المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : العلامة محمد إقبال والرثاء ( الجزء الثاني )



إبراهيم محمد إبراهيم
18/11/2008, 10:58 AM
العلامة محمد إقبال والرثاء
الجزء الثاني :
رثاء العلامة إقبال لوالدته
منظومة " في ذكرى المرحومة أمي "
* كل ذرة رهينة التقدير ، والتدبير ستارة العجز والبؤس .
* السماء مجبرة ، والشمس والقمر مجبران ، والنجوم المرتعشة كالزئبق مجبرة على المسير .
* وأوراق البرعم في الحدائق مصيرها إلى الزوال ، والعشب والورود في الحدائق مجبورة على النمو .
* سواء تغريد البلابل أو الصوت الصامت للضمير ، كل شيء لهذه السلسلة المطلقة أسير .
***** ***** ***** ***** *****
* حين ينكشف سر الجبر هذا للعيون ، ييبس في القلب سيل الدموع .
* لا يبقى في القلب الإنساني رقص الأفراح والأحزان،تبقى الألحان ولكن لاتبقى تقاسيم الألحان
* العلم والحكمة يغتصبان متاع الدموع والآهات،فيصير القلب العارف قطعة من الماس(صلداً).
* مع أنه ليس في حديقتي ينوعة الندى ، لكن عيني لا تزخر بالدموع العنابية .
* آه ! إني أعرف سر آلام الإنسان ، لكن قيثارة فطرتي خالية من صوت الشكوى .
* وقصة تقلبات الزمان لا تجري على شفاهي ، قلبي حائر ، غير باك ، غير باسم .
* لكن صورتك تحملني على البكاء الدائم ، آه ! إنها تفنيد لعلمي وحكمتي .
***** ***** ***** ***** *****
* أساس الروح متين من البكاء المتواصل ، والعقل المتحجر القلب خجل من عرفان الألم .
* مرآتي مضيئة من موج دخان الآهات ، وحجري عامر بكنز الدموع .
* إني مبهوت من إعجاز صورتك التي حولت وجهة طيران الزمن .
* كأنها ساوت الماضي بالحاضر ، وواجهتني ثانية بعهد الطفولة .
* عندما كانت تلك الروح الضعيفة تترعرع في حجرك ، ولم يكن لسانها يعرف الكلام جيداً .
* واليوم لقوة بيانه صيت ذائع ، ودموع عينيه لآلئ لا تقدر بثمن .
***** ***** ***** ***** *****
* أحاديث العلم الجادة ، ووعي الكهولة ، وهيبة العظمة الدنيوية ، وغرور الشباب .
* ونحن ننزل من ارتفاعات الحياة ، ونصير أطفالاً معصومين في صحبة الأم .
* ضاحكين بلا تكلف ، خالين من كل فكر ، ونسكن في هذه الجنة المفقودة ثانية .
***** ***** ***** ***** *****
* آه ! من سينتظرني بعد الآن في الوطن ، من سيظل قلقاً إن لم يصله خطابي .
* سأحمل صرختي هذه إلى تراب مرقدك ، من سيذكرني الآن في دعائه عند السحر .
* جعلت مني تربيتك جليس الثريا ، وعزّ بها بيت أجدادي .
* كانت حياتك صفحات ذهبية في صفحات الوجود ، كانت حياتك تجسيداً للدين والدنيا .
* ظل حبك خادماً لي طيلة العمر ، وعندما أصبحت قادراً على خدمتك ، رحلت .
* ذلك الشاب الذي يشبه السرو في ارتفاع قده ، حظي بخدمتك أكثر مني .
* وظل شريكاً لي في أمور الحياة ، وهو مثلك في الحب ، إنه ذراعي .
* إنه يبكي عليك كطفل لا حيلة له ، لا يستطيع الصبر ، يبكي صباح مساء .
* إن البذرة التي وضعتها في حقل نفوسنا ، صارت ( ثمرتها ) الألفة أكثر قوة بمشاطرة الأحزان .
***** ***** ***** ***** *****
* آه ! هذه الدنيا بيت الأحزان للشباب والكهول ، والإنسان للغز الأمس والغد أسير .
* كم هي عسيرة الحياة ، وكم هو سهل الموت ، إنه أكثر توفراً من النسيم في حديقة الوجود .
* الزلازل والصواعق والمجاعات والآلام ، ما أكثر ما تنجبه ( تفانين ) الأيام .
* الموت في أكواخ الفقر،وفي قصور الثراء،الموت في المدر والحضر،في المدائن والحدائق والخرائب .
* الموت يهيّج البحر الصامت ، فتغرق السفن في أحضان أمواجه .
* ولا مجال للشكوى ، ولا طاقة على الكلام . ما هذه الحياة ! إنها قيد يلتف حول الأعناق .
* ليس في القافلة جرس غير الأنين والآهات ، ولا متاع نملكه سوى العيون الدامعات .
***** ***** ***** ***** *****
* لكن عهد الابتلاء سينقضي ، وهناك عهود أخرى خلف حجب الأفلاك التسعة .
* ماذا لو شقت صدور الشقائق والورود في هذه الحديقة،ماذا لو أن البلبل مجبر على النواح والأنين .
* آه ! الأشجار التي يسكن في أقفاصها الخريف ، سيحيلها خضراء نسيم الربيع الخالد .
* ماذا لو أن جذوتنا كامنة في التراب ! ماذا لو أن هذا التراب صار هودجاً مؤقتاً لنا !
* إن مصير لهب الحياة ليس إلى تراب ، إنها ليست تلك الجوهرة التي كتب عليها التحطم .
* الحياة جميلة في عيون الطبيعة ، وعاطفة الحفاظ عليها في فطرة كل شيء .
* لو كان نقش الحياة يفنى بفعل الموت ، لما كان منتشراً هكذا في الكائنات .
* فإن كان عاما هكذا فاعلم أن الأجل لا يمثل شيئاً ، مثلما لا يمثل النوم خللاً في الحياة .
* آه أيها الغافل ! إن السر الخفي للموت مختلف ، وحقيقة عدم ثبات النقش مختلفة .
* نقش الهواء على سطح الماء جنة للناظرين ، يحطم الأمواج المضطربة ليبني منها حباباً .
* ثم يخفيها ثانية في أحضان الأمواج ، إذ كيف يهدم ما بناه بقسوة هكذا !.
* إن لم يكن باستطاعته أن يخلق الحباب ثانية ، لما كان غير مبال في تحطيمه هكذا .
* ما أثر هذا السلوك على أصل التعمير ، إنه دليل على قوة التعمير لدى الحياة .
* ربما كانت فطرة الحياة هائمة بإحدى الأماني ، ربما كانت تبحث عن خلق أفضل .
***** ***** ***** ***** *****
* هذه النجوم مضيئة الأفلاك،شبيهة الزئبق الرجراج،إنها جذوات لعوبة،ضياؤها مرهون بالليل.
* والعقل حائر من تقادمها ، وحياة البشرية ما هي إلا ساعة منها .
* وهذا الإنسان الذي يطل بنظره أبعد من الأفلاك ، وأهدافه أطهر من الملائكة .
* إنه كالشمع المضيء في محفل القدرة ، والسماء نقطة في اتساع فطرته .
* حمقه مضطرب لأجل الصدق ، وأظفاره مضراب قيثارة الوجود .
* هل هذه الشعلة أقل من شرر الأفلاك ؟!هل تكون الشمس أقل مرتبة من نجومها ؟!.
***** ***** ***** ***** *****
* عين بذرة الورد مستيقظة تحت التراب أيضاً ، إلى أي مدى هي مشتاقة إلى النمو ؟!.
* وشعلة الحياة الكائنة في هذه الحبة ، مدفوعة دفعاً للظهور والانتشار .
* لا تطفئها رطوبة المرقد ، ولا تفقد حرقتها بالدفن في التراب .
* إنها تصير وردة وتخرج من قبرها ، كأنها تستمد رداء الحياة من الموت .
* وكأن اللحد رباط ينظم تلك القوة المتفرقة معاً ، فترمي بحلقاتها فوق أعناق الفلك .
* الموت تجديد لمتعة الحياة ، ورسالة للنهوض من وراء ستار المنام .
* لا يخشى الطيران من اعتاد الطيران ، والموت في هذه الحياة ليس إلا رفرفة جناح .
***** ***** ***** ***** *****
* يقول أهل الدنيا لا علاج لآلام الموت ، وجراح الفراق تندمل بمرور الوقت .
* لكن القلب الذي عمر بأحزان من فارقهم ، قد تحرر من حلقات سلسلة الصباح والمساء .
* أنات الأحزان لا تتوقف بفعل سحر الزمان ، الموت ليس دواءاً لجراح سيف الفراق .
* عندما يحل خطب على الرؤوس فجأة ، تجري الدموع بغزارة من عين الإنسان .
* ويتعرف القلب على الآهات والأنين ، وتنزف دماء القلب في شكل دمع العيون .
* ومع أن الإنسان لا طاقة له على الصبر ، لكن هناك إحساس غير معروف في فطرته .
* أن جوهر الإنسان لا يعرف العدم ، إنه يغيب عن الأعين ، لكنه لا يفنى .
* لباس الحياة تراب من شعلة الأحزان المتوهجة،لكنها تنطفئ من مياه ذلك الإحساس اللطيف .
* آه ! إن ضبط الأنين ليس صمت وغفلة ، وهذا السلوان معرفة وليس نسياناً .
***** ***** ***** ***** *****
* عندما يطل الصباح من حجاب الشرق ، يغسل بقعة الليل من ثياب الآفاق .
* وتلبس زهرة الشقائق الذابلة حلة نارية ، ويجعل الطيور الخرساء منتشية بالغناء .
* وتتحرر الألحان من سجن صدور البلابل ، ويعمر نسيم الصباح بمئات الأنغام .
* الهاجعون في الرياض والجبال والأنهار ، يعانقون في النهاية عروس الحياة .
* لو أن قانون الحياة أن يطلع الصباح بعد المساء،فلم لا يؤول مصير ليل مرقد الإنسان إلى الصباح .
***** ***** ***** ***** *****
* غطت الدنيا شبكة أفكاري فضية اللون ، فأحطت من خلالها بذكراك .
* وكما يعمر فضاء الكعبة بالدعاء ، فإن هذا القلب المكلوم عامر بذكراك .
* تسلسل الفرائض الذي هو الحياة ، يبدو جلياً في آلاف العوالم الفانية .
* كل مرحلة في الوجود تختلف في آدابها ، والآخرة أيضاً مرحلة من مراحل الحياة .
* حيث لا تجدي زراعة الموت ، والطقس موات لبذرة العمل .
* ونور الفطرة ليس رهينة لظلمة الجسد ، ودائرة الفكر الإنساني ليست ضيقة .
* كانت حياتك أكثر ضياءا من القمر ، وكان رحيلك أجمل من نجوم السحر .
* فلينر مرقدك كإيوان الصباح ، وليمتلئ نوراً مرقدك الترابي هذا .
* ولتمطر السماء على لحدك ندى ، فيحرسه العشب النابت حوله .
***** ***** ***** ***** *****
ونلاحظ على مرثية " إقبال " ما يلي :
1 – جاءت المنظومة في ثلاث عشرة مقطوعة غير متساوية في عدد الأبيات .
2 – تعكس المنظومة الصدمة النفسية الشديدة التي أصابت " إقبال " بوفاة والدته .
3 – جعل " إقبال " من منظومته هذه حلقة من حلقات سلسلة فلسفته التي تهدف إلى تشكيل المسلم القوي الذي يتسم بالمشاعر الإنسانية الراقية ، وهو ما نلمسه في موضوعات المرثية .
4 – تناولت المنظومة موضوعات متعددة يربطها خيط واحد هو فلسفة الحياة والموت نلخصها فيما يلي :
أ – فلسفة الخلق والكائنات ، وأنه لا فكاك من الأقدار ، وأن كل شيء رهن القدر .
ب – الإيمان بحتمية الأقدار يزيد الإنسان قوة وصبراً وجلداً ، ويحيل القلب إلى قطعة من الماس تفقده الإحساس بالحزن والفرح .
جـ - وفاة الأم قلب كل هذه الفلسفة رأساً على عقب ، إذ حزن القلب وتألم ، وسالت الدموع من العيون مدراراً .
د – البكاء يزيد الأرواح قوة وصلابة ، والآلام تغير من نظرة الإنسان للأمور وفهمه لها ، وتجلو مرآة القلب وتصقلها .
هـ - كل مقام يتضاءل أمام مقام الأم ، فالإنسان ينزل من فوق القمم ويتخلى عنها ، ليصير في لحظة طفلاً بريئاً متحرراً من همومه وأحزانه .
و – فضل الأم ومكانتها التي لا تدانيها مكانة ، فهي التي تربي الإنسان وتجعل منه قمة تفوق قمم الجبال .
ز – بعث الأمل في النفوس من جديد بالتأكيد على أن هذه الحياة دار ابتلاء محدودة الزمن ، يليها زمن الخلـود ، لأن مصير الأرواح ليس الخمود والاستحالة إلى تراب ، وما الموت إلا كالنوم ، وكما أن النوم لا يمثل خطراً على الحياة فإن الموت كذلك لا يمثل خطراً عليها ، لأنه بعث لخلق جديد ، وفطرة الوجود تعشق التغيير والتجديد والبحث عن الأفضل ، وربما كان الموت هو وسيلتها للبحث عن هذا الأفضل .
حـ – فكرة البعث بعد الموت ، وأن الذين ماتوا سيحيون ثانية .
ط – الحديث عن والدته التي كانت حياتها أكثر ضياءاً من القمر ، ورحيلها أجمل من نجوم السحر ، والدعاء لها بالرحمة ، وأن يصير قبرها روضة من رياض الجنة ، وتمطر السماء عليه الندى فينبت العشب حوله ويحرسه .
5 – عكست المنظومة رقة قلب " إقبال " وقوة الجانب الإنساني فيه .
6 - جاءت لغة المنظومة قوية معبرة ومؤثرة ، وهو ما ينم عن مقدرة إقبال وتمكنه من اللغة وأساليب التعبير المختلفة .