المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قناة السويس..ثأر التاريخ



حسان محمد السيد
06/11/2008, 06:00 PM
قناة السويس.. ثأر التاريخ

بقلم / محمد المخزنجي



فيما يشبه النبوءة، حذر بعض الكهنة الفرعون «نخاو» قائلين: «لا تشق القناة أيها الفرعون، إذ إنك بشقها لن تخدم مصر، وإنما تخدم الغزاة الجشعين». ولقد تحققت النبوءة على مدار جزء كبير من التاريخ، لكن يبدو أن تاريخ القناة الحالية لا يدور في حلقة مفرغة موحشة، فهو يخرج عن مساره ويمضي في اتجاه معاكس، وكأنه يتحرك بقوة الثأر، ويعاند الامتثال لنبوءة الكهنة القدامى، بل بعض الكهنة المحدَثين أيضا.



على الرغم من أن حياته معظمها ينتمي إلى البحر، بدا لي الفريق أحمد علي فاضل صقرا، وعلى الرغم من ملابسه المدنية وموقعه كرئيس لهيئة قناة السويس، فإن جمله القصيرة ولهجته القاطعة ذكرتني بقائد سابق للواء مدمِرات بحرية يصدر أوامره لجنوده، ثم إن جلسته المشدودة ونظراته المباشرة ذكرتني بأنه كان قائدا للقوات البحرية المصرية يحمل رتبة الفريق المرموقة.

لكن يبدو أن مدخلي إليه كان مربكا بمحتواه الشعري، قلت له: سيادة الفريق، بعد جولتي في بور سعيد والإسماعيلية، وهما مدينتان لم يكن لهما وجود إلا بوجود القناة أحسست أن الشر يمكن أن يكون في بعض الأحيان طريقا إلى الخير ، تردد للحظة مسرحا بصره عبر نافذة مكتبه المطل مباشرة على المجرى المائي في مبنى رئاسة هيئة قناة السويس، الأبيض الناصع ذي الطوابق الثلاثة عشر وبرج الإرشاد المتميز ، والذي يشبه أبراج المراقبة في المطارات ، وفي غمرة النور الأبيض المتدفق عبر النافذة وجدت نظرة الصقر تلين، وملامحه المحددة ترق فيما يشبه لحظة تأمل، وردّ على ملاحظتي بموافقة أكيدة، وإن في صياغة تشي ببلاغة يخبئها القائد العسكري المتحول إلى الحياة المدنية، وهي بلاغة سبق أن تعرفت عليها مرات عدة في برامج تليفزيونية وندوات كان ضيفا فيها: (نعم، أحيانا يكون الشر أحد جنود الخير، رغما عنه. نحن العسكريين نعرف ذلك جيدا).

كنت قد أنهيت جمع مادتي من بور سعيد التي زرتها أولا، ثم من الإسماعيلية التي كنا فيها، لكن الحاضر الذي استطلعته في الزيارتين ظل يستدعي الماضي بإلحاح، ويدعوني لتدقيق النتيجة التي استقرت في وجداني، ومن ثم وجدتني أقرأ صفحة الماء في القناة، فتشف عما تخبئه في أعماقها التاريخية، وتلتمع بأضواء النهار الذي استطلعتها فيه.

في مركب بين قارتين..

بيني وبين بور سعيد علاقة خاصة، إضافة للعلاقة العامة التي تربط هذه المدينة بكل المصريين، والعرب، نتيجة كفاحها الباسل في صد العدوان الثلاثي الذي شنته الإمبراطوريتان الاستعماريتان الآفلتان، إنجلترا وفرنسا، ومعهما إسرائيل، عام 56، وهو العدوان الذي كان رد فعل مباشرا على قرار تأميم القناة، الذي أعلنه الرئيس عبد الناصر في 26 يوليو عام 1956

لقد عملت طبيبا للحجر الصحي في ميناء بورسعيد ومدخل القناة الشمالي فور تخرجي وقبل التخصص، وكان عملي داخل مجرى القناة في زورق سريع يلاحق قوافل السفن العابرة للقناة، أو القادمة للرسو في الميناء، وطوال فترة عملي ظل يشغلني كيف أن سواعد مئات الآلاف من المصريين الفقراء هي التي شقت هذا البحر، وطوى هذا البحر مائة وعشرين ألفا منهم ماتوا عطشا وجوعا ومرضا وقهرا، وكنت أتساءل وأنا على صفحة هذا الماء: ألم يكن هناك سبيل أكثر إنسانية وتحضرا لاجتراح هذه المأثرة البشرية التاريخية؟ لماذا تحققت المعجزة مخلفة وراءها كل هذا الألم وهذه المرارة؟

وفي زيارتي الأخيرة لبور سعيد عادت تلح عليّ الأسئلة ذاتها، بينما كنت في مطعم عائم يقدم وجبة الغداء خلال جولة واسعة في الميناء ومدخل القناة الشاسعين نتجه جنوبا فأرى عن يميني بقايا الأبنية ذات الشرفات الخشبية ، وأسقف القرميد الهرمية العائدة إلى زمن حفر القناة في الجانب الغربي الذي كان يسمى لسان ديليسبس، والواقع جغرافيا في قارة إفريقيا، وأرى عن يساري ضفة القناة الشرقية، التي تشكل شاطئ مدينة بور توفيق والواقعة جغرافيا في قارة آسيا، وبين القارتين أتناول غدائي على مهل، بينما تتوالي على ناظري سفن عابرة بارتفاع أبراج سكنية عملاقة، وزوارق سريعة تمخر الماء بصوتها الأجش، وزوارق صغيرة تجري بتجار البحر الصغار ـ البمبوطية ـ ليلحقوا بالسفن التي ترسو، وعبّارات ضخمة تنقل الناس والمركبات بين الضفتين، بين القارتين، أرى مبنى الإرشاد التاريخي بقبابه الخضراء وأجنحته البيضاء الناصعة، وكأنه يطفو على حافة الماء الغربية، وأرى أحواض الترسانة البحرية الهائلة على الجانب الشرقي.

تتوالى أرصفة الشحن وصوامع الغلال العملاقة، ويلازمني تأمل الحلم التاريخي الذي تسللت إليه الكوابيس في أكثر من موضع ، فالقناة ظلت حلما عمره قرابة أربعة آلاف عام على الأقل، وتمثّل أول تحقيق ـ معروف ـ لهذا الحلم في قناة الفراعنة التي شقها فرعون مصر سنوسرت الثالث، وربطت مابين البحرين المتوسط والأحمر عن طريق فرع من فروع نهر النيل ، وكان ذلك عام 1887 قبل الميلاد.

طمرت الرمال والسنون هذه القناة لكن الحلم لم يخمد ، ظل يراود كثيرين، والأمر الغريب أن معظم من تصدى لتحقيق هذا الحلم كانوا من غير المصريين، ولأسباب تتعلق بمصالح هؤلاء الغرباء قبل كل شيء، الفرس عام 510 قبل الميلاد، والإغريق عام 285 قبل الميلاد أيضا، والبطالسة عام 45 ميلادية، والرومان عام 98 ميلادية، وأعاد عمرو بن العاص شق هذه القناة التي أهملها البيزنطيون حتى تراكم الرمل فيها ولم تعد صالحة للملاحة، لكن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور أمر بردم هذه القناة حتى لا تُستخدم في نقل المؤن إلى أهل مكة والمدينة الثائرين على حكمه.

ونام الحلم بعد ذلك أحد عشر قرنا، وكاد أن يتلاشى تماما منذ القرن الخامس عشر مع ازدهار طريق رأس الرجاء الصالح عقب اكتشافه، لكن في القرن التاسع عشر، قرن تنافس الإمبراطورية البريطانية التي لا تغرب عن مستعمراتها الشمس، والإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية، عاد حلم شق القناة بين البحرين المتوسط والأحمر يطل برأسه من جديد، بعد أن اكتشف أصحاب المصالح الإمبراطورية الاستعمارية أن الطريق بين البحرين عبر مصر يوفر ما يقارب أحد عشر ألفا من الكيلومترات عند الانتقال من لندن إلى بومباي، وهنا بدأ الحلم توشيه الكوابيس.

بطبق مكرونة وقفزة فرس..

أمشي في شارع الميناء ـ رصيف ديليسبس سابقا ـ بعد أن تحول الرصيف المحاذي للقناة إلى جسر طويل من الحجارة البيضاء ، يسقف عشرات المقاهي والمحال الجديدة تحته، و يفضي إلى اللسان الصخري الموغل في مياه المتوسط راسما حاجز الأمواج الغربي للقناة، أعبر قاعدة التمثال الخالية، والتي أسقط البورسعيديون عنها تمثال ديليسبس.

أختار أقصى نقطة من هذا اللسان، وأعطي ظهري لمياه المتوسط في الشمال، فتتسع أمامي لوحة بور سعيد الحالية، ونحو الجنوب يمتد مجرى القناة الموغل في البعد بطول خط مستقيم يتجاوز طوله 160 كيلو مترا، أقف على لسان ديليسبس فيكون بقربي شارع الكورنيش أو «طريق أوجيني»، وأرجح أن ضربة الفأس الأولى في عمليات حفر القناة الحالية يوم (25 أبريل عام 1859) كانت في هذا النطاق القريب.

في هذه البقعة التي كانت قاحلة توقف ديليسبس ومن معه من نفر قليل، واستهل احتفاله بافتتاح العمل في مشروع القناة برفع العلم المصري، وألقى كلمة جاء فيها (باسم شركة قناة السويس العالمية البحرية وتنفيذا لقرار مجلس إدارتها نضرب أول معول من هذه الأرض لفتح أبواب الشرق لتجارة الغرب وحضارته، عن طريق مدخل الشرق، إننا مجتمعون هنا تحدونا فكرة واحدة هي الإخلاص لأغراض الشركة ومصالح راعيها العظيم الأمير محمد سعيد باشا.إن أعمال الارتياد الكامل والتي فرغنا منها لتبعث فينا الثقة بأن العمل الذي يبدأ تنفيذه اليوم لن يكون عملا من أعمال الرقي فحسب، بل سيزيد من قيمة رءوس الأموال التي ساعدت على تنفيذه زيادة كبيرة).

وبعد ذلك أمسك بمعول وضرب به الأرض، وتبعه المهندسون ثم سائر مستخدمي الشركة، وتوجه ديليسبس بحديثه للعمال المصريين قائلا:(سوف يبدأ كل منكم بمعوله في عمليات الحفر كما فعلنا نحن الآن، واذكروا أنكم بهذا لن تحفروا الأرض فقط، ولكن ستجلبون الرخاء لأسركم ولبلادكم) ثم صاح (المجد والفخار لأفندينا محمد سعيد باشا، فليعش عمرا طويلا).

تبدو هذه البداية لتحقيق الحلم شديدة الرومانسية ومشحونة بالعواطف، ويبدو بطلها ـ ديليسبس ـ استشهاديا يجترح حلما مستحيلا حتى يتواصل الشرق والغرب، وتنتقل الحضارة من الشمال إلى الجنوب، من أجل رقي وخير البشرية، والمصريين بالمرة، مع بعض الأرباح للمساهمين الأوربيين.

لكن هذه البداية العاطفية استبقتها خطوات تريب، وأكثر ما كان يريب فيها هو ديليسبس نفسه، فمشروع شق «برزخ السويس» كان أحد أهداف الحملة الفرنسية على مصر، لأسباب إمبراطورية فرنسية بالطبع، وفي مواجهة الإمبراطورية البريطانية المنافسة، و كلف نابليون بونابرت كبير مهندسيه «جاك ماري لوبير» بدراسة مشروع قناة توصل البحرين المتوسط والأحمر، لكن لوبير ـ بعد دراسات استغرقت سنة كاملة ـ وقع في خطأ كبير أحبط حلم نابليون، إذ أسفرت دراساته عن أن مستوى سطح البحر الأحمر أكثر ارتفاعا من مستوى سطح البحر المتوسط بمقدار ثمانية أمتار ونصف المتر كان ذلك عام 1798، لكن بعد ذلك بخمسة وثلاثين عاما استأنف فرنسيون من نوع آخر حلم البرزخ، وهم أتباع سان سيمون، الذين كانوا يؤمنون بحزمة من الأفكار، مع قشرة من التقاليع، عن تلاقح الشرق والغرب واعتماد الإنتاج دينا جديدا لرخاء البشرية، ورأوا في مصر نقطة انطلاق لتحقيق أفكارهم، فاهتموا بمشروع حفر القناة بهدف (خدمة السلام العالمي عن طريق القيام بمشروعات جليلة تعود بالخير والرفاهية على البشرية جمعاء).

حضر بعض السان سيمونيين إلى مصر ورحب بهم محمد علي، لكنه رفض المشروع بزعم «ضعف الميزانية»، وإن سمح لهم بإجراء دراسات عليه، وكان أن أسس السان سيمونيون في باريس جمعية للدراسات الخاصة بقناة السويس في 30 نوفمبر 1846، وتكونت هذه الجمعية من ثلاث مجموعات من المهندسين الفرنسيين والأجانب، الأوربيين بالطبع، وفي سنة 1847 أوفدت الجمعية مهندسا أخصائيا في الأعمال الطوبوغرافية، وانتدبت الحكومة المصرية معه كبير مهندسيها الفرنسي «لينان»، وأثبت الاثنان أن الفارق بين منسوبي المياه في البحرين طفيف يكاد لا يُذكَر.

ولما عُرض المشروع من جديد على محمد على رفضه قائلا «لا أريد في مصر بسفورا آخر»، لكن مغامرا فرنسيا من نمط الحقبة الكولونيالية كان هناك، وظل ينتظر الفرصة للقفز والاقتناص.

إنه فردينان ديليسبس (1805 ـ 1894) نائب القنصل الفرنسي في مصر، والذي تجمعت بين يديه كل خيوط المشروع، الحلم، ابتداء من تطلعات نابليون التي وردت تفاصيل دراستها في كتاب وصف مصر، الذي قرأه الدبلوماسي الفرنسي الشاب على ظهر السفينة التي أقلته إلى الإسكندرية، بينما كان يقضي فترة الحجر الصحي الطويلة المملة على ظهر السفينة، ثم دراسات السان سيمونيين التي ألقاها زعيمهم اليائس أنفانتان بين يديه ليعرضها ـ لعل وعسى ـ على حاكم مصر الجديد «سعيد باشا»، عندما استدعاه فور توليه العرش ليجددا صداقتهما القديمة، وهي صداقة وثقتها أطباق المكرونة، وأنعشتها قفزة حصان! فديليسبس الذي سبق أن عهد إليه محمد علي بصقل ابنه سعيد حتى لا يستسلم لسمنته المفرطة وخموله، كان يرق للأمير الصغير، ولعله كان يرق لطموحه هو، إذ يدرك احتمالية أن يكون هذا الأمير حاكما في يوم ما قادم، فيمرر له خلسة أطباق المكرونة اللذيذة التي كان يعشقها الأمير الصغير ولم ينسها أبدا، ولعلها كانت أول أسباب استدعائه لديليسبس فور توليه العرش.

لكن ديليسبس الذي بلغ التاسعة والأربعين آنذاك، وهي قمة نضج المغامر الكولونيالي النمطي، كان يتحين الفرصة للقفز على إرادة حاكم مصر، ضعيف الإدراك والإرادة، وظل يخبئ أمر مفاتحة صديقه سعيد في مشروع القناة حتى تحين اللحظة، ويخف عقل الحاكم السمين الخفيف، ولقد جاءت اللحظة في يوم 15 نوفمبر عام 1854 عندما اصطحب سعيد صديقه ديليسبس لاستعراض «قوات الباشا» في صحراء مصر الغربية قرب بحيرة مريوط، وكان سعيد أهدى ديليسبس فرسا فتية تحمل اسم عنيزة.

وقفز ديليسبس بعنيزة فوق حاجز صخري قفزة أثارت إعجاب سعيد وجنرالاته حتى أنهم صاروا في نشوة من جرأة الفارس، وقوة الفرس وجمال حركته، وهنا أدرك ديليسبس أن الوقت قد حان لمصارحة أميره بمشروع حياته، حياته هو، متناسيا حلم نابليون، ودراسات السان سيمونيين، ونسب كل شيء لنفسه وهو يقدم المشروع لصديق المكرونة، فيستجيب الأمير بحماس وليد لنشوة القفزة التي أسكرته وأسكرت جنرالاته، حتى إنهم عندما سألهم سعيد فيما يعرضه ديليسبس أجمعوا أن فارسا يقفز هذه القفزة لابد أن يكون محل ثقة مطلقة، وحصل ديليسبس الذي لم يكن بالمهندس ولا الاختصاصي ولا المالي ولا رجل الأعمال على موافقة حاكم مصر منحه امتياز تكوين شركة لشق قناة السويس وحق استغلالها 99 سنة تبدأ من تاريخ افتتاحها، هذا عدا امتيازات أخرى، كحصوله دون مقابل على جميع الأراضي اللازمة لشق القناة البحرية وقناة المياه العذبة التي تمد العاملين في المشروع بما يلزمهم من مياه، إضافة لحق استخراج جميع المواد اللازمة لأعمال القناة والمنشآت التابعة لها من المناجم والمحاجر التي تملكها الدولة المصرية، مع إعفاء جميع المهمات المستوردة للمشروع من الرسوم الجمركية، وأكثر من ذلك.. إمداده بالمهندسين والموظفين والعمال اللازمين له، مع المساعدة الدائمة والحماية، وكل هذا الحيف الذي تضمنه ما يسمى بفرمان الامتياز الأول.

أما فرمان الامتياز الثاني الصادر في 5 يناير 1856 والذي منحه محمد سعيد باشا لصديق القفز والمكرونة، فقد أيد ما جاء في الفرمان الأول، وزاد عليه وجوب استخدام أربعة أخماس العمال اللازمين للمشروع من المصريين، وكان ذلك لا يعني إلا استخدامهم بنظام السخرة.

في بيت ديليسبس..

من أنت؟

تردد السؤال داخلي بينما مكثت أتأمل مليا وجه ديليسبس، ناظرا في عينيه مباشرة لعلي أستشف شيئا من حقيقته، كان ذلك في غرفة نومه التي فتحها لي عادل الصولي القيم على البيت التاريخي عند الزاوية بين شارع محمد علي الرئيسي المؤنق بالحدائق والجسور وشارع قناة السويس الفرعي.

والصدفة المواتية هي التي أوقعت بين يدي هذه المنحة أن تكون إقامتي في الإسماعيلية في بيت ديليسبس نفسه، فهيئة قناة السويس التي نزلت ضيفا عليها في الإسماعيلية خيرتني بين الإقامة في فندق مزدحم أو استراحة خالية، وعندما عرفت شيئا عن هذه الاستراحة لم أتردد، فلم تكن هذه غير بيت ديليسبس نفسه، أو الشاليه الذي ابتناه مطلا على بحيرة التمساح في مركز المدينة التي أرادها عاصمة لمشروع عمره الإمبراطوري الاستعماري، وبعضا من عمر مصر.

من أنت؟ ساءلت الرجل الفرنسي ذي الفراك الأسود والببيون في إحدى الصور، وساءلت الرجل نفسه في صورة أخرى له بالزي العربي، لم يحر جوابا، ولم تقطع نظرته بشيء، فهو يمكن أن يكون متعجرفا قاسيا إن نظرت إليه من زاوية معينة، ويمكن أن يكون صارما خجولا من زاوية أخرى.

وكانت الآراء فيه تتضارب، يقول عنه مسيو جيرار مدير الأكاديمية الفرنسية: (كانت مهارته الطبيعية وما يتسم به من صرامة واستقلال في الحكم على الأمور وروح المبادرة والهدوء والبساطة التي التقت عنده بالكرامة فاكتمل سرها).
ويقول عنه الدكتور رءوف عباس أستاذ التاريخ: (إنه مغامر أفاق، يتقن أساليب الاحتيال والابتزاز، وهو صورة نموذجية عرفها القرن التاسع عشر، عصر الإمبراطوريات الاستعمارية.

وتقول نتالي مونتل وهي تصف الدور الذي لعبه في عملية حفر القناة( لعل كلمة مستثمر هي الأكثر توافقا مع زماننا المعاصر).

تضاربت الآراء في شخص ديليسبس، وبينما كنت أقيم في إحدى غرف بيته الأثري الذي صانته بكفاءة نادرة هيئة قناة السويس، لم أجد أمامي إلا أن أعود إلى الوقائع ودلالاتها، وعلى الرغم من أن حكاية ديليسبس مع القناة يمكن أن تفصح عن مجمل الصورة، فإن هناك إضافات لأدوار لا يمكن للصورة أن تكتمل من دونها.
وكان البيت الذي أقيم فيه، بحديقته الأنيقة، وعربة ديليسبس المحفوظة في غرفة زجاجية قرب المدخل.. الأبواب والنوافذ الراسخة الطويلة، والسقوف العالية، ورخام الأرضية الناصع، وحمامات القرن التاسع عشر الكولونيالية الفسيحة.

كل هذا الفضاء كان يستدعي إلى الصورة أسماء: الإمبراطورة أوجيني، وزوجها الإمبراطور نابليون الثالث، والخديو سعيد، وسلفه إسماعيل، والمهندس موجل، والمقاول هاردون، رهط من البشر الذين يُرجِّح أنهم مروا بهذا البيت، وكانوا كوكبة حول ديليسبس، في مشروع حياته، ففور حصول ديليسبس على فرماني الامتياز قام بتأسيس «الشركة العالمية لقناة السويس البحرية» برأس مال قدره 200 مليون فرنك، ولم يستطع ديليسبس إكمال رأس المال من مساهمات المكتتبين، إنجلترا، والولايات المتحدة، والنمسا، وفرنسا، فلجأ ديليسبس لصديق المكرونة الذي استدان 28 مليون فرنك بفائدة باهظة على الخزانة المصرية، وأكمل مساهمة مصر في رأس مال الشركة لتصل إلى أكثر من 88 مليون فرنك، وهو ما يقارب نصف رأس المال المطلوب، فضلا ناهيك عن ثمن الأرض والماء والحماية وجهد وأرواح مئات الآلاف من المصريين الذين يقدر عدد المسخرين منهم في حفر القناة بأربعمائة ألف إنسان سنويا عندما كان سكان مصر لا يتجاوزون خمسة ملايين.

أي نصف كل الذكور في مصر بمن فيهم الصبية، تم تعطيش هؤلاء المصريين لسبب واحد هو أن الشركة لم تكن تراهم، فعجلت بأعمال الحفر قبل شق ترعة المياه العذبة كما كان معلنا، لا لشيء إلا من أجل ابتداء الأعمال بسرعة، وتوفير نفقات شق الترعة الحلوة، وكان ذراع ديليسبس في ذلك المقاول ألفونس هاردون الذي لم يكن غير حداد قفز سلم الصعود عن طريق الرشوة، ومارس هذه الرشوة في أعمال الحفر باتفاق كان سريا بينه وبين مهندس المشروع موجيل، بأن يوفر الأول من النفقات ويأخذ الثاني 5% من الوفر، ولم يكن الوفر إلا على حساب لقمة العمال المصريين وشربة الماء التي تعطشوا طويلا من أجلها.

ولقد كتب الفرنسي «مانتو» عن ذلك قائلا(كان عدد الوفيات ضخما بسبب المجاعة ، ولم تكن تُدفع أجور، وهناك نقص في المؤن، ونقص في الملابس والأحذية الملائمة لطبيعة المكان، لم تصل ملابس طوال الصيف ، كما كان يوجد معتقل يُرسل إليه من يسيء السلوك، وليس على المرء أن يشكو ما لم يمت جوعا).


وكان هؤلاء الذين يتم تعريتهم وتجويعهم وتعطيشهم يعملون بالسخرة، مجانا وبالإكراه، حيث يساق منهم شهريا إلى ساحات الحفر ستون ألفًا مصفدين في الأغلال ومربوطين معا في طوابير طويلة كأسراب النمل، يتبادلون العمل، والرحيل، والمجيء ؛ مما يعني خسارة الحقول المصرية لهذا العدد الكبير من الأيدي العاملة ، وبوار الزراعة.

لقد كانوا يقفون وقت الطعام في طوابير طويلة، وكثيرا ما كان يدق جرس الانتهاء من الطعام دون أن ينال أحدهم لقمة، وتقول نتالي مونتل (إن المداولات بشأن أعداد المصريين المسخرين للعمل في حفر القناة كانت تتم بين الخديو ورئيس الشركة ـ ديليسبس ـ بأكبر قدر من السرية، وانطلاقا من حقائق جزئية تم جمعها والمقارنة بينها يمكن تقدير عدد الفلاحين الذين أتوا لتنفيذ الأشغال بحوالي أربعمائة ألف هي إجمالي مساهمة سكان القرى المصرية في أشغال قناة السويس).

ولم يكن العباد وحدهم هم الذين يسامون العذاب في حفر القناة، بل كانت البلاد أيضا، فقد كانت الشركة تتاجر في الأراضي التي منحها لها سعيد بالمجان ، وبعد ذلك كانت تبيع للمصريين بأثمان باهظة المياه القادمة من النيل في ترعة المياه العذبة التي حفرتها سواعد المصريين أنفسهم.

لم يكن أحد يرى مصر ولا المصريين، ولولا التنافس البريطاني الفرنسي ما اُثيرت قضية عمل الفلاحين المصريين بالسخرة ، فقد أرادت بريطانيا عرقلة النفوذ الفرنسي في القناة فأثارت قضية السخرة، وفي الوقت ذاته تولى إسماعيل العرش بعد موت سعيد المبكر، وأراد استرداد مئات الكيلومترات من الأرض التي اقتنصتها الشركة على عهد سلفه، كما أن مسألة السخرة كانت تضغط عليه، لا بسبب إنسانيته وتعاطفه مع الفلاحين البؤساء، ولكن لأن الزراعة المصرية التي كان معظم ريعها يعود إليه وإلى باشاوات الحكم كانت تتضرر ؛ ولأن مذكرة صدرت في أغسطس 1863 من الباب العالي (تركيا) نصت على موافقة تركيا على المشروع باعتباره ممرا بحريا تجاريا، ولكن بشرط أن يتفق الوالي مع الشركة على استرجاع الأراضي وترعة الماء العذبة وأن يلغي السخرة، وأمهلت تركيا إسماعيل ستة أشهر للتوصل إلى اتفاق مع الشركة.

وأمام تبني إسماعيل لمطالب تركيا لجأ ديليسبس إلى إمبراطور فرنسا (نابليون الثالث)، وكانت هناك صلة قرابة بينهما تتمثل في أن الإمبراطورة أوجيني كانت ابنة خالة ديليسبس، وتكونت لجنة تحكيم إمبراطورية وقع إسماعيل في فخها، وربما يكون افتتانه بجمال الإمبراطورة هو الذي أوقعه فيما كان، فقد صدر حكم نابليون الثالث في 6 يوليو 1864 مقررا إلغاء السخرة مع تعويض الشركة بمبلغ 38 مليون فرنك، وتنازل الشركة عن الجزء الذي حفرته من ترعة المياه العذبة، مع حقها أن تأخذ منه مقدارا معينا كل يوم حتى يتم حفر القناة، وأن تعيد الشركة الأراضي التي حصلت عليها ولا يحتاج إليها المشروع ومساحتها 600 كيلو متر مربع على أن تدفع الحكومة المصرية للشركة تعويضات بلغت 84 مليون فرنك.

وكان ذلك يعني أن التعويضات التي حصلت عليها الشركة مقابل رد ما كانت اغتصبته في غفلة تساوي أكثر من نصف قيمة رأس مال الشركة، إضافة إلى أن الشركة أعادت بيع أراض اشترتها بثمن بخس من ورثة أحد الباشوات بعشرة أضعاف ثمنها.

(إنها أكبر عملية نصب واحتيال) كما يراها الدكتور رءوف عباس الذي أثبت أن الشركة لم تتحمل من تكلفة حفر القناة إلا ما يعادل 7 % من جملة التكلفة بينما تحملت مصر الباقي، فضلا عن تكلفة قيمة العمل الذي قدم للشركة مجانا لمدة تسع سنوات، وما تحملته الزراعة المصرية من خسائر نتيجة حرمانها من قوة عمل الفلاحين بنظام السخرة.

هذا هو ديليسبس, يردد الدكتور رءوف عباس ساخرا ممن أرادوا تصوير هذا المغامر الاستعماري كمحب لمصر والمصريين، هو الذي تفنن في ابتزاز مصر والمصريين ليكمل مشروعه الإمبراطوري الاستعماري بثمن باهظ دفعته مصر في الحفر، وفي احتفالات الافتتاح جنونية البذح التي اقتطعها حاكم متفرنج من لحم المصريين المهيض لأن إمبراطورة فرنسا كانت تفتنه بجمالها على الرغم من أنها كانت آنذاك تقترب من سن اليأس.

لحظة للمراجعة

أعود إلى اللحظات التي كنت متوجها فيها من القاهرة إلى الإسماعيلية، وقد كان صباح القاهرة الضبابي الباكر موحيا، ووجدت نفسي أستقل ـ حرفيا ـ حافلة التاريخ، فالحافلة المتجهة إلى الإسماعيلية كانت تحمل شيوخ لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة بمصر، وكانت هذه مفارقة لم أرتبها، فهيئة قناة السويس أرسلت الحافلة ـ التي حجزت لي مقعدا فيها ـ لتأخذ أعضاء اللجنة لإقامة ندوة بمناسبة مرور خمسين سنة على تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس في السادس والعشرين من شهر يوليو عام 1956

منيت نفسي بوليمة تاريخية ـ عن القناة ـ ألتقط منها كل ما لذ وطاب على امتداد رحلة الحافلة التي تستغرق ساعة ونصف الساعة ؛ لكن يبدو أن كِبَر السن الغالب على التاريخيين ممن كانوا في الحافلة أفسح الوقت لمساحات من الصمت والدردشات البعيدة عن التاريخ ، وكان أكثرهم صمتا هو الدكتور عبد العظيم رمضان، الذي لم أره من قبل ذابلا وعتيقا ورماديا على هذا النحو، وأدعى للموادعة، بدلا من المشاكسة وإثارة المعارك التي لم يكف عن إشعالها عبر تاريخه ، خاصة في كل ما يخص زمن عبد الناصر ، ومنه قرار التأميم الذي أفرد له الدكتور عبد العظيم رمضان كتابا هو (الحقيقة التاريخية حول قرار تأميم شركة قناة السويس).

وبالرغم من أن الكتاب كان تجميعا لمقالات نشرها رمضان تعليقا على فيلم «ناصر 56»، إلا أنه في هذا الكتاب لم يوفر سببا للهجوم على عبد الناصر وقرار التأميم إلا وتشبث به، حتى كاد أن ينزع عن الرجل كل فضل، ويجرِّم قراره باعتباره ـ على حد تعبيره في الكتاب(عملا فرديا بحتا اتخذه رئيس الدولة على مسئوليته الخاصة، دون أن تعلم به حكومته، ودون أن يعلم به قائد الجيش، ودون أن يعلم به المنفذون إلا قبل يومين فقط، ودون أي استعداد عسكري لمواجهة أي عدوان على الأراضي، بكل ما يمثله ذلك من خطر إلغاء استقلال مصر، وعودتها إلى الاحتلال البريطاني الذي كانت قد تخلصت منه قبل سنة واحدة فقط بنضال شعبي مرير استمر سبعين عاما).

وددت أن أجلس إلى جوار الرجل وأناقشه في كتابه الذي قرأته بدقة وكثير من علامات الاستفهام والتعجب، لكنه كان أوهن من أن أجهده وهو قابع في مقعده المتقدم متلففا بصمت معتم كثيف.

وللمفارقة فقد التقيت في الجلسة الافتتاحية بنادي قناة السويس بالكاتب محفوظ عبد الرحمن مؤلف الفيلم، ناوشته وأنا أشير إلى وجود عبد العظيم رمضان ضاحكا: هل سنشهد اشتباكا قريبا؟ فهز رأسه ضاحكا بإيماءة لا تقطع بشيء ، لكن جلسة الندوة الختامية شهدت مفاجأة من العيار الثقيل ـ بالمعنى الثقافي ـ كان صاحبها هو عبد العظيم رمضان نفسه! فقد وقف أمين مكتبة قناة السويس وهو خريج تاريخ ، وتوجه إلى عبد العظيم رمضان الذي كان جالسا بين الجمهور بخطاب شديد التهذيب يسأله عن إمكانية أن يراجع المؤرخون أنفسهم إذا كان الواقع يقدم ما يوجب المراجعة، بينما أجمع كل المتحدثين على مدار يومي الندوة، ومنهم رئيس هيئة القناة في كلمة الافتتاح، أن قرار التأميم كان صائبا، وأن الطريقة التي تم بها والتوقيت كانا شديدي الملاءمة للظروف العالمية التي صدر فيها قرار التأميم ، بدليل النتائج التي ترتبت عليه، وتدخل قوتين عظميين كانتا تبرزان لتوهما بديلا عن الإمبراطوريتين الاستعماريتين الآفلتين.

ومن ثم كان تقدير عبد الناصر صحيحا، بل ملهما، فالعدوان انقشع، والقناة عادت للمصريين حيث لم يكن متوقعا من الشركة أن تعيدها إلا خرابا لو لم تنجح في تمديد فترة الامتياز ، وراح عبد العظيم رمضان يتجه إلى المنصة بمساعدة زوجته الشابة بينما توهج ترقب الجميع، وبصوت الشيخوخة الواهن راح عبد العظيم رمضان يعترف، قال: إن للتاريخ منطقه، وقد يحسب المؤرخ شيئا ويقدم الواقع شيئا مختلفا، وأنه بحساب ما يراه من نتائج يرى الآن أن قرار التأميم كان شيئا جيدا، بالرغم أن مقدماته كانت تشير إلى العكس، وهنا ضجت القاعة بالتصفيق، وكانت العبارة الختامية في الشهادة التاريخية لمؤرخ يراجع نفسه هي (لقد قلت مرة في محاضرة، إن الله يكتب التاريخ، ونحن ننفذه).

ثأر التاريخ.. عدل الله

على أحد زوارق هيئة قناة السويس انطلقت بصحبة شيوخ لجنة التاريخ وبعض الصحفيين الشبان في جولة بحرية داخل الممر المائي الذي اتسع وتفرع عند بحيرة التمساح، وكان نصب الجندي المجهول عند الضفة الشرقية للقناة يرتفع مثل سهم يتأهب للانطلاق صوب زرقة السماء، كانت هذه هي نقطة العبور الأولى في حرب أكتوبر، وبها عاد العلم المصري ينغرس في أرض سيناء.

اختلطت داخلي أناشيد نصر أكتوبر بمواويل الضحايا المائة والعشرين ألفا في قاع القناة وتحت ثرى ضفتيها، ورحت أتأمل ثأر التاريخ، عدل الله، في مصر كنانة الله، التي من أراد بها سوءا كبه الله على وجهه: ديليسبس الذي أجاد ابتزاز مصر حتى عظام أفقر رجالها من أجل تحقيق حلمه الإمبراطوري مات مفضوحا مهموما بعد أن جرّمه القضاء الفرنسي إثر فشله في شق قناة بنما في أكبر وأضخم مشروع نصب واحتيال عرفه التاريخ.

ونابليون الثالث الذي حكم في قضية تعويضات شركة القناة بما أرهق مصر والمصريين حتى الإفلاس دون منطق من قانون أو أخلاق وقع أسيرا في قبضة أعدائه البروسيين ، وتم خلعه مشيعا بالعار والخزي ومات متسمما ببوله إذ سدت حصاة مخارج مثانته فقضى بعد احتضار مرير، وزوجته أوجيني التي تواطأت مع خطل إسماعيل المفتون ببقايا جمالها الذابل، لتنعم باحتفاء جنوني دمر بقايا الخزينة المصرية، خرجت هاربة من قصر التوليري وعاشت لاجئة نكرة في إنجلترا حتى شهدت موت كل من لها، وهامت مرتحلة ضائعة حتى أقعدتها شيخوخة مهينة وماتت شبه عمياء، وإسماعيل مجنون أوجيني قادته ديون الإسراف والبذخ والفتنة الطائشة إلى الاستدانة والإفلاس، وتم خلعه وخروجه من مصر التي لم يعد إليها إلا ليدفن مع رهطه.

أما قرار التأميم الذي أصدره عبد الناصر، الذي كان ثأريا بكل تأكيد، وإحقاقا لحق طال ضياعه، فهو يكتسب يوما بعد يوم تقدير الأيام والتاريخ، ينصفه تطور هذا المرفق الذي يغدو عالميا بجدارة، وأكثر من ثلاثة مليارات دولار يضيفها إلى الدخل القومي المصري سنويا. وهناك ما هو أكثر من ذلك.

من الفضاء إلى الأرض

لقد عنّ لي أن أنظر إلى القناة من الفضاء، فسعيت إلى موقع «جوجول ارث»، صعدت خارج كوكبنا الأزرق الجميل، ورحت أهبط قليلا قليلا على مصر باتجاه قناة السويس التي بدت خطا نحيلا نحيلا لا يكاد يبين، ووجدت نفسي بدلا من الاندهاش بالقناة، أندهش لما حول القناة، فعلى جانبي امتداد مجراها الذي يبلغ طوله مع تفريعاته الجديدة 190 كيلومترا، أبصرت رقعة معمورة بكثافة لا تنقطع، مما يعني أن القناة لم تخلق فقط مدنها الثلاث الشهيرة، بورسعيد، الإسماعيلية، السويس، بل خلقت خطا سكانيا عريضا يعمره الآن ملايين المصريين بالبيوت والمزارع والمدارس والمصانع والحقول، رزقا حلالا طيبا، تباركه بكل تأكيد أرواح الأجداد البسطاء الذين حفروا بعظامهم، وأشواق قلوبهم المذبوحة، هذا البرزخ العظيم.

المصدر : مجلة العربي الكويتية العدد 577 ديسمبر 2006



نقلا عن موقع التاريخ

http://www.altareekh.com/new/doc/modules.php?name=Content&pa=showpage&pid=1456&comm=0