المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : «هذا الأندلسي» لسالم حميش ..الرواية التاريخية والحاضر المعيش د. فيصل درّاج



ابراهيم ابويه
12/11/2008, 03:35 PM
«هذا الأندلسي» لسالم حميش ..الرواية التاريخية والحاضر المعيش د. فيصل درّاج


1. سالم حميش والاطمئنان إلى زمن بعيد:كيف يعيش الأديب في عالم كتابي حر ويكون حراً وهو يشتق فكرة من غيرها؟لازم هذا السؤال سالم حميش منذ أن قرر ، قبل ثلاثين عاماً ، أن يكون أديباً مختلفاً. بدأ بالشعر وهو دارس الفلسفة ، وعطف الشعر والفلسفة على الرواية ، معالجاً جفاف "النظرية" بطراوة المتخيل الروائي ، لأن في المتخيّل ما يحرّر المفاهيم ويجعلها أكثر اتساعاً. ولم تكن روايته الأولى "مجنون الحكم" ، الحائزة على جائزة الناقد عام 1990 ، إلاّ ترجمة سعيدة لشخصية ترفض الانغلاق وتضييق بالمحدود. فقد أتاحت له الرواية ، في شكلها التاريخي ، أن يسائل الحاضر وهو يحاور الماضي ، وأن يقرأ المستبد النموذجي بمعارف من علم النفس والفلسفة السياسية وحكايات البشر وبنثر طَلْق يجمع بين الشعر والتصوّف. ولعلّ النزوع إلى الكتابة الحرة ، التي لا تستقيم إلاّ بعناصر معرفية متعددة ، هو الذي قاده إلى شخصية ابن خلدون في روايته "العلاّمة" ، قبل أن يحتفي في روايته الأخيرة بـ "ابن سبعين" ، المتصوّف الغريب الذي وضع كتاباً لا يميل إليه المتزمّتون عنوانه: "بدّ العارف".وقف سالم حميش في روايته "هذا الأندلسي" أمام "ابن سبعين" الذي عاش في القرن السابع الهجري ، وانتقل من الأندلس ، الذاهبة إلى الغرق ، إلى المغرب وحمل الحقيقة التي عثر عليها ومات في مكة ، بعد أن بلغه السقوط الفاجع للدولة العباسية. شخصية متعددة الوجوه والمواجع ، عالجها الروائي بمعرفة متعددة ، تحتضن التاريخ والفلسفة ومعرفة بالتصوّف ونزوعاً إليه. ولهذا جاء النص الروائي كبيراً ، لا بمعنى صفحاته وهي خمسمائة على أية حال ، بل بتلك الأسئلة المترادفة المحيّرة الموزّعة على تناظر الأزمنة ، فلكل زمن أندلسه الذاهبة إلى الغرق ، وضآلة الحكّام ، ففي كل عهد حاكم ضئيل يمالئ الأعداء ويطارد شعبه ، وغربة العارف النزيه في كل الأمصار ، متصوفاً كان أم روائياً مبعثر اللباس يكره الليل الطويل.اتكاء على معرفة متعددة الوجوه صاغ سالم شخصية روائية بصيغة الجمع ، تقول ما تشاء أن تقول وتترك في قولها مساحة ظليلة لآخرين ، يقاسمونها القول ويضيفون إليه جديداً. والشخصية الأولى التي تفيض على غيرها هي: ابن سبعين ، الموسر الوسيم الحر عاشق الحكمة والنساء المتسامح المتسائل كاره الاستبداد والقريب من الكآبة. حوّل الروائي هذه الصفات إلى حكايات ، وأطلق خياله متواليات حكائية تعيد خلق ابن سبعين وتزيده وسامة ، قبل أن تردّه إلى كهولة متعثرة تنتظر المغيب إلى جوار مكة. أعاد الروائي ، الذي سرد الحكايات بصيغة الأنا ، بناء "السيرة الذاتية" لبطله ، مبتدئاً بسؤال عن الفقد والحرمان ، يسبق الميلاد ، ومزاملاً العاشق المتصوّف إلى الزفرة الأخيرة. أما الشخصية الثانية ، التي تحايث الأولى وتأنس إليها ، فهي شخصية "الإنسان الكامل" المشتهى ، الذي يرى إلى الخير ويكون بعضاً منه ، ويعشق الجمال ويكون جميلاً ، وينجذب إلى المعرفة ويموت في الطريق إليها. وإذا كان في الإنسان الكامل ما هو قريب من الله ، فإن بينه وبين الحكام المستبدين مسافة لا تنتهي. ولهذا يموت "ابن سبعين" في الصفحة الأخيرة مستجيراً بالله من أطياف المتسلطين الظلمة قائلاً: ربّ مالك وعبد هالك ووهم حالك وحق سالك... تأتي الشخصية الثالثة ، المشتقة من "ابن سبعين" ، من شغف السارد بموضوعه ، الذي يتيح محاكاة لغوية مبدعة ، بل يلغي المحاكاة ، أو يكاد ، مقصّراً المسافة بين الروائي والمتصوف كما لو كان الروائي ، الذي تلبّسته أطياف المتصوّف القديم ، وجه لذلك الغريب الذي احتضر في أعطاف مكة. هناك مثقف حديث ومتصوف قديم يتقاسمان رغبة إصلاح ما يجب إصلاحه ، ويتقاسمان خيبة الرغبة وثبات الأحوال. وعلى هذا فإن الاستهلال الروائي ، القائم على الفقد واللوعة ، يشكل المرجع الذي نقرأ به وجوه الشخصية المركبة ، طالما أن الإنسان ، روائياً ، يقترح ما شاء ويعامله الزمن الماكر بالطريقة التي يشاء.اشتق الروائي من "ابن سبعين" ثلاث شخصيات تتبادل المواقع ، موسعاً أن السرد بلا حدود ، إذ للأندلسي الغريب المغترب زمن محدد خاص به ، وإذا زمن المثقف الحديث المتمرّد استمرار لزمن المتصوّف القديم ، وإذ زمن "الإنسان الكامل" مرآة لزمن محتمل ، يأتي ولا يأتي ويظل معلقاً في سماء جميع الأزمنة. كيف ينزلق الزمن من موقع إلى آخر ، وكيف يرتحل وراءً وأماماً ويظل على ما هو عليه؟ استولد سالم حميش زمنه الروائي ، الواضح الغامض ، من طبيعة الإنسان المغترب ، الذي لا تمنع عنه الأزمنة الاجتماعية المتحوّلة هزيمة أكيدة ، طالما أن الحقيقة تولد في المنفى ، وأن "الإنسان الجوهري" يصل إلى المنفى قبل أن يكمل قوله. ولهذا لا تبدأ "السيرة" بالميلاد وتنتهي بالموت ، كما تقضي بالأمور ، بل تستهل بالشكل التالي: "الفصل الأول. البحث عن المخطوطة الضائعة". وما يضيع ينبغي البحث عنه ، وما يضيع لا يعود رغم البحث الطويل ، وما يضيع ولا يعود مبتدأ المتواليات الحكائية التي يقطعها الموت. الفقد هو البداية والموت هو النهاية ، وما بينهما بحث متعثّر يقوده القلب المضيء وتعطّله سطوة العادات البشرية ، لأن "العادة تحجب عن الله" ، كما يقول ابن سبعين. وزّع اغتراب الحق المتصوّف الأندلسي على جميع الأزمنة ، وألغى الحق المهزوم الفرق بين الحاضر المقيم والماضي البعيد.هذا الأندلسي" هي سيرة ابن سبعين كما اشتهاها المتخيّل الروائي ، وسيرة "الإنسان الكامل" التي استولدها المتخيل من إنسان محدد الإسم والسيرة ، وهي سيرة روحية - فكرية مضمرة للسارد العليم ، كما يقول النقّاد ، الذي يدع اللغة الكثيفة المشرقة تتحدّث عنه وعن موضوعه في آن. بيد أن السيرة الثلاثية الوجوه ، في التحديد الأخير ، هي سيرة الذات الكاتبة المبدعة ، التي جمعت المعرفة واستقصت في جمعها ، ووضعت ما جمعته في نثر سعيد يساكنه الشعر وتحايثه الفلسفة. ساعد على ذلك السرد بصيغة الأنا ، الذي أقام بين السارد وموضوعه حواراً وتراسلاً وتخاطراً ، كما لو كان "ابن سبعين" قد صاغ سيرته في شكل رواية ، أو أنّ الروائي المغربي كتب هواجسه على لسان متصوّف قديم. تختلف الطرق وتتكامل الحكايات ، يصل المتصوّف الأندلسي إلى مكة لحظة انهيار الدولة العباسية ، ويبوح المغربي ، الذي يعيش بيننا ، بهواجسه متوسلاً نصاً قديماً حاذر كاتبه العادة وتطيّر منها.في روايته "هذا الأندلسي" اقترب سالم حميش من المحاكاة وسخر منها: اقترب منها وهو يقلّد أسلوب ابن سبعين ، وسخر منها وهو يعيد خلق المتصوّف القديم وأسلوبه.2. كل زمن روائي هو زمن حاضر:عالج حميش في "روايته التاريخية" تمزّق العالم العربي ، في زمن مضى ، وظلم الحاكمين ولامبالاتهم ، واغتراب المثقف القائل بالحقيقة ، والفرق الجوهري بين زهد المعرفة وجشع السلطة ، وطموح الإنسان وخيبة مسعاه. وهذه القضايا جميعاً متوالدة ، وجدت في الحاضر والماضي ، وتوجد في جميع الأزمنة. وهذا ما يجعل مصطلح الرواية التاريخية ملتبساً ، لأن الماضي الذي تتعامل معه هو: الحاضر.ناقد ومفكر فلسطيني هذا الأندلسي : صادرة عن دار الآداب ، بيروت

هذا المحتوى من


رابط الخبر في المصدر: http://www.addustour.com/ViewTopic.aspx?ac=\ArtsAndCulture\2008\10\ArtsAndC ulture_issue376_day17_id89712.htm