المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صورة فلسطين في الشعر الإسباني المقاوم



عائشة صالح
15/11/2008, 11:17 PM
صورة فلسطين في الشعر الإسباني المقاوم:
"سهاد رام الله أنموذجاً"

دراسة
الدكتور محمد عبد الله الجعيدي
الأستاذ بجامعة مدريد

من الواضح أنَّ لفلسطين حضورها في الشعر الإسباني المقاوم الذي اشتد عوده وسط معارك الحرب الأهلية الإسبانية الطاحنة، وسيلة تمسك بالحياة وحفظٍ للكرامة الوطنية والشخصية، وتحدٍ للنهج الفاشي الذي نصَّب نفسه وفرض أيديولوجيته ومفاهيمه الضيقة على الواقع الإسباني، بالانقلاب العسكري على الحكومة الجمهورية الشرعية الثانية في البلاد.
التقت المظلومية الفلسطينية، بوجهها الإنساني والحقوقي، مع ما في نفوس الشعراء الإسبان المقاومين، في واقعهم الجديد، من رفض لعبث الأجهزة الأمنية والعسكرية، والقتل على البطاقة الشخصية والاغتصاب وتزييف التاريخ، وهي من طبائع الصهيونية صانعة اسرائيل وطبائع الفاشية أيضاً صانعة الانقلاب العسكري على إسبانيا الديمقراطية الحرة في 17/7/1936.
لا يخفى على العارف بتاريخ الحركات العنصرية ما يجمع الصهيونية والفاشية وفرنجية المحافظين الجدد، من أعراض وبائية مثل المبالغة في نفخ ما يُزعم أنه هوية قومية بمختلف أدرانها، وهي مبالغة تحمل، في طياتها، جرثومة الأيديولوجيا الغيبية الشمولية الاستبدادية القاتلة وأعراضها النابذة مثل مقولة "مَن ليس معنا فهو ضدنا"، وتوهُّم الوطن فكرة أيديولوجية مجردة ووحدة مصير خاصة ومأثرة عرقية عشائرية، والتأكيد على نقاوة السلالة وخصوصية التاريخ البطولي الوهمي للذات في مواجهة ما تتخيله على أنه الآخر، أو التابع أو النقيض، لتؤجج ضده عنصرية هائجة تحرّف التاريخ وتشغف شغفاً مريضاً بالشعارات الأيدولوجية العنصرية المتطرفة والعسكرية العدوانية المتشنجة، وتشكل في نهاية المطاف صورة متكاملة لأسطورة الفاشية الصهيونية الفرنجية وطقوسها سواء عند الأشخاص أو الجماعات، أو في الممارسات والدوافع التي يتم الإصرار عليها بأسلوب سمج وممل.
ومن أجل التأسيس للمعطيات التي أنتجت صورة فلسطين أنموذجاً في الشعر الهسباني المقاوم، نُذكِّر بأنه في إطار الهجمة الاستعمارية على الوطن العربي، وقع خيار الصهيونية العالمية المحمية بقوى الاستكبار الاستعماري على فلسطين بعد أوغندا والأرجنتين، فاستهدفتها ضحية، تنفث فيها سموم الاغتصاب والتشريد، والتقتيل والتدمير، حتى أصاب فلسطين ما أصابها، وترسخت صورتها في الضمير الإنساني، ومنه الإسباني، أنموذجاً للتطلع للحرية والبحث عن الخلاص من براثن الاحتلال والظلم والعدوان، وأنموذجاً للتحرر الإنساني، في استرداد الحق السليب والكرامة المهدورة.
تميزت صورة فلسطين كأنموذج، بخصوصية محلية، التقت مع ما في نفوس المبدعين من تصور لشرقنا العربي الإسلامي، كما تميز بشمولية إنسانية عالمية جعلتهم يعبرون عما يعيشونه في بلدانهم، من تجارب مشابهة، رغم تنائي المكان عن المكان.
هو إذن أنموذجٌ لصورة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية وأيديولوجية ثقابلية، تثير قضية الذات والآخر، بالمقاييس الطبيعية والحقوقية والأخلاقية؛ وهو أيضاً أنموذج يثير الأشجان ويلهب المشاعر ويحث على التفكير ملياً في مفاهيم وقيم، كالحرية والسلام والأمن، والحق والخير والجمال.
يضفي شعراء المقاومة في العالم الهسباني بعامة، على صورة فلسطين كأنموذج، أطيافاً من نفوس مجربة، استوعبت الواقع الفلسطيني وأبعاده التاريخية والأنثروبولوجية، فهو أنموذج وطن الأسلاف المغصوب عند محفوظ مصيص وماتياس الرافيدي وادوارد متري، كما هو أنموذج ذو أطيافٍ سلوكية إنسانية، تتمثل في كونه ضحية ظلم الإنسان الأزلي لأخيه الإنسان، كما عند داسو سالديبار، وهي أطياف من الواقع الفلسطيني المعيش، تسقطها النفس الشاعرة على صورة الأنموذج الفلسطيني، حتى يبدو الوطن الذي يحتله الغزاة الطامعون، في إطار الصراع بين القوى الكبرى والأيديولوجيات المستكبرة المتصارعة، أنموذجاً للثورة الشعبية على الاستعمار العالمي، والإصرار على استعادة الحقوق السليبة، كما هو الحال عند داثا داثا، وتنضج صورة الأنموذج، بخصوصيته الفلسطينية، في اعتباره أنموذجاً يؤكد على عبثية السلوكيات الدولية الاستغلالية المتجبرة، وفي هذا السياق يطعم المبدع الصورة في شعره بعناصر الصمود والتضامن، في إطار فعل مشترك بين النفس الضحية وما تسقطه على النموذج الضحية أيضاً من مشاعر وهواجس، كما هو الحال عند خوليو بيليث، وتتبلور الصورة أيضا بإسقاطات نفسية وشعورية تسقطها على الواقع، لتجعل فلسطين أنموذجاً للتحرر المأمول وإعادة المياه إلى مجاريها، بعودة الحق إلى أصحابه، كما هو الحال عند كارلوس ألباريث، وتتبلور الصورة في إطارها الإنساني بإسقاطات نضالية وتحديات إنسانية للظلم على اختلاف مصادره وتوجهاته كما هو الحال عند خابير بيان.
وتكتسب صورة فلسطين قدراً كبيراً من مكوناتها كأنموذج، من ثقافة الشعراء وتصورهم لشرقنا العربي الإسلامي، ومن نمذجة الغرض الشعري، بأبعاده البيئية، كما هو الحال عند تيودورو السقا، وفي هذا الإطار تتلآلآ الصورة في شعر خوليو أواسي كموطن للمقدسات ومهد للرسالات السماوية، يعبث بقدسيته الغزاة والطغاة.
ومن الثقافة المعاصرة يستقي هذا الشعرالمقاوم أطيافاً من الواقع المعيش، كمسلسل إجرامي متلاحق الفصول، حيث القاتل هو القاتل والضحية هي الضحية، كما في شعر كورتيس والأسطة ولاني وسيلين، ومن الأطياف السابقة، في مجملها، يتشكل طيف شمولي منطقي، يعبر عنه الشاعر أنخل بيتيسمي في "سهاد رام الله" باعتباره أنموذجَ الانتفاضة الشعبية بكل أشكالها ضد الاحتلال، بكل أشكاله، إلى أن يزول.
هكذا إذاً، أُقتطِعت صورة فلسطين في الشعر الإسباني المقاوم، كما في شعر أمريكا اللاتينية المقاوم أيضاً، من نياط قلوب أنضجها القهر والغبن والإقصاء، فرأت بالبصر وأدركت بالبصيرة أن التضامن مع المستضعفين والمقهورين وأصحاب الحقوق المهضومة والحريات المخطوفة هو واجب شخصي وجماعي مشروع، وضرب من الدفاع عن النفس، بغريزة النحل وسيرورة الحياة وفطرة الفلاح وحنكته وصبره.
بهذه المفاهيم الإنسانية تأطرت صورة فلسطين أنموذجاً في شعر الشعراء الإسبان، واغتنت صورتها، في شعرهم وضمائرهم، بما وصلهم خبره من فصول تغريبتها الملحمية في ظلام الاحتلال، عبر القراءات الشخصية والمشاهدات ووسائل الإعلام، أو عبر التجربة المباشرة والمشاركة، ومعايشة الواقع الفلسطيني وإفرازاته، عن قرب، معايشة مكانية وزمانية، راحت تتكامل عناصرها ومعطياتها وتنضج، حتى بلغت، عند الشاعر السرقسطي أنخل بيتيسمي في ديوانه الأحدث "سهاد رام الله، قصائد فلسطينية"Insomnio de Ramala, poemas palestinos، أكمل أشكالها، وأدقها مواكبةً للوقائع، وملامسةً لحقيقة الوضع المعيش، شاهد عيان ينقل لنا الصورة، ببعديها المادي والمعنوي، نقلاً حياً، على جناح القصيد القادم من قلب الحدث، في الداخل الفلسطيني الأبيّ المنتفض وخارجه المتوثب المنتظر في المهاجر والمنافي، فيحترم منا العقل ويصدِقنا النقل مكفولاً بأدوات إبداع تعمق من واقعية الصورة أنموذجاً، ومن وقعها على نفسية المتلقي وهي تنبض بوجيب، من تعقيدات الحاضر ودروس التاريخ، ومن أوصال الجغرافيا الفلسطينية الذبيحة من الوريد إلى الوريد، تفتدي بجرحاها وأسراها، قوميتََها وأمتها وإنسانية الإنسان افتداءً أبياً صابراً ممهوراً بدماء شهداء واستشهاديين، وعذابات أسرى ومحاصَرين، تمتزج بتراب الوطن، فتتفاعل مركبات هذا المزيج المبارك، وتومض في النفس، وتتلظى في المشاعر، وتشحن الصورة بإرهاصات نصر عزيز، وتبشر بخلاص نظيف وقريب، أساسة القناعة الفلسطينية بمقولة "جميل أن يموت الإنسان من أجل وطنه، ولكن الأجمل من ذلك أن يحيا، لأجله، بحرية وكرامة".
وللقصة في ديمومة المكان وسيرورة الزمان بداية. ففي صورة عزٍ حية وخالدة، سجلها تاريخ البشرية، تتبدى مواكب الفتح الإسلامي في شبه الجزيرة الأندلسية، وقد تسارعت خطاها على صعيد الفكر والعلم والثقافة، وتسارع معها العطاء والتغيير، والبناء والتعمير، فاعتنى أيوب بن حبيب اللخمي والي الأندلس لسليمان بن عبد الملك، سنة 716 للميلاد ببناء قلعة أيوب المشرفة على مفترق طرق رئيسة، وسهول خصبة فسيحة، على ضفاف نهري الخيلون وخيلوكا، في الثغر الأندلسي الأعلى، وهي من شبه الجزيرة بمثابة القلب والوسام، مثلت في عصر الولاة وما تلاه موقعاً استراتيجياً هاماً وعنصر استتباب وحضارةً لممالك التجيبيين وبني هود الإسلامية، وقدمت للثقافة الإنسانية في سياقها الأندلسي علماء وفقهاء وشعراء ومؤرخين منهم محمد بن سليمان الكلبي، وهي أقدم حصن ما زال قائماً بحالة جيدة في شبه الجزيرة الأندلسية، ويبلغ عدد سكان البلدة التي تحتضن القلعة اليوم، وتحمل اسمها، عشرين ألف نسمة.
في بلدة قلعة أيوب هذه Calatayud، بثغر الأندلس الأعلى، ولد الشاعر الفنان Angel Muñoz Petisme في السابع عشر من يناير 1961، وفي الثامنة من عمره هاجرت اسرته إلى العاصمة الإقليمية سرقسطة، حيث حصل من جامعتها على الإجازة في اللغة الإسبانية وآدابها، وفي Zaragoza، عاصمة الثغر الأعلى نفسها، حرر صحيفة "نرّا"، وأسس مجموعة شعراء أراغون الشباب، وعمل محرراً في صحيفة "أراغون اكسبريس"، فنشر على صفحاتها قصائده وأعماله النقدية الأولى تحت أسماء مستعارة، وأسس سنة 1983 المجموعة الموسيقية "ماهية التفاؤل"، وقدم أغانيه في ساحة مصارعة الثيران بسرقسطة، ثم انتقل إلى مدريد فدرس اللغة الإيطالية في جامعتها، والموسيقى والغناء في ورشتها الموسيقية، وصدرت بسرقسطة سنة 1984 مجموعته الشعرية الأولى "التجميل والفزع" التي قال النقد إنها تشكل نقطة فاصلة في الشعر الإسباني المعاصر، وبعد سنتين ظهرت له قصائد في مختارات "ما بعد الشعر الأحدث" للويس بيينا. وفي مدريد أنشأ غير مجموعة ثقافية واجتماعية وموسيقية وقدم أعماله، منفرداً أو مع غير مجموعة، في غير صالة هامة أو أقل أهمية من صالات مدريد للعروض الموسيقية والفنية، وفي غير مهرجان أُقيم في إسبانيا، ونشر أغنيتي "الرجل، الفتاة، الحرب" و "عُمّ أمام مرآة". وحصل سنة 1987 على عفو ملكي باسقاط حكم قضائي عنه بسبب رفضه أداء الخدمة العسكرية. ثم صدر له "محيط الكتابات" بمدريد 1989 والمجموعة الشعرية "غرفة موحشة" بسرقسطة 1990، أحيى في مسرح سرقسطة البلدي الكبير سنة 1993، أولَ حفل خيري لصالح المهاجرين الأمريكيين اللاتين في إسبانيا.
وتتسع منذ سنة 2000، جغرافية عروض الشاعر الفنان أنخل بيتيسمي الموسيقية وآفاقها، فيحييها في فرنسا وألمانيا وهولندا وأوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، حتى العاصمة الفدرالية المكسيك شمالاً، ويقيم سنة 2001 مهرجانات حاشدة في إسبانيا لمناهضة المشروع الوطني الإسبااني لجر مياه نهر الإيبرو إلى جنوب البلاد. وتمتد نشاطاته الموسيقية سنة 2002 إلى صالات نيويورك، ويصدر له غير تسجيل غنائي على شرائط وأقراص، ويدعم الجمعيات النسائية المناهضة للعنف ضد المرأة، ويزور مخيمات لاجئي الساقية الحمراء ووادي الذهب بالصحراء الغربية، بقناعات ارنسو كاردينال في التضامن مع الآخر:


بعد كل موت في سبيل الغير
ما كانت هناك عملية تشريح علمية
بل هي مسألة إيمان .

ثم انطلاقاً من قناعته بضرورة التصدي للظلم والتهديد والعدوان والاغتصاب، وقبل شهر واحد فقط، من احتلال العراق، في 9 أبريل 2003، يحل أنخل بيتيسمي، في بغداد متطوعاً لمناهضة تهديدات المحافظين الجدد اليانكية لهذا البلد العربي المسلم، وشجب المواقف المحلية والإقليمية والدولية المتماهية مع مشاريع الهيمنة الاستعمارية الخارجية، والمشاركة في الدروع البشرية لحماية بغداد من العدوان؛ وفي العاصمة العراقية يقيم مهرجاناً موسيقياً تضامنياً من أجل السلام، وينشر سنة 2004 في سرقسطة تقريراً صحفياً مصوراً بعنوان "سماء بغداد" يخصص ريعه لضحايا مدينة الفالوجة العراقية المقاومة التي دمرها جيش الاحتلال اليانكي، غير مرة، وقتَّل أهلها العُزل بأشد أسلحته الفوسفورية فتكاً. وينشر في سرقسطة أيضاً في مطلع 2004 "أربعة أيام بالإيجار"، تصور يوميات مسافر يذرع العالم شغفاً في التعرف على أحواله، فتتكشف له المظالم التي يئن تحت نيرها المستضعفون، ويغدو سلاحاً ملقماً بالرصاص أو مخزن بارود على شفا موقد، دون أن يفقد الشاعر نظرته المتوازنة للأحوال والأشياء المتمثلة في وجوب الرد على إمعان الطغاة في الحرب والإبادة والتدمير، بالمقاومة والتصدي والتعمير، الأمر الذي سيحمل في طياته بداية النهاية لمشروع المحافظين الجدد الاستعماري، ويقوض الحلم الاسرائيلي الأمريكي الغربي المريض الذي يسعى إلى التفشي في ربوع هذا العالم وفي عقول شعوبه. لهذا تُرجمت إبداعات أنخل بيتيسمي إلى لغات عديدة، منها الفرنسية والإيطالية والتشيكية والبلغارية والروسية والصينية، وغدت هدفاً مشروعا للمختارات الشعرية والموسيقية والدراسات الأكثر انتشاراً واحتراماً في عالمنا:
كي لا يستيقظ العقل
أو يصبح مزهواً بوقاحة:
لسبب واحد، أو لألف سبب،
أريد أن أترك هذا العالم
عندما أرحل عنه
أفضل قليلاً مما وجدته.
بصديق واحد، أو بألف صديقٍ
أريد الاحتفاظ بالابتسامة،
والتأمل في سفوح التلال
وناطحات السحاب عند الغروب.
رونق الحب، برفق، يمس قلبي
وتعود النار الزرقاء حمراء من جديد .
يؤرخ شعر الجيل الذي ينتمي إليه أنخل بيتيسمي للعقدين الأخيرين من شعر المقاومة في إسبانيا، وهي سنوات ذات وقع سياسي واجتماعي، محلي وعالمي، له معناه منذ أحداث 1991، التى أسست لانفلات جبروت المستكبرين ضد الانسان وقيمه. وفي فبراير ومارس من العام نفسه يحل الشاعر بفلسطين للمشاركة في الفعاليات الشعبية لمناهضة إقامة جدار العزل العنصري وإدانة الجريمة الصهيونية، في سلب الفلسطينيين أرضَهم وتجريف مزارعهم وحرق محاصيلهم وردم آبارهم وهدم بيوتهم وقتل أطفالهم، وهناك يقيم العديد من النشاطات الأدبية والموسيقية، وبعد عودته تصدر في ديسمبر 2005، عن منشورات اكليبسادوس في سرقسطة، مجموعته الشعرية "سهاد رام الله، قصائد فلسطينية" التي تحتضن صورة فلسطين من خلال تجربة الشاعر النضالية ضد الاحتلال الصهيوني في هذا البلد، وهي مشاعر تراكمت في صدر مناضل إسباني جمهوري الهوى ملتزم بقضايا الإنسان التحررية والحقوقية والمصيرية، لتتبلور في قصائد انسيابية الأسلوب دقيقة التصوير، تقدم الواقع الفلسطيني تحت الاحتلال دامياً وشامخاً، وموجعاً وعزيزاً. خلاصة الرسالة التي يحملها شعر بيتيسمي وأغانيه إلى القارئ والسامع، هي أن فلسطين وطن مغصوب، وإذا أُنجز جدار العزل العنصري فسوف يصبح سجناً.
في "سهاد رام الله" يقدم الشاعر، على مدى مئة وثلاث وعشرين صفحة، صورة فلسطين تحت الاحتلال، بتقنيات شعرية جديدة تحمل بجماليتها وجدليتها روح التبشير بالأمل في عصر اختلت موازينه، واتسعت الهوة بين طواغيته ومستضعفيه. الديوان مؤطر الصورة هو درع فريد ونشيد جديد، وبيرق للالتزام الإبداعي الإنساني، كما هو فعل شخصي فريد ضد الظلم والعنف ووصمة العار التي تلحق بعالمنا، لصمته مدمي القلوب على عذابات شعب يتجرع وحيداً، أمام آلات تصوير وسائل الإعلام العالمية، الذل والمهانة والتقتيل والحصار، كما هو صرخة جمالية وأخلاقية، ترفعها الصورة الشعرية، في وجه بشاعة كل أسلحة الهيمنة والتعذيب والتنكيل والاغتصاب؛ و"سهاد رام لله" كما يراه الشاعر لويس غرثية مونتيرو، لوحة أو كتاب، رائع وقاس وفي الوقت نفسه مملوء بالحقيقة والأمل وفيه صور، من الواقع، تقشعر لها الأبدان، فالكتاب إذاً هو فضح ضروري لسلوكيات هذا العالم الموبوء بالجبابرة والطغاة قصار النظر، من صهاينة وفرنجة ومحافظين جدد، أو كما وصفه الشاعر مانويل بيلاس، فهو كتاب مؤرِّق في شعر الرحلة ومعجم صغير لوصمات عار في جبين الإنسانية تتخللها اقتباسات من شهادات حية لجنود احتلال ومفكرين ومؤرخين، ولشارون سفاك الدماء ذاته، وهو كتاب يعوي بمفردات مدببة الرأس مصفحة، ومجنزرة قاتلة مثل بلدوزرات ونقاط تفتيش وكيبور وشابات ونجمة داوود، تزهر، تحت وطأتها وخلف أسلاكها الشائكة، أطياف منى وفاطمة ووفاء وسامية، نساء فلسطينيات فاضلات يحرسن الزيتون والشعب الجريح، وأطفال ساء حظهم في حياة وفي ممات، وسدت خيارات الحرية والكرامة أمامهم فغدو مقاومين استشهاديين، وهنا يبرز دور الشعر الملتزم شاهدَ عيان على بشاعة تجمع غاصب من مستعمرين بأسنان من بنادق رشاشة، وجدر عزل اسمنتية عنصرية مسلحة، بتيار ضغط عالٍ، وجرائم يصمت عنها المجتمع الدولي، وقذارة رماد يتطاير من وصايا تلمودية بالية، ونفوس مريضة قاتلة، تمحو علامات البراءة والاطمئنان المرسومة على محيا فلسطين:


عرفت امرأة كالمرآة نظرتها
في نورها السائر في منام
غسلت جراحي.
وإن غطوا عيونك يا منى بالملح
فهي ينبوع يتفجر بعنف.
دموع كالجُذى.
فما المستقبل إلاَّ امرأة مثلك .

ما كان بإمكان صحفي إنسان وشاعر فنان غير أنخل بيتيسمي أن يتجرأ على خوض مهمة كهذه تحمل في ثناياها بصيصاً من أمل تبدى له في سقوط حكومة خوسي مارية أثنار الفاشية العنصرية المتورطة مع حكومتي بوش وبلير في تدمير الوجه الحضاري والإنساني للعراق. وهي تجربة نضجت عند الشاعر عبر مسيرته الأدبية والموسيقية والصحفية والإنسانية، في أعمال سابقة منها "الحب ورسم الخرائط" سرقسطة 1996، و "صباح الخير أيها الكولستيرول" الحاصل سنة 2000 على جائزة سيال للشعر، وتتبدى فيه صورة فلسطين من وراء سحب حبلى بروح الدعابة السوداء ذات الأبعاد الأخلاقية العميقة والنقد الحاد لسياسات الظلم والعدوان، والأنانية والخذلان، من خلال نظرة تفلسف مفهوم الكرامة الإنسانية بتأكيدها على أنَّ البشر يبنون الحجر والعزة تبني البشر؛ وهي قيم يؤكد عليها شاعرنا في أعمال أخرى له أيضاً، مثل "الصحراء تزحف" 1997، و "حلم بونويل الأحمر" سرقسطة 2000، وقبل ذلك "كواكب عند فتح الثلاجة" مدريد 1996، وفيه على طريقة الرواة الشعبيين، يشخص الوجع الإنساني في موضعه، وينحاز إلى المستضعفين ويبشر بخلاص قريب:

قل لقلبك أن يخرج إلى الخلاء
وأن ينفض عن جذاه كل حزن:
فالربيع إلى فلسطين آتٍ .

تتبدى إرهاصات الربيع الفلسطيني في صورة فلسطين الذهنية أو الشعرية المرسومة في " سهاد رام الله"، من خلال تركيز الديوان على تناقض واقع الاحتلال المفروض ومعطياته القاتلة، مع سيرورة التاريخ وحقائق الجغرافيا، بحيث لا تكتب له ديمومة إلاَّ بالقوة العسكرية المفرطة، وقهر أصحاب الحق، وتهديد كل من لا يغالط الحقيقة، ويغالط نفسه في حقيقة هذا الواقع، وجدوى الاحتفاظ به، رغم تكلفته المادية والأخلاقية الباهظة، فقصائد مثل "معاد للسامية" و "جدر القرن الحادي والعشرين"، تطرح بقوة ضرورة إعادة النظر في الدوافع المشكلة لهذا الواقع من خلال التقييم الموضوعي لمعطياته وما يترتب عليها من عبثية وكراهية، وانقطاع التآخي والتواصل بين الإنسان وأخيه الإنسان.
ويؤكد الشاعر أنخل بيتيسمي على مصداقية ملامح صورة فلسطين في السهاد، في كتابه النثري "حيث تبكي كروم الزيتون" الصادر أيضاً سنة 2005، كما في "أن تحلم في فلسطين" الصادر في إيطاليا في العام نفسه. وفي سنة 2006 تصدر لأنخل بيتيسمي مختارات من شعره ونثره يعنوان "نظرية اللون، مختارات شعرية 1977- 2006"، وأخرى من أغانيه بعنوان "نجاحات سرية" وكتاب بعنوان "هدم قوس قزح".
وبهذا يمكننا القول، بلا تردد، إن إبداعات أنخل تسير في خط إبداعي واحد، وتتسم بمجملها، وبخاصة في "سهاد رام الله"، بتقديم صورة الواقع المعيش في أجواء احتفائية وواقعية تخيلية تقدم الحقيقة بقناع كرنفالي وجلبة ملحمية، تجوب شوارع الحاضرة الفلسطينية المغصوبة، بغنائية تعانق شمس الحرية وتحرسها بشاعرية مسلحة بلغة بيانية حية، ترفع بيارق استنهاض الهمم والتضامن مع المستضعفين الآمنين المدافعين باللحم الحي والدم الفائر والسواعد العارية، عن حريتهم وحقوقهم الوطنية، ضد الغزاة الإحلاليين والمحتلين الطامعين وأذنابهم المحليين، في فلسطين الأرض والأنموذج.
تتبدى صورة فلسطين جلية في "سهاد رام الله" من خلال المقاومة بالكلمة الموزونة والصوت الحر والصور الفوتوغرافية الكاشفة، شديدة الوقع على النفوس، فصورة فلسطين في هذا الديوان تقصر المسافة بين ما يحدث في هذا البلد المخطوف وبين ما أبدعه الشاعر، إذ ليس من السهل على طبيعة الإنسان السوي استيعاب حدوث كل هذه المجازر اليومية والفظاعات العنصرية ضد شعب آمن أعزل، لم يؤذ قط في تاريخه أحداً؛ وربما لهذا السبب، بلغ شاعر السهاد، برسمه هذه الصورة الواقعية الفنية لفلسطين، غايته الإبداعية الشاقة في جعلنا أكثر قرباً من هذه الآلام، ومنحنا القدرة على حبس دموع في المآقي، لم يكن هو نفسه قادراً على حبسها هناك على أرض فلسطين. وإن كان قد كظم الغيظ، في حينه، فلأنه أراد أن يمنح الابتسامة فرصة، في ظرف هو أقسى على النفس من أن يبتسم فيه عاقل. ففي قصيدة "أرييل يغسل أكثر بياضاً" يحاول الشاعر، وهو يقدم لنا صورة فلسطين على الصليب، شد أزرنا وتصليب عودنا وشد عزيمتنا على تحمل الأهوال والآلام، والتصدي لسادية هذا الجنرال الدموي، ويؤكد الشاعر على التجربة ذاتها في عناوين أخرى مثل "فقدان الذاكرة" و"أمهات قلنديا" و"أرض البرتقال الحزين" و"المهدئات في رام الله" و"ان تحلم في فلسطين" و"لم تعد قادراً على حمايتي" و"حجر شارون" و"مدينة المرايا".
ولا تقف صورة فلسطين في الديوان على قدميها إلاَّ بوحدتها الترابية، حيث تتلازم عناصر ازدواجية الواقع المفروض، فتتواصل رام الله مع القدس، ويافا مع غزة، وتتلازم البلدات الفلسطينية على جانبي الجدار العنصري العازل والخط "الأخضر" الغاصب، وغيرها من المفاهيم الاستعمارية الاحتلالية التي يؤكد الشاعر على رفضها وحتمية زوالها، بزوال مسببها، وبخاصة تسمية "عرب إسرائيل"، كما لا تكتمل صورة فلسطين ولا تحلق في آفاق الديوان الواسعة إلاَّ بجناحيها، رهين الاحتلال في الوطن المغصوب، ورهين الغربة في منافيه المرة، فتتكامل صورة فلسطين الإنسان وتنجلي، بأسماء أعلام كادوارد سعيد وغسان كنفاني وخالد صلاح ووفاء إدريس أو بشخصيات مفهومية أو اعتبارية، مذكورة من غير اسم، تستمد هويتها من مكونات الواقع الذي يشكل صورة فلسطين، في إطارها الأشمل، أرضاً وإنساناً وتاريخاً وثقافة، ويكون للمرأة الفلسطينية، الأم المربية والزوجة الوفيةً عطاءٌ وطني وإنساني، يتجاوز كلَ عطاءٍ، تجاوزَ معانيه وصورِه، متعددة الوجوه، في شعر بيتيسمي، اللغةَ الجارية والصورَ الشعرية المألوفة:

أمام فنجان قهوة بالحليب
قال لي طيف مارية ثامبرانو الضبابي
"معنى الضياع هو
أن تكون منفياً".
عندما أتأمل قبة السماء الزرقاء
صامتةً بعناد
على ريب مجد، لا جدوى فيه
وطعم قساوات جديدة،
عندما أبلع الريقَ
أفهم معنى أن تكون المرأة امرأة
وفوق ذلك فلسطينية:
أن تكوني امرأة، فأنت حيلة من حيل السحر
وذبابة ضخمة في طاس من حليب
لا تكشفوا النقاب، عن ذلك، أكثر
لأولئك الذين يأتون أمواتهم،
ويزهدون في المال ولا يستسلمون .

عاش الشاعر أنخل بيتيسمي حقيقة الأوضاع في فلسطين، تحت احتلالين، احتلال أجنبي يرعاه غرب استعماري بأطماع مشهودة، واحتلال بطانة، من زمرة فصائلية أنانية، عامت عقوداً، على سطح طفرة مالية، باسم التحرير والقرار الوطني المستقل والعودة، ففسدت وأفسدت، ولم يعد الشعب الجريح والوطن الذبيح، في قرارة نفسها، أكثر من وسيلة، لتحسين علاقاتها العامة الشخصية، وغسل الأموال السوداء، في المصارف الأجنبية، والجري وراء جاهات جوف، في سلطة إدارية مقْعدة، يقزم أصحابُها فلسطين الأرض والإنسان والقضية في شخوص بعضهم المرتبطة وجوداً ومصلحةً بالاحتلال ومشاريعه التصفوية، دون تنظيم يحكمهم أو أخلاق تلجمهم! من هذا الواقع، يتمخض أحد العناصر الهامة المشكلة لصورة فلسطين الأنموذج، عندما يناشد الشاعر من "بيت شجرة الليمون المعمِّرة"، الوكيل القابع في مبنى المقاطعة المدمر، وهو منه على بعد مئتي متر، الحذر وإعادة النظر، في سقطاته التفريطية المهاوِدة، إذ ازداد عدد االمستوطنين التلموديين في الضفة الغربية في ظل سلطة أوسلو، حتى زيارة شاعرنا، من مئة وسبعين ألفاً إلى مئتين وثمانين ألفاً، ليبلغ مع نهاية 2008 أربعمئة وخمسين ألفاً، وكأن بيتيسمي بقصيدته، يسبر الحاضر المعيش ويقرأ مستقبله القريب، إذ لا يزال الغرب الاستعماري، ورأسه الولايات المتحدة الأمريكية، يتعامل مع قضايانا المصيرية، بأيديولوجيا أمنية انتقائية، تنظر إلى الحقوق الوطنية الفلسطينية الثابتة، من خلال الثقب الضيق لأمن الكيان الغاصب، كما يخنقها بهوامش سياسية ضيقة، وقشور إنسانية، تغلف نوايا الإبادة والتشريد والاغتصاب، والتلذذ بآلام الآخر، وابتلاع حقوقه، وتجريده من إنسانيته، والتعامل معه كبهيمة، لا حاجة لها، في الحياة، إلا قوت يومها، ولذلك يحرص الغرب المستكبر على تنصيب سلاطين المقاطعة وحواشيهم، ويفرضهم بفزاعات، من أجهزة أمنية رئاسية ووقائية ووطنية، ليس الآمن الوطني الفلسطيني من مهامها، ويصب الأموال، في حساباتهم الشخصية، ويلمعهم، عند حاجته إلى ذلك تارة، ويضعهم تحت الإقامة الجبرية، أو حتى يسممهم عند حاجته إلى ذلك أيضاً، تارةً أخرى، ويتصيد لهم ذوي الحاجة، من الشباب الفلسطيني المعطَّل عن العمل وعن الحياة، ليدربهم تدريباً "مرفّهاً"، حسب خطة الجنرال الأمريكي دايتون، لسنة 2006، في أريحا ومصر والأردن، بإشراف يانكي صهيوني مباشر، على حفظ أمن الكيان الغاصب، وطاعة الغرب، والتماهي مع أطماعه الصهيوفرنجية، في ديارنا وأعراضنا، وإذلال الشعب الفلسطيني وإخضاعه للمؤامرات الهادفة إلى تشريده من وطنه، وتجريده من حقوقه ومقاومته، ليغدو رغيف الخبز وجرعة الماء وحبة الدواء، وحليب الأطفال، واجتياز الحاجز الأمني أو المعبر الحدودي، ثمناً للتنازل عن الكرامة والحقوق والأوطان، وإنسانية الإنسان. فشرّ ما يصيب الثورات التحررية وشعوبها، عند شاعرنا، أن يصبح قادتها من رجال الأعمال أصحاب الملايين، أو موظفي علاقات عامة لدى الأعداء الغاصبين:

على مسافة مئتي متر من مبنى المقاطعة المدمَّر
تحاصره مصفحات أبراهام:

"أقولها لكم أيها الأشقياء المقهورون في حياة،
المهزومون الوقحون المبللون دائماً بالعرق،
حذار: عندما يبدا المستكبرون في الأرض في التودد لكم
فلأنهم يريدونكم وقوداً لحروبهم".

يرى الشاعر بيتيسمي أن القيادة السياسية الفلسطينية المعاصرة قد قُتلت فيها الحمية وماتت النفوس وعميت البصيرة، ولم ترتق، في معظم محطات المسيرة التحررية، إلى مستوى جسامة القضية وتضحيات الجماهير، بل حصرت تطلعاتها في سلطة ظل، أو ظل دولة، قابلة لحياة مذلًة، تحت الاحتلال، تُنهي عليها سني تقاعدها، بما كسبت من عقوق وسقوط وخيبات.
في تجميع بيتيسمي لعناصر الصورة النموذج من الواقع الفلسطيني الملتهب، لا يسعى الشاعر إلى تحقيق المطابقة بين إبداع الصورة وأيديولوجيا الخطاب، ولا حتى إلى التقاطع بينهما، وإنما يترك تلك العناصر تتفاعل مع الإلهام، بما يقتضيه نضج العمل الفني، بمكوناته المادية والمعنوية، بعيداً عن إملاءات الصنعة أو التصنع، في خلق الصورة الفنية وأبعادها التفسيرية للواقع المعيش.
ولهذا، تبقى صورة فلسطين الذبيحة تحت الاحتلال، أو الاحتلالين، كما تتبدى في الديوان، تكشف عن حقائق من سيرورة التاريخ وانسجام الأنثروبولوجيا؛ فإسرائيل، ذراع الغرب المستكبر في المنطقة، وهي علة العصر ووباؤه، تعتمد في بقائها على القوة الاستعمارية وأدوات النشوز المحلية، وليس على مقومات قيام الأمم والدول؛ ولهذا فهي خارج، بل وخارجة على كل قانون طبيعي أو وضعي، ومن هنا يتأتي الوضع المأزوم الذي يلقي بظلاله الثقيلة على صورة فلسطين في الديوان من خلال قصائد مثل "الأب" و "أنت العين التي ترى أحلامي"، حيث يتجلى فيها التناغم والانسجام في الجمع بين الحس الفني، وبين تلقائية النَّفس النقدي، بعيداً عن النفاق السياسي والرياء الاجتماعي والانحطاط الأخلاقي؛ كما تتجلى السيرورة الشعرية، عند شاعر السهاد، في تواصل فنونه وموضوعاته، وديمومة إبداعه وثوابته، عبر دواوينه وأعماله التي لا تكاد تحيد معانيها عن ثقافة الصبر والمواجهة، أو لنقل: الصمود والمقاومة:

معنى الضياعِ هو التيهُ في المنفى،
وأطفالنا حديثو الولادة، هنا في الضفة الغربية
كما كانوا في بطون أمهاتهم،
لا يزالون يسمعون خرير أنهار دمهم،
ويصرخون في مهودهم،
كلما راحت مراوح السمتيات الحربية
ترسم سهاد
المذبحة .

وبهذا تبقى فلسطين، كما جاءَت صورتها في "سهاد رام الله"، عصيةً على الاحتلال، وتفتيت التراب والشعب والهوية والانتماء، عصيانها على التآمر الدولي، والتخاذل الإقليمي، والتفريط المحلي والفساد الداخلي المشرعين في أُسلو، لتصفية القضية أرضاً وإنساناً وهوية، إذ لا تقبل صورة فلسطين في الديوان، بين مكوناتها أنموذجاً، سوى العناصر الأصيلة المشكلة عبر التاريخ لهوية هذا البلد العربي المسلم، وما دون ذلك فهو من سقط المتاع وكناسة التاريخ، وبطلان لا يؤخذ به ولا يُقاس عليه، فاستمع للشاعر في وصفه لحقيقة "إسرائيل" الدخيلة الغاصبة المفروضة على فلسطين بالجبروت الاستعماري الغربي الفاشي، بعد زيارته الأراضي الفلسطينية التي تقوم عليها:

وبمغادرتها أدركت أن بإلإمكان الاستغناء
عن كل ذلك الخراء التوراتي اليهومسيحي الداعر
الذي لطخ بحور شقائق النعمان في طفولتي
وملاءات شبابي الباردة .

يفتقد الكيان الصهيوفرنجي الاستعماري، في منظور الشاعر، شرعية التواجد على أرض فلسطين ومقوماته الطبيعية حتى بالمقاييس الاستعمارية التي فرضها الطغاة في الأمم المتحدة، وربطت تواجده الغاصب، بوجود دولة فلسطينية مجاورة على 49% من التراب الفلسطيني! إذن، يشكل السهاد صورة فلسطين، في أحد وجوهها، من خلال معايشة الشاعر ممارسات الكيان الصهيوفرنجي غاصب فلسطين، في التعامل مع المواطنين الفلسطينيين، فيما اغتصب من وطنهم، في سنة 1948، على خلفيات سياسية وأيديولوجية، تتمثل في الحيلولة دون إقامة تجمع مواطنة ذي حقوق متساوية مع الغزاة الغاصبين، ويسعى إلى ذلك بذرائع أمنية، هي مثله، فوق كل قانون، وفوق كل عدالة، فالشاباك والموساد والحاخامات وغلاة المستوطنين، هم فوق كل ديمقراطية، وفوق كل حقوق الإنسان، لأن هذا التجمع الغاصب لا تقوم له قائمة، إلاَّ باغتصاب الأرض، وفرض نفسه على أصحابها، وكونه أداة عدوان لقوى الاستعمار العالمي، تبرر وجودها بذرائع واهية، تفرضها بالقوة العسكرية، حتى علت صرخة الفلسطيني في وجه الغاصبين: "خذوا ديمقراطيتكم وأعيدوا لنا أرضنا"، فنحن أصحاب هذه الأرض التي نتجذر فيها وتقفون عليها، وإن كنا نقبل أن تقفوا عليها إلى جانبنا، فهذه مكرمة منا وإنسانية، وليس منة منكم أو بفضل ديمقراطيتكم. فالمحتلون الغاصبون، كطيف مساعد في تشكيل الصورة الأنموذج، وإن اختلفت أسماؤهم وأيديولوجياتهم وذرائعهم، سيواجهون، بقناعة الشاعر، المصير نفسه، عندما يغدو الرد على جرائمهم في عمق أوكارهم، إذ لم تنهزم أمريكا في فيتنام إلاَّعندما غدا الحدث الفيتنامي شأناً داخلياً أمريكياً، كما لم يهرب العدو الصهيوني الغاصب، من جنوب لبنان وقطاع غزة، إلاَّ عندما غدت ضربات المقاومة شأناً جدلياً، يفتت تجمع كيانه الغاصب، على أرض فلسطين، وهو لا يزال يبحث عبثاً في التاريخ عن مبرر لوجوده.
نعم. كان لتهميش الضمير الإنساني وتزييف الوعي البشري، بسبب شراسة الهجمة التبشيرية الاستكبارية المسلحة، على المستضعفين في الأرض، إعلاماً وحرباً واقتصاداً، أكبر الأثر في تأجيج ردة الفعل المقاومة عند المثقفين والمبدعين، تقويماً لما اعوجَّ، وإعادة الأحوال والأشياء إلى طبيعتها، ما أمكن إلى ذلك سبيلا؛ وبهذا المفهوم، تنجلي صورة فلسطين الأصيلة في القصيدة التي منها الأبيات السابقة، من خلال تقديم شخصية بشرية مخلخلة، غريبة الأطوار، ترمز إلى زيف الكيان الغاصب وغربته عن المكان والزمان، حيث تحمل الشخصية جرثومة المجتمعات الغربية المادية المتآكلة، وضياعها بين الحقيقة الثابتة ومتاهات النفس المريضة، في إشارة إلى أن هذا الكيان ليس أكثر من ظاهرة استعمارية وبائية عابرة، وأداة غربية مفروضة بالقوة على أرض الغير وصدره.
بالصورة الخلاقة، الدقيقة والأمينة، يفسر أنخل بيتيسمي الحالة الفلسطينية المستعصية، أملاً في تشخيص علتها والتأكيد على وصف وسائل خلاصها، فيقدم لنا الشاعر صورة فلسطين من خلال تشخيص الداء الذي يسري في جسدها، بمختلف مكوناته وخلفياته الوبائية، وهو داء مستعص يفتك بمكونات الضحية، دون أن يبلغ حتى الآن الغاية المرجوة منه في مسخها وحصرها وإخراجها من ماهيتها وانتمائها، ومن هنا تأتي دعوة الشاعر إلى تكثيف المقاومة بكل أشكالها للحيلولة دون تحقيق ذلك الداء لأيٍّ من أطماعه، ولم يتوقف الشاعر عند دعوة الغير للتضحية والمقاومة، بل نجده، أمام جدار الفصل العنصري، سباقاً بالنفس إلى ذلك:

هو ضرب من الانتحار،
يمكنك أن تقول عني إرهابياً.
نحن كثيرون.
"من ليس معنا فهو ضدنا"،
هذا هو شرع بوش الكذاب.
أفكر ثم أقاوم، أحب ثم أعيد التأكيد على وجودي.
يطيب لي يا صديقي، تفجير نفسي
أمام ضرس العقل ألأخير .

وبمواكبة سيرة هذا المبدع لصورة فلسطين الأصيلة، وقد لازمها في السهاد الطويل، حاضنةً ابناءَها وهويتها وإيباءَها، في انتظار الفرج، نقول: إن كان النبي العربي أيوب، الذي تحمل القلعة اسمَه، ذا بلاء وصبر وتضحية، وعطاء ومقاومة، فلا غرو أن يرث ابن قلعة أيوب الشاعر الفنان والصحفي القدير أنخل بيتيسمي شيئاً من هذا الجين المبارك الذي ينزل المكان ويسكن الأرواح جيلاً بعد جيل، ولا يعلن عن نفسه إلاَّ في أشدها عزيمة وأنقاها سريرة.
بكل موضوعية ومسؤولية، يبدأ ابن قلعة أيوب رسم صورة فلسطين في "سهاد رام الله"، بقصيدة تحمل عبارة: "جئت إلى فلسطين لأتعلم"، ليقدم لنا بالكلمة والصورة تجربته التي تعلمها، إبداعاً وتضامناً وعطاءً، في أرض السلام المتلظية بالعدوان الاستعماري الصهيوني عليها، وعلى شعبها. "سهاد رام الله" كتاب شاهد على العصر، في مكان الحدث، يعطي الأحوال والأشياء معانيها ويحمل، بطابعه الفردي والجماعي، سمات القرن الحادي والعشرين وعثراته التي تحمل بصمات العولمة اليانكية الصهيونية، والعدوانية الرسمالية الاستعمارية، حيث يتجلى الرادع الأخلاقي، بالحد الأدنى من الشاعرية، في صورة الناس، وبخاصة الأطفال منهم، وهم في نهاية المطاف قديسو حياة ورسل سلام، وضحية من ضحايا كل تلك العروض السادية الإسرائيلية الغربية الكريهة التي كنا سنكون أفضل حالاً بكثير، في هذا العالم، لو لم نشاهدها قط.
وإن كانت الصورة الأنموذج التي يسمح الوعي بنقلها للمتلقي، انعكاساً لهوية المنتج وخلفياته، وهي في حالات كثيرة، تصنع الوعي وتوجهه، فهي بذلك ليست عنصراً محايداً، بل تتجاوز بفعلها معطيات التلقى وتغوص في عملية تشكيل الوعي وتوجيهه، نحو حالة من حلول الصورة في متلقيها، أو حلول المتلقي في الصورة التي يرسمها، ومن هنا تتأتى أهمية أن تتمتع الصورة/ الرسالة بقدر كاف من الموضوعية والمصداقية والشفافية، لتتمكن من أداء المهمة الإنسانية المنوطة بها.
ولما كانت الصورة أيضاً هي المعادل البصري للواقع الملموس أو الفكرة الذهنية المجردة، أو الواقع الافتراضي، فالشاعر لا يُعنى في "سهاده" بتبسيط صورة فلسطين المنقولة إلى القارئ تبسيطاً يفك لغز الإبداع فيها، ويسلمها لقمة سائغة للتأويلات العبثية والتفسيرات المتناقضة، وإنما يشرِّع نوافذها، رؤيةً ورؤيا، بصراً وبصيرةً، على تيارات الإبداع، ليصوغها من معطيات الوقائع، والواقع المعيش، ويغنيها بالتواصل مع النص الشعري، ويغنيه بها، كما في اقتباسه من النص القرآني، لتصوير عطاء أطفال الحجارة. وبهذا، تكشف المعطيات السيميائية لصورة فلسطين عند بيتيسمي، شكلاً ومضموناً، عن معاني الإبداع المقاوم ورهاناته الأخلاقية، من خلال قراءَة مكونات الواقع وتحليلها بآليات وعي موضوعي، وإبداع ملتزم بقيم الفن ورسالته، انطلاقاً من فرضية، أن حقيقة الصورة هي حقيقة نسبية قابلة للتأويل، ولو في حدوده الدنيا.
وفي سياق ذلك يمكننا القول بأنَّ صورة فلسطين في الديوان، تتطعم بموضوعية الطرح ومصداقية المبدع وشفافية إبداعه، تحليلاً وتأويلاً، كما تتطعم أيضاً، بمعطيات من الواقع الفلسطيني، تقوم على قيم إنسانية سامية، تعمل وسائل الإعلام المتهودة والمتذيلة جاهدة على تشويهها، لتنفذ من ذلك إلى تمييع قضية فلسطين، وتسفيه إنسانها وثقافته العربية الإسلامية، أمام الرأي العام العالمي. ويعد شاعرنا رائداً في استخدام تلك المعطيات استخداماً منطقياً جريئاً يخاطب العقل والقلب معاً، كما في قصيدتي "الاستشهادية" و "معاد للسامية"، حيث يوفق في الأولى في اختيار شخصية الاستشهادية وفاء إدريس، ليدحض الأكاذيب الصهيونية والغربية حول غاية العمليات الاستشهادية ودوافعها، في ثقافة المقاومة في فلسطين العربية وأكنافها؛ وفي الثانية يفصل الشاعر بين ما يسمى بمعاداة السامية وبين معادة الكيان الصهيوني الغاصب، وحتى الرغبة في زواله، حيث يؤكد على حياديته اتجاه الأول، وعلى موقفه الإنساني والأخلاقي والفكري المناهض للثاني، لأسباب تتجلى في ثنايا الديوان، وفي سلوكيات الشاعر اليومية. وفي قصيدة "رأيت البحر في رام الله"، يعيد التأكيد على ما جاء في قصيدة "الاستشهادية"، عندما يرسم تلك الصورة الصادقة لأطفال الحجارة، ويقتبس، في وصف مآلهم، من القرآن الكريم قوله تعالى:"لا يسمعون فيها لغواً إلاّ سلاماً ولهم رزقهم فيها بكرة وعشيا"
وباقتباس الشاعر الآية الكريمة من سورة مريم، دون غيرها، يقيم علاقة تناص تنطلق من الوضع الفلسطيني المعيش اليوم، وتغوص في تاريخ فلسطين، لتلتقي بواقع آخر، عاشه هذا البلد قبل ألفي عام، حيث يستخدم العناصر الإنسانية والقيمية والمادية ذاتها، الأم والابن والرسالة والحجر، ليجمع، في عناصر التناص، الأم الفلسطينية في ثكلها وصبرها واحتسابها اليوم بالسيدة العذراء، ويجمع الطفل الفلسطيني المنتفض اليوم بعطائه وإصراره على الافتداء بالسيد المسيح الداعي للحق والمضحّي بالنفس في سبيله، وتتمثل الرسالة في حالتي التناص في تخليص الإنسان من ظلم الطغاة، قتلة مسيح الأمس، وورثتهم، في الإجرام، قتلة الشعب الفلسطيني، مسيح اليوم، وهي فكرة مطروحة اليوم في شعر غير شاعر، في العالم الهسباني .
إضافة إلى دقة الصورة الشعرية وصدقها، في "سهاد رام الله"، حرص الشاعر الفنان متعدد المواهب على استخدام فنون إبداع أخرى، تؤكد مصداقية ما نقله لنا بالكلمة، وترسخ أثره في النفس، فضمَّن ديوانه صوراً فوتوغرافية، بالأسود والأبيض، ناطقة بلسان الواقع الفلسطيني المعيش، التقطها المصور أنخل تروتر Angel Trotter، أثناء مشاركته الشاعر مهمته النضالية العظيمة على تراب فلسطين، ومنها صور الأرملة الشابة والطفل اليتيم والأمهات الثكالى والكهل الجريح، والأطفال رماة الحجارة وآثار التدمير، وذل المعابر وبؤس الحياة اليومية.
ومن العناصر المكملة للصورة الأنموذج في "سهاد رام الله"، استخدم الشاعر، في قصائده، كلمات ومصطلحات محلية، أفرد لها، بعد قسم الملاحظات والتخصيصات، قاموساً قصيراً في نهاية الديوان، فكانت دليلاً جلياً على عمق تجربته وصدقها نتيجة فهمه الصحيح المتزن لمكونات الصورة والتأثيرات المساهمة في تشكيلها، إذ تترك قراءة الديوان في النفس انطباعاً بأنَّ الشاعر قد عاش واقع الصورة، التي ينقلها، كأحد مكوناته الإنسانبة، كما هو الحال في قصيدة "الدخان والصيف" و "جدر القرن الحادي والعشرين".
صورة فلسطين في "سهاد رام الله"، و "حسب اليراع والقوافي من جلال الرزء عن وصف يدق"، هي، بإيحاء معانيها، وتعدد أطيافها، حصيلة معاناة وتأمل ومعايشة وتسجيل حي لساعات طوال شكول، قضاها الشاعر في أرق وترقب، في بلاد يفرض عليك فيها الغاصب ألاَّ يغمض لك جفنٌ أو تقر لك عين أو حالٌ.
الصورة الشعرية، أو الحقيقة المصورة التي يقدمها لنا الديوان، بفضائها المعنوي الأوسع، مرسومة بالكلمات، هي أن مدينة رام الله نفسها، فلسطين مصغرة، تعيش، تحت نير الاحتلال الصهيوني والحصار الدولي والعربي والمحلي، في سهاد مستمر، وقد جفا النوم عيونها، وقضَّت مضاجعَها كوابيس الحصار والتجويع، والإذلال والقتل، وتقطيع الأوصال والترويع. فقد قام أنخل بيتيسمي، كما يقول الكاتب الناشر توا بليسا، عبر كلمات كأنها الصور، بمهمة ذهاب وإياب إلى قلب فلسطين الكبير الدامي تحت الحصار والقهر، حيث لعبة الدم فيها لعبة إسرائيلية تلمودية بامتياز، والحلم، مجرد الحلم فيها ممنوع على أهلها ونازليها:

إن كنت ستواصل التلذذ بسفك دمي
فالعسل يدوم لألف عام في الجرار .

وبهذا المعنى المقاوم، تنقلنا صورة فلسطين في هذا الديوان، شئنا أم أبينا، إلى مجال الإحساس بالمظالم وحتى التضامن مع من يعانون القهر وخيبة الأمل المفعمة بما يبررها من سنوات الاضطهاد، وترك المجرم طليقاً يفتك بالضحية ويبتلع حقوقها لقمة لقمة، ويتبجح بجرائمه، الأمر الذي جعل أدب بيتيسمي يدق، كجرس إنذار، على أسماع جثث مسترخية في حياة، ليوقظها من سبات طال مداه، علها تجنب نفسها وخز ضمير، قد يصحو بعد فوات الأوان، وربما لهذا السبب لم يذكر الديوان من المجرمين إلاَّ الفاعلين بإرادتهم: بوش وشارون، ولم يأت على ذكر الدائرين في فلكهما والمأمورين بأمرهما، من حكام وغير حكام، باعتبارهم أدوات فحسب، تُفعّل عند الطلب، وتُخمد عند الطلب: "اتركوا لي الأمر لآستكمل بمدفعيتي ونابلمي المهمة القذرة. اتركوا لي الأمر لأقطع شهية الهنود الحمر. في سلخ فراء رؤوس أبنائنا" . وعند هذا الحد من صلافة شارون، تبدو صورة فلسطين، في "سهاد رام الله"، قفازاً ملقي في وجوهنا جميعاً، مناضلين ومتآمرين، مضحين ومستفيدين، وساهدين وغافلين: "لا تتحدث عن فلسطين بعد فوات الأوان" . فأخشى ما يخشاه الشاعر أن يموت فينا الإنسان، قبل أن نستوعب دروس الحياة والزمان، ولهذا يرتفع صوته في الديوان بتناص مع التشيلي بابلو نيرودا: "حرام عليك البكاء دون أن تتعلم" .
نعم. ذهب أنخل بيتيسمي إلى فلسطين ليتعلم، ولكنه لم يذهب اليها ليتعلم التمييز بين الخير والشر، بين الغاصب القاتل القادم من وراء البحار وبين ابن البلاد الضحية، المدافع عن نفسه ووطنه وأهله وحقه في الكرامة والحياة، لأن الشاعر كان، قبل ذهابه، على قناعة راسخة تتجاوز هذه الثنائية البديهية، وتضعه دائماً، دون أن يساوره الشك، ولو للحظة واحدة، في صواب خياره، في الوقوف إلى جانب المستضعفين مهضومي الحقوق، وهم بلا شك أولئك الذين يواجهون الحصار وتقطيع الأوصال والرصاص الحي والدبابات المصفحة والمجنزرات والجرافات العسكرية بالكف والحجر، وينامون ويحلمون والحجر تحت المخدات وفي الحقائب المدرسية. هي إذاً، قناعة لا تتلكأ عند البديهيات البسيطة، كما لا تمر عليها في عجلة من أمرها، وهي أيضاً قناعة لا تخطئ في حساباتها، عندما ترى ألاَّ سبيل للخروج من دوامة العنف، إلاَّ بوقف العدوان، وزوال الاحتلال، ورد الحقوق إلى أصحابها، لأن المقاومة الفلسطينية، في إطار الصورة العامة ل"سهاد رام اللة" هي دفاع مشروع عن النفس، ورد فعل على جرائم جيش غاصب يتخذ لنفسه دولة بلا مقومات الدولة.
ليس ثمة مبالغة في القول إنَّ شاعرنا، عندما ينقل لنا هذه الصورة التي تطوي تحت جناحيها محسوسات تجربته الواقعية والإبداعية التي عاشها في فلسطين وعايشها، يشق عصى الطاعة على واقع ظالم، ويرمي بيد الحق سهام إبداعاته مغموسةً بترياق شافٍ ينعش قلوباً كادت تميتها الأنانية وعدم المبالاة بآلام الآخرين، ولا ثمة تهويل في الحكم بأنه شاعر يلامس، بجرأته الإبداعية ومصداقيته الأخلاقية، أعالي قمم الفن فيثير في النفوس مواجع تتلظى بإدانات بينات، لا رادَ لبراهينها، ولا دافع يدفعها. هو ببساطة إذاً مجدد في الأغنية المعاصرة، يمزجها بالشعر فيغدو حاديا يحث قوافل السلام والصمود والمقاومة على بلوغ الغايات، بأغان منها: "المنبوذ"، "المنسيون"، "الرقص في حقول ملغمة"، "تاريخ انتهاء الصلاحية"، "عن حيتان تموت حباً"، "أملك قلباً فحسب"، "كعكة الصحراء"، وغيرها، حتى يصير النغم عند شاعرنا الفنان خزانة للذاكرة، يجد فيها كلٌّ طريقه إلى الحياة في هذا العالم، إلى ما يحب وما يريد. وما يريده أنخل شيء من عافية وإلهام، يعينه على مواصلة التعلق بأسباب الحق وتحقيق السلام القائم على العدل والمساواة وحق التمايز:

أُنهي السنة كما بدأتها،
أؤدي عملي: هوايتي المفضلة.
لا أدري لمن أتوجه بالشكر...
لكنني أظن أنني إنسان محظوظ.
يتوفر لدي كل ما يحتاجه بشر .

في سنة 1991 غنى أنخل أغنية "سماء بغداد"، فحملته بعد اثني عشر عاماً إلى العراق؛ وفي سنة 1992 كتب قصيدة السهاد الفلسطيني في "الحب ورسم الخرائط"، فحملته بعد ثلاثة عشر عاماً إلى فلسطين، فهل هي إذاً، غواية فنان أم نذير شاعر، يهيم في وديان تجدف عليها يد القدر؟.. حتى الشاعر نفسه يبقى حائراً أمام هذين الحدثين المتلازمين في العراق الجريح وفلسطين الذبيحة، كما لو كان كل ما يتلقاه المبدع عبر وسائل الإعلام يمر في قنوات الزمن وشرايين الدم إلى فوهة البركان.
عندما يرسم الشاعر صورة فلسطين، ويربط ما يحدث في العراق، بما يحدث فيها، فهو يربط النتيجة بالسبب، إذ يظل اغتصاب فلسطين هو سبب الداء الذي ينهش جسد هذه الأمة، ويمزق أوصال هذا العالم العربي الإسلامي، وما اغتصاب العراق، بذرائع كاذبة، وتدميره ثقافة وإمكانيات، وتنصيب العملاء والجواسيس وكلاء للغرب الصهيوفرنجي الغاصب عليه، وإغراقه في بحور من الدم وتفتيته عرقياً وطائفياً ومذهبياً، إلاَّ نتيجة مباشرة لفشل المشروع الصهيوفرنجي على أرض فلسطين، ومحاولة الغرب إطالة بقاء الكيان الصهيوني أطول فترة ممكنة، ولا يتسنى ذلك إلاَّ بتحييد عناصر القوة عن موقع التأثير، وكان العراق، بنهضته الثقافية وتقدمه العلمي ورخائه الاقتصادي وغيرته القومية، في السبعينيات من القرن الماضي، من أكبر مواقع هذا التأثير:


لا أدري لماذا يحضرني
في هذه الساعات شعب الصحراء
وشعب فلسطين مع ولادة هذا الصباح في بغداد
أمام هذه النوافذ المشرَّعة
هكذا، نحن الشعراء، كخفقة قلب،
ثقودنا الاستعارة إلى استعارة أخري،
وننفُذ من جِلد إلى جلد.

كخفقة القلب يضخ الشاعر أحاسيسه السامية، لتجد طريقها الطبيعي، عبر مسالك الروح، إلى سائر مكونات الضمير البشري؛ وكخفقة القلب أيضاً، تنقّل أنخل بيتيسمي في الجغرافيا الفلسطينية، وفي المجتمع الفلسطيني، تحت الاحتلال والحصار والمكيدة، فنقل لنا، في عيد الأضحى المبارك الموافق لأعياد ميلاد 2006، صورة فلسطين العزيزة الصامدة المعطاء، بثقافتها العربية الإسلامية الراقية وأنموذجها الإنساني الجليل، متمثلة في زيارته لمكتب رئيس بلدية جنين المنتخب وبيته المتواضع، حيث الأثاث الفقير البالي، ومنه ذلك الكرسي فاقد قائمته الرابعة، الذي قدم للشاعر خامة إبداعية جديدة لاستكمال واحد من مكونات صورة فلسطين عنده، من خلال استدعاء طيف كرسي آخر: "عندما استشهد الشيخ على كرسيه المتنقل، في أحد شوارع غزة، وجدتُ فيه ما كنت أبحث عنه من أنموذج للتضحية والعطاء في سبيل شعبه ووطنه، ولما اطلعت على إرثه المادي والمعنوي، بعد رحيله، كبر الأنموذج في كياني وتصوري حتى ضاق الخيال عن استيعاب المعاني الإنسانية الكامنة في شخصيته الفلسطينية المقاومة".
تكشف صورة فلسطين في "سهاد رام الله"، عن حقيقة استهداف صهيوفرنجي تفتيشي أوسع، يتمثل فى معاداة الإسلام، وتمثل فلسطين بؤرته المتوقدة: "ما كنت قط في غروزني أو كابل أو سراييبو، لكن في سحر هذه الليلة ...، رام الله هي كل هذه المدن التي تقصفها الطائرات الحربية حيث الخوف ينحت في الظل، ويجعلك تشعر بتناقض ظاهري بأنك وهمٌ أكثر من أي وقت مضى" .
وبهذا، يمكننا القول، بدون مبالغة، إنَّ أنخل بيتيسمي مصور مبدع ومنمذج واقعي رزين، يستلهم العواصف ويثيرها في واقع عالمي آسن موتور، مستعص على الفهم والتعايش، يستخف بمقاومة الشعب الفلسطيني وصموده، وإنسانيته وحقوقه؛ ولذا، فشاعرنا، بمقاييس أدعياء "الحق الإلهي المطلق!" المطاطة، والذمم الفاسدة الفضفاضة، "مارق شرير، مثير للمتاعب ومحرض على الإرهاب والخروج على طاعة المجتمع الدولي!!!":
الأحرار حتى في مماتهم يقاومون
أنا الذي مشيت في المنام
وبكيت عندما استيقظت .

من أجل رسم الصورة الأدق والأصدق، لفلسطين المنتفضة، على الاحتلال وبطانته، هكذا يكتب ابن قلعة أيوب الشعرَ مشرعاً على آفاق إنسانية، بأغراض شمولية جامعة، أوسع من كل النظرات العنصرية والأطماع الاستعمارية التي تسكن نفسيات أصحاب القرار المستكبر في عالمنا. وهكذا أيضاً يشرّع إبداعاتِه، بتقنياتها الشعرية والموسيقية الأحدث، وقاموسها اللغوي والبياني المتورط في التجديد والحداثة، تورطه في التضامن مع المستضعفين في الأرض، لتكون الوجيب الذي لا يتوقف، لمطالعات هذا المبدع متعدد المواهب، وقراءاته وسماعه، ورحلاته وتجاربه، ومغامراته وتمرده وعصيانه، وليظل هو مبدعاً، يؤجج جذى الفعل، ولا يبحر عكس التيار أو معه إلاَّ في أنهار ترتوي منها شاعريته ويستسيغ طعم مياهها ضميره، ويظل شعره المقاوم، وهو كالحياة نفسها، أكثر انسجاماً مع النفس والواقع، في إطار الشعر الإسباني الجديد.


الدكتور محمد عبد الله الجعيدي