
إنه زمن الحرب، زمن النّفير العام،ذلك أن الجيوش العربية كانت تخوض غمار حرب ضروس طاحنة حرب وجود أو لا وجود ،حرب خريفية ، اسمها حرب أكتوبر ، هذه الحرب التي غيرت نمط عيش الكثير من العائلات ، و رسمت فيما بعد مستقبل أولادها .
كان أدهم حينذاك في الحادية عشر من عمره ، طفل يحمل كل مقومات النبوغ المبكر ذاك الطفل الأسمر النحيل،الذي غالبا ما يقتسم"ساندويتشاته"مع زملائه الجائعين و الذين يأتون إلى المدرسة بلا زاد .
هذا الطفل المدلل،الحساس،و التي تخشى عليه والدته كثيراً من الانفعال لأنه مصاب بالربو الطفولي مما يجعله نزقاً ومزاجياً أحياناً، فحين تنتابه إحدى نوبات المرض المفاجئة، يعاني والداه كثيراً و يشعر أفراد الأسرة جميعاً بضيق النفس وكأنهم مصابون بذات المرض، يتكهرب جو البيت ، تنفعل العائلة برمُّتها مع ذلك الكائن الذي يتنفس بصعوبة،تضيق صدورهم معه ، و كثيراً ما يضطرّ والده لحمله على كتفيه ، متنقلا به في ليالي الشتاء ، من طبيبٍ لآخر ، و هؤلاء لم يرحمو مُرتّب ذلك الجندي المتواضع الحال ذي العائلة المؤلفة من خمسة أفواه ، كانوا يقتصّون ُجلَّ راتبه فيلعن الساعة التي ولِدَ فيها هذا الشقي الصغير أحيانا ، لكن حبه له كان فوق التصوُرفهولم يأسف أبدا حين باع السجادة الوحيدة من أجل علاجه ، كان يقول له دائما بأنه رجل البيت ، فهو البِكر وهو عماد الأسرة في غياب الوالد وهذه الكلمات على بساطتها ، زرعت في أدهم الصغير روح المسؤولية المبكرة ، فدأب يدير شؤون الأسرة يشتري الخبز ، يُبدّل جرّة الغاز ، يذهب للسوق وحده ، يأمر و ينهي كما يريد فوالده في الحرب منذ مدة .
في الأيام العادية ، يتحول إلى كتلة نشاط و فرح ، فهو الاستثناء بين زملائه ،ذكياً في كتابة التعبير الإنشائي و يساعد المعلمين في شرح بعض الدروس أحيانا لدرجة أن أحد أساتذته تنّبأ له بأنه سيصبح كاتباً ذات يوم .
عاد أدهم إلى البيت من ذات الطريق الذي اعتاد عليها منذ أن أخذه والده عليها إلى المدرسة لأول مرة قبل ست سنوات ، لم يُغيرّ طريقه يوماً، و يتباهى دائماً أمام زملاءه بأنه يستطيع أن يمشي إلى البيت و هو مغمض العينين .
في ذلك المساء،عاد أدهم وحده من المدرسة ، كانت قطرات المطر تداعب وجنتيه،وما أ ن اقترب من أ ول الحي،حتى شاهد جماهير غفيرة في الوسط ، تماماً أمام منزل أهله ، وقف قليلاً يتأمّل ذلك الجمع من الناس ، ماذا يفعل هؤلاء أمام ببيتنا ؟؟
كان بينهم الكثير من الجنود بملابسهم العسكرية الحربية المميزة والتي كانت مُعفَّرةً بالغبار والتراب اقترب منهم قليلا ليستوضح الأمر ،فوجئ بهم يضعون أيديهم على وجوههم ، كانوا يبكون.
لم يفهم الصغير ماذا يجري ، فبوابة المنزل مفتوحة على مصرا عيها ، نساءٌ تخرج وأخريات يدخلن الكل يبكي ، و الفوضى تعمُّ المكان ، في تلك اللحظة مرَّ بجانب الطفل المذهول رجل ، ما لبث أن توقف أمامه ، ضرب كفّاً بكفّ و صاح :
" يا باطل ياأدهم ، يا باطل".. ثم مضى على عجلٍ و الدموع تغسل وجنتيه،إنه يعرف هذا الرجل تماماً ، فهو صديق والده .
اقترب التلميذ الصغير بحذر ، اقترب أكثر ، فوجئ ببعض الرجال يسندون فيما بينهم رجلاً خارت قواه ، ويخرجونه من المنزل ، دقق فيه ، عرفه ، إنه عمه ، لكن لماذا يحمله هؤلاء من كتفيه ؟ إلى أين يأخذونه ؟ .
كان شبه مغمىً عليه ، يُلِّوح برأسه دونما إدراك ، ينادي بصوت مخنوق" ياخيِّ،ياخيّ"!!
لم ينتبه للطفل أحد من هذه الجوقة المنُشغلة ، أدرك بحسّه الطفو لي أنّ شيئاً ما سيئاً يحدث في بيت أهله ، شعر بالخوف ، خطا نحو الداخل ، كان الجو هستيرياً ، النساءُ ينتحبن بصوت منتظم ، الأنين يعمُّ المكان وروائح الورود تنبعث من تلك الغرفة الكبيرة التي اكتظّت بالناس .
اندسَّ بينهم ، يحاول معرفة ما يجري ، لماذا كلُ هذه الأكاليل في وسط الغرفة ؟ لماذا كلُ هذه الورود، ما أن وصل إلى منتصف الغرفة ، حتى رأى كل شيء .كانت والدته جالسة هناك في الوسط محلولة الشعر ، تنظر ولا ترى ، و لاتسمع ، تحدق شاردة في المجهول ، صافنة بذاك المُسجّى الذي لم يكن سوى والده ؟.
انتبهت لوجود الصغير، رأته، صَدمها وجهه،إذ ذاك صرخت صرخةً زلزلت كيانه الصغير، صرخت معها النسوة ، و بدأن ينتحبن من جديد .
ضمَّتهُ إلى صدرها ، ذهله الموقف ، لم يبكِ ، سمَّرَ بصره بأبيه المغمض العينين،لم يفهم الطفل معنى هذا النوم الأبدي ، أمعقول أنه لن يفتح عينيه ثانية ؟؟؟ أمعقولٌ أنه لن يتكلّم معنا ، ألن يصحو ؟ سيصحو ، لابد أن يصحو .
دخل الرجال المدجّجون بالسلاح ، و علاماتِ الإعياء و الحزن باديةً على وجوههم ولحِاهم غير الحليقة، أشهر أحدهم بندقيته ،و راح يطلق النار في الهواء تحيةً للشهيد .
لفيفاً آخر منهم بدءوا يهزجون،كفَنوه بالعلم،غمروه بأكاليل الورود،ثم حملوه على أكتافهم وخرجوا لم يفهم الصغير معنى أن يكون والده شهيداً ، كان شُغله الشاغل هو ذلك الحذاء الجديد الذي أعاره إياه رفيقه الثري لينتعله أثناء مراسم الدفن ، و كذلك القفاز الجلدي البني َ.
هطل المطر في المقبرة على الناس ، و على والده الذي تركوه هناك وحيدا مع أكاليل الزهور و عادوا لم يدر الصغير لماذا تذكر والده حين قال له ذات مرة :
– اعتمد على نفسك و لا تعتمد على أحد هكذا الرجال يا أدهم .
نظر حينذاك إلى الحذاء ، ثم إلى القفازين ، و ما لبث أن خلعهما، ثم عاد إلى منزل أهله عاري القدمين
- انتهت-




أدهم وهيب مطر