عبدالودود العمراني
18/12/2006, 11:07 AM
حسن توفيق الصحفي والأديب، يشرف على الصفحات الثقافية في جريدة الراية الدوحة.
يمتاز بسعة الاطلاع وخفة الروح. سلاحه "المقاماتي" هو السخرية والنقد اللاذع وغير المباشر، حيث الرسائل بين السطور...
من كتاباته:
القبض على مجنون العرب
مقدمة بقلم : حسن توفيق
قطع أمير الشعراء أحمد»بك«شوقي اجازته التي كان يقضيها في أحد منتجعات الدار الآخرة.. نهض، فجأة، من مكانه، كمن لذعه برغوث، مع أنه كان يبدو مرتاح البال، وهو جالس على الأريكة السندسية المفضلة لديه... مع نهوضه المفاجئِ، اكتسى وجهه بالغضب، دون أن يهتم بنظرات الدهشة التي انبثقت من عيون الحوريات المستلقيات حوله بملابسهن الشفافة، بادرتْه إحداهن قائلةً وهي تتنهد: هل أحسستَ يا سيدي بالملل؟ هل ضايقتْكَ واحدة منا؟.. كنت أظن أنك تنعم بجلستك الهادئة بيننا، خاصة اننا كلنا نسعى لإسعادك.
حاول شوقي »بك« أن يتخفف قليلا من غضبه. قال للحورية المتنهدة: إن الأمر لا يتعلق بك ولا بسواك، فكلكن لطيفات وظريفات. لهذا سأعود إليكنَّ، ولكن بعد أن أنفذ ما استقر عليه تفكيرى... بعد ثوانٍ معدودات، شوهد أمير الشعراء، وهو يخرج من أحد الأبواب السرية للمنتجع، ربما لكي يتجنب فضول الصحفيين، أو يهرب من كاميرات القنوات الفضائية التي تُصَوّب نحو المشاهير. تزاحمت التساؤلات على شفاه الحوريات. إحداهن تساءلت: ما الذي أغضب »أمير الشعراء« العرب؟..أكدت حورية أخرى: هذه أول مرة أرى فيها وجهه قد اكتسى بالغضب. أضافت حورية ثالثة: نحن لم نقصر في ملاطفته منذ أن وفد إلى هذه الدار الآخرة يوم 14 أكتوبر سنة 1932 ميلادية. ردت عليها حورية بجوارها وهي تتمطى: ربما تكون طبيعته البشرية قد عادت إليه، فأصبح يعرف الغضب وسواه من الانفعالات التي تضر صاحبها قبل غيره. قالت الحورية التي كانت تتنهد أمام شوقي »بك«: أنا أعتقد أنه قد أشتاق إلى وطنه مصر، ويريد أن يزوره ولو بمجرد الروح.. لقد سمعته أكثر من مرة، يتمتم وهو شبه نائم:
وطني لو شُغلت بالخُلْد عنه
نازعتْني إليه في الخُلْد نفسي
اعتدلت الحورية ثم تثنت بدلال، وهي تقول: على أى حال، فإننا سنعرف السر عندما يعود إلى منتجعنا هذا، كما وعدني، وهو صادق الوعد.
|||
مالم تعرفه الحوريات أن أمير الشعراء قد اندفع كالمدفع الرشاش، قاصداً مقر »الإنتربول الفضائي« حيث التقى مع كبار الضباط العاملين فيه، مطالبا إياهم بأن يتعاونوا مع ضباط »الإنتربول« الذين يعملون على سطح الكرة الأرضية، لكي يحققوا له ما يريد... هدفُ أمير الشعراء واضح ومحدد.. أن يتم إلقاء القبض على مجنون العرب بأية وسيلة. هذا الهدف يتطلب بالطبع خططا سرية بارعة، حتى لا يتمكن المجنون من الإفلات، بفضل ما لديه من حيل وأسلحة عجيبة، من بينها »الصاروخ العابر للزمان« و»طاقية الإخفاء« و»بساط الريح« و»القمقم النحاسي المسحور«.
عقد أحد الضباط حاجبيه على جبينه اللجيني الذي تتغنى به فيروز، ثم قال بأدب شديد: لماذا تتوجه إلينا بهذا الطلب يا سيدي الأمير؟.. أنا - شخصيا - أعرف أن مجنون العرب إنسان مسالم، وهو لا يستخدم ما لديه من حيل وأسلحة إلا لكي يكتشف طباع الناس وأهواءهم خلال سنوات الحياة المتاحة لكل منهم على سطح الأرض. اصطبغ وجه أمير الشعراء بالأزرق والأحمر، وهو يقول: يا حضرة الضابط الموقر.. يبدو أنك طيب جدا، فهذا المجنون ليس مسالما كما تظن، وقد جئت الى هنا لكي أطالب بالقبض عليه، لكي يقر بما ارتكبه ضدي. وعلى العموم فإني لا أريد إيذاءه.. كل ما أريد أن أقوله له هو »للصبر حدود«. أريد أن أنبهه إلى بعض ما يستوجب التنبيه، وبعدها يمكنني أن أقول »لكل حادثة حديث«.
اقترب من أمير الشعراء ضابط آخر متجهم الوجه، ويبدو على ملامحه أنه من أقارب »شيلوك« المرابي اليهودي الذي فضحه وليم شكسبير منذ عدة قرون. قال الضابط » الشيلوكي« القلب: إن كل ما لدينا من تقارير، يؤكد أن مجنون العرب إنسان شرير، وهو واحد ممن يعادون »السامية« بدليل أنه يكره وجبة »الكوشير« ويفضل عليها » الفول« و»الطعمية« ونظراً لأني متعمق في دراسة الخلافات العربية - العربية وسبل تفكيكها لا تأجيجها، فإني لن أرحم هذا المجنون الشرير، ولن أتركه يفلت من العقاب، لكي يعرف أن لدينا هنا ماهو أقسى وأعنف من »جوانتانامو« و»أبو غريب« وسواهما. كل ما عليك يا أمير شعراء العرب أن تثق بي ثقة عمياء، فأنا المؤهل وحدي للقبض على مجنون العرب.
|||
كما هي عادته، كان المجنون يتجول ببساط الريح في فضاء الكرة الأرضية، محاولاً ألاَّ ينظر إلى الأرض ذاتها حتى يُبعد عينيه عن رؤية شلالات الدماء البشرية، لكنه فوجىء بأن مجموعة من الأطباق الطائرة تحيط به من كل جانب، ورأى أحدها يكاد يلتصق ببساط الريح، وسمع صوتاً محملا بالشر، تتدحرج منه كلمات متعثرة بلغة عربية ركيكة الأداء: إحنا بنريد تعطينا من وقتك خمس دقايق يا سيد مجنون، إنزل على الأرض حالاً وإياك تهرب. قال المجنون لنفسه إن »الكثرة تغلب الشجاعة« فأخذ يهبط اضطراريا، وبمجرد أن هبط، حاصره ملثمون كثيرون بعد أن خرجوا من أطباقهم الطائرة، وحملوه معهم، حيث سلموه، بعد أن ضربوه، للضابط »الشيلوكي« القلب، وتم وضع المجنون داخل قفص شائك، تسيل على أسلاكه قطراتُ دم، وسمع »أمير الشعراء العرب« من يقول له: الحين.. تقدر تسوِّي خلافاتك العربية - العربية مع مجنون العرب!
أحس شوقي »بك« بطعم الندم، لا في حلقه، بل في روحه. لهذا لم يتوجه بأية كلمة شكر للضابط »الشيلوكى« القلب، وإنما اقترب - بهدوء - من الضابط الذي كان يعقد حاجبيه على جبينه اللُجيني ورجاه أن يُخرج المجنون من القفص، حتى يستطيع أن يناقشه بشأن نقاط الخلاف التي لم يكن المجنون يعرف عنها شيئا.. حقق الضابط رجاء شوقي »بك« الذي دخل على الفور في صلب موضوع الخلاف.
- سامحني يا مجنون، فأنا لم أقصد أبداً أن أؤذيك، لكني سمعت أنك تنوي الإساءة لي!
| هل يُعقل أن أسييء إلى شاعر عبقري، أحببته ومازلت أحبه من كل قلبي؟
-هذا ما سمعته. لهذا أرجوك أن تجيب بصدق. هل صحيح أنك تنوي إصدار كتاب جديد، تروى فيه اسرار مغامراتك وشطحاتك الغريبة؟
| هذا صحيح.
- وما عنوان هذا الكتاب؟
| أنوي أن أسميه »مجنون العرب مع الحمار والخروف والنعامة«.
- لكني سمعت عن عنوان آخر غير هذا!
| معك حق يا شوقي »بك«.. لقد كنت أنوي - في البداية - أن أسمي الكتاب »مجنون العرب مع أمير الشعراء والحمار والخروف« ثم أدركت - بعد أن فكرت - أن هذا العنوان غير لائق، لأنه قد يوحي بالمساواة بين الإنسان والحيوان، وبين أمير الشعراء والحمار والخروف، ولهذا عدلت عن هذا العنوان، واكتفيت في العنوان الجديد بالحمار والخروف وأضفت إليهما النعامة.
- إني أحب صراحتك يا مجنون، لكني أريد أن أقترح عليك عنوانا جديدا، ينطبق على ما أنت فيه الآن.
| ماهو هذا العنوان؟
- »ليلة القبض على مجنون العرب«... أعتقد أن هذا عنوان مناسب.
| وهو كذلك يا شوقي »بك«.
- الآن قل لي.. كيف أساعدك لتخرج من هذه الورطة التي وضعتُك فيها منذ أن اكتسى وجهي بالغضب؟
| لا تقلق أيها الأمير.. يا صاحب القلب الكبير.. عندي من أسلحتي ما يتكفل بعودتي آمناً إلى حيث كنت!
فجأةً لم يعد أحدٌ يرى المجنون.. في لمح البصر، وضع على رأسه »طاقية الإخفاء« وانطلق في رحلة العودة إلى الأرض، بينما أصيب الضابط »الشيلوكي« القلب بما يشبه »الصدمة والترويع« وهو الذي كان يحلم بأن يصبهما على رأس المجنون، أما أمير الشعراء، فإنه تمهل قليلاً، ربما ليتأكد أن المجنون قد اختفى تماماً عن الأنظار، وبعد أن اطمأن قلبه، قرر العودة من جديد إلى نفس المنتجع الذي كان قد غادره.
استقبلت الحوريات شوقي »بك« وهن فرحات مبتهجات، أما هو فإنه لم يكن مغتبطا تماما، بعد أن لاحظ مالم يكن قد تنبه إليه من قبل، فقد رأى عدة حوريات، كل منهن ترتدي فستانا من الفساتين التي كانت ترتديها »شهرزاد« على امتداد »ألف ليلة وليلة« بينما رأى حوريات غيرهن، ترتدي كل منهن فستانا من فساتين عارضات الأزياء الأوروبيات في باريس ولندن وميلانو، كما رأى أخريات محجبات ومنقبات، ورأى غيرهن قانعات بارتداء قطع حريرية أصغر من » ورقة التوت« التي كانت »حواء« تستر بها ما أرادت أن تستره. تساءل أمير الشعراء عن سر هذه الخلطة الغريبة، وعما إذا كان التنوع يدل على خصوبة الحياة وثرائها، أم أنه يؤكد أن الفوضى قد وصلت إلى أقصى مداها، حتى عند الحوريات؟!
|||
»المجنون ليس أنا..« هذا ما قلُته من قبل، وأحب أن أؤكده الآن بكل وضوح، حتى لا يظن العقلاء بي ما قد يظنون، فيتجنبني بعضهم أو يهرب من طريقى غيرهم. وفيما يتعلق بحكاية القبض على مجنون العرب، ونجاحه في الإفلات والهرب فإنه - شخصيا - هو الذي رواها لي، بحكم الصداقة العميقة بيننا.
طبعا تترتب على الصداقة أعباء ومسؤوليات، يعرفها العاقل والمجنون على حد سواء، ومن هذا المنطلق طلب مني صديقي مجنون العرب أن أسجل ما يرويه لي من مغامراته ورحلاته، لأنه - كما يزعم - لا يجد الوقت الكافي لتسجيلها بنفسه، وقد وافقتُ على هذا الطلب، مشترطا عليه أن يتحمل هو وحده المسؤولية الكاملة عما ورد في هذه المغامرات والرحلات، تماما كما حدث في الكتاب الأول »مجنون العرب - بين رعد الغضب وليالي الطرب« والحقيقة أن المجنون لم يعترض على هذا الشرط، ثم قام على الفور بإهدائي مجموعة جميلة من الأقلام والأوراق، لكي أتحمس في تدوىن مغامراته ورحلاته دون تلكؤ أو تباطؤ، فضلا عن أنه أهداني بعض تذكاراته الشخصية التي يرى أنها نفيسة وذات قيمة تاريخية، ومن بين تلك التذكارات، البنطلون »الجينز« الذي ارتداه امرؤ القيس عندما قرر التخلص من ماضيه العربي، لكي يتحول إلى إنسان متدين عصري، فضلا عن »برذعة« حمار كان قد حاول التخلص من حموريته العريقة، وأن يتمرد على الواقع الذي عاش في إطاره.
يعرفُ الذين قرأوا الكتاب الأول أن مجنون العرب قد التقى مع كثيرين من الشعراء العرب الذين غابوا عن الدنيا منذ قرون، ومن بين هؤلاء امرؤ القيس وعنترة بن شداد وزهير بن أبي سلمى وعمر بن أبي ربيعة ومجنون ليلى قيس بن الملوح. ويعرف الذين قرأوا الكتاب الأول أيضا أن المجنون - كما يزعم - قد واجه نيرون بشجاعة، كما تصدى لهولاكو ببراعة ووقف في وجه الإمبراطور طائش بن راعش الذي يقتلع الخضرة والحشائش، ويرتكب الفواحش. أما من ناحيتي فإني أعلنت وقتها براءتي من الآراء والمواقف المتهورة التي أبداها هذا المجنون تجاه الملوك والأباطرة والرؤساء، وأكدت - بشكل واضح - أنه يتحمل، وحده، عاقبة ما قد تصل إليه الأمور مع أي ملك أو امبراطور أو رئيس، كما أنني أكدت، دون أن أتعرض لأية ضغوط خارجية أو داخلية أنني أحب كل الملوك والأباطرة والرؤساء، وأرى أنهم جميعا من المصلحين الذين لا يبغون في الأرض فسادا، وكما هو شأن كل العقلاء، وبالذات أولئك الذين يسمون أنفسهم »مثقفين« فإني دائما أبايع كل حاكم، وأرجو له طيب الإقامة على كرسي الحكم، أما إذا انقلب - لسبب أو لآخر - من على الكرسي، فإني أبايع من يجييء بعده دون أي تأخير، وشعاري في هذا هو المثل الشعبي المصري »اللي يتجوز أمي.. أقول له يا عمي«!
يبدو لي أن المسألة أسهل في هذا الكتاب الثاني، وذلك لأن المجنون لا يواجه فيه نيرون أو هولاكو أو غيرهما، وإنما يلتقي مع حمار، ويتعاطف مع خروف، أو يتعقب ديكا من الديوك، ويحاول مساعدة نعامة كانت بائسة ويائسة من إصلاح واقعها المتردي. ولهذا السبب فإني مطمئن- في هذا الكتاب الثاني- أني لن أتعرض للشنق أو لإطلاق الرصاص أو لسيارة مفخخة أو للاعتقال أو الخطف، فكل الذين يلتقي معهم المجنون أو معظمهم، هم من الحيوانات، وليسوا من بني آدم الذين قال عنهم -فيما مضى - أبوالعلاء المعري:
أفضلُ من أفضلهم صخرةُُ
لا تظلمُ الناسَ ولا تكذبُ
قد يقول لي أحد العقلاء، قاصداً أن ينبهني أو أن يخيفني: ولكن هناك حيوانات مفترسة، وهنا أقول له وأنا شبه مطمئن إن المجنون لم يلتقِ في معظم مغامراته ورحلاته الجديدة إلا مع حيوانات أليفة، طيبة ومطيعة، فهو لم يلتقِ مع الأسد أو النمر أو الفهد أو وحيد القرن. ولكن لابد من الاعتراف بأني شخصيا قد تحدثت عن هؤلاء وسواهم مع المجنون خلال عدة جلسات سرية، حيث اندمجنا في قراءة أو إعادة قراءة مجموعة من الكتب التي تجرأ أصحابها ووصفوا فيها صفات الأسد والنمر والفهد ووحيد القرن، ومن هؤلاء الذين تجرأوا بل تهوروا »أيسوب« الإغريقي و»لافونتين« الفرنسي ومن عندنا »أمير الشعراء« بلحمه وشحمه، وكذلك »الجاحظ« و»الدميري« من الأدباء العرب القدامى.
ولا بد هنا أيضا أن أنبه العقلاء إلى أن كتاب »حياة الحيوان الكبرى« للأستاذ العلامة والقدوة الفهامة الشيخ كمال الدين الدميري، هو كتاب يجمع بين العقل والجنون، وبين الحكمة والخرافة. على سبيل المثال، فإن الدميري أراد أن يعظ الناس، ويشرح لهم أضرار الخمر، فروى لهم حكاية خرافية بكل معنى الكلمة، أثناء حديثه عن الطاووس، حيث قال: »حُكي أن آدم لما غرس الكرمة جاء إبليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه، فلما طلعت أوراقها ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شاربُ الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاووس، فإذا جاءت مبادىء السكر لعب وصفق ورقص كما يفعل القرد، فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه، ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير ويطلب النوم وتنحّل عُرا قوته..«.
هذا مثال من مئات الأمثلة التي تدل على ما في كتاب »حياة الحيوان الكبرى« من خرافة، وهناك بالطبع مئات الأمثلة الأخرى التي تدل على ما في نفس هذا الكتاب من علم وحكمة، ومن هنا فإني أرى أن كتاب الدميري مفيد حقا لكل من المجانين والعقلاء على حد سواء، شأنه في هذا شأن كثير من الكتب العربية القديمة التي تمتزج فيها الخرافة بالعلم!
أعود الآن إلى هذا الكتاب الذي اقترح أمير الشعراء أحمد »بك« شوقي أن يكون عنوانه »ليلة القبض على مجنون العرب« حيث تبدأ أولى المغامرات بسهرة مطولة جمعت - بالمصادفة - كلا من المجنون وأمير الشعراء في ملهى »الليدو« بباريس، وكان المجنون قد احتال، فسمى نفسه »رمسيس« حتى يهرب من ملاحقة الجواسيس، نظراً لأن اسمه العربي قد يوقعه في مآزق أو مشكلات، أقلها هو اتهامه بأنه »إرهابي« أو »أن هناك صلات مشبوهة تربطه بالقاعدة«... روى المجنون لشوقي »بك« حكاية قطة أصبحت في ورطة، بعد أن جاءها في المنام أن الفأر قد تعهد بأخذ الثأر، والحقيقة أن ما أحست به القطة من ورطة، هو نفس ما يشعر به الطغاة الأقوياء حين يرون أن الأمور قد أفلتت من أيديهم وعلينا أن نتذكر هنا منظر »شاوشيسكو« ديكتاتور رومانيا بعد أن ظل يحاول أن يهرب من مصيره المحتوم دون جدوى!
بعد السهرة المطولة مع أمير الشعراء، أخذ المجنون يتسكع في الشوارع والحارات، إلى أن التقى مع حمار، يحاول التمرد على ما في الحياة من انحطاط وانحدار، وقد اعترف هذا الحمار للصحافة، بأنه لا يحب النظافة، وصدر قرار بقطع ذيله، بعد اتهامه بفضح الأسرار، فأخذ يبحث عن وسيلة للفرار، بعد أن توعده السيف البتار، وبعد نجاته من عدة كمائن تحايلَ كي يتحول من حمار إلى مواطن لكنه ما لبث أن واجه الناس مؤكداً أن معظمهم وسواس خناس، وبعد هذه المواجهة كان لابد له أن يقرر العودة للأصل حتى يلتئم الشمل مع الأهل.
بعد عودة الحمار إلى حظيرته، التقى المجنون مع نعامة، ضلت خطاها سكة السلامة، وكان المجنون قد عرف من »الدميري« حكاية عجيبة تروي أن النعامة قد ذهبت لكي تطلب لها قرنين، حتى يتسنى لها أن تدافع بهما عن نفسها إذا اقتضت الضرورة، لكن الناس الظالمين بدلا من أن يعطوها القرنين قطعوا لها الأذنين، ومن يومها لم تعد تسمع حتى أعلى الأصوات!
تحمس المجنون بشهامة لأن يساعد النعامة، وهذا ما تحقق بفضل صديقه »المارد« العملاق الذي يقدم له خدمات جليلة، حيث يقوم باستدعائه من القمقم النحاسي المسحور، وعلى الرغم من أن المارد قد ساعد النعامة في استرداد ما كان لها من أذنين، إلا أنه »رفض الخوض في أي حديث.. يتعلق بشهرة النعامة في الجري الحثيث.. لأن ما كانت تتحلى به من عنفوان.. قد أصبح في خبر كان.. أما الآن فإنها لا تحصل إلا على درجة صفر.. في كل مسابقات هذا العصر..«.
تقديراً لما أهداني المجنون إياه من أقلام وأوراق لابد أن أستطرد فأشير إلى أنه قد التقى مع أحد الديوك، وقد أكد هذا الديك أن الدجاج، أصبح يبيض الآن بدون مزاج، ونظرا لأن هذا الديك كان من الماكرين فإنه حَبَكَ تمثيلية مكشوفة، محاولاً أن يعيد بها شعبيته المفقودة بين جموع الدجاج، وملخص هذه التمثيلية أن يقفز هذا الديك من أعلى سور. محتجاً على إنفلونزا الطيور!
على امتداد أربع حلقات أو »مقامات« يستطيع العقلاء أن يتعرفوا على شخصية »خروف« يحاول أن يتمرد على الواقع بل أن يتجاوزه لكي يهرب من المصير المحتوم، فقد أكد هذا الخروف للمجنون أنه »ضحية« وأنه سيحاول إقناع مجلس الأمن بأن ينظر في قضيته التي تتعلق بقيام المسلمين بذبح أقاربه وبني جنسه باستمرار وخصوصا في »عيد الأضحى« وقد تأكد الخروف أن أكبر المحرضين على ذبح أقاربه وبني جنسه هو الشاعر القطري - العربي - المسلم محمد بن خليفة العطية الذي أرسل للمجنون رسالة »موبيل« يطالبه فيها بعدم التعاطف مع القضية الخروفية، وهذا هو النص الحرفي للرسالة:
»أيها المجنون ما جدوى القضية
بعد أن تقضي على الكبش المنية
إنما كبشك قربان »طليقٌ«
فاشحذ السكين وانحره هدية
وَدعِ اللغوَ مع الكبش فإن
اللغو لا يمنع أقدارَ الضحية«
لم يتجاوب المجنون مع رسالة صديقه الشاعر محمد بن خليفة العطية، وأخيرا ارتاح الخروف من التفكير بعد أن قرر التحول إلى خنزير، لكن أغرب ما جرى هو أن هذا الخروف قد وقع في مأزق جديد بعد أن تحول إلى خنزير، فقد رآه أحد جيران المجنون، وهو مستر »سيمون« - الهندي المسيحي، وحاول أن يربطه بحبل متين.. بعد أن تصور هذا الجار أنه أمام خنزير سمين.. وأنه من الممكن تحويله إلى وليمة شهية، يدعو لها أصدقاءه الذين يدينون بالمسيحية. كان لابد من البحث عن حيلة جديدة، وهكذا استدعى المجنون صديقه »المارد« وأمره أن يحّول الخروف إلى بقرة، مستعينا في هذا بطقوس كتاب »مسخ الكائنات« للشاعر الروماني أوفيد، والذي ترجمه إلى لغتنا العربية ترجمةً رائعةً الكاتب الفنان الدكتور ثروت عكاشة، وهكذا تجلى الخروف في هيئة بقرة.. ولم يعد أحد يقتفي أثره، لا من المسلمين ولا من المسيحيين، خاصة بعد أن حمله »المارد« وأوصله إلى الهند وقد أصبح الخروف - بهيئته البقرية الجديدة - معبودا للهندوس الذين يعبدون الأبقار.. المشكلة الجديدة، وهي مشكلة داخلية هذه المرة وليست خارجية، أن الخروف تحول في الهند إلى طاغية مستبد، فاغتاظ المجنون وأرسل إليه مهددا بإلقائه في أبشع هاوية لكي يلقى نفس المصير الذي يلقاه الطغاة من البشر.
بعيداً عن الحمار والنعامة والديك والخروف، التقى المجنون كذلك مع إنسان ليس من لحم ودم، وهو الذي يسمونه »الروبوت« أو »الانسان الآلي« أما مكان اللقاء فهو سطح كوكب المريخ الذى وصل إليه المجنون بصحبة صديقه المارد المطيع... كان المجنون يتصور أن كوكب المريخ، لا بد أن يكون مملوءاً بالبطيخ، طالما أن لونه أحمر، أو أن سكانه الذين انقرضوا هم من الشيوعيين الذين يرفعون الأعلام الحمراء، لكن أغرب ما حدث يتمثل في أن »الروبوت« باح للمجنون بما ينوي أن يفعله حين يصبح أكثر ذكاء وقدرة على الاستقلال في التفكير وفي الحركة.. أكد »الروبوت« أنه سيتمرد على أوامر الذين أرسلوه من الأرض إلى المريخ، لأنه عرف نواياهم الخبيثة، فهم يريدون استغلال العلم في الشر، وليس في الخير الذي ينفع الناس ويجعل حياتهم أكثر جمالاً، ونظراً لخطورة الكلام الذي باح به »الروبوت« لا بد لي أن أنقل النص الحرفي لكلامه، حتى يتحمل وحده المسؤولية، ومما قاله »الروبوت« بالنص: ».. إن المتجبرين من الآدميين.. يريدون أن يبنوا فوق المريخ زنازين.. لأن زنازين الأرض لم تعد كافية.. رغم أن قتل السجناء يحدث في كل ثانية.«.
عاد المجنون من المريخ، ليلتقي أو يتعرف على نساء مختلفات، منهن من تحولت أجسادهن إلى سلع ُتشترى أو تؤجر لطالبي المتعة من الرجال وقد رقَّ قلب المجنون وهو يقول: ».. من الليدو إلى كازينو بديعة.. يظل أمثالُ عمر بن أبي ربيعة.. يتفحصون جمال الزهرات.. ويتذوقون نبيذ الرغبات.. بينما ترقص الزهرات بسيقانهن العارية.. في ليالي المدن القريبة والنائية.. ولا مكانَ لمن تظل باكية.. فعلى كل زهرة أن تبدو زاهية. وتتظاهر بأن روحها من الهم خالية. »ومن ناحية أخرى، فإن المجنون الذي يعرف قيمة الحب، تشاجر مع »كارمن« وأكد لها أن عاشقها ليس بخائن.. وتجَّول المجنون مبتعدا عن »كارمن« الغجرية الأسبانية، ليتعرف على مصير »ذكرى« المطربة التونسية، ثم رأى بعينيه أفعى غادرة.. تتسلى بامرأة فاجرة.. لكنها تزعم أنها طاهرة.. كما رأى »ليلى العامرية« وهي تتأرجح بينما ظل قيس بن الملوح يترنح، وهو يقول:
يبوحُ القلبُ دوماً باشتياقي
لِليلاي المريضة في العراقٍ
أرى جسداً تُفتته المآسي
على أرضٍ تئنُ من الشقاقِ
وتحلمُ بالنهارِ يبثُ فيها
شموساً للتناغم والتلاقي
ولكنْ كيفَ يشفيها طبيبٌ
يدسُّ السُّمَ في جسد الوفاقٍ؟
قلت من قبل إن المجنون - في هذا الكتاب الثاني - يلتقي مع حيوانات، حيث يتعاطف مع حمار وخروف، لكن هذا لا يعني أنه لم يشاهد نماذج من الرجال الذين يُفترض أنهم من الآدميين، لكن هؤلاء ليسوا كثيرين على أي حال ومن هؤلاء »السيد المهاب« الذي قال لأحد أعوانه:
نادِ المثقفَ واعطه بقشيشَا
وإذا تلكأ.. وَفِّه التلطيشَا
ومن هؤلاء أيضا »المهووس الأحمق« الذي أوقع نفسه في مأزق.. و»مهبوش بن مرعوش« الذي يتصور أنه أقوى من كل الوحوش.. ونظراً لإدراك المجنون لكل وسائل الخداع التي يلجأ إليها الطغاة، فإنه قال لي بالحرف الواحد إن إعلان الذئاب.. عن تغيير الثياب.. لا يعني أنها بلا أنياب، وقال المجنون لي إنه سمع الذئب الأكبر يقول: ».. كلٌّ منا سيرتدي صوفَ خروف.. أما الفعل فسيظل كما هو مألوف.. وبدلاً من أن نوصف بأننا متوحشون أجانب.. ويأتينا اللوم من كل جانب.. فإننا سنصبح قوة متعددة للنهش.. وهذا ما سيطمئن قلبَ كل جحش«.. وعلى الرغم من أن »مجنون العرب« ظل حزينا أو شاردا أو متململا أو مغتاظا وهو يروي لي ما ضايقه، فإنه أكد تمسكه بالأمل.. فمن يدري؟.. ربما استطاع »الإنسان الآلي« أو »الروبوت« أن يُسخر العلم لخدمة الناس، بدلاً من القضاء على الضعفاء منهم.. من خلال التمسك بالأمل، اختتم المجنون ما رواه وهو يؤكد أن »الليل تدحرج في الغابة.. والنور يعانق أحبابه«.
مرة أخرى أؤكد أن »المجنون ليس أنا«.. والمجنون وحده هو الذي يتحمل مسؤولية ما رواه لي، أما أنا فلم أقم إلا بتسجيل مغامراته ورحلاته، بعد أن أهداني مجموعة جميلة من الأقلام والأوراق، ومن ناحيتي فإني لست مهتما بأن يصدق العقلاء ما رواه المجنون أو أن يكذبوه أو أن يطالبوا بالقبض عليه، كما فعل أمير الشعراء شوقي »بك« فالمهم أني شخصيا بريء ومطيع ولا أحب التمرد، وإنما أحب أن أكرر ما قاله » الواعظ« في »مأساة الحلاج« لأستاذي العظيم صلاح عبد الصبور:
باح...!
ِبمَ باح، لكي تأخذه الشرطة؟
لا أدري، وعلى كل، فالأيام غريبة
والعاقل مَن يتحرز في كلماته
لا يعرضُ بالسوء
لنظامٍ أو شخصٍ أو وضِعٍ أو قانونٍ
أو قاضٍ أو والٍ أو محتسبٍ أو حاكمْ
يمتاز بسعة الاطلاع وخفة الروح. سلاحه "المقاماتي" هو السخرية والنقد اللاذع وغير المباشر، حيث الرسائل بين السطور...
من كتاباته:
القبض على مجنون العرب
مقدمة بقلم : حسن توفيق
قطع أمير الشعراء أحمد»بك«شوقي اجازته التي كان يقضيها في أحد منتجعات الدار الآخرة.. نهض، فجأة، من مكانه، كمن لذعه برغوث، مع أنه كان يبدو مرتاح البال، وهو جالس على الأريكة السندسية المفضلة لديه... مع نهوضه المفاجئِ، اكتسى وجهه بالغضب، دون أن يهتم بنظرات الدهشة التي انبثقت من عيون الحوريات المستلقيات حوله بملابسهن الشفافة، بادرتْه إحداهن قائلةً وهي تتنهد: هل أحسستَ يا سيدي بالملل؟ هل ضايقتْكَ واحدة منا؟.. كنت أظن أنك تنعم بجلستك الهادئة بيننا، خاصة اننا كلنا نسعى لإسعادك.
حاول شوقي »بك« أن يتخفف قليلا من غضبه. قال للحورية المتنهدة: إن الأمر لا يتعلق بك ولا بسواك، فكلكن لطيفات وظريفات. لهذا سأعود إليكنَّ، ولكن بعد أن أنفذ ما استقر عليه تفكيرى... بعد ثوانٍ معدودات، شوهد أمير الشعراء، وهو يخرج من أحد الأبواب السرية للمنتجع، ربما لكي يتجنب فضول الصحفيين، أو يهرب من كاميرات القنوات الفضائية التي تُصَوّب نحو المشاهير. تزاحمت التساؤلات على شفاه الحوريات. إحداهن تساءلت: ما الذي أغضب »أمير الشعراء« العرب؟..أكدت حورية أخرى: هذه أول مرة أرى فيها وجهه قد اكتسى بالغضب. أضافت حورية ثالثة: نحن لم نقصر في ملاطفته منذ أن وفد إلى هذه الدار الآخرة يوم 14 أكتوبر سنة 1932 ميلادية. ردت عليها حورية بجوارها وهي تتمطى: ربما تكون طبيعته البشرية قد عادت إليه، فأصبح يعرف الغضب وسواه من الانفعالات التي تضر صاحبها قبل غيره. قالت الحورية التي كانت تتنهد أمام شوقي »بك«: أنا أعتقد أنه قد أشتاق إلى وطنه مصر، ويريد أن يزوره ولو بمجرد الروح.. لقد سمعته أكثر من مرة، يتمتم وهو شبه نائم:
وطني لو شُغلت بالخُلْد عنه
نازعتْني إليه في الخُلْد نفسي
اعتدلت الحورية ثم تثنت بدلال، وهي تقول: على أى حال، فإننا سنعرف السر عندما يعود إلى منتجعنا هذا، كما وعدني، وهو صادق الوعد.
|||
مالم تعرفه الحوريات أن أمير الشعراء قد اندفع كالمدفع الرشاش، قاصداً مقر »الإنتربول الفضائي« حيث التقى مع كبار الضباط العاملين فيه، مطالبا إياهم بأن يتعاونوا مع ضباط »الإنتربول« الذين يعملون على سطح الكرة الأرضية، لكي يحققوا له ما يريد... هدفُ أمير الشعراء واضح ومحدد.. أن يتم إلقاء القبض على مجنون العرب بأية وسيلة. هذا الهدف يتطلب بالطبع خططا سرية بارعة، حتى لا يتمكن المجنون من الإفلات، بفضل ما لديه من حيل وأسلحة عجيبة، من بينها »الصاروخ العابر للزمان« و»طاقية الإخفاء« و»بساط الريح« و»القمقم النحاسي المسحور«.
عقد أحد الضباط حاجبيه على جبينه اللجيني الذي تتغنى به فيروز، ثم قال بأدب شديد: لماذا تتوجه إلينا بهذا الطلب يا سيدي الأمير؟.. أنا - شخصيا - أعرف أن مجنون العرب إنسان مسالم، وهو لا يستخدم ما لديه من حيل وأسلحة إلا لكي يكتشف طباع الناس وأهواءهم خلال سنوات الحياة المتاحة لكل منهم على سطح الأرض. اصطبغ وجه أمير الشعراء بالأزرق والأحمر، وهو يقول: يا حضرة الضابط الموقر.. يبدو أنك طيب جدا، فهذا المجنون ليس مسالما كما تظن، وقد جئت الى هنا لكي أطالب بالقبض عليه، لكي يقر بما ارتكبه ضدي. وعلى العموم فإني لا أريد إيذاءه.. كل ما أريد أن أقوله له هو »للصبر حدود«. أريد أن أنبهه إلى بعض ما يستوجب التنبيه، وبعدها يمكنني أن أقول »لكل حادثة حديث«.
اقترب من أمير الشعراء ضابط آخر متجهم الوجه، ويبدو على ملامحه أنه من أقارب »شيلوك« المرابي اليهودي الذي فضحه وليم شكسبير منذ عدة قرون. قال الضابط » الشيلوكي« القلب: إن كل ما لدينا من تقارير، يؤكد أن مجنون العرب إنسان شرير، وهو واحد ممن يعادون »السامية« بدليل أنه يكره وجبة »الكوشير« ويفضل عليها » الفول« و»الطعمية« ونظراً لأني متعمق في دراسة الخلافات العربية - العربية وسبل تفكيكها لا تأجيجها، فإني لن أرحم هذا المجنون الشرير، ولن أتركه يفلت من العقاب، لكي يعرف أن لدينا هنا ماهو أقسى وأعنف من »جوانتانامو« و»أبو غريب« وسواهما. كل ما عليك يا أمير شعراء العرب أن تثق بي ثقة عمياء، فأنا المؤهل وحدي للقبض على مجنون العرب.
|||
كما هي عادته، كان المجنون يتجول ببساط الريح في فضاء الكرة الأرضية، محاولاً ألاَّ ينظر إلى الأرض ذاتها حتى يُبعد عينيه عن رؤية شلالات الدماء البشرية، لكنه فوجىء بأن مجموعة من الأطباق الطائرة تحيط به من كل جانب، ورأى أحدها يكاد يلتصق ببساط الريح، وسمع صوتاً محملا بالشر، تتدحرج منه كلمات متعثرة بلغة عربية ركيكة الأداء: إحنا بنريد تعطينا من وقتك خمس دقايق يا سيد مجنون، إنزل على الأرض حالاً وإياك تهرب. قال المجنون لنفسه إن »الكثرة تغلب الشجاعة« فأخذ يهبط اضطراريا، وبمجرد أن هبط، حاصره ملثمون كثيرون بعد أن خرجوا من أطباقهم الطائرة، وحملوه معهم، حيث سلموه، بعد أن ضربوه، للضابط »الشيلوكي« القلب، وتم وضع المجنون داخل قفص شائك، تسيل على أسلاكه قطراتُ دم، وسمع »أمير الشعراء العرب« من يقول له: الحين.. تقدر تسوِّي خلافاتك العربية - العربية مع مجنون العرب!
أحس شوقي »بك« بطعم الندم، لا في حلقه، بل في روحه. لهذا لم يتوجه بأية كلمة شكر للضابط »الشيلوكى« القلب، وإنما اقترب - بهدوء - من الضابط الذي كان يعقد حاجبيه على جبينه اللُجيني ورجاه أن يُخرج المجنون من القفص، حتى يستطيع أن يناقشه بشأن نقاط الخلاف التي لم يكن المجنون يعرف عنها شيئا.. حقق الضابط رجاء شوقي »بك« الذي دخل على الفور في صلب موضوع الخلاف.
- سامحني يا مجنون، فأنا لم أقصد أبداً أن أؤذيك، لكني سمعت أنك تنوي الإساءة لي!
| هل يُعقل أن أسييء إلى شاعر عبقري، أحببته ومازلت أحبه من كل قلبي؟
-هذا ما سمعته. لهذا أرجوك أن تجيب بصدق. هل صحيح أنك تنوي إصدار كتاب جديد، تروى فيه اسرار مغامراتك وشطحاتك الغريبة؟
| هذا صحيح.
- وما عنوان هذا الكتاب؟
| أنوي أن أسميه »مجنون العرب مع الحمار والخروف والنعامة«.
- لكني سمعت عن عنوان آخر غير هذا!
| معك حق يا شوقي »بك«.. لقد كنت أنوي - في البداية - أن أسمي الكتاب »مجنون العرب مع أمير الشعراء والحمار والخروف« ثم أدركت - بعد أن فكرت - أن هذا العنوان غير لائق، لأنه قد يوحي بالمساواة بين الإنسان والحيوان، وبين أمير الشعراء والحمار والخروف، ولهذا عدلت عن هذا العنوان، واكتفيت في العنوان الجديد بالحمار والخروف وأضفت إليهما النعامة.
- إني أحب صراحتك يا مجنون، لكني أريد أن أقترح عليك عنوانا جديدا، ينطبق على ما أنت فيه الآن.
| ماهو هذا العنوان؟
- »ليلة القبض على مجنون العرب«... أعتقد أن هذا عنوان مناسب.
| وهو كذلك يا شوقي »بك«.
- الآن قل لي.. كيف أساعدك لتخرج من هذه الورطة التي وضعتُك فيها منذ أن اكتسى وجهي بالغضب؟
| لا تقلق أيها الأمير.. يا صاحب القلب الكبير.. عندي من أسلحتي ما يتكفل بعودتي آمناً إلى حيث كنت!
فجأةً لم يعد أحدٌ يرى المجنون.. في لمح البصر، وضع على رأسه »طاقية الإخفاء« وانطلق في رحلة العودة إلى الأرض، بينما أصيب الضابط »الشيلوكي« القلب بما يشبه »الصدمة والترويع« وهو الذي كان يحلم بأن يصبهما على رأس المجنون، أما أمير الشعراء، فإنه تمهل قليلاً، ربما ليتأكد أن المجنون قد اختفى تماماً عن الأنظار، وبعد أن اطمأن قلبه، قرر العودة من جديد إلى نفس المنتجع الذي كان قد غادره.
استقبلت الحوريات شوقي »بك« وهن فرحات مبتهجات، أما هو فإنه لم يكن مغتبطا تماما، بعد أن لاحظ مالم يكن قد تنبه إليه من قبل، فقد رأى عدة حوريات، كل منهن ترتدي فستانا من الفساتين التي كانت ترتديها »شهرزاد« على امتداد »ألف ليلة وليلة« بينما رأى حوريات غيرهن، ترتدي كل منهن فستانا من فساتين عارضات الأزياء الأوروبيات في باريس ولندن وميلانو، كما رأى أخريات محجبات ومنقبات، ورأى غيرهن قانعات بارتداء قطع حريرية أصغر من » ورقة التوت« التي كانت »حواء« تستر بها ما أرادت أن تستره. تساءل أمير الشعراء عن سر هذه الخلطة الغريبة، وعما إذا كان التنوع يدل على خصوبة الحياة وثرائها، أم أنه يؤكد أن الفوضى قد وصلت إلى أقصى مداها، حتى عند الحوريات؟!
|||
»المجنون ليس أنا..« هذا ما قلُته من قبل، وأحب أن أؤكده الآن بكل وضوح، حتى لا يظن العقلاء بي ما قد يظنون، فيتجنبني بعضهم أو يهرب من طريقى غيرهم. وفيما يتعلق بحكاية القبض على مجنون العرب، ونجاحه في الإفلات والهرب فإنه - شخصيا - هو الذي رواها لي، بحكم الصداقة العميقة بيننا.
طبعا تترتب على الصداقة أعباء ومسؤوليات، يعرفها العاقل والمجنون على حد سواء، ومن هذا المنطلق طلب مني صديقي مجنون العرب أن أسجل ما يرويه لي من مغامراته ورحلاته، لأنه - كما يزعم - لا يجد الوقت الكافي لتسجيلها بنفسه، وقد وافقتُ على هذا الطلب، مشترطا عليه أن يتحمل هو وحده المسؤولية الكاملة عما ورد في هذه المغامرات والرحلات، تماما كما حدث في الكتاب الأول »مجنون العرب - بين رعد الغضب وليالي الطرب« والحقيقة أن المجنون لم يعترض على هذا الشرط، ثم قام على الفور بإهدائي مجموعة جميلة من الأقلام والأوراق، لكي أتحمس في تدوىن مغامراته ورحلاته دون تلكؤ أو تباطؤ، فضلا عن أنه أهداني بعض تذكاراته الشخصية التي يرى أنها نفيسة وذات قيمة تاريخية، ومن بين تلك التذكارات، البنطلون »الجينز« الذي ارتداه امرؤ القيس عندما قرر التخلص من ماضيه العربي، لكي يتحول إلى إنسان متدين عصري، فضلا عن »برذعة« حمار كان قد حاول التخلص من حموريته العريقة، وأن يتمرد على الواقع الذي عاش في إطاره.
يعرفُ الذين قرأوا الكتاب الأول أن مجنون العرب قد التقى مع كثيرين من الشعراء العرب الذين غابوا عن الدنيا منذ قرون، ومن بين هؤلاء امرؤ القيس وعنترة بن شداد وزهير بن أبي سلمى وعمر بن أبي ربيعة ومجنون ليلى قيس بن الملوح. ويعرف الذين قرأوا الكتاب الأول أيضا أن المجنون - كما يزعم - قد واجه نيرون بشجاعة، كما تصدى لهولاكو ببراعة ووقف في وجه الإمبراطور طائش بن راعش الذي يقتلع الخضرة والحشائش، ويرتكب الفواحش. أما من ناحيتي فإني أعلنت وقتها براءتي من الآراء والمواقف المتهورة التي أبداها هذا المجنون تجاه الملوك والأباطرة والرؤساء، وأكدت - بشكل واضح - أنه يتحمل، وحده، عاقبة ما قد تصل إليه الأمور مع أي ملك أو امبراطور أو رئيس، كما أنني أكدت، دون أن أتعرض لأية ضغوط خارجية أو داخلية أنني أحب كل الملوك والأباطرة والرؤساء، وأرى أنهم جميعا من المصلحين الذين لا يبغون في الأرض فسادا، وكما هو شأن كل العقلاء، وبالذات أولئك الذين يسمون أنفسهم »مثقفين« فإني دائما أبايع كل حاكم، وأرجو له طيب الإقامة على كرسي الحكم، أما إذا انقلب - لسبب أو لآخر - من على الكرسي، فإني أبايع من يجييء بعده دون أي تأخير، وشعاري في هذا هو المثل الشعبي المصري »اللي يتجوز أمي.. أقول له يا عمي«!
يبدو لي أن المسألة أسهل في هذا الكتاب الثاني، وذلك لأن المجنون لا يواجه فيه نيرون أو هولاكو أو غيرهما، وإنما يلتقي مع حمار، ويتعاطف مع خروف، أو يتعقب ديكا من الديوك، ويحاول مساعدة نعامة كانت بائسة ويائسة من إصلاح واقعها المتردي. ولهذا السبب فإني مطمئن- في هذا الكتاب الثاني- أني لن أتعرض للشنق أو لإطلاق الرصاص أو لسيارة مفخخة أو للاعتقال أو الخطف، فكل الذين يلتقي معهم المجنون أو معظمهم، هم من الحيوانات، وليسوا من بني آدم الذين قال عنهم -فيما مضى - أبوالعلاء المعري:
أفضلُ من أفضلهم صخرةُُ
لا تظلمُ الناسَ ولا تكذبُ
قد يقول لي أحد العقلاء، قاصداً أن ينبهني أو أن يخيفني: ولكن هناك حيوانات مفترسة، وهنا أقول له وأنا شبه مطمئن إن المجنون لم يلتقِ في معظم مغامراته ورحلاته الجديدة إلا مع حيوانات أليفة، طيبة ومطيعة، فهو لم يلتقِ مع الأسد أو النمر أو الفهد أو وحيد القرن. ولكن لابد من الاعتراف بأني شخصيا قد تحدثت عن هؤلاء وسواهم مع المجنون خلال عدة جلسات سرية، حيث اندمجنا في قراءة أو إعادة قراءة مجموعة من الكتب التي تجرأ أصحابها ووصفوا فيها صفات الأسد والنمر والفهد ووحيد القرن، ومن هؤلاء الذين تجرأوا بل تهوروا »أيسوب« الإغريقي و»لافونتين« الفرنسي ومن عندنا »أمير الشعراء« بلحمه وشحمه، وكذلك »الجاحظ« و»الدميري« من الأدباء العرب القدامى.
ولا بد هنا أيضا أن أنبه العقلاء إلى أن كتاب »حياة الحيوان الكبرى« للأستاذ العلامة والقدوة الفهامة الشيخ كمال الدين الدميري، هو كتاب يجمع بين العقل والجنون، وبين الحكمة والخرافة. على سبيل المثال، فإن الدميري أراد أن يعظ الناس، ويشرح لهم أضرار الخمر، فروى لهم حكاية خرافية بكل معنى الكلمة، أثناء حديثه عن الطاووس، حيث قال: »حُكي أن آدم لما غرس الكرمة جاء إبليس فذبح عليها طاووسا فشربت دمه، فلما طلعت أوراقها ذبح عليها قرداً فشربت دمه، فلما طلعت ثمرتها ذبح عليها أسداً فشربت دمه، فلما انتهت ثمرتها ذبح عليها خنزيراً فشربت دمه، فلهذا شاربُ الخمر تعتريه هذه الأوصاف الأربعة، وذلك أنه أول ما يشربها وتدب في أعضائه يزهو لونه ويحسن كما يحسن الطاووس، فإذا جاءت مبادىء السكر لعب وصفق ورقص كما يفعل القرد، فإذا قوي سكره جاءت الصفة الأسدية فيعبث ويعربد ويهذي بما لا فائدة فيه، ثم يتقعص كما يتقعص الخنزير ويطلب النوم وتنحّل عُرا قوته..«.
هذا مثال من مئات الأمثلة التي تدل على ما في كتاب »حياة الحيوان الكبرى« من خرافة، وهناك بالطبع مئات الأمثلة الأخرى التي تدل على ما في نفس هذا الكتاب من علم وحكمة، ومن هنا فإني أرى أن كتاب الدميري مفيد حقا لكل من المجانين والعقلاء على حد سواء، شأنه في هذا شأن كثير من الكتب العربية القديمة التي تمتزج فيها الخرافة بالعلم!
أعود الآن إلى هذا الكتاب الذي اقترح أمير الشعراء أحمد »بك« شوقي أن يكون عنوانه »ليلة القبض على مجنون العرب« حيث تبدأ أولى المغامرات بسهرة مطولة جمعت - بالمصادفة - كلا من المجنون وأمير الشعراء في ملهى »الليدو« بباريس، وكان المجنون قد احتال، فسمى نفسه »رمسيس« حتى يهرب من ملاحقة الجواسيس، نظراً لأن اسمه العربي قد يوقعه في مآزق أو مشكلات، أقلها هو اتهامه بأنه »إرهابي« أو »أن هناك صلات مشبوهة تربطه بالقاعدة«... روى المجنون لشوقي »بك« حكاية قطة أصبحت في ورطة، بعد أن جاءها في المنام أن الفأر قد تعهد بأخذ الثأر، والحقيقة أن ما أحست به القطة من ورطة، هو نفس ما يشعر به الطغاة الأقوياء حين يرون أن الأمور قد أفلتت من أيديهم وعلينا أن نتذكر هنا منظر »شاوشيسكو« ديكتاتور رومانيا بعد أن ظل يحاول أن يهرب من مصيره المحتوم دون جدوى!
بعد السهرة المطولة مع أمير الشعراء، أخذ المجنون يتسكع في الشوارع والحارات، إلى أن التقى مع حمار، يحاول التمرد على ما في الحياة من انحطاط وانحدار، وقد اعترف هذا الحمار للصحافة، بأنه لا يحب النظافة، وصدر قرار بقطع ذيله، بعد اتهامه بفضح الأسرار، فأخذ يبحث عن وسيلة للفرار، بعد أن توعده السيف البتار، وبعد نجاته من عدة كمائن تحايلَ كي يتحول من حمار إلى مواطن لكنه ما لبث أن واجه الناس مؤكداً أن معظمهم وسواس خناس، وبعد هذه المواجهة كان لابد له أن يقرر العودة للأصل حتى يلتئم الشمل مع الأهل.
بعد عودة الحمار إلى حظيرته، التقى المجنون مع نعامة، ضلت خطاها سكة السلامة، وكان المجنون قد عرف من »الدميري« حكاية عجيبة تروي أن النعامة قد ذهبت لكي تطلب لها قرنين، حتى يتسنى لها أن تدافع بهما عن نفسها إذا اقتضت الضرورة، لكن الناس الظالمين بدلا من أن يعطوها القرنين قطعوا لها الأذنين، ومن يومها لم تعد تسمع حتى أعلى الأصوات!
تحمس المجنون بشهامة لأن يساعد النعامة، وهذا ما تحقق بفضل صديقه »المارد« العملاق الذي يقدم له خدمات جليلة، حيث يقوم باستدعائه من القمقم النحاسي المسحور، وعلى الرغم من أن المارد قد ساعد النعامة في استرداد ما كان لها من أذنين، إلا أنه »رفض الخوض في أي حديث.. يتعلق بشهرة النعامة في الجري الحثيث.. لأن ما كانت تتحلى به من عنفوان.. قد أصبح في خبر كان.. أما الآن فإنها لا تحصل إلا على درجة صفر.. في كل مسابقات هذا العصر..«.
تقديراً لما أهداني المجنون إياه من أقلام وأوراق لابد أن أستطرد فأشير إلى أنه قد التقى مع أحد الديوك، وقد أكد هذا الديك أن الدجاج، أصبح يبيض الآن بدون مزاج، ونظرا لأن هذا الديك كان من الماكرين فإنه حَبَكَ تمثيلية مكشوفة، محاولاً أن يعيد بها شعبيته المفقودة بين جموع الدجاج، وملخص هذه التمثيلية أن يقفز هذا الديك من أعلى سور. محتجاً على إنفلونزا الطيور!
على امتداد أربع حلقات أو »مقامات« يستطيع العقلاء أن يتعرفوا على شخصية »خروف« يحاول أن يتمرد على الواقع بل أن يتجاوزه لكي يهرب من المصير المحتوم، فقد أكد هذا الخروف للمجنون أنه »ضحية« وأنه سيحاول إقناع مجلس الأمن بأن ينظر في قضيته التي تتعلق بقيام المسلمين بذبح أقاربه وبني جنسه باستمرار وخصوصا في »عيد الأضحى« وقد تأكد الخروف أن أكبر المحرضين على ذبح أقاربه وبني جنسه هو الشاعر القطري - العربي - المسلم محمد بن خليفة العطية الذي أرسل للمجنون رسالة »موبيل« يطالبه فيها بعدم التعاطف مع القضية الخروفية، وهذا هو النص الحرفي للرسالة:
»أيها المجنون ما جدوى القضية
بعد أن تقضي على الكبش المنية
إنما كبشك قربان »طليقٌ«
فاشحذ السكين وانحره هدية
وَدعِ اللغوَ مع الكبش فإن
اللغو لا يمنع أقدارَ الضحية«
لم يتجاوب المجنون مع رسالة صديقه الشاعر محمد بن خليفة العطية، وأخيرا ارتاح الخروف من التفكير بعد أن قرر التحول إلى خنزير، لكن أغرب ما جرى هو أن هذا الخروف قد وقع في مأزق جديد بعد أن تحول إلى خنزير، فقد رآه أحد جيران المجنون، وهو مستر »سيمون« - الهندي المسيحي، وحاول أن يربطه بحبل متين.. بعد أن تصور هذا الجار أنه أمام خنزير سمين.. وأنه من الممكن تحويله إلى وليمة شهية، يدعو لها أصدقاءه الذين يدينون بالمسيحية. كان لابد من البحث عن حيلة جديدة، وهكذا استدعى المجنون صديقه »المارد« وأمره أن يحّول الخروف إلى بقرة، مستعينا في هذا بطقوس كتاب »مسخ الكائنات« للشاعر الروماني أوفيد، والذي ترجمه إلى لغتنا العربية ترجمةً رائعةً الكاتب الفنان الدكتور ثروت عكاشة، وهكذا تجلى الخروف في هيئة بقرة.. ولم يعد أحد يقتفي أثره، لا من المسلمين ولا من المسيحيين، خاصة بعد أن حمله »المارد« وأوصله إلى الهند وقد أصبح الخروف - بهيئته البقرية الجديدة - معبودا للهندوس الذين يعبدون الأبقار.. المشكلة الجديدة، وهي مشكلة داخلية هذه المرة وليست خارجية، أن الخروف تحول في الهند إلى طاغية مستبد، فاغتاظ المجنون وأرسل إليه مهددا بإلقائه في أبشع هاوية لكي يلقى نفس المصير الذي يلقاه الطغاة من البشر.
بعيداً عن الحمار والنعامة والديك والخروف، التقى المجنون كذلك مع إنسان ليس من لحم ودم، وهو الذي يسمونه »الروبوت« أو »الانسان الآلي« أما مكان اللقاء فهو سطح كوكب المريخ الذى وصل إليه المجنون بصحبة صديقه المارد المطيع... كان المجنون يتصور أن كوكب المريخ، لا بد أن يكون مملوءاً بالبطيخ، طالما أن لونه أحمر، أو أن سكانه الذين انقرضوا هم من الشيوعيين الذين يرفعون الأعلام الحمراء، لكن أغرب ما حدث يتمثل في أن »الروبوت« باح للمجنون بما ينوي أن يفعله حين يصبح أكثر ذكاء وقدرة على الاستقلال في التفكير وفي الحركة.. أكد »الروبوت« أنه سيتمرد على أوامر الذين أرسلوه من الأرض إلى المريخ، لأنه عرف نواياهم الخبيثة، فهم يريدون استغلال العلم في الشر، وليس في الخير الذي ينفع الناس ويجعل حياتهم أكثر جمالاً، ونظراً لخطورة الكلام الذي باح به »الروبوت« لا بد لي أن أنقل النص الحرفي لكلامه، حتى يتحمل وحده المسؤولية، ومما قاله »الروبوت« بالنص: ».. إن المتجبرين من الآدميين.. يريدون أن يبنوا فوق المريخ زنازين.. لأن زنازين الأرض لم تعد كافية.. رغم أن قتل السجناء يحدث في كل ثانية.«.
عاد المجنون من المريخ، ليلتقي أو يتعرف على نساء مختلفات، منهن من تحولت أجسادهن إلى سلع ُتشترى أو تؤجر لطالبي المتعة من الرجال وقد رقَّ قلب المجنون وهو يقول: ».. من الليدو إلى كازينو بديعة.. يظل أمثالُ عمر بن أبي ربيعة.. يتفحصون جمال الزهرات.. ويتذوقون نبيذ الرغبات.. بينما ترقص الزهرات بسيقانهن العارية.. في ليالي المدن القريبة والنائية.. ولا مكانَ لمن تظل باكية.. فعلى كل زهرة أن تبدو زاهية. وتتظاهر بأن روحها من الهم خالية. »ومن ناحية أخرى، فإن المجنون الذي يعرف قيمة الحب، تشاجر مع »كارمن« وأكد لها أن عاشقها ليس بخائن.. وتجَّول المجنون مبتعدا عن »كارمن« الغجرية الأسبانية، ليتعرف على مصير »ذكرى« المطربة التونسية، ثم رأى بعينيه أفعى غادرة.. تتسلى بامرأة فاجرة.. لكنها تزعم أنها طاهرة.. كما رأى »ليلى العامرية« وهي تتأرجح بينما ظل قيس بن الملوح يترنح، وهو يقول:
يبوحُ القلبُ دوماً باشتياقي
لِليلاي المريضة في العراقٍ
أرى جسداً تُفتته المآسي
على أرضٍ تئنُ من الشقاقِ
وتحلمُ بالنهارِ يبثُ فيها
شموساً للتناغم والتلاقي
ولكنْ كيفَ يشفيها طبيبٌ
يدسُّ السُّمَ في جسد الوفاقٍ؟
قلت من قبل إن المجنون - في هذا الكتاب الثاني - يلتقي مع حيوانات، حيث يتعاطف مع حمار وخروف، لكن هذا لا يعني أنه لم يشاهد نماذج من الرجال الذين يُفترض أنهم من الآدميين، لكن هؤلاء ليسوا كثيرين على أي حال ومن هؤلاء »السيد المهاب« الذي قال لأحد أعوانه:
نادِ المثقفَ واعطه بقشيشَا
وإذا تلكأ.. وَفِّه التلطيشَا
ومن هؤلاء أيضا »المهووس الأحمق« الذي أوقع نفسه في مأزق.. و»مهبوش بن مرعوش« الذي يتصور أنه أقوى من كل الوحوش.. ونظراً لإدراك المجنون لكل وسائل الخداع التي يلجأ إليها الطغاة، فإنه قال لي بالحرف الواحد إن إعلان الذئاب.. عن تغيير الثياب.. لا يعني أنها بلا أنياب، وقال المجنون لي إنه سمع الذئب الأكبر يقول: ».. كلٌّ منا سيرتدي صوفَ خروف.. أما الفعل فسيظل كما هو مألوف.. وبدلاً من أن نوصف بأننا متوحشون أجانب.. ويأتينا اللوم من كل جانب.. فإننا سنصبح قوة متعددة للنهش.. وهذا ما سيطمئن قلبَ كل جحش«.. وعلى الرغم من أن »مجنون العرب« ظل حزينا أو شاردا أو متململا أو مغتاظا وهو يروي لي ما ضايقه، فإنه أكد تمسكه بالأمل.. فمن يدري؟.. ربما استطاع »الإنسان الآلي« أو »الروبوت« أن يُسخر العلم لخدمة الناس، بدلاً من القضاء على الضعفاء منهم.. من خلال التمسك بالأمل، اختتم المجنون ما رواه وهو يؤكد أن »الليل تدحرج في الغابة.. والنور يعانق أحبابه«.
مرة أخرى أؤكد أن »المجنون ليس أنا«.. والمجنون وحده هو الذي يتحمل مسؤولية ما رواه لي، أما أنا فلم أقم إلا بتسجيل مغامراته ورحلاته، بعد أن أهداني مجموعة جميلة من الأقلام والأوراق، ومن ناحيتي فإني لست مهتما بأن يصدق العقلاء ما رواه المجنون أو أن يكذبوه أو أن يطالبوا بالقبض عليه، كما فعل أمير الشعراء شوقي »بك« فالمهم أني شخصيا بريء ومطيع ولا أحب التمرد، وإنما أحب أن أكرر ما قاله » الواعظ« في »مأساة الحلاج« لأستاذي العظيم صلاح عبد الصبور:
باح...!
ِبمَ باح، لكي تأخذه الشرطة؟
لا أدري، وعلى كل، فالأيام غريبة
والعاقل مَن يتحرز في كلماته
لا يعرضُ بالسوء
لنظامٍ أو شخصٍ أو وضِعٍ أو قانونٍ
أو قاضٍ أو والٍ أو محتسبٍ أو حاكمْ