المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جدي - قصة قصيرة - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
19/12/2006, 06:32 PM
جدي
قصة قصيرة
ابراهيم درغوثي / تونس

دست على فرامل السيارة بقوة حتى أزت العجلات . كان أمامي .في وسط الشارع العريض ، يدق الشارع بعصاه ، ويمشي بهدوء وتؤدة . تكاثرت السيارات ورائي وعلت أصوات مزاميرها . عندما التفت وراء العربات المحتجة ، رأيت في وجهه العريض ولحيته الكبيرة وحاجبيه الضخمين وعينيه الصغيرتين الحادتين صورة جدي . كدت أنزل من العربة لأحتضنه وأعود به إلى البيت لولا أصوات الاحتجاج الحادة القادمة من ورائي والتي جعلتني أضغط على دواسة البنزين .
تحركت السيارة من جديد ... ولكن صورة ذلك الشيخ الذي قطع عني الطريق عاودتني بإلحاح مجنون . حركت قلبي بعنف ، وجعلتني أسرح بعيدا بخيالي الجامح ...
رأيت جدي يلاعبني ... يرفع قميصي عن نطني ويدغدغني بيديه وفمه الكبير فتخزني لحيته ، وأضحك مقهقها . فيضحك لضحكي . وتضحك أمي . ويضحك أبي . وتضحك القرية كلها .وتضحك الشمس والسماء ... وعندما يسكت الجميع ، أواصل الضحك وحدي . وأهرب منه . أختبئ داخل حجرات البيت ، فيصيح : اخرج يا فار من هاك الغار . ولكنني لا أرد على ندائه ، فيواصل الصياح مرات عديدة ، بدون طائل ...إلى أن يهددني بعدم إكمال حكاية علي بن السلطان وغول الجبال السبعة .
جدي يا جدي ...جدي حارب الصهاينة سنة ثمان وأربعين . تطوع مع جماعة من أهل البلد . قال للفرنسيين انه ذاهب للحج . ولما وصل أرض مصر ، اشترى بارودة ، والتحق بالثوار . وعندما انتهت الحرب ، رجع يحمل في جسمه جروح الهزائم . قال سكان البلد انه بعد عودته من فلسطين ، ظل حزينا عاما كاملا . ولم يقل شيئا عن جراحه ، ولا عن رفاقه الذين دفنهم هناك .
ثم ، وكما تتفتح الزهور بعد صقيع الشتاء ، تفتح قلبه للحياة ذات صيف . قال : لقد ترقبت هذه الأيام مدة طويلة ، دعوني أطفر عن حزن عشرين عاما . صار لا ينام .يضع الراديو أمامه ، ويردد مع المنشدين الأغاني الحماسية :
بلادي ، بلادي ، بلادي * لك حبي ومرادي .
ثم يحرك الإبرة في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار .

كانت الطائرات تحترق في الجو . تشتعل فيها النيران ، ثم تسقط قطعا من الحديد الملتهب ... وكنا نشم رائحة لحم الطيار ... كانت روائح الشواء تخرج من فتحات لأبواق أجهزة الراديو ... وكنا نرقص . نختطف هذا اللحم المشوي . نتقاسمه قطعا صغيرة في حجم كف اليد. نأكله بنهم ونرقص ... وكانت النساء تزغرد بأصوات عالية ترتفع حتى السماء السابعة عندما كانت طائراتنا تهدم المعبد فوق رؤوس أنبياء بني إسرائيل الجدد . وكان جدي يرفع بارودته ويطلق النار في الهواء، ثم يحرك إبرة الراديو في كل الاتجاهات يلتقط نشرات الأخبار...
بعد ستة أيام من بداية الحرب ، أحضرت له أمي ذات صباح قهوته وماء الوضوء . حيته ، فلم يرد عليها . قالت قد يكون النوم غلبه ، فتمدد ليستريح قليلا ... اقتربت منه . رأت عينيه مغمضتين . ورأت على وجهه العجوز أحزان الدنيا كلها ... نادت والدي بصوت مبحوح . أقبل يجري وجرينا وراءه ... كان جدي قد مات ... وكان مذيع الأخبار في إحدى المحطات البعيدة يردد : لقد خسرنا معركة ولم نخسر الحرب ...
أشعل سائق سيارة في وجهي ضوء التقاطع عدة مرات ، فانتبهت إلى أن السيارة تسير وسط الشارع ... حركت المقود قليلا لأبتعد عن طريقه، ثم ضغطت على دواسة البنزين ...

محمد ربيع
24/12/2006, 12:10 PM
ثانية أعود الى مدرستك ..
أخي الفاضل ابراهيم حفظه الله
تقبل تقديري وخالص تحياتي ..

نزار ب. الزين
24/12/2006, 05:39 PM
تصوير مفجع ، أخي الأستاذ ابراهيم ، لتاريخ هزائمنا ، من خلال حديثك عن بطل هدَّه الحزن و الأسى
إبداع جميل ، سلمت أنامل خطته
مودتي و احترامي
نزار

ابراهيم درغوثي
27/12/2006, 12:08 AM
أخي محمد ربيع

مسرور بمرورك الأنيق على هذا النص

وألف شكر على الكلمات اللطيفة

وكل عيد وأنت اعيد

ابراهيم درغوثي
27/12/2006, 02:09 PM
عزيزي نزار
سعيد بك وبرأيك حول هذه القصة
نعم يا أخي فهي تكاد تكون قصة الجد الحقيقية مع بعض رتوشات الكتابة القصصية
شكري لك يتجدد أيها القريب من القلب
وكل عام وأنت العيد