المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلامة محمد إقبال والرثاء ( الجزء الأول )



إبراهيم محمد إبراهيم
18/11/2008, 10:17 AM
العلامة محمد إقبال والرثاء

الجزء الأول :
العلامة محمد إقبال :
" إقبال " شاعر باكستان القومي وفيلسوفها ، وأشهر شعراء الأردية ، ولد عام 1873م ، وحصل تعليمه الابتدائي على ما هو رائج في عصره من حفظ القرآن الكريم ودراسة اللغة العربية واللغة الفارسية . حصل على الماجستير من الكلية الحكومية بمدينة " لاهور " عام 1903م ، وسافر إلى أوروبا عام 1905م للدراسات العليا ، وحصل على الدكتوراه في الفلسفة من "ألمانيا" عام 1908م،وكان موضوع رسالته هو " ما وراء الطبيعة في فارس " ، وعمل أستاذاً للغة العربية بجامعة " كمبردج " ، ثم عاد إلى وطنه عام 1908م ، وعمل بالمحاماة لفترة ، ثم وقف حياته على فكرة بعث المسلمين من جديد ، وبث الروح في مسلمي شبه القارة الهندية ، وبذل جهداً كبيراً في صياغة الفلسفة التي تساعده على تحقيق هذا الهدف السامي ، ودخل مجال السياسة ضمن " حزب الرابطة الإسلامية لعموم الهند : آل إنديا مسلم ليكـ " ، واقترح قيام دولة مستقلة لمسلمي شبه القارة الهندية من المناطق التي تضم الأغلبية المسلمة ، وهو الاقتراح الذي تبناه " حزب الرابطة الإسلامية " بقيادة الزعيم المؤسس " محمد علي جناح " ، وظل يناضل من أجل تحقيقه على أرض الواقع إلى تم له ذلك في الرابع عشر من أغسطس عام 1947م بقيام دولة " باكستان " بعد وفاة " العلامة إقبال " بأكثر من تسع سنوات ، حيث توفاه الله تعالى عام 1938م (1) .
كتب " إقبال " حوالي تسعة آلاف بيت من الشعر ، منها ستة آلاف بيت تقريباً باللغة الفارسية وثلاثة آلاف بيت تقريباً باللغة الأردية ، ومن دواوينه الفارسية :
1 – أسرار خودي : أسرار الذات . 2 – رموز بي خودي : رموز إنكار الذات . 3 – بيام مشرق : رسالة الشرق . 4 – جاويد نامه : رسالة الخلود .
ومن دواوينه الأردية :
1 – بانكـ درا : صلصلة الجرس . 2 – بال جبريل : جناح جبريل . 3 – ضرب كليم : ضرب الكليم .
وكتب ديوانه " أرمغان حجاز : هدية الحجاز " باللغتين الفارسية والأردية . هذا وقد ترجمت أعمال " إقبال " إلى لغات كثيرة من بينها اللغة العربية ، ويعود السبق في هذا الخصوص إلى الأستاذ الدكتور " عبد الوهاب عزام : 1894م – 1956م " ، ومن أشهر الذين ترجموا له الشيخ " الصاوي علي شعلان : 1901م – 1982م " .
والدارس لحياة " العلامة إقبال " وأشعاره يرى أن أبرز ما هو فيها الجانب الإنساني ، فقد كان " إقبال " رقيق القلب مرهف الحس تبكيه آلام الآخرين ويتألم لما يصيبهم من أحزان ، ويتأثر بكل من يبرز فيه هذا الجانب الإنساني ، ويكرس جهده لخدمة بني الإنسان ، ولا يقتصر هذا التأثر عند " إقبال " على من هم من بني جلدته أو على أبناء دينه وثقافته ، وإنما تعداه إلى الإنسان بشكل عام أياً كان انتماؤه الديني أو العقدي ، ولهذا كان الجانب الإنساني في أشعار " إقبال " عاملاً من العوامل الهامة التي كتبت لها القبول بين من طالعوا شعره ، حتى وإن اختلفوا معه في الدين واللغة والثقافة ، إذ أن الذي يميز شعر " إقبال " في الحقيقة هو احترامه الإنسان وتكريمه ، وحثه على البعد عن الصراعات الممقوتة ، والتي تنبع عن الإحساس الزائف بالتفوق لجنس على الآخر ، ولهذا فإنه على الرغم من أن نسبة كبيرة من أشعار إقبال تناولت المسلمين بشكل خاص ، إلا أن هناك نسبة أخرى من هذا الشعر أيضاً تناولت غير المسلمين من الشرق والغرب ممن برز فيهم جانب من الجوانب الإنسانية الطيبة ، وكان لهم تأثير واضح في أنشطة الحياة المختلفة ، بل إن " إقبال " نفسه قد تأثر من بعض هؤلاء تأثرا عظيما ، ولعب بعضهم دورا محوريا في حياته بحيث حدد معالم مستقبله ، ووجهه الوجهة التي هو عليها ، وهذا راجع في الحقيقة إلى خلو شخصية " إقبال " من التعصب ، وإلى سعة الفكر لديه ، حيث كان ينشد بناء الإنسان الحق ، حتى المسلم نفسه – في نظر إقبال - إذا لم يتصف بصفة الإنسان الحق ، يلفت إقبال نظره ، ويذكره بأن الإسلام دين الإنسانية ، وأن المسلم إذا لم يتصف بالصفات الإنسانية الراقية ، فإن هذا يعني أن هناك نقصا في إسلامه ، وأنه لم يعرف الإسلام معرفة صحيحة .
ومن هنا لم يكن مستغربا أن يتناول " إقبال " في شعره شخصيات على غير دينه يقدر أصحابها ، بل ويعتز بصداقتهم ، ويحزن لفراقهم له مثل البروفيسير " توماس آرنولد " (2) الذي كان يدرّس لـ " إقبال " الفلسفة خلال دراسته في الكلية الحكومية في " لاهور " ، وهو الرجل الذي تعلق به إقبال لدرجة جعلته يسعى حثيثاً في السفر إلى أوروبا " إنجلترا " وراء أستاذه الذي كان قد بلغ سن التقاعد وعاد إلى وطنه عام 1904م ، فكتب " إقبال " منظومة شوقا إليه بعنوان " نالهء فراق : أنة الفراق " من خمس مقطوعات ، كل مقطوعة من ثلاثة أبيات ، وجاءت تحت عنوان ( ناله فراق " آرنلد كي ياد مين " : أنة الفراق " في ذكرى أرنولد " ) (3) وعلق عليها قائلا : " لقد ترك فراق أستاذي السيد ارنولد عليّ أثرا كبيرا بحيث لم ينعم قلبي بعدها براحة أو سكينة ، وذات يوم أتى بي الخيال وأوقفني أمام بيته ، وأنطقني هذه الأبيات التي اضطرني أحبابي إلى نشرها . وعلى الرغم من أن العديد من الجلسات قد عقدت توديعا له عند رحيله ، وقدمت فيها العديد من القصائد والمنظومات ، وهذه المنظومة كتبت بهذه المناسبة كذلك ، لكن لأنها تحوي تأثري الشخصي والأليم برحيله ، لذا رأيت من غير المناسب قراءتها في جلسات عامة ، هذا وقد ازداد حزني وشجني بعد رحيل ( السيد أرنولد ) كثيرا " ، كما يحزن لرحيلهم عن الحياة الدنيا مثلما حزن على وفاة صديقه " سوامي رام تيرتهـ " .
ولم يجحد " نابليون : متوفى 1821م " ما فيه من صفات حسنة حين رثاه في مقطوعة بعنوان " على ضريح نابليون " من ستة أبيات ألقى فيها الضوء على ما تميز به " نابليون " من سعي دائب لكي يصبح شيئا ذا قيمة ، حتى صار من أكبر قادة أوروبا العسكريين (4) .
رثى العلامة " إقبال " أصدقاءه وأعزاءه ومعارفه ورموز دينه وأمته ووطنه ، كما رثى المدن والبلاد والأمم والأوطان ، ووجدنا في رثائه الندب والتأبين والعزاء . وربما كان الفارق عنده بين رثاء الأفراد ورثاء الأمم أن الراثي لا يرجو لمن مات من الأفراد رجوعاً وعودة إلى الحياة ، بينما في حالة رثائه للأمة يرجو لها أن تهب من جديد وتعود إلى الحياة ثانية .
يقول " إقبال " مخاطباً قلبه المضطرب قبل أن يتوجه بخطابه إلى أهل القبور :
** تماسك قليلاً أيها القلب المضطرب ودعني أجلس،دعني أذرف بعض الدموع على هذه المدينة" القبور " (5) .
والموت لدى " إقبال " سر يحاول حلّه :
** هل يكون التحليق في العالم الآخر عوضاً عن المشي في هذه الحياة،ما السر فيما يسميه أهل الأرض بالموت (6).
ولا يجد " إقبال " مفراً من التوجه بسؤاله هذا إلى أهل القبور ، فهم أقدر على إخباره بسر الموت الذي لا يدع الإنسان يستريح في حياته . يقول :
** أخبروني يا من عرفتم السر في هذه الأفلاك ، فإن الموت شوكة توخز قلب الإنسان (7).
وتلوح ومضة من فلسفة " إقبال " عن الموت حين قال مخاطباً الشمع عن الفراشة التي ما أن تراه حتى تبدأ في الطوفان حوله إلى أن تسقط ميتة :
** هل تجد في آلام الموت راحة لروحها ، هل تتراءى لها في شعلتك الحياة الخالدة ؟ (8).
ولم يبك " إقبال " الأفراد فقط ، وإنما بكى الأمة الإسلامية كلها :
** إنني لا أبكي نفسي ، وإنما أبكي الروضة كلها ، فأنا تلك الوردة التي تعتبر خريف كل وردة خريفا لها هي (9).
ثم يقول في المنظومة نفسها " تصوير درد " مواصلاً بكاءه على الحال التي وصل إليها وطنه " الهند " :
** يا هند ، إن مناظرك تبكيني ، فقصتك تثير العبرة بين القصص .
** لقد أودعتني الفطرة بكاءً عليك فكأنها أعطتني كل شيء ، وكأن قلم الأزل كتبني عنده من نوّاحك (10).
ورثى " إقبال " من الأفراد الشاعر الكبير " داغ " ، وأطلق عليه لقب " بلبل دهلي " فقال :
** لقد توارت عظمة " غالب " في التراب منذ مدة ، وأصبح " مهدي مجروح " من ساكني مدينة الصمت .
** وحطم الموت كأس " أمير مينائي " في الغربـة ، رغم أن أثر نشـوة خمره لا تزال في العيون .
**أيها الندماء ، إن الروضة كلها اليوم حزينة ، فلقد انطفأ الشمع المضيء ، ومحافل الشعر كلها حزينة .
** لقد بنى " بلبل دهلي " عشه في تلك الروضة التي يشاركه فيها كل عنادل حديقة الحياة الدنيا .
** آه ، لقد رحل " داغ " ،ونعشه زينة الأكتاف " الأعناق " ، لقد صمت آخر شعراء جهان آباد " دهلي " (11).
ومن الذين رثاهم " إقبال " أيضاً السيد " سوامي رام تيرتهـ : 1873م – 1906م " الهندوسي الذي كان صديقا للعلامة " إقبال " ، ونذر حياته لخدمة بلاده وأهلها ، وبعد عمر لم يتعد الثالثة والثلاثين سنة زار خلالها اليابان وأمريكا ومصر مات غريقا في نهر " كنكا " ، فرثاه إقبال بمقطوعة من ستة أبيات تحمل اسمه ، وصفه فيها بأنه كالجوهرة التي يندر أن تجد لها نظيرا ، وأنه بوفاته بهذه الطريقة كشف أسرار الحياة التي لا يعرفها الكثيرون ، وأن قلبه عارف بالحقيقة ، وأنه عاشق صادق ، يقول :
* لقد عانقت النهر أيتها القطرة القلقة ، كنت قبلا لؤلؤة ، والآن أصبحت نادرا .
* آه ، ما أجمل الطريقة التي كشفت بها سر الحياة ، بينما أنا لم أفهمها إلى الآن .
* انتهى صخب الحيـاة ، وصار ضجيج يوم الحشر ، وانطفأت هذه الشرارة لتصير معبدا للنيران .
* نفي الذات معجزة القلوب العارفة ، ولؤلؤة " إلا الله " كامنة في نهر " لا " .
* ومعنى النهاية خاف على العيون غير البصيرة ، فعندما يتوقف اضطراب الزئبق يصبح فضة خالصة .
* إبراهيم العشق يحطم صنم الوجود،فكأن نشوة نهر تسنيم العشق دواء للشعور (12) .
رثاء إقبال لغالب
رثى العلامة " محمد إقبال " الشاعر " مرزا غالب " في منظومة بعنوان " مرزا غالب " (13) فقال :
* لقد انكشف لفكر الإنسان بوجودك ... إلى أي مدى يصل جناح طائر الخيال .
* لقد كنت روحـاً مجسدة ، وكانت مجالس الشعر بمثابة الجسد لك ... كنت زينة المجالس ، وكنت خفياً عنها أيضاً (14) .
* كانت عيناك ترتضي رؤية ذلك الجمال ... الذي يبعث الحرارة في الحياة ، وهو كامن في كل شيء .
* مجلس الحياة حافل بقيثـارة " أشعـارك " ... مثلما يحفل صمت الجبل بأنغام جداول " المياه " .
* وربيع الفطرة من رياض خيالك ... وتنبت من حقل أفكارك عوالم خضراء يانعة .
الحياة كامنة في ثنايا إبداعك .
* والحركة تبدو على شفاه الصورة من قوة حديثك .
* النطق يتيه فخراً بإعجاز كلامك ... ونجوم الثريا في حيرة من تحليق أفكارك .
* جمال المقـال يفتدي أسلـوبك ، وبرعم دهلي "غالب" يسخر من وردة شيراز "حافظ"(15).
* آه ، إنك مثوّىً في تراب " دهلي " الخربة .
* ونظيرك في الشعر " جوته " يرقد في جنان " ويمر " (16) .
* لا مثيل لك في روعة الشعر ... ما لم يصل الفكر إلى درجة الكمال ، ويتوازى معه الخيال .
* وا أسفاه ، ماذا جرى لأرض الهند ... آه يا معلم النظر الثاقب آداب النظر .
* لا تزال ضفائر الأردية في حاجة إلى المشط .
* وهذه الشمعة هائمة بحرقة قلب الفراشة .
* يا شاهجهان آباد " دهلي " ، يا مهد العلوم والفنون ... لقد صارت مبانيك بمثابة الأنات الصامتة .
* فهناك شموس وأقمار ترقد في كل ذرة من ذراتك ... ورغم أن آلاف الجواهر مدفونة في ترابك .
* لكن هل من بين هؤلاء من هو مثل " غالب " ؟ .
* وهل من بين هؤلاء درة لامعة براقة مثل " غالب " ؟ .
كان " العلامة إقبال " رحمه الله تعالى ينظر إلى " غالب " باعتباره عموداً أساسياً من عمد الشعر الأردي ، وأستاذاً من أساتذته الذين أسهموا في تكوين وتشكيل فكره وصقل موهبته (17) ، ويرى أن " غالب " يقف في الصفوف المتقدمة لعظماء الأدب والشعر في العالم من أمثال شاعر الفارسية الكبير"حافظ الشيرازي"، والشاعر الألماني الكبير " جوته " :
* جمال المقال يفتدي أسلوبك . وبرعم دهلي " غالب " يسخر من وردة شيراز " حافظ ".
* آه ، إنك مثوّىً في تراب " دهلي " الخربة . ...ونظيرك في الشعر " جوته " يرقد في جنان " ويمر " .
فيصف " غالب " بأنه " برعم دهلي " ، بينما يصف " حافظ الشيرازي " بأنه " وردة شيراز " ، بمعنى أن " حافظ الشيرازي"قد نال الشهرة التي يستحقها فصار كالوردة ينشر رحيقه في كل مكان،بينما لم ينل " غالب " مثل هذا التقدير الذي يستحقه ، ولكنه في طريقه إلى أن يناله ، فهو"برعم"يتفتح ليصير وردة (18) .
هذا على الجانب الإبداعي ، وعلى الجانب الإنساني كان " إقبال " يرى في " غالب " مثالاً للإنسان المحب للحياة المقبل عليه بحلوها ومرّها ، الذي يحب الخير للجميع ، ويصبر على معاناته ، ويتمسك بمبادئه ، ولا يسمح لليأس أن يصيبه ، بل أكثر من ذلك أنه كان يستمد من معاناته القوة على مواصلة الإبداع ، فيسخر هذه المعاناة ليخلق قطعة أدبية شعرية أو نثرية رائعة ، وهو ما تجلى في غزليـاته على مستوى الشعر ، وفي رسائله النثرية على مستوى النثر .
* كانت عيناك ترتضي رؤية ذلك الجمال ... الذي يبعث الحرارة في الحياة ، وهو كامن في كل شيء .
ومن هنا كان " إقبال " رحمه الله يرى في رحيل " غالب " خسارة فادحة للأدب الأردي في شبه القارة الهندية كلها ، ويعتقد أنه لم ينل التقدير أو التكريم الذي يليق به في زمانه ، وهو ما عبر عنه في مرثيته التي بين أيدينا ، والتي تعد مثالاً لما نطلق عليه التأبين ، فقد كان يرى فيه مثالاً للفكر اللامحدود ، والخيال اللانهائي ، ويجزم بأن شعره كان بمثابة اللمسة الرائعة في مجالس الشعر ومحافله ، ولكن هذه المحافل لم تقدر جمال هذه اللمسة وقيمتها في وقتها بالشكل الصحيح :
* لقد انكشف لفكر الإنسان بوجودك ... إلى أي مدى يصل جناح طائر الخيال .
* لقد كنت روحاً مجسدة،وكانت مجالس الشعر بمثابة الجسد لك.كنت زينة المجالس،وكنت خفياً عنها أيضاً .
وأن اللغة الأردية ستظل مدينة له إلى الأبد بما قدم لها من تطوير وإبداع بث فيها الحياة من جديد ، ولا تزال الأردية في حاجة إلى من يكمل لها تصفيف شعرها وتجميله وتزيينه :
* لا تزال ضفائر الأردية في حاجة إلى المشط . وهذه الشمعة هائمة بحرقة قلب الفراشة .
وأن " دهلى " ستبقى حزينة على فراقه ورحيله أضعاف ما حزنت على غيره من العظماء الذين ثووا في ترابها ، وأنها لن تجد له مثيلاً على مدى الأيام :
* يا شاهجهان آباد " دهلي " ، يا مهد العلوم والفنون ... لقد صارت مبانيك بمثابة الأنات الصامتة .
* فهناك شموس وأقمار ترقد في كل ذرة من ذراتك ... ورغم أن آلاف الجواهر مدفونة في ترابك .
* لكن هل من بين هؤلاء من هو مثله " غالب " ؟ . وهل من بين هؤلاء درة لامعة براقة مثله " غالب " ؟ .
ونلاحظ على المرثية ما يلي :
1 – أنها جاءت في خمس وحدات من قالب المسدس ، وهو أكثر القوالب شيوعاً في الرثاء ، ومن القوالب المحببة لدى " إقبال " في شعره عموماً .
2 – أنها باعتبارها تأبيناً فقد اهتمت بالصفات المعنوية لمن ترثيه " غالب " ، ومع ذلك لم تهتم بالصفات الحسية له ، ويرجع ذلك إلى أمرين :
أ – طبيعة العلاقة بين"إقبال" و " غالب " ، وهي علاقة التلميذ بالأستاذ ، وهي علاقة معنوية بالدرجة الأولى .
ب – طبيعة ومزاج " العلامة إقبال " نفسه باعتباره مفكراً وفيلسوفاً تقع عيونه على المعاني والأفكار أكثر مما تقع على القوالب والأشكال ، وهو ما سنلمسه كثيراً في شعر " إقبال " كله ، وفي مرثيته لوالدته التي سنقدمها لاحقاً .ولهذا وصف " إقبال " " غالباً " بأنه " روح مجسدة " و " درة لامعة " و " برعم دهلي " ، وأن شعره بالغ الروعة ، وأسلوبه فائق الجمال :
* النطق يتيه فخراً بإعجاز كلامك ... ونجوم الثريا في حيرة من تحليق أفكارك .
* جمال المقال يفتدي أسلوبك ... وبرعم دهلي " غالب " يسخر من وردة شيراز " حافظ " .
* لا مثيل لك في روعة الشعر ... ما لم يصل الفكر إلى درجة الكمال ، ويتوازى معه الخيال .
3 – لا نلمس في المرثية حزناً طاغياً مثل الذي نلمسه في المرثيات الشخصية الأخرى ، ويرجع ذلك إلى طبيعة العلاقة بين " غالب " و " إقبال " ، حيث أن " غالب " لا يمت بصلة دم أو قرابة إلى"إقبال" مما يثير عواطف الحزن والألم،ويتراجع معه الفكر والتدبر كرد فعل طبيعي لوقع حادث" الوفاة " على نفس من يرثيه مما نلمسه في مرثية " غالب " لـ " زين العابدين عارف " ، رغم أن الصلة الروحية التي تربط الاثنين - غالب وإقبال - قد تكون أقوى من صلة الدم أو القرابة في جانب من الجوانب .
4 – عمد " إقبال " إلى ذكر علمين من أعلام الشعر العالمي هما " حافظ الشيرازي " و " جوته " في معرض حديثه عن " غالب " ، ووضعه في مجال المقارنة معهما بغرض إبراز قيمة " غالب " ومكانته ، والتأكيد على أنه ، أي " غالب " لم ينل التكريم اللائق به ، فبينما نال " حافظ الشيرازي " شهرة واسعة نجد " غالباً " يفتقد إلى هذه الشهرة وهو بها حقيق ، وبينما يثوى " جوته " في " ويمر " الجميلة الرائعة نجد " غالباً " يثوى في " دهلي " الخربة ، لا يجد – في حينه – من يلتفت إليه .
هوامش :
1 - لمزيد من التفصيل عن حياة العلامة محمد إقبال يمكن الرجوع إلى كتاب إقبال ، حياته وسيرته للأستاذ الدكتور المرحوم عبد الوهاب عزام .
2 - كان السير توماس أرتولد أستاذاً للفلسفة في كلية علي كرهـ ، ثم انتقل إلى الكلية الحكومية بلاهور ، وعاد إلى بلده عام 1904م ، وتوفي عام 1930م ، ومن أشهر مؤلفاته كتاب تبليغ الإسلام .
3 - كتب إقبال هذه المنظومة عام 1904م ، ونشرت وقتها في عدد مايو من مجلة مخزن ، وقد وصف إقبال السير توماس أرنولد في منظومته هذه بأنه كليم قمة سيناء العلم . يقول :
المعنى : أين أنت يا كليم قمة سيناء العلم ، كانت أمواج أنفاسك تزيد فرحتي بالعلم وتحمسي له .
انظر : كليات إقبال أردو – بانكـ درا – لاهور – باكستان 1988م – ص 104 .
4 - كليات إقبال أردو - بال جبريل – ص 155 .
5 - كليات إقبال – اردو – بانكـ درا – خفتكان خاكـ سـ استفسار : استفسار من ساكني القبور – ص 39 – لاهور- باكستان 1977م . وقد نشرت هذه المنظومة في عدد فبراير عام 1902م من مجلة " مخزن" التي كان يصدرها الشيخ عبد القادر . راجع : غلام رسول مهر – مطالب بانكـ درا – ص 30 – لاهور – باكستان 1987م .
6 - المرجع السابق – ص 40 .
7 - المرجع السابق – ص 40 .
8 - المرجع السابق – شمع وبروانه : الشمع والفراشة – ص 40 . وقد نشرت هذه المنظومة في عدد أبريل عام 1902م من مجلة " مخزن " .
9 المرجع السابق – تصوير درد : صورة الألم - ص 68 . وقد نشرت هذه المنظومة في عدد مارس 1904م من مجلة " مخزن " في شكل ملحق منفصل لها ، وكانت قد نشرت قبل ذلك منفصلة عن المجلة .
10 - المرجع السابق – ص 70 .
11 - المرجع السابق – داغ – ص 89 . وقد نشرت هذه المنظومة في عدد أبريل عام 1905م من مجلة " محزن " وقد كتب إقبال ست مراثي كبيرة هي : ( 1 ) – داغ . ( 2 ) – سسلي . ( 3 ) – كورستان شاهي : القبور الملكية . ( 4 ) فلسفهء غم : فلسفة الغم ، وكتبها في رثاء والد المرحوم ميان فضل حسين . ( 5 ) – والده مرحومه كي ياد مين : في ذكرى المرحومة أمي . ( 6 ) – راس مسعود مرحوم : المرحوم راس مسعود .
12 - كليات إقبال – بانكـ درا – ص 114.وقد نشرت هذه المنظومة في عدد يناير 1907م من مجلة مخزن .
13 - نشرت هذه المنظومة في عدد سبتمبر 1901م من مجلة مخزن الشهيرة .
راجع : مولانا غلام رسول مهر – مطالب بانكـ درا – ص 18 – لاهور – باكستان – الطبعة الخامسة 1987م .
14 - أي لم تشعر هذه المجالس يقيمتك ، ولم تقدرك حق قدرك .
15 - شاعر الفارسية العظيم .
16 - اسم المكان المدفون فيه الشاعر الألماني جوته .
17 - مات غالب عام 1869م ، أي قبل مولد إقبال ( 1873م ) بأربع سنوات تقريباً .
18 - انظر : غلام رسول مهر – مطالب بانكـ درا – لاهور – باكستان 1987م – ص 20 .