المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : نماذج من الرثاء غير المذهبي في الشعر الأردي



إبراهيم محمد إبراهيم
17/11/2008, 10:34 AM
نماذج من الرثاء غير المذهبي في الشعر الأردي
النموذج الأول رثاء الشاعر " تلوكـ جند محروم " لابنته " وديا "، والذي يعد مثالاً للندب الخالص ، ومثله رثاء الشاعر " مرزا أسد الله خان غالب " لابن أخي زوجته " زين العابدين عارف " . لقد اكتسى شعر " تلوكـ جند محروم " بمسحة من الحزن أثرت على نفسيته أشد تأثير بسبب حادثتين مفجعتين مرتا به ، الأولى تتمثل في وفاة زوجته الأولى عام 1915م تاركة وراءها ابنة صغيرة هي " وديا " ، والثانية تتمثل في انتحار هذه الابنة " وديا " في يوليو من عام 1935م وهي في الثانية والعشرين من عمرها ، وذلك حين سكبت الكيروسين على جسمها ، وأشعلت النار في نفسها ، فماتت محترقة بسبب بعض المشاكل العائلية بينها وبين أهل زوجها ، وقد رثاها أبوها " تلوكـ جند محروم " بعدة منظومات منها منظومة بعنوان " في انتحار وديا : وديا كى خود كشى بر " والتي تعد من أصدق المراثي في اللغة الأردية ونموذجاً رائعاً للندب . هذا وكانت ابنـة " محـروم " الصغـيرة " شكنتـلا " من زوجتـه الثانيـة قد توفيت قبل " وديا " هذه بشهر واحد في يونيو 1935م ، ورثاها بمنظومة بعنوان " على مدفـن طفلـة صغـيرة : كم سن بجى كى مدفن بر " قسمها إلى ثلاثة أقسام هي " الصبح الأول " ، و " الصبح الثاني " ، و " الصبح الثالث " .
و " محروم " في رثائه ندباً لابنته " وديا " أب مكلوم ذاق مرارة وفاة ابنته الصغيرة قبل أن تموت " وديا " محترقة ، ولم يكد هذا الأب يفيق من هذه الصدمة حتى لحقته أخرى أقسى وأشد ، ولهذا جاء رثاؤه أكثر تأثيراً في نفس من يقرأه . و " تلوكـ جند محروم " في رثائه لابنته " وديا " كان واقعاً تحت تأثير صدمة حرق ابنته لنفسها أكثر من وقوعه تحت تأثير صدمة وفاتها ، رغم أنه أثر فيه أيضاً بطبيعة الحال .
في انتحار " وديا "
تلوكـ جند محروم
من ذلك الذي جاء خبر موته محترقاً ، إن اللهب يتراقص على القلب التعس
من أسأل ؟ ماذا حدث ؟ أين أذهب ؟ ، أيها القضاء ، أمطرني بمزيد من اللهب
آه يا " وديا " ، ما هذا الذي فعلت ؟.
لماذا قضيت على نفسك بالنيران ؟!.
لئن وطئت القدم جمراً ، تألمت منها الروح .
ولا طاقة لأحد على تحمل " حرارة الشمس ، ولذا يبحث الجميع عن مكان للظل .
فكيف واتتك فكرة الموت احتراقاً ؟!.
كيف رضيت بهذا ؟!.
لو أنك ضقت بالحياة هكذا ، وساء حالك إلى هذا الحد .
واستحال قلبك المضطر دماً ..... ماذا أقول يا " وديا " التعيسة .
لو أنك قررت الانتحار ،
فهناك طرق أخرى للانتحار .
ليت أحداً أحضر لك سماً ، أو أطعمك بنفسه سماً .
ليت أحداً دلك على النهر ، أو السقف أو المشنقة .
لكن لم يكن لك أن تشعلي في نفسك النار ،
لم يكن هذا يليق بك .
يا قتيلة خنجر الحزن والألم ، لو أن الحياة صارت محالة أمامك .
لماذا لم تكتبي لي عن أحوالك ، لماذا لم تفكري في ذلك .
آه يا روح أبيك .
هل محي من قلبك أثر محبتي .
تركت وراءك أربعة أطفال ينتحبون ، يبكون عليك جميعاً .
قطعت كل علاقة لك بالدنيا ، وأعطيت ظهرك في الحياة للأمل .
لماذا ألقيت متاع الحياة بيديك
في لهيب النيران .
هل كان ذلك ذنبي يا فلذة كبدي ، أم نقول أنه فتور من القدر .
ليتني أبعدتك عن ذلك البيت الذي صار لك بمثابة تنور مشتعل .
آه ، أولئك الذين ظننتهم " بشراً " ،
من أدراني أنهم متوحشـون إلى هذا الحد (1) .
ونلاحظ على المرثية ما يلي :
1 – أنها جاءت في قالب المسدس ، واشتملت على سبع وحدات منه ، وقالب المسدس هو أكثر القوالب التي تستخدم في المرثية ، وذلك لسهولته بتعدد قوافيه من جانب ، وطول بحره من جانب آخر ، ومن جانب ثالث يتيح كونه " وحدات " للشاعر أن يصب في كل " وحدة " منه " دفعة " من مشاعره وأحاسيسه تجـاه من يرثيـه ، ثم ينتقـل منها إلى " دفعة " أخرى في " وحدة " أخرى .
2 – تتسم مرثية " تلوكـ جند محروم " بالعفوية والتلقائية في معانيها ، باعتبار أنها صادرة عن أب فقد ابنتيه في شهر واحد تقريباً ، كما تتسم بفوران العواطف والأحاسيس فيها :
من ذلك الذي جاء خبر موته محترقاً ، إن اللهب يتراقص على القلب التعس
من أسأل ؟ ماذا حدث ؟ أين أذهب ؟ ، أيها القضاء ، أمطرني بمزيد من اللهب .
لماذا لم تكتبي لي عن أحوالك ، لماذا لم تفكري في ذلك .
آه يا روح أبيك . هل محي من قلبك أثر محبتي .
ليتني أبعدتك عن ذلك البيت الذي صار لك بمثابة تنور مشتعل .
آه ، أولئك الذين ظننتهم " بشراً " ، من أدراني أنهم متوحشون إلى هذا الحد .
3 – خلت المرثية من الأفكار العميقة والمعاني الدقيقة ، وهو أمر طبيعي مع الندب الذين هو في حالة " تلوكـ جند محروم " صادر عن أب مكلوم تكاد الصدمة بوفاة ابنته محترقة تطير بعقله ، فلا تتهيأ له الفرصة للتفكير والتدبر واستخراج المعاني .
4 – جاءت لغة المرثية بسيطة خالية من القوة والمتانة ، حيث جاءت في أكثرها مجرد تعبيرات عادية كتلك التي تصدر عن أي أب في مثل حالة " محروم " :
تركت وراءك أربعة أطفال ينتحبون ، يبكون عليك جميعاً .
وهو ما نلاحظه كذلك في رثائه لابنته " شكنتلا " حين قال :
المعنى :
لماذا غضبت منا وأتيت ههنا ، هيا انهضي وعودي معي يا " شكنتلا " .
المكان موحش ، غابة مخيفة . كيــف قضيت الليل ههنا يا " شكنتلا " .
أنت الآن في نوم ثقيل تحت التراب البارد،والكائنات كلها يقظى يا " شكنتلا "
اقفزي فرحة من جديد،فمعي أخـوك " جكـن "،والدموع من عينيه تسيل يا " شكنتلا " .
جاء أبوك وأخوك ليصطحبانك بآهــــات ودموع ونحيب يا " شكنتلا " .
صعدت دماء القلب الممزق إلى العيـون لمـا رأت هـذا الحجـر الثقيـل فوقك يا " شكنتلا " .
بنينا مدفنك في أرض الأشـواك هـذه ، أف ، كـأن خنجــراً يشـق الكبـد يا " شكنتلا " .
صار البيت بدونك خراباً ، والجميع يسألون أين هي " شكنتلا " .
صمتاً يا محروم ، لقد غفت عيناها قليلاً بعد تعب شديد المسكينة " شكنتلا "
5 – كانت صدمة " محروم " في وفاة ابنته منتحرة محترقة " بيدها " أكبر من صدمته في وفاتها ، ولهذا جاءت معظم أبيات المرثية معبرة عن هذا المعنى :
آه يا " وديا " ، ما هذا الذي فعلت ؟. لماذا قضيت على نفسك بالنيران ؟!.
لئن وطئت القدم جمراً ، تألمت منها الروح .
ولا طاقة لأحد على تحمل حرارة الشمس،ولذا يبحث الجميع عن مكان للظل
فكيف واتتك فكرة الموت احتراقاً ؟!. كيف رضيت بهذا ؟!.
لو أنك قررت الانتحار ، فهناك طرق أخرى للانتحار .
ليت أحداً أحضر لك سماً ، أو أطعمك بنفسه سماً .
ليت أحداً دلك على النهر ، أو السقف أو المشنقة .
لكن لم يكن لك أن تشعلي في نفسك النار ، لم يكن هذا يليق بك .
مرثية غالب لزين العابدين عارف
كان ينبغي أن تنتظرني لأيام أخر ، فلماذا رحلت وحدك ، لتبق وحيداً إذن لأيام أخر .
إن لم تتآكل أعتاب " قبرك " فسوف تتآكل رأسي " من السجود عليها " (2) .. وسأبقى ساجداً على أعتاب " قبرك " لأيام أخر .
جئت بالأمس " فقط " ، واليوم تقول إنك راحل ..... آمنا بأنه لا خلود ، ولكن لتبق لأيام أخر .
تقـول وأنت راحل سنلتقي يوم القيامة ، كيف هذا،وهل للقيامة غير اليوم أيام أخر !!.
أيتها السماء السرمدية ، لا يزال عارف شاباً ، فما ضرّك لو بقي حياً لأيام أخر
لقد كنت يا عارف بدر التمام في بيتي ، فلم لم يبق البيت مضيئاً لأيام أخر !.
إلى هذا الحد بلغت استقامتك في التعامل " فرحلت " ..... ليتك لم تلبّ نداء ملك الموت لأيام أخر .
لنفرض أنك تكرهني ، أو تخاصمت مع " نيّر " (3) .... فلم لم تبق في صحبة الصغار لأيام أخر (4) .
ألم تتحمل ما مضى من العمر بحلوه ومرّه ..... فيا من أدركه الموت شاباً كان عليك أن تبقى لأيام أخر .
كم أنت ساذج يا من تتعجب من أن " غالباً " لا يزال حياً (5) ..... مقسوم لي أن أتمنى الموت لأيام أخر .
تمثل هذه المرثية ما نطلق عليه " الندب " باعتبار أن " غالباً " يبكي فيها " زين العابدين عارف " ، ومع ذلك ف‘نها تتداخل مع ما نطلق عليه " التأبين " باعتبار أن " غالباً " يمدح في ثنايا المرثية " زين العابدين عارف " ويلقي الضوء على بعض صفاته ومحاسنه . هذا ونلاحظ على هذه المرثية ما يلي :
1 – أنها جاءت في قالب الغزل ، ويندر كتابة الرثاء في هذا القالب ، نظراً لصعوبته ، وهذا يعود في الحقيقة إلى مقدرة " غالب " اللغوية ، وقوة ملكته الشعرية .
2 – أنهـا وإن كانت رثاءاً لـ " زين العابدين عارف " إلاّ أنها بدت في بعض أبياتها كأنها نعي لـ " غالب " نفسه ، حيث نراه يتحسر على الوضع الذي آل إليه بعد وفاة " زين العابدين عارف " ، فقد أصبح رجلاً مسناً أضعفته الأيام والليالي ، ودخل في مرحلة الشيخوخة ، وكان منتهى أمله أن يجد في هذا العمر من يعينه على تقلبات الأيام ، ويصير له سنداً وركناً آمناً يركن إليه ، ولكن وفاة " عارف " المفاجئة حطمت هذه الآمال وأهالت عليها التراب ، فماذا لو لم يمت " عارف " الآن ، ومات بعد فترة وجيزة يحل فيها موت " غالب " أيضاً ، فيموتان معاً ، فلا يبقى " غـالب " وحيداً في هذه الحياة بلا معين أو سند !!. ومطلع الغزلية ومقطعها يصرحان بذلك :
كان ينبغي أن تنتظرني لأيام أخر ...... فلماذا رحلت وحدك ، لتبق وحيداً إذن لأيام أخر .
كم أنت ساذج يا من تتعجب من أن " غالباً " لا يزال حياً ..... مقسوم لي أن أتمنى الموت لأيام أخر .
3 – اتباع " غالب " لأسلوب الحوار بينه وبين " عارف " بصورة تثير الحزن والألم في قلب من يقرأ المرثية ، ويستدر عطفه على " غالب " أكثر من " عارف " نفسه :
تقـول وأنت راحل سنلتقي يوم القيامة ... كيف هذا ، وهل للقيامة غير اليوم أيام أخر !!.
4 – يظهر في المرثية الحب الشديد الذي يكنّه " غالب " لـ " زين العابدين عارف " ، وهو أمر فطري ، فلقد تبناه " غالب " وربّاه ، وعلّق عليـه آمـالاً كبيرة ، خاصة وأن أولاد " غالب " ماتوا صغاراً ، ودخل " غالب " مرحلة الشيخوخة بعد حياة مليئة بالمصاعب والمشكلات ، ولهذا يقول " غالب " إنـه لم يعد لديـه فيما تبقى من حيـاته ما يفعله سوى أن يذهب كل يوم إلى قبر " عارف " ليبكي أمامه ، ويمرغ رأسه على أعتابه ، فإما أن تتآكل أعتاب القبر فلا يبقى هنـاك حاجـز بين " غالــب " و " عــارف " في قبره ، وإمـا أن تتلاشى رأس " غالب " نفسه فيموت ويلحق بهذه الطريقة بـ " عارف " :
إن لم تتآكل أعتاب " قبرك " فسوف تتآكل رأسي " من السجود عليها " ، وسأبقى ساجداً على أعتاب " قبرك " لأيام أخر .
5 – يتضح تأبين " غالب " لـ " عارف " في أبيات قليلة هي التي أشاد فيها بـ " عارف " وأظهر محاسنه حين قال بأنه كان كالبدر ، وكالمصباح لبيته ، وأنه كان شاباً ، ويتسم بالصبر والتحمل :
أيتها السماء العتيقة ، لا يزال " عارف " شاباً .... فما ضرّك لو بقي حياً لأيام أخر .
لقد كنت يا عارف " بدر التمام " في بيتي ..... فلم لم يبق البيت مضيئاً لأيام أخر !.
ألم تتحمل ما مضى من العمر بحلوه ومرّه ..... فيا من أدركه الموت شاباً كان عليك أن تبقى لأيام أخر .
6 – تبدو في ثنايا المرثية الصدمة الشديدة التي أصابت " غالب " بموت " عارف " ، حيث بدا وكأنه يستجدي " عارف " أن لا يموت الآن ، وأن ينتظر أياماً أخرى حتى يحين موته هو أيضاً :
إلى هذا الحد بلغت استقامتك في التعامل " فرحلت " ..... ليتك لم تلبّ نداء ملك الموت لأيام أخر .
بينما كان " غالب " معروفاً بحبه الشديد لذاته واعتزازه بنفسه ، وهي الصفـة التي اتصـف بها " غالب " في حياته بشكل عام ، فكان كأنه عزيز قوم ذل ، فيقول لـ " عارف " رحلت سريعاً وفجأة ، فلتبق إذاً وحيداً لأيام أخر ، أي حتى ألحق بك ، وهي جملة لا تحمل توبيخاً لـ " عارف " بطبيعة الحال ، بقدر ما تنم عن حب كبير يكنه " غالب " له وإن لم يصرح به بوضوح :
كان ينبغي أن تنتظرني لأيام أخر ...... فلماذا رحلت وحدك ، لتبق وحيداً إذن لأيام أخر .
وتذرع " غالب " حين تمنى لو لم يمت " عارف " بحاجة صغيري " عارف " له ، بينما كان هو أكثر احتياجاً له وإن لم يذكر ذلك صراحة :
لنفرض أنك تكرهني ، أو تخاصمت مع " نيّر " .... فلم لم تبق في صحبة الصغار لأيام أخر .
لكنه ما لبث أن صرح به حين قال :
جئت بالأمس " فقط " ، واليوم تقول إنك راحل ..... آمنا بأنه لا خلود ، ولكن لتبق لأيام أخر .
تقول وأنت راحل سنلتقي يوم القيامة ... كيف هذا ، وهل للقيامة غير اليوم أيام أخر
7 – خلت المرثية من المعاني العميقة ، أو الدقائق الفلسفية عن الموت وغير ذلك ، وهو أمر طبيعي بالنظر إلى وضع " غالب " كشاعر وشيخ مسن ولا أولاد له ، فكانت تعبيراته بمثابة رد فعل طبيعي لمأساة حلت به بأسلوب يدخل إلى القلب مباشرة دون حاجة إلى إعمال العقل في شرح وتوضيح ، ولذا أدخلنا هذه المرثية في زمرة الندب والتأبين .
هوامش
1 - تلوكـ جند محروم – نيرنكـ معاني – ص 140 – الهند 1996م .
2 - يقصد الشاعر بالسجود هنا كثرة حضوره إلى القبر والجلوس على أعتابه باكياً من الحزن يمرغ رأسه بتراب أعتابه .
3 - هو ضياء الدين أحمد خان نير ، والأخ الأصغر لأمين الدين أحمد خان والي لوهارو ، ومن أبناء عمومة زوجة غالب .
4 - المقصود بالصغار هنا ولدا زين العابدين عارف نفسه .
5 - أي رغم الصدمة الشديدة التي تلقاها في شكل موت عارف .