المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : جريدة الرياض اليومية



ghada
20/12/2006, 03:45 AM
الغواية في أحشاء الثقافة العربية

محمد علي شمس الدين

لن يكون للثقافة، والشعر منها بامتياز، أن تكون هامشية، أو مجانية، حيال موضوع ملتهب هو موضوع فلسطين والصراع الدائر فيها وحولها من أكثر من نصف قرن من الزمان حتى اليوم ولأمد قادم غير منظور التفاصيل وغير مؤكد النهايات.
وبمقدار ما يحتمل الموضوع من اختلاف هو أساس الحيوية الثقافية، فإنه ينطوي على سطوح وأعماق. فالصراع الفلسطيني (العربي)/الإسرائيلي (الأمريكي... إلى آخر القائمة) شديد التعقيد، والمنخرطون فيه سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، فرقاء متداخلون بمصالح متداخلة وأفكار متباينة وانحيازات واضحة في الكثير من الأحيان، ومربكة في أحيان أخرى.. لقد تأسست إسرائيل بوعد من بلفور، وكانت أمها في القرن المنصرم، إنكترا وأخواتها الأوروبيات، فصارت أمها اليوم الولايات المتحدة الأميركية، والأمم المتحدة بين شاهد إثبات وشاهد زور. لكن ماذا عن شقيقاتها العربيات؟
السؤال هنا شائك بل فاضح. فالوثائق الدبلوماسية التي يتم الكشف عنها يوماً بعد يوم، سواء في وزارات الخارجية أو الحربية في أوروبا أو الولايات المتحدة الأميركية.. أو حتى تلك التي سربها للإعلام صحافي كمحمد حسنين هيكل نقلاً عن الصحافة الأميركية، تشير إلى أن عدداً من السياسيين والحكام العرب، فضلاً عن اليهود العرب، في المغرب أو اليمن أو العراق على سبيل المثال لا الحصر، هم من مؤسسي "إسرائيل" الأولى، بالسياسة أو بالمادة الشعبية أو بالتواطؤات الإقليمية والعالمية..
حسناً.. كل ذلك قد يكون مبرراً لكي تكتب كاتبة، تحمل، عن طريق المصادفة، اسم الكاتبة والروائية المعروفة غادة السمان، إنما على صورة "غادا السمان"، سورية أيضاً، وتقيم في بيروت، وتكتب الشعر والبحث.. تكتب كتاباً بعنوان.. إسرائيليات بأقلام عربية (الدس الصهيوني) وتصدره عن دار الهادي العام 2001/ليتدحرج على سطح الإعلام العربي ككرة ثلج وفضيحة ثقافية وسياسية معاً.. فقد استعملت الكاتبة فيه لغة جارحة، فاضحة، اتهامية، استفزازية، تناولت من خلالها رموزاً شعرية وثقافية فلسطينية وعربية من أبرزهم فدوى طوقان في سيرتها الصادرة بجزءين عن دار الشروق بعنوان "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" الجزء الأول عمان 88والرحلة الأصعب الجزء الثاني عمان 93، ومحمود درويش في قصيدته "عندما يبتعد" من ديوان "لماذا تركت الحصان وحيداً".. أضيف لها أحلام مستغانمي في روايتها "ذاكرة الجسد"، تناولتهم المؤلفة وسواهم بعملية نقد مبضعية (لوصح التعبير).. بل بعملية نقد، جرح، وتعرية.. أثارت ردود فعل كثيرة في حينه، وربما وصل بعضها إلى المحاكم الجزائية، بسبب خروجها عن إطار النقد الهادئ، في اتجاه الاتهام بالعمالة للعدو، أو بالسقوط في الشرك الإسرائيلي.. ما جعل للكتاب المذكور حافزاً خاصاً لقراءته.. من حيث إنه أحيط بجميع عناصر الإثارة، وصولاً لحد الفضيحة. إن في المسألة اسمين من الأسماء الواصلة لحد التقديس الفلسطيني والعربي، هما فدوى طوقان ومحمود درويش، يتعرضان للجلد الوطني القاسي وصولاً لحد التخوين، على يد كاتبة من عامة الناس. هذا أولاً.. وهذا يتم بمثل هذه النبرة، لأول مرة، في تاريخ النقد العربي المعاصر، كما أن اسم أحلام مستغانمي، كاف وحده، نظراً لما أثير حول روايتها من جدال خرج عن حدود الموضوع للذات والتشهير، ووصل بدوره إلى محاكم الجزاء، وصدرت أحكام بشأنه.. هذا الاسم أيضاً، كاف لإحداث زوبعة السمان المركبة. ناهيك عن تطابق الاسمين: غادة السمان وغادا السمان. فما الذي جرى؟
وكيف يمكن تخليص الليل من النهار في مثل هذه الزوبعة؟
إن ميلنا العربي للتكريس والتقديس يجعل من مثل هذا الكتاب ظاهرة. وربما كان الغرب أكثر ألفة في التعامل مع مثله، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، لأسباب قد تعود بجزء ضئيل منها للديمقراطية، إنما جزؤها الوافر يعود للإثارة والرغبة العامة في الشعرية وكسر المألوف. ثقافتنا العربية الراهنة لا تقبل هذا الموضوع ببساطة فدائرة المحرمات فيها واسعة وضاغطة.
تقول السمان، في فدوى طوقان (متناولة بكلامها سيرتها الذاتية المشار إليها آنفاً): "نصها أشبه بمحاولات بهلوانية تائهة ومضطربة ومتلاعبة بأكثر من رغبة وهاجس ومطمع.. تنحو هذا المنحى من البوح الذي لا يغترف من الجرأة بقدر ما يستجر من الغرور، فقد أصبحت السيرة الذاتية بكل ما فيها من تأريخ وتوثيق ومخيلة تعتمد فكرة واحدة تتموضع بشراسة بلغت في بعض الصفحات حد الحماقة. إذا استثنينا من أعطافها وقاحة تذكر وتستشيط..
وهي، قبل أن تسترسل في مثل هذا النقد، تعرج على سميح القاسم كاتب مقدمة السيرة، فتصفه بأنه "تهاوى وانجرف في تيار التبعية والتواطؤ".. فضلاً عن "الرتابة والانصياعية"، يضاف لذلك.. النرجسية والذاتية والمطامح الغائية" وصولاً إلى اتهامه.. بإدمان التلفيق الإعلامي".
مثل هذا القاموس النقدي للكاتبة يتكرر، ويتطاول على امتداد الكتاب.
فتصف صياغة طوقان لمذكراتها بأنها تحتمل الفهم الملتبس للنص، وأنها تكتب بلغة مسذجة ومتشاوفة ومتسامقة، وأن لقاءها بموشي دايان بعد حرب العام 1967، كان تملقاً مزدوجاً بين الطرفين، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا.. هل التجميل الفني بوسعه أن يخفي قبح مقاصد البوح؟.. و"هل لعقل سليم ألا تستثيره مثل هذه الانفعالات (المتشاوقة) (ربما من الشوق المزدوج بين دايان وطوقان) باستشباقات ذاتية نرجسية هائلة لمصادرة ذهن المتلقي مثل غيره، ومن ثم هندسته وبنائيته وفق مفاهيم استرضائية لمراحل مقبلة تتلاءم ومصلحة الشعب التوراتي لا سواه؟" (ص36)... وهكذا:
إن العبارات المذكورة آنفاً جزء معبر عن كل، في اتهام الكاتبة للشاعرة الفلسطينية المقيمة في الأرض المحتلة (نابلس) فدوى طوقان، بالضبابية والعاطفية والغيبوبة الوطنية الواصلة لحد التواطؤ مع العدو، فكيف لشاعرة مهما كان وزنها الشعري، أن تتباهى بلقاء موشي دايان بعد هزيمة العرب المدوية في الخامس من حزيران 67، وتتباهى بمديحه لها، وكيف لها أن تقبل سفارته لدى جمال عبدالناصر عارضاً من خلالها الاجتماع به، وسفارة ثانية لها لدى ياسر عرفات، عارضاً أيضاً الاجتماع به..
وقد قامت فدوى طوقان بالفعل بهاتين المهمتين، تقول طوقان في مذكراتها: "قال دايان: كيف ننسحب وهناك لاءات عبدالناصر، الفلسطينيون وحدهم هم القادرون على أن يؤثروا على عبدالناصر.
هنا التفت إلى رئيس البلدية وإلى ابن عمي قدري متسائلة: ومن يفعل ذلك؟
قال دايان: أفعلي أنت هذا".
وكلفها دايان باللقاء بياسر عرفات في بيروت ففعلت أيضاً.
وقامت خلال لقائها بناصر في القاهرة بعرض لقائه مع دايان، فرفض. وقامت أيضاً في بيروت بعرض هذا اللقاء على عرفات فرفض بدوره.
هذا اللقاء بين طوقان ودايان، يؤكده ببعض تفاصيله، موشي دايان بالذات من خلال مذكراته التي نشرت ونقلت للعربية، بعنوان "يوميات قادة العدو -3- الفاشية - موشي دايان، دار المسيرة، بيروت (ص 144و145)، كما يؤكد تكليفه لها بمسعى لدى ناصر وعرفات. هو يذكر أيضاً أنه عاد فالتقاها ثانية بعد شهرين، في فندق الملك داوود في القدس. وسمع منها نقد عبدالناصر القاسي لها "فقد أخذ عليها التقاءها مع دايان".. فكأن فدوى طوقان بذلك كانت من التجارب الخطيرة الممهدة لكامب ديفيد، أو لأوسلو. والسؤال كيف؟ ولماذا؟..
"هل هذه المذكرات بمثابة ورقة تفاوضية مبكرة، في ظل الهزائم العربية والفلسطينية؟... ولماذا يتم تجميل صورة اليهودي والإسرائيلي ممثلين بموشي دايان (الرهيب) في مذكرات فدوى طوقان، إلى حدود الإثارة؟
ففي زمن المذابح الكبرى المتتالية للفلسطينيين والعرب، على يد قادة إسرائيل، أمن الجائز مديح اليهودي بمثل ما فعلته طوقان، ونفض الغبار عن سترة المحارب القاتل دايان، بيد الشعر الناعمة؟ بيد الإنسان.. وأي إنسان؟
تأخذ السمان على طوقان أنها تتحدث يجيشان عاطفي ونرجسية شعرية وأوهام إنسانية عن اليهودي الملتبس بالصهيوني، وتهمل فلسطين والفلسطيني والعربي.. تهمل ذاتها، بل تنسى ذاتها.
تلتفت إلى عشق دايان لجمع الآثار (كصاحب هواية فنية أو ثقافية) وتنسى أنه سارق كبير لأرض بكاملها هي فلسطين.. يجتمع بشاعرة ويقتل الأطفال. يطلب منها الوساطة لدى رموز عظيمة من التاريخ العربي المعاصر كجمال عبدالناصر في وقت هزيمته وانكساره. لذا تسأل السمان "كيف باستطاعة فدوى طوقان أن تسفح ماء وجهها حتى هذا الرمق؟ (ص72).
وهذا النقد القاسي يصل بمبضعه في الفصل الثاني من الكتاب إلى محمود درويش.. من خلال قراءة نصية لقصيدته.. عندما يبتعد" من مجموعة "لماذا تركت الحصان وحيداً". وهي اتجاه درويش، أكثر هدوءاً وشفافية، منها تجاه طوقان فتحلل القصيدة مقطعاً ومقطعاً، وتورد مقارنات جيدة بينها وبين نصوص لشعراء إسرائيليين، تصل أحياناً لحد التطابق، مثل قصيدة للشاعر يهودا عميجابي عن سارة "سارة تخط الرسائل دون رحمة في بريد البحر/ عن عينيها الجميلتين.."..
فسارة رمز التيه اليهودي والسف الدائم. ولدى درويش رمز مشابه للتشرد الفلسطيني. كما ثمة مقاربات بين درويش وبنحاس سديه وبينه وبين أوري بير نشتاني. وهي في غمرة اشارتها إلى توافقات إنسانية بين هؤلاء الشعراء (الأخوة بعيداً عن عداوة السياسة)، تنقلب فجأة لتسأل درويش، عن معنى "هناك" في مقطعه من القصيدة، حيث يخاطب العدو الضيف قائلاً:
"تلمع أزرار سترته عندما يبتعد/ عم مساء" وسلم على بئرنا/ وعلى جهة التين/ وامش الهوينى على ظلنا في حقول الشعير/ وسلم على سرونا في الأعالي/ ولا تنس بوابة البيت مفتوحة/ في الليالي/ ولا تنس خوف الحصان من الطائرات/ وسلم علينا هناك إذا اتسع الوقت...".
تجاه هذا الهدوء الشعري العجيب لمقطع درويش، تسأل السمان:
"هل كانت هناك أوسلو أم كامب ديفيد أم مدريد أم القدس المهودة؟" (ص178). من الواضح، في النتيجة، أن السؤال سياسي وليس شعرياً، سواء كان حول طوقان في سيرتها الذاتية أو حول درويش في شعره. بل الكتاب بكامله سياسي إن لم يكن أيديولوجياً. بكاملها تقع في هذا الباب. تستطيع، على سبيل الافتراض، أن نستولد من هذا الكتاب كتاباً آخر بمعادلة موضوعية مؤسسة على الأسئلة التالية:
- هل الصراع في فلسطين وعليها، بين إسرائيل والفلسطينيين يمكن أن ينتهي بمصالحات إنسانية تميز بين اليهودي والصهيوني، وبين المدني العسكري.. هل في الإمكان هذا الفرز الصعب بل المستحيل في ظل مجتمع مسلح بكامله، هو المجتمع الإسرائيلي، يواجه شعباً مكشوفاً وأعزل بكامله هو الشعب الفلسطيني؟
- أين منطق التاريخ في مراحل الصراع؟ سيما أن العنف الصهيوني يزداد ويستشرس عاماً بعد عام، وملكاً لإسرائيل بعد ملك؟ وقد توج بشارون. فأين السلم وأين يطير حمام الشعراء؟.
- أين الشعر في حومة الحروب ومشاريع السلام؟ أية رؤيا له وأية توترات؟. أحقاً هو محرج لهذا الحد؟ ملتبس لهذا الحد؟ غائم ورخو في كثير من الأحيان؟.
يقول محمود درويش "لو لا المسدس لاختلط الناي بالناي".
ولكن المسدس كائن في الناي نفسه. فما العمل؟ لدى درويش ارتباك وجودي في شعره على الرغم من أنه فلسطيني اللحظة المعاصرة بكل احباطاتها وهدرها الدامي. يقول في ديوان جدارية "حبة القمح الصغيرة سوف تكفيني أنا وأخي العدو/ لعل شيئاً فيّ ينبذني/ لعلي واحد غيري/ من أنت يا أنا في الطريق اثنان.. خذني إلى ضوء الثلاثي كي أرى صيرورتي في صورتي الأخرى...".

http://www.alriyadh.com/Contents/27-06-2002/Mainpage/Thkafa_571.php