المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : منشئو التلمود



محمدالحربي
27/11/2008, 10:23 PM
منشئو التلمود
كان الكهنة ورجال الدين المقيمون في المعابد والمدارس الفلسطينية والبابلية هم الذين ألفوا أسفار الشريعة الضخمة المعروفة بالتلمود الفلسطيني والتلمود البابلي. وكانوا يقولون إن موسى لم يترك فقط لشعبه شريعة مكتوبة تحتويها الأسفار الخمسة، بل ترك له أيضاً شريعة شفوية تلقاها التلاميذ عن المعلمين ووسعوا فيها جيلاً بعد جيل. وكان أهم ما ثار حوله الجدل بين الفريسيين والصدوقيين الفلسطينيين هو: هل هذه الشريعة الشفوية هي الأخرى من عند الله فهي لذلك واجبة الطاعة؟ ولما أن زال الصدوقيون بعد تشتت اليهود عام 70 م وورث رجال الدين تقاليد الفريسيين ورواياتهم قبل جميع اليهود المتمسكين بدينهم الشريعة الشفوية، وأمنوا بأنها أوامر من عند الله وأضافوها إلى أسفار موسى الخمسة، فتكونت من هذه وتلك التوراة أو الشريعة الموسوية التي استمسك بها اليهود وعاشوا بمقتضاها، وكانت حقيقة لا مجازاً هي كيانهم وقواهم وحياتهم. وإن القصة التي تروي تلك العملية الطويلة التي استغرقت ألف عام، والتي تجمعت خلالها الشريعة الشفوية، واتخذت فيها صورتها النهائية المعروفة بالمشنا؛ والقرون الثمانية التي تجمعت فيها ثمار الجدل، والأحكام، والإيضاح فكانت هي الجمارتين ليتألف منهما التلمود الفلسطيني، وإلى أطولهما ليتألف منهما التلمود البابلي-إن القصة التي تروي هذه الأحداث الثلاثة لمن أكثر القصص تعقيداً وأعظمها إثارة للدهشة في تاريخ العقل البشري. وكما كان الكتاب المقدس أدب العبرانيين الأقدمين ودينهم، كانت التوراة حياة العصور الوسطى ودماءهم.
وذلك أن أحكام الشريعة الواردة في الأسفار الخمسة أحكام مسطورة، ولهذا فإنها لم تكن تستطيع الوفاء بجميع حاجات أورشليم بعد أن فقدت حريتها، ولا اليهودية بعد أن فقدت أورشليم، ولا الشعب اليهودي في خارج فلسطين، لم تستطع الوفاء بحاجات هذه أو معالجة الظروف المحيطة بها. ومن ثم كانت مهمة علماء السَّنهدرين قبل التشتت، والأحبار بعده، هي تفسير الشريعة الموسوية تفسيراً يهتدي به الجيل الجديد والبيئة الجديدة ويفيدان منه. وتوارث المعلمون جيلاً بعد جيل تفاسير هؤلاء العلماء ومناقشاتهم وآراء الأقلية والأغلبية في موضوعاتها. على أن هذه لروايات الشفوية لم تدون، ولعل سبب عدم تدوينها أن هؤلاء العلماء أرادوا أن يجعلونها مرنة قابلة للتعديل، أو لعلهم أرادوا بذلك أن يرغموا الأجيال التالية على استظهارها. فكان في وسع الأحبار الذين أخذوا على أنفسهم تفسير الشريعة إذا اضطرتهم الظروف أن يستعينوا بمن قدروا على استظهارها. وكان الأحبار في الستة القرون الأولى بعد ميلاد المسيح يسمون "التنإم Tennaim" أي "معلمي الشريعة" وإذ كانوا هم وحدهم المتضلعين فيها، فقد كانوا هم المعلمين والقضاة بين يهود فلسطين بعد تدمير الهيكل.
وكان أحبار فلسطين وأحبار اليهود "المشتتين أرستقراطية فذة لا مثيل لها في التاريخ. ذلك أن هؤلاء الأحبار لم يكونوا طبقة وراثية أو مغلقة مقصورة على طائفة خاصة من الناس، بل إن الكثيرين منهم قد ارتقوا من أفقر الطبقات، وكان معظمهم يكسبون قوتهم بالعمل في الصناعات المختلفة حتى بعد أن أصبحوا من ذوي الشهرة العالمية، وظلوا إلى ما يقرب من أخريات تلك الفترة التي نتحدث عنها لا يعطون أجوراً على قيامهم بالتدريس أو بأعمال القضاء وكان الأثرياء يجعلونهم في بعض لأحيان شركاء غير عاملين في مشروعاتهم المالية والتجارية، أو يؤوونهم في بيوتهم، أو يزوجونهم من بناتهم، ليوفروا عليهم عناء الكد لكسب قوتهم. ومنهم من عدد قليل أفسدهم ما كان لهم من المنزلة الرفيعة بين أبناء دينهم، ومنهم كانوا كسائر الخلق يغضون، ويغارون، ويحقدون، ويسرفون في النقد، ويتكبرون. ومنهم من كان لا بد لهم أن يذكروا أنفسهم المرة بعد المرة أن العالِم بحق رجل متواضع، لأن الحكيم يرى الجزء في ضوء الكل إن لم يكن لغير ذلك من الأسباب. وكان الناس يحبونهم لفضائلهم ولعيوبهم، ويعجبون بهم لعلمهم وتقواهم، ويروون ألف قصة وقصة تنبئ عن حكمتهم ومعجزاتهم. وقد ظل اليهود إلى يومنا هذا يجلون طلاّب العلم والعلماء كما لا يجلهم شعب آخر في العالم كله. ولما كثرت قرارات الأحبار وتضاعفت أصبحت مهمة استظهارها شاقة غير معقولة. ولذلك حاول هلل وعقيبا Akiba ومإير Meir مراراً عدة أن يصنفوها ويستعينوا على استظهارها ببعض الأساليب والرموز، ولكن هذه التصانيف والرموز والحيل لم يحظ شيء منها بالقبول من جمهرة اليهود. وكانت نتيجة هذا أن أصبح الاضطراب في نقل الشريعة هو القاعدة العامة، ونقص عدد من يحفظون الشريعة كلها عن ظهر قلب نقصاً مروعاً، وكان مما زاد الطين بلة أن تشتت اليهود قد نشر هذه القلة في أقطار نائية. وحوالي عام 189 تابع الحبر يهودا هنسيا Jehuda Hansia في قرية صبورة بفلسطين عمل عقيبا مإير، وعدله، وأعاد ترتيب الشريعة الشفوية بأكملها، ثم دونها، وزاد عليها إضافات من عنده، فكانت هي "مشنا الحبر يهودا" وانتشرت هذه بين اليهود انتشاراً أصبحت معه بعد زمن ما هي المشنا، والصورة المعتمدة لشريعة اليهود الشفوية.
والمشنا (أي التعاليم الشفوية) كما نعرفها اليوم هي الصورة النهائية لطبعات مختلفة كثيرة وحواشي متعددة أدخلت عليها من أيام يهوذا إلى الآن. ولكنها مع هذا خلاصة مدمجة محكمة، وضعت لكي تحفظ عن ظاهرة قلب بكثرة التكرار؛ ولهذا فإن من يقبل على قراءتها يرى أن عباراتها المحكمة الجامعة الغامضة تعذب قارئها بما تبعثه في نفسه من الآمال الخادعة اللهم إلا إذا كان هذا القارئ ملماً بحياة اليهود وتاريخهم. وقد قبلها يهود بابل وأوربا كما قبلها يهود فلسطين، ولكن كل مدرسة فسرت أمثالها وحكمها تفسيراً يخالف ما فسرتها به الأخرى، وجمعت ستة أجيال (220-500 م) من أحبار الأمورائم (الشراح) هاتين الطائفتين الضخمتين من الشروح وهما الجمارا الفلسطينية والبابلية، كما اشتركت من قبل ستة أجيال (10-220 م) من الأحبار التنإم في صياغة المشنا. وبذلك فعل المعلمون الجدد بمشنا يهودا ما فعله التنإم بالعهد القديم: فتناقشوا في النص، وحللوه، وفسروه، وعدلوه، ووضحوه لكي يطبقوه على المشاكل الجديدة، وعلى ظروف الزمان والمكان. ولما قارب القرن الرابع على الانتهاء نسقت مدارس فلسطين شروطها وصياغتها في الصورة المعروفة بالجمارا الفلسطينية. وشرع الكوهن رب آشي رئيس جامعة سورا حوالي ذلك الوقت في تقنين الجمارا البابلية وظل يواصل العمل في ذلك التقنين جيلاً من الزمان. وأتمه ربينا الثاني بار (ابن) شمويل، وهو أيضاً من جامعة سورا بعد مائة عام من ذلك الوقت.
وإذا ذكرنا أن الجمارا البابلية أطول من المشنا إحدى عشر مرة، بدأنا نعرف لم استغرق جمعها مائة عام كاملة. وظل الأحبار السبورائم (الناطقة) مائة وخمسين سنة أخرى (500-650) يراجعون هذه الشروح الضخمة، ويصقلون التلمود البابلي الصقل الأخير. بقي أن نقول أن لفظ التلمود يعني التعليم. ولك يكن الأمورائم يطلقون اللفظ إلا على المشنا. أما في الاستعمال الحديث فهو يشمل المشنا والجمارا.. والمشنا في التلمود البابلي هي بعينها مشنا التلمود الفلسطيني، ولا يختلف التلمودان إلا في الجمارا أو الشروح فهي في التلمود البابلي أربعة أمثالها في التلمود الفلسطيني . ولغة الجمارا البابلية والجمارا الفلسطينية هي الآرامية أما لغة المشنا فهي اللغة العبرية الجديدة تتخللها ألفاظ كثيرة مستعارة من اللغات المجاورة.
وتمتاز المشنا بالإيجاز ، فهي تعبر عن القانون الواحد بقليل من السطور، أما الجماريان فتتبسطان عن قصد وتعمد، وتذكران مختلف آراء كبار الأحبار عن نصوص المشنا وتصفان الظروف التي قد تتطلب تعديل القانون وتضيفان كثيراً من الإيضاحات. ومعظم المشنا نصوص قانونية وقرارات (هَلَكا)، أما الجماريان فبعضهما هلكا-إعادة نص قانون أو بحثه-وبعضها هجدة (قصص). وقد عرفت الهجدة تعريفاً غير دقيق بأنها كل ما ليس هلكا في التلمود. وأكثر ما تسجله الهجدة هو القصص، والأمثلة الإيضاحية. وأجزاء من السير، والتاريخ، والطب، والفلك، والتنجيم، والسحر، والتصوف، والحث على الفضيلة، والعمل بالشريعة، وكثيراً ما تروج الهجدة عن نفس الطلاّب المتعلمين بعد جدل معقد متعب. ومثال ذلك ما يأتي: بينما كان رب أمي ورب أسى يتحدثان مع الكوهن إسحق منجا إذ قال له أحدهما: "احك لنا يا سيدي قصة لطيفة"، وقال الآخر: "لا بل أرجوك أن تفسر لنا بدلاً من هذا نقطة دقيقة من النقاط القانونية".. فلما بدأ القصة أغضب أحدهما، ولما أخذ يشرح النقطة القانونية أغضب الآخر. فلما رأى ذلك ضرب لهما هذا المثل: "إن مثلي معكما كمثل رجل تزوج باثنتين إحداهما شابة والأخرى عجوز، فاقتلعت الزوجة الشابة جميع شعره الأشيب حتى يبدو شاباً، واقتلعت الزوجة العجوز جميع شعره الأسود حتى يبدو عجوزاً، وكانت نتيجة فعلهما هذا أن أصبح الرجل أصلع". :fl::fl: