المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : في اللغة



عبد السلام إسماعيلي
18/11/2008, 03:22 AM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اللغـة والتواصل


إن للتمثُّلات والتمثيلات دوراً تلعبه في صياغة أنماط الوجود الاجتماعي، وهذا ما تأكد عبر التطورات التي شهدتها العلوم الإنسانية، وما أفرزته من تصورات كبرى عن الإنسان والعالم. وقد ثبت عبر التجربة الإنسانية أن ما يُعتمد من ذالك إنما يمثل أداةً من الأدوات التي يستخدمها الإنسان في تطويع ومواجهة الواقع، تماما كما أن الأدوات المادية هي وسيلتُه في مواجهة الطبيعة والسيطرة عليها.
إن الوجود الإنساني ليس وجوداً غفلا، ولا هو استغراق أو ضياع في الحاضر، دون تمثُّلٍ لملابسات هذا الحاضر، ودون أفق من ما مضى وما قد يأتي، إنما هو وجود بتوسُّطٍ. أي أننا لا نحيا واقعنا إلاَّ عبر العَوْدِ والاستباق وفق ما نعتمده من تمثُّلات ذهنية ووفق ما نسنُّه من تمثيلات رمزية، فتلك لتفاعل الذات مع نفسها وهذه لتفاعل الذات مع الآخر. وإذا أدركنا أننا خصصنا هذه المقالة للحديث عن اللغة، فسندرك أن التمثيلات الرمزية هي مجال هذا الحديث.
لقد شهد تاريخ الشعوب أن الإنسان لا يستطيع إدراك وجوده الواقعي ما لم يفترض في نشاطاته اليومية وسيطا رمزيا أو تمثيليا يحدد وعيه بهذا الوجود. ولأن اللغة قد احتلت مكانتها الأسمى في تاريخ العلاقات الاجتماعية، فإنها كادت تفرض هيمنتها على باقي الوسائط أو الأنساق التمثيلية الرمزية غير اللفظية، وبذالك كاد التواصل اللغوي يغطي مساحة التواصل الإنساني، وكاد البحث في اللغة يشكل نموذج البحث في الدلائل.
إلا أن واقع الحياة الاجتماعية وإن كان لا ينفي عن اللغة أهميتها، فإنه يثبت أن التواصل لا يقتصر فقط على استعمال اللغة، وأنه قد يتم بتبادل سلوكات غير لغوية تمثل مظاهر تواصلية دون أن تكون دلائل لفظية. وبهذا "يمكن القول بأن كل الظواهر الثقافية على اختلافها تمثل مظاهر تواصلية" وأن اللغة كظاهرة ثقافية لا تمثل بالتالي إلا مظهراً من المظاهر العديدة والممكنة للتواصل.
لقد كشفت السيميائيات المعاصرة أن اللغة لا تمثل إلاّ واحداً من الأنساق التواصلية الممكنة، وقد كشفت عن أنساق تواصلية مختلفة يمكن أن تقارَن باللغة : فمِن الكتابة إلى أبجديات الصم والبكم، ومن الشعائر والطقوس الجماعية إلى سنن الآداب والألعاب، ومن الآثاث والمعمار إلى أنساق الموضة العالمية، إلى غير ذلك مما لا يميز اختلافَه أي تصنيف ولا يدرك عددَه أي إحصاء. إننا في حياتنا اليومية نصادف أموراً نخضعها بدافع الحاجة ودون وعي لنشاط القراءة، فالسيارة تدلني على الوضع المجتمعي لصاحبها، واللباس يدلني على مقدار امتثال صاحبه، والمشروب أو الطبق يطلعني على أسلوب مضيفي في الحياة. فذلك كله يتعلق بنوع من التدليل ونوع من القراءة، وكل ذلك يأتي على أنواع من القيم المجتمعية: ثقافية، أخلاقية، إيديولوجية وغيرها. إن العالم مليء بمثل هذه الوقائع بأعداد هائلة ومظاهر مختلفة كعلامات أو أدلة في أنساق تستخدم التواصل، وإن لم تكن بمثل بساطة الأبجديات اللغوية. لتبقى اللغة على رأس تلك الأنساق، لأن كل ماله دلالة في العالم يكون ممتزجا بها بشكل من الأشكال، فما كان أبدا لأي نسق أن يدل خالصا لذاته، وما كان لأي نسق أن يكتسب صفة النسق التواصلي إلاّ بعودته إلى اللغة. فكيف نتمثل اللغة إذن؟
أ- اللغة نسق:
إن اللغة باعتبارها نسقا تمثل مجموعة من القوانين والقواعد العامة ناتجة عن وضع أو اتفاق جماعي تقنِّن الاستعمالَ الفردي وتوجهه، فلما كان النسق تشترك في إنتاجه الظروف والقوى الاجتماعية بكل حيثياتها، فإن اللغة لا يمكن أن تكون إلا كذلك، فهي جماعية الوضع واستعمالها فردي. فكي يقنَّن هذا الاستعمال يوضع نظام اللغة الجماعي، وعنه تتفرع المبادئ التوجيهية والقواعد التنظيمية.
ولما كانت الظروف الاجتماعية هي التي تحكم بناء النسق وتكسبه مشاعيته، فإنها نفسها التي تحكم اشتغاله. ثم إن الاستعمال الفردي للنسق لا ينفلت من تأثير المحيط الاجتماعي، إنه يتأثر بالقيم والأعراف والثقافات ويتأثر بما استجد في كل ذلك. وعليه إنه إذا استقرت للغة نسقيتها وتنظيمها، فإنها رغم ذلك لا تغدو تمثل تنظيما قارا وثابتا، إنها تتكيف والظروفَ الاجتماعية، ففي الوقت الذي تحتفظ فيه اللغة ببنائها النسقي فإنها تظل اعتباطية التنظيم، وهذه رخصتها للتكيف المستمر مع المستجدات التي قد يعرفها المحيط الاجتماعي الذي تستعمل فيه.
ب- اللغة تسنين:
إن اللغة في جانبها الاجتماعي تمثل جهازا وضعيا معقدا تحكمه علاقات صورية مضمونية أكثر تعقيدا. ثم إن أي استخدام لهذا الجهاز يعني استخدامَ نوع من التسنين –codage-. فمعلوم أن العلامات أو العلامات اللغوية تمثل "تقابلا بين مستويين: مستوى العبارة أو الدال، ومستوى المحتوى أو المدلول". وبهذا يتم الإقرار بأن اللغات أو اللغة الطبيعية تمثل أسننا –codes- مخصصة لنقل المعلومات بين الأفراد. وبهذا يثبت أن كل المضامين المعروضة بطريق اللغة تكون معروضة بنوع من التسنين المنظم. وتكون المعلومة المشفرة أو المسننة واضحة بالنسبة للذي يعرف فك السنن –décodage- ولا تكون كذلك بالنسبة للذي لا يدرك نظام التسنين.
إن ما يُعرض بواسطة اللغة إذن يكون معروضا بكيفية جد معقدة، لأن السنن اللغوي يمثل شبكة معقدة من الأسنن الفرعية والقواعد التنظيمية المتفرعة عن هذه الأسنن، وقد تكون هذه القواعد قوية وثابتة وتضطلع بربط الدوال بالمدلولات وفق تسنينات تقريرية، وقد تكون ضعيفة متغيرة ووَقْتِيَّةً وتؤدي بذلك إلى أنواع التسنين المنزاح. وهكذا فإن القول بأن وراء كل رسالة لغوية تسنيناً، لا يعني أن كل تسنين يكون ثابتا ومنظما، فقد يكون وقتيا ومتغيرا. ولأن التسنين باعتباره نتاج قدرات فردية تستفيد مما وفرته التجربة أو التعاقد الاجتماعي، فإنه على قدر ما يكون قياسيا وخاضعا للتعاقد، يكون مبتدَعا وخارجا عن هذا التعاقد.
ثم إن السنن ليس تنظيما بسيطا من العمليات، فإذا كان يُظهر هذه البساطة في بعض الحالات في مثل المقابلات الموازية بين وحدات الأنظمة المختلفة، كأن يقابل الدوال في نسق الدوال بالمدلولات في نسق المدلولات واحدا لواحد، فإنه لا يكون بهذه البساطة في كل الحالات. إنه يجب إزاء اللغة كسنن المرورَ عبر مجموعة من الأنساق الجزئية، فكان التسنين اللغوي يراعي:
- الوحدات الدالة والقواعد التي تنظمها.
- نظام الأنساق الدلالية وقواعد التنظيم الدلالي لمختلف وحداتها.
- نظام التزاوج الممكن بين الدوال والمدلولات والقواعد التي تسمح بالانتقال من الواحد إلى الآخر.
- تراكم القواعد التنظيمية السياقية الملائمة لمختلف السياقات والملابسات التواصلية المتعلقة بمختلف التأويلات الممكنة.
وهكذا إذا كانت عملية التسنين اللغوي تتم من خلال التعامل المباشر مع اللغة كنسق جاهز للتعبير عن تمثُّلات الفكر، وكانت اللغة لا تسمح في التمثيل إلا بما يسمح به وضعها، وكانت ظروف التواصل تتجاوز هذه الحدود، فإن هذا يسجل للتسنين عجزَه. وبهذا يتأكد تعقيد التسنين في كل محاولات التكييف التي تهدف إلى تجاوز ما تسجله اللغة من عجز. وعليه إنه كلما ازداد عجز اللغة أو قصورها كلما ازداد تعقيد التسنين اللغوي.
ج- للغة وظيفة:
لقد كانت اللغة تمثل موضوعا للبحث والتجريب منذ القدم، إلا أنها في المنظومة الفكرية الحديثة، وبخاصة في القرن العشرين، أصبحت تمثل أسمى الموضوعات. إذ أصبح البحث فيها ركيزة فكرية وأنموذجا للقياس والتطبيق ومثالا للبحث في مستويات الظاهرة الفكرية. لقد قطع البحث العلمي أشواطا كبيرة في تطوير نظرته للغة، أشواطا ابتعدت به عن مفهوم المحاكاة وشفافية اللغة باعتبارها أداة لنقل معرفة سابقة وفقط. لقد تم تحقيق تطور واضح في العمل على توسيع الهوة بين الدال والمدلول، فلم تعد اللغة على بساطتها، إنها وإن كان من وظائفها أنها تمثل الفكر، فإنها قد لا تقتصر على وظيفتها هته*، "بل إن تعدد معاني كلماتها يعكس في العمق تعدد تجاربنا اليومية" ، وهكذا أصبح ممكنا أن تؤدي اللغة مجموعة من الوظائف المختلفة، وقد اختلفت الأبحاث في تحديد عددها وطبيعتها، فقد تصل في بعض الأبحاث إلى الستة، وتختلف بحسب ما ترتبط به من عناصر أساسية في التواصل:

عناصر التواصل وظائف اللغة
المرسل تعبيرية ( expressive)
المرسل إليه إفهامية ( conative)
الرسالة شعرية (poétique)
النسق متالسانية (métalinguistique)
السياق مرجعية (référentielle)
القناة تنبيهية (phatique)

هكذا كانت تختلف على اللغة وظائفها في نظرية التواصل، إلا أنه وبغض النظر عما يعد للغة من وظائف، فإن وظيفتها الأساسية ستظل تواصلية، فقد تختلف الاستعمالات اللغوية من حيث وظائفها الظاهرة، وقد تختلف الوظائف بحسب العناصر التواصلية المنظور إليها، إلا أن هذه الوظائف على اختلافها لا تخلو من طبيعتها التواصلية، ولا تخرج عن كونها في جوهرها وظائف تواصلية. "ولعل ذلك راجع إلى أن الوظائف الأخرى تتحدد انطلاقا من وظيفة التواصل… فمن الوظائف المرصودة… مالا يعدو أن يكون مجرد أوجه مختلفة للوظيفة التواصلية". وعليه ستبقى اللغة قبل كل شيء أداة تواصلية في أصلها.