محمد المهدي السقال
18/12/2006, 05:49 PM
قصة قصيرة
ظرف ملغوم
محمد المهدي السقال
قلبتُ الظرف لمعرفة المرسِل , خاتمُُ أحمر باهت , بالكاد ميزتُ كلمة " الرباط " وسطه ,
فوجئتُ بالمصدر , ليس بيني وبين المحاكم إلا الخير , ظلَّتْ أمِّي توصيني بالحذر من الوقوع في شرك " المخزن " , حتى ظننتُ إنَّها تُخفي عني شيئاً في تاريخها قبل الزواج , أواجهها بالسؤال في حالات انشراحها القليلة , فلا تنفكُّ تسارع بترديد لازمتها : المخزن والبحر لا يمكن الوثوق بهما أبدا ,
وصدقت أمي فيما كانت تحذِّرنا منه , كالمخزن , لا يبتلعُ البحرُ غير الخائضين فيه , أما المترددون الخائفون , فلا يطالهم أحد منهما ,
ثم قلبتُ الظرف ثانية للتثبت من اسمي ,
لا خطأ في الاسم أو في العنوان , رغم غرق السكنى في مُجَمَّع الإسمنت النائي , يصل ساعي البريد حين يتعلق الأمر برسالة إدارية , كم ضاعت رسائلي الشخصية في الطريق , وحين أسأل , يكون الجواب دائما , العيال يعبثون بالبريد ,
لم أجرؤ على فتح الرسالة صاعداً إلى البيت في الطابق الثالث , هل تحاشيت مصادفة جاري الهدَّار, سيسألني بلباقة المخبرين المحترفين , محاولا افتعال الرغبة في الاطمئنان على ما يمكن أن تحتويه , وسأجيبه كعادتي بأن الأمر لا يعدو أن يكون رسالة من صديق ,
زوجتي المسكينة , ستكون أولى ضحاياه ,
لن تجد ما يشبع نهم أسئلته المحمولة عبر زوجته , ستعاتبني قبل لومهما , لأنني لم أستفد من تجارب سالفة ,
لا أدري كيف نما إلى علمه يوماً , خبر اصطدامي مع مُشغلي حول مصداقية التمثيل النقابي في المعمل , لم يكن ثالثنا غير كلبه الوفي ,
أصر على سحب اسمي من لائحة المترشحين , تحت طائلة التهديد بالطرد , وأصررت على موقفي منسجما مع ضرورة الانضباط لاختيار النقابة , كنتُ كما يقال كالأطرش في الزفة , لأن الأمر كان قد قُضِي بالتوافق بين الإدارة والمكتب النقابي دون علمي ,
و بقيت على الهامش كالعادة , حين يتفق الكبار على ظهور الصغار ,
لعله سمع الحوار بيني وبين من جاءني إلى البيت ليلا , كي يبلغني بعد فوات الأوان بضرورة تبريد الدم ,
لا أدري حقيقة , كيف عرف جاري بالموضوع ؟
تثاءبت في الصعود , تشدني رغبة عنيفة في فتح الظرف , وبدأت تنهال علي الوساوس ,
تسمَّعتُ الصمت في السلم , لا أسمع خطو أقدام بعيدة , أمامي متسع من الوقت , ثم تذكرت دون إعمال تفكير , أنني كنت قد استدعيت للشهادة في حادثة نزاع بين شرطي ومواطن في ساحة محطة الحافلات منذ سنتين ,
هل يمكن أن تكون المحكمة بحاجة من جديد إلى إفادتي حول الواقعة ؟
أسمع أن حوادث الضرب والجرح تأخذ وقتا طويلا , لكن ليس لهذا الحد , زاد يقيني فيما خمَّنتُُه , فلم أجد في نفسي حاجة لفتح الظرف على عجل ,
انشغلت لحظة بتذكُّر ما شهدت به أمام القاضي , لن أنكر أنني ابتسمت في داخلي , حين طالبني سيادته بالقسم , من أدراه بأنني مؤمن ؟
رفعت يميني ورددت بعده كالببغاء ,
ماذا كان سيحدث لو أخبرته بأن قسمي عن غير اقتناع غير جائز شرعاً ؟
ليته أمَّـنَ عليَّ , فآمنُ سطوة غضبه , للسؤال عن الآية المعلقة خلف ظهره : " و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ,
لماذا تواجه الناسَ دونه ؟ من المعنيُّ بها ؟ أم أنها صارت في البرواز كباقي المعلقات الرسمية , تطالَبُ برؤيتها رغم التقزز الذي تحدثه في نفسك .
ـ انطق بشهادتك في النازلة ,
ـ كنت في طريقي إلى ركوب حافلة " سيدي يحيى " , حين شاهدت شرطياً ممسكاً بقفا رجل , وبين الفينة والأخرى , كان يمكن قبضته من كل أطراف جسده , حتى وقع أمامي ممرغاً في دم ظل ينزف من أنفه وفمه .
ـ هل سمعت الرجل يلعن دين أم الشرطيِّ ؟ أو سمعته يسبه بألفاظ سوقية أو جنسية بذيئة ؟
ـ أسيدي القاضي , كان الرجل يبكي ويده على فمه , بينما كان الشرطي يجرجره ,
لا أذكر أنني أجبت عن سؤال القاضي حول نهاية المشهد , انسحبت وأمام عينيَّ نصْحُ زوجتي بعدم الدخول في القضية , سخرت من رغبتي في عدم كتم الشهادة , لعلها كانت على حق,
ها هم يستدعونني للحضور , ومن يدري , ربما تجرجرني المحكمة حتى أندم على خروجي ذلك الصباح للعمل ,
لكن هل هذا كلُّ ما قلته أمام السيد القاضي , وتملَّكني خوف غريب من مواجهته ثانية بعد عامين ,
وصفتُ لها نظراته المتقصية هندامي , فخففتْ عني عناء التفكير فيما قلته بين يديه , طمأنتني أن مثلي لا يعتد بشهادته ضد الدولة , وهي تحدثني عن حكايات بعض الشهود الذين أنستهم الأيام تفاصيل شهادتهم ,
إما لأنهم كاذبون يقتاتون مما يشهدون به ,
وإما لأنهم تحت الضغط , يقدمون إفادات زائفة ,
فتحت الظرف , استدعاء عاجل لحضور جلسة الخميس ,
الموضوع : شهادة .
نسيت وجه الرجل كما نسيت وجه الشرطي , لا أذكر سوى لباسه الأزرق الغامق وحزامه الأبيض, رغم أنه اتصل بي أثناء العمل للتراجع عما قلته , لم أحدق فيه جيدا ,
ظلت صورة الرجل بين يديه ماثلة أمام عيني , يمكن للقاضي أن يوقع بي لمجرد السؤال عن شيء يميز وجهيهما , أو مطالبتي بتحديد شخصيتهما في القاعة ,
مصيبة ,
اليوم اثنين ,
ليس أمامي غير أربعة أيام لاستذكار بعض التفاصيل , طويت الظرف , بالكاد تحتمل قدماي جسدي المتعب .
*******
محمد المهدي السقال
المغرب
ظرف ملغوم
محمد المهدي السقال
قلبتُ الظرف لمعرفة المرسِل , خاتمُُ أحمر باهت , بالكاد ميزتُ كلمة " الرباط " وسطه ,
فوجئتُ بالمصدر , ليس بيني وبين المحاكم إلا الخير , ظلَّتْ أمِّي توصيني بالحذر من الوقوع في شرك " المخزن " , حتى ظننتُ إنَّها تُخفي عني شيئاً في تاريخها قبل الزواج , أواجهها بالسؤال في حالات انشراحها القليلة , فلا تنفكُّ تسارع بترديد لازمتها : المخزن والبحر لا يمكن الوثوق بهما أبدا ,
وصدقت أمي فيما كانت تحذِّرنا منه , كالمخزن , لا يبتلعُ البحرُ غير الخائضين فيه , أما المترددون الخائفون , فلا يطالهم أحد منهما ,
ثم قلبتُ الظرف ثانية للتثبت من اسمي ,
لا خطأ في الاسم أو في العنوان , رغم غرق السكنى في مُجَمَّع الإسمنت النائي , يصل ساعي البريد حين يتعلق الأمر برسالة إدارية , كم ضاعت رسائلي الشخصية في الطريق , وحين أسأل , يكون الجواب دائما , العيال يعبثون بالبريد ,
لم أجرؤ على فتح الرسالة صاعداً إلى البيت في الطابق الثالث , هل تحاشيت مصادفة جاري الهدَّار, سيسألني بلباقة المخبرين المحترفين , محاولا افتعال الرغبة في الاطمئنان على ما يمكن أن تحتويه , وسأجيبه كعادتي بأن الأمر لا يعدو أن يكون رسالة من صديق ,
زوجتي المسكينة , ستكون أولى ضحاياه ,
لن تجد ما يشبع نهم أسئلته المحمولة عبر زوجته , ستعاتبني قبل لومهما , لأنني لم أستفد من تجارب سالفة ,
لا أدري كيف نما إلى علمه يوماً , خبر اصطدامي مع مُشغلي حول مصداقية التمثيل النقابي في المعمل , لم يكن ثالثنا غير كلبه الوفي ,
أصر على سحب اسمي من لائحة المترشحين , تحت طائلة التهديد بالطرد , وأصررت على موقفي منسجما مع ضرورة الانضباط لاختيار النقابة , كنتُ كما يقال كالأطرش في الزفة , لأن الأمر كان قد قُضِي بالتوافق بين الإدارة والمكتب النقابي دون علمي ,
و بقيت على الهامش كالعادة , حين يتفق الكبار على ظهور الصغار ,
لعله سمع الحوار بيني وبين من جاءني إلى البيت ليلا , كي يبلغني بعد فوات الأوان بضرورة تبريد الدم ,
لا أدري حقيقة , كيف عرف جاري بالموضوع ؟
تثاءبت في الصعود , تشدني رغبة عنيفة في فتح الظرف , وبدأت تنهال علي الوساوس ,
تسمَّعتُ الصمت في السلم , لا أسمع خطو أقدام بعيدة , أمامي متسع من الوقت , ثم تذكرت دون إعمال تفكير , أنني كنت قد استدعيت للشهادة في حادثة نزاع بين شرطي ومواطن في ساحة محطة الحافلات منذ سنتين ,
هل يمكن أن تكون المحكمة بحاجة من جديد إلى إفادتي حول الواقعة ؟
أسمع أن حوادث الضرب والجرح تأخذ وقتا طويلا , لكن ليس لهذا الحد , زاد يقيني فيما خمَّنتُُه , فلم أجد في نفسي حاجة لفتح الظرف على عجل ,
انشغلت لحظة بتذكُّر ما شهدت به أمام القاضي , لن أنكر أنني ابتسمت في داخلي , حين طالبني سيادته بالقسم , من أدراه بأنني مؤمن ؟
رفعت يميني ورددت بعده كالببغاء ,
ماذا كان سيحدث لو أخبرته بأن قسمي عن غير اقتناع غير جائز شرعاً ؟
ليته أمَّـنَ عليَّ , فآمنُ سطوة غضبه , للسؤال عن الآية المعلقة خلف ظهره : " و إذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " ,
لماذا تواجه الناسَ دونه ؟ من المعنيُّ بها ؟ أم أنها صارت في البرواز كباقي المعلقات الرسمية , تطالَبُ برؤيتها رغم التقزز الذي تحدثه في نفسك .
ـ انطق بشهادتك في النازلة ,
ـ كنت في طريقي إلى ركوب حافلة " سيدي يحيى " , حين شاهدت شرطياً ممسكاً بقفا رجل , وبين الفينة والأخرى , كان يمكن قبضته من كل أطراف جسده , حتى وقع أمامي ممرغاً في دم ظل ينزف من أنفه وفمه .
ـ هل سمعت الرجل يلعن دين أم الشرطيِّ ؟ أو سمعته يسبه بألفاظ سوقية أو جنسية بذيئة ؟
ـ أسيدي القاضي , كان الرجل يبكي ويده على فمه , بينما كان الشرطي يجرجره ,
لا أذكر أنني أجبت عن سؤال القاضي حول نهاية المشهد , انسحبت وأمام عينيَّ نصْحُ زوجتي بعدم الدخول في القضية , سخرت من رغبتي في عدم كتم الشهادة , لعلها كانت على حق,
ها هم يستدعونني للحضور , ومن يدري , ربما تجرجرني المحكمة حتى أندم على خروجي ذلك الصباح للعمل ,
لكن هل هذا كلُّ ما قلته أمام السيد القاضي , وتملَّكني خوف غريب من مواجهته ثانية بعد عامين ,
وصفتُ لها نظراته المتقصية هندامي , فخففتْ عني عناء التفكير فيما قلته بين يديه , طمأنتني أن مثلي لا يعتد بشهادته ضد الدولة , وهي تحدثني عن حكايات بعض الشهود الذين أنستهم الأيام تفاصيل شهادتهم ,
إما لأنهم كاذبون يقتاتون مما يشهدون به ,
وإما لأنهم تحت الضغط , يقدمون إفادات زائفة ,
فتحت الظرف , استدعاء عاجل لحضور جلسة الخميس ,
الموضوع : شهادة .
نسيت وجه الرجل كما نسيت وجه الشرطي , لا أذكر سوى لباسه الأزرق الغامق وحزامه الأبيض, رغم أنه اتصل بي أثناء العمل للتراجع عما قلته , لم أحدق فيه جيدا ,
ظلت صورة الرجل بين يديه ماثلة أمام عيني , يمكن للقاضي أن يوقع بي لمجرد السؤال عن شيء يميز وجهيهما , أو مطالبتي بتحديد شخصيتهما في القاعة ,
مصيبة ,
اليوم اثنين ,
ليس أمامي غير أربعة أيام لاستذكار بعض التفاصيل , طويت الظرف , بالكاد تحتمل قدماي جسدي المتعب .
*******
محمد المهدي السقال
المغرب