المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : المبادئ الأخلاقية في التلمود



محمدالحربي
27/11/2008, 10:26 PM
المبادئ الأخلاقية في التلمود
ليس التلمود موسوعة من التاريخ، والدين، والشعائر، والطب، والأقاصيص الشعبية وحسب، بل هو فوق هذا كله رسالة في الزراعة، وفلاحة البساتين، والصناعة، والمهن، والتجارة(67)، وشئون المال، والضرائب، والملك والرق، والميراث، والسرقة، والمحاكمات القضائية، والقوانين الجنائية. وإذا شئنا أن نوفي هذا الكتاب حقه من البحث، كان علينا أولاً أن نلم بطائفة كبيرة العدد من العلوم المختلفة، وأن نكتسب منها ما تهيؤه لعقولنا من الحكمة وسداد الرأي، ونستخدم تلك الحكمة الجامعة في الإلمام بأحكام هذا الكتاب في الميادين المختلفة السالفة الذكر.
وأول ما نذكره أن التلمود أولاً وقبل كل شيء قانون أخلاقي، وأن هذا القانون الأخلاقي شديد الاختلاف عن القانون الأخلاقي المسيحي وعظيم لشبه بالقانون الإسلامي، حتى لتكفي نظرة خاطئة إليه لدحض الرأي السائد في العصور الوسطى القائل بأنه ليس إلا قصة المسيحية في تلك العصور. إن الأديان الثلاثة الكبرى متفقة في أن المبادئ الأخلاقية الفطرية-غير الدينية-تصلح لأن تكون قواعد عملية للإنسانية؛ وترى أن الكثرة الغالبة من الناس لا يمكن أن تحمل على المسلك الحسن والخلق القويم إلا عن طريق خوف الله. ولهذا أقامت الأديان الثلاثة قانونها الأخلاقي على مبادئ رئيسية واحدة: أن الله عيناً تبصر كل شيء، وأن القانون الأخلاقي منزل من عند الله، وأن الفضيلة تتفق في آخر الأمر مع السعادة بما يناله المحسن بعد الموت من الثواب والمسيء من العقاب. ولم يكن من المستطاع في الدينين الساميين فصل القوانين الثقافية والأخلاقية من الدين. فلم تكن هذه القوانين تجير التفرقة بين الجريمة والخطيئة، أو بين الشر والشريعة الكنسية، بل إن من مبادئها المقررة أن كل فعل ذميم. يعد إساءة إلى الله وانتهاكاً لحرماته ولاسمه جل جلاله.
وتتفق الأديان الثلاثة فضلاً عن هذا في بعض قواعد الأخلاق: تتفق في حرمة الأسرة والمسكن، وفيما يحب للآباء وكبار السن من تكريم وإجلال وفي حب الأبناء ورعايتهم، وفي مل الخير لجميع الناس. وليس ثمة شعب أكثر من اليهود حرصاً على تجميل الحياة العائلية، ولقد كان عدم الزواج عن قصد من الآثام الكبرى في اليهودية كما هو في الإسلام ؛ وكان إنشاء البيت وتكوين الأسرة من الأمور الشرعية التي يحتمها الدين ، وتنص عليه القاعدة الأولى من قواعد الشريعة البالغ عددها 613 قاعدة، وفي ذلك يقول أحد المعلمين اليهود "إن من لا ولد له يعد من الأموات"، ويتفق اليهودي، والمسيحي، والمسلم في أن البشرية تصبح مهددة بالزوال إذا ما فقدت قوتها أوامر الدين التي تقضي بوجوب إنجاب الأبناء. على أن أحبار اليهود أباحوا تحديد عدد أفراد الأسرة في بعض الأحوال؛ ويفضلون أن تكون السبيل إلى هذا هي منع الحمل، وفي ذلك يقول بعضهم: "هناك ثلاث طبقات من النساء يجب عليهن أن يستعملن الأدوية الماصة: القاصر خشية أن يقضي الحمل على حياتها؛ كيلا تكون النتيجة هي الإجهاض، والمرضع حتى لا تحمل فتضطر إلى فطام الرضيع قبل الأوان فيموت الطفل".
وكان اليهود، كما كان معاصروهم، يكرهون أن يلدوا بنات ويسرون إذا أنجبوا الذكور، ذلك أن الذكر لا الأنثى هو الذي يحمل اسم أبيه واسم الأسرة، ويرث أملاكه، ويعني بقبره بعد وفاته، أما البنت فسوف تتزوج في بيت غريب وقد يكون بيتاً بعيداً، ولا تكاد تتم تربيتها حتى يفقدها أبواها. لكن الآباء متى رزقوا الأبناء، ذكوراً كانوا أو إناثاً، أعروهم وأدبوهم تأديباً ممزوجاً بالحب وفي ذلك يقول أحد أحبارهم: "إذا كان لا بد لك أن تضرب طفلك، فاضربه برباط حذاء". ويقول آخر "إذا امتنع الإنسان من عقاب طفل، انتهت به الحال إلى الفساد المطلق"(73) وكان من الواجب على الآباء أن يتحملوا كل تضحية تتطلبها تربية الأبناء أي تثقيف العقل، وتقويم الخلق بدراسة "الشريعة وأسفار الأنبياء". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية: "إن العالم ينجو بنفس تلاميذ المدارس"(74) فالسكينة أو الحضرة الإلهية تتجلى في وجوههم؛ وفي نظير هذا يجب على الابن أن يعظم والديه ويحميهما بكل ما في وسعه وفي جميع الأحوال.
والصدقات من الواجبات التي لا مفر من أدائها وإن "من يتصدق لأعظم ممن يقدم كل القرابين"(75). ولقد كان بعض اليهود أشحاء، وبعضهم بخلاء إلى أقصى حدود البخل، ولكنهم بوجه عام يفوقون سائر الشعوب في هباتهم وتبرعاتهم، وقد بلغ من سخائهم في هذه الناحية أن اضطر أحبارهم إلى أن ينوههم عن إعطاء أكثر من خمس أموالهم للصدقات، ومع هذا فقد وجد عند وفاة بعضهم أنهم قد أعطوا نصف ما يملكون رغم هذا التحريم. "لقد كانت تلوح على وجه أبا أو منا على الدوام هالة من الطمأنينة القدسية، ذلك بأنه كان جرّاحاً ولكنه لم يكن يرضى أن يمسك بيديه أجراً على عمله، بل كان له صندوق في ركن حجرة استشارته يستطيع من كان في مقدوره أداء شيء من المال أن يضع فيه ما يرغب في أدائه... وحتى لا يعتري الخجل من يعجز عن أداء شيء منه"(77). وكان رب هونا "إذا جلس لتناول الطعام فتح أبوابه ونادى: من كان في حاجة أن يدخل ويطعم"(78). وكان شاما بن إلعي Chama ben Elai يطعم الخبز كل من يطلبه ويضع يده في كيس نقوده كلما سار في خارج داره حتى لا يحجم أحد عن سؤاله. ولكن التلمود كان يؤنب التظاهر بالبذل ويشير بأن يكون سراً ويقول "إن من يعطي الصدقات سراً أعظم من موسى".
ووجه رجال الدين كل ما أوتوا من علم وبلاغة لامتداح نظام للزواج الذي كان هو والدين الأساس الذي يقوم عليه صرح الحياة اليهودية كلها. ولم ينددوا بالشهوة الجنسية ولكنهم كانوا يخشون قوتها وبذلوا جهدهم في كبح جماحها. فمنهم من كان ينصح بأكل الملح مع الخبز "ليقل المنى" ، ومنهم من كان يحس بأن الوسيلة الوحيدة لكبح جماح الشهوة الجنسية هو العمل المجهد مضافاً إلى دراسة التوراة؛ فإذا لم يجد هذه الوسيلة "فليذهب إلى مكان لا يعرفه فيه أحد، وليلبس سود الثياب، وليفعل ما تبتغيه نفسه، ولكن عليه ألا يدنس اسم الله جهرة". وعلى الإنسان أن يبتعد عن كل المواقف التي تثير شهوته، فلا يكثر من الحديث مع النساء، "ولا يمشي في الطريق خلف امرأة" وتظهر فكاهة أحبار اليهود المبهجة مرة أخرى في قصة رب كهنا Red Kahan.
فقد كان مرة يبيع سلال النساء وإذا هو يتعرض لهواية الشيطان. وأخذ يقاوم طبيعته راجياً أن ينطلق هذه المرة على أن يعود إلى نجا. ولكنه بعد أن تغلب على نفسه لم يعد بل صعد إلى سقف بيت وألقى بنفسه من فوقه، وقبل أن يصل إلى الأرض وصل إليه اليشع وأمسك به ولامه على أن اضطره إلى قطع مسافة أربعمائة ميل لكي يحول بينه وبين إهلاك نفسه.
ويلوح أن أحبار اليهود يرون أن البكورية لا بأس بها، ولكن البكورية الدائمة هي بعينها وقف النماء الطبيعي، ويعتقدون أن كمال المرأة في كمال الأمومة، كما أن اسمى فضائل الرجل فضيلة الأبوة الكاملة. وكان من الواجب على كل أب أن يدخر بائنة لكل بنت من بناته ومهراً يمهر به كل ولد من أولاده عروسه حتى لا يتأخر زواج الولد والبنت تأخراً يضر بصحتهما. وكانوا يشيرون بالزواج المبكر-في الرابعة عشرة للبنت وفي الثامنة عشرة للولد. وكان القانون يبيح زواج البنت إذ بلغت سنها اثنتي عشرة سنة وستة أشهر وزواج الولد في الثالثة عشرة من عمره. وكان يباح للطلاّب المشتغلين بدراسة الشريعة أن يؤخروا زواجهم بعض الوقت. ومن الأحبار من كانوا يقولون إن على الرجل أن يثبت دعائم مركزه الاقتصادي قبل أن يقدم على الزواج: "على الرجل أولاً أن ينشئ البيت، ثم يغرس الكرمة، ثم يتزوج". -ولكن هذا الرأي هو رأي الأقلية ولعله لا يتعارض مع الزواج المبكر إذا ما تكفل الأبوان بتدبير العون المالي المطلوب. وكانوا ينصحون الشباب بألا يختار زوجته لجمالها بل لصفاتها التي سوف تجعلها في المستقبل أماً صالحة ، ويقولون "اهبط درجة في اختيار الزوجة، وأرقى درجة في اختيار الصديق" ، ومن يختر لنفسه زوجة من طبقة فوق طبقته يدع الناس إلى احتقاره.
وأجاز التلمود، كما أجاز العهد القديم والقرآن، تعدد الزوجات، ومن أقوال أحد الأحبار في هذا المعنى: "يستطيع الرجل أن يتزوج أي عدد من النساء يشاء" ولكن فقرة ثانية في مقاله هذا تحدد عدد الزوجات بأربع، وتطلب فقرة ثالثة إلى من يريد أن يتخذ له زوجة ثانية أن يطلق زوجته الأولى إذا أرادت هي الطلاق. ونظام تعدد الأزواج هذا تفترضه كذلك العادة القديمة التي يطالب اليهودي بمقتضاها أن يتزوج من أرملة أخيه بعد وفاته، وأكبر الظن أن منشأ هذه العادة لم يكن هو العطف والشفقة فحسب، بل كانت تقوم فوق ذلك على الرغبة في الإكثار من النسل في مجتمع ترتفع فيه نسبة الوفيات شأنه في ذلك شأن كل المجتمعات التي قامت في العصور القديمة والعصور الوسطى.
وبعد أن يسر الأحبار للرجل إشباع غريزته الجنسية على هذا النحو جعلوا الزنى من الجرائم التي يعاقب مرتكبها بالإعدام، وكان منهم من يقول مع المسيح إن "الإنسان قد يزني بعينيه" ، ومنهم من ذهب إلى أبعد من هذا فقال: "إن من يتطلع إلى خنصر امرأة لا أكثر قد ارتكب إثماً في قلبه" ، ولكن رب أريكا أرقى من هؤلاء وأولئك قلباً إذ يقول: "يجد الإنسان في كتاب سيئاته يوم الحشر كل شيء رآه بعينيه وأبى أن يستمتع به.
وأبيح الطلاق برضا الطرفين، فأما الزوج (الرجل) فلا يمكن أن يطلّق إلا برضاه، وأما الزوجة فيجوز للرجل أن يطلقها بغير رضاها. وطلاق الزوجة الزانية أمر واجب، كذلك يشار بطلاق الزوجة إذا ظلت عقيماً عشر سنين بعد الزواج. ولم تكن مدرسة شماي تبيح طلاق المرأة إلا إذا زنت، أما مدرسة هلل فقد أباحت للرجل أن يطلق زوجته إذا وجد فيها "شيئاً معيباً"، وكانت الغلبة في أيام التلمود لرأي هلل، وقد ذهب فيه عقيبا إلى حد بعيد فقال إن "في وسع الرجل أن يطلّق زوجته، إذا وجد امرأة أخرى أجمل منها". وكان في وسع الرجل أن يطلّق زوجته إذا عصت أوامر الشريعة اليهودية بأن سارت أمام الناس عارية الرأس، أو غزلت الخيط في الطريق العام، أو تحدثت إلى مختلف أصناف الناس أو "إذا كانت عالية الصوت أي إذا كانت تتحدث في بيتها ويستطيع جيرانها سماع ما تقول" ولم يكن عليه في هذه الأحوال أن يرد إليها بائنتها. ولم يكن هجر الرجل زوجته يوجب طلاقها منه ، وأباح بعض رجال الدين للزوجة أن تلجأ إلى المحكمة تطلب الطلاق من زوجها إذا قسا عليها، أو كان عنيناً، أو أبى أن يؤدي الواجبات الزوجية، أو لم ينفق عليها النفقة التي تليق بها ، أو كان مشوهاً أو نتناً. وكان الأحبار يحاولون تقليل الطلاق بأن يضعوا في سبيله إجراءات قانونية معقدة، ويفرضون في جميع الأحوال-إلا القليل النادر منها-استيلاء الزوجة على البائنة والمهر؛ ويقول الحاخام إلعَزَر Eleazar "إن المذبح نفسه ليذرف الدمع على من يطلق زوجة شبابه".
وجملة القول أن قوانين التلمود، بوجه عام، من وضع الرجال وأنها لذلك تحابي الذكور محاباة بلغ من قوتها أن بعثت في نفوس أحبار اليهود الفزع من قوة المرأة، وهم يلومونها، كما يلومها الآباء المسيحيون، لأنها أطفأت "روح العالم" بسبب تشوف حواء المنبعث عن ذكائها. وكانوا يرون أن المرأة "خفيفة العقل" ، وإن كانوا يقرون لها بأنها وهبت حكمة غريزية لا وجود لها في الرجل. وهم يأسفون أشد الأسف لما جبلت عليه المرأة من ثرثرة: "لقد نزلت على العالم عشرة مكاييل من الكلام؛ أخذت المرأة منها تسعة، وأخذ الرجل واحداً". ونددوا بأنهماكها في السحر وما إليه من الفنون الخفية(102)، وفي الأصباغ والكحل. ولم يكونوا يرون بأساً في أن ينفق الرجل بسخاء على ملابس زوجته، ولكنهم كانوا يطلبون إليها أن تجمل نفسها لزوجها لا لغيره من الرجال. وفي القضاء-على حد قول أحد الأحبار-"تعدل شهادة مائة امرأة شهادة رجل واحد" ؛ وكانت حقوق النساء الملكية محددة في التلمود بالقدر الذي كانت محددة به في إنجلترا في القرن الثامن عشر؛ فمكاسبهن وما يؤول إليهن من ملك لهن حق لأزواجهن(106)، ومكان المرأة هو البيت. ويقول أحد الأحبار المتفائلين إن المرأة في "عصر المسيح الثاني ستلد طفلاً في كل يوم" وإن "الرجل الذي له زوجة خبيثة لن يرى وجه جهنم" ؛ ويقول عقيبا من جهة أخرى إنه ليس أغنى من الرجل الذي له امرأة اشتهرت بأعمالها الطيبة: ويقول أحد المعلمين اليهود إن "كل شيء يصدر عن المرأة". وقد جاء في أحد الأمثال العبرية: "إن كل ما في البيت من نعم وبركات قد جاء إليه عن طريق الزوجة، ولهذا فإن من الواجب على زوجها أن يكرمها... وليحذر الرجال من أن يبكوا المرأة، فإن الله يعد دموعها". ولقد جمع ناشر غير معروف في أبهج جزء من أجزاء التلمود، وهو الرسالة الصغيرة المسماة برقي أبوت Pirke Aboh (الأصول السياسية)، حكم كبار الأحبار الذين عاشوا في القرنين السابقين لمولد المسيح والقرنين التاليين له. وكثيراً من هذه الأمثال يمتدح الحكمة وبعضها يعرفها ويحدد معناها!
قال بن زوما: من هو الحكيم؟ هو الذي يتعلم من كل إنسان... من هو القوي؟ هو الذي يخضع ميوله (الخبيثة)... من يسيطر على روما خير ممن يستولي على مدينة. من هو الغني؟ هو الذي يسر بما قسم له... من هو الكريم؟ هو الذي يكرم بني جنسه... لا تحتقر إنساناً ولا تحتقر شيئاً؛ فليس ثمة إنسان ليست له ساعته، وليس ثمة شيء ليس له مكانه... لقد نشأت طول عمري؛ بين الحكماء، ولقد وجدت أن لا شيء أحسن للإنسان من الصمت....
وقد اعتاد الكوهن إلعِزَر أن يقول: مثل من تزيد أفعاله على حكمته، كمثل شجرة كثرت فروعها وقلت جذورها، إذا هبت عليها الريح اقتلعتها وألقتها على وجهها... أما من تزد حكمته على أفعاله فمثله كمثل شجرة قلت أغصانها وكثرت جذورها لو أن رياح العالم كلها هبت عليها لما زحزحتها من مكانها.
ليس التلمود من التحف الفنية، ذلك بأن جمع أفكار ألف عام كاملة ووضعها في مجموعة مترابطة متناسقة عمل لا يقوى عليه حتى مائة حبر من الأحبار الصابرين. وما من شك في أن كثيراً من المقالات قد وضعت في غير موضعها من الكتاب؛ وأن عدداً من الفصول قد وضع في غير المقالات التي يجب أن يوضع فيها، وأن موضوعات تبدأ، ثم تترك، ثم تبدأ من جديد على غير قاعدة موضوعة. وليس الكتاب ثمرة تفكير بل هو التفكير نفسه، فكل الآراء المختلفة قد دونت فيه وكثيراً ما نترك النقطة المتعارضة دون أن تحل وتفسر. وكأننا قد اجتزنا خمسة عشر قرناً من الزمان لننصف إلى نقاش أشد المدارس إخلاصاً ونستمع إلى عقيبا ومإير ويهودا وهنسيا ورب في أثناء جدلهم العنيف. وإذا ما ذكرنا أننا فضوليون متطفلون، وأن هؤلاء الرجال وغيرهم قد اختطفت ألفاظهم العارضة اختطافاً من أفواههم وقذف بها في نصوص لم تكن معدة لها، ثم أرسلت تجلجل خلال القرون الطوال، إذا ذكرنا هذا استطعنا أن نعفو عما نجده في هذه الأقوال من جدل، وسفسطة، وأقاصيص غير صادقة، وتنجيم وحديث عن الجن والشياطين، وخرافات، ومعجزات، وأسرار الأعداد، وأحلام وحي، ونقاش لا آخر له يتوج نسيجاً مهلهلاً من الخيالات والأوهام، والغرور الذي يغريهم ويأسو جراحهم ويخفف عنهم آلام آمالهم الضائعة.
وإذا ما اشمأزت نفوسنا من قسوة هذه القوانين، ومن دقة هذه النظم وتدخلها فيما لا يصح أن تتدخل فيه، وما يجازي به من يخرقها من شدة وبطش، فإن من واجبنا ألا تحمل هذه المسألة محمل الجد، ذلك أن اليهود لم يدعوا قط أنهم يطيعون هذه الوصايا كلها، وأن أحبارهم كانوا يغضون أبصارهم عما يجدونه في كل صفحتين من كتابهم من ثغرات بين نصائحهم التي تدعو إلى الكمال وبين ما في الطبيعة البشرية من ضعف خفي. وفي ذلك يقول أحد الأحبار الحذرين: "لو أن إسرائيل قد حرصت الحرص الواجب على سبت واحد لجاء ابن داود من فوره". ولم يكن التلمود كتاب قوانين يطلب إلى اليهود إطاعتها جملة وتفصيلاً، بل كان سجلاً لآراء الأحبار، جمعه جامعوه ليهدوا به الناس إلى التقي على مهل، ولم تطع الجماهير غير المثقفة إلا قلة مختارة من الأوامر التي جاءت بها الشريعة.
ويهتم التلمود اهتماماً كبيراً بالشعائر الدينية، ولكن بعض هذا الاهتمام كان رد فعل من اليهود لما بذلته الكنيسة المسيحية والدولة من محاولات لإرغامهم على التخلي عن شريعتهم. ولقد كانت هذه الشعائر سمة تميزهم، ورابطة تجمع شتاتهم وتصل بين مختلف أجيالهم، وشعاراً يتحدون بع عالماً لا يعفو قط عنهم. وإنا لنجد في مواضع متفرقة من مجلدات التلمود العشرين كلمات حقد على المسيحية، ولكنها حقد على مسيحية نسيت رقة المسيح وظرفه، مسيحية اضطهدت المتمسكين بشريعة أمر المسيح أتباعه بالعمل بها، مسيحية يرى أحبار اليهود أنها حادت عن مبدأ التوحيد جوهر الدين القويم وأساسه الذي لا يتبدل. وإنا لنجد بين هذه الشعائر والطقوس المعقدة، وهذا الجدل الشائك الطويل، مئات من النصائح السديدة، والبصيرة النفسانية، تتخللها في بعض الأحيان فقرات تعيد إلى الذاكرة جلال كتاب العهد القديم أو الحنان الصوفي الذي تراه في العهد الجديد. وإن ما يمتاز به اليهودي من فكاهة شاذة غريبة الأطوار لتخفف عنه عبء هذا الدرس الطويل. انظر مثلاً إلى ما يقوله أحد أحبارهم من أن موسى دخل متخفياً إلى الحجرة التي يلقي فيها عقيبا دروسه، وجلس في الصف الأخير، ودهش من كثرة القوانين التي استنبطها المعلم الكبير من الشريعة الموسوية، والتي لم يحلم بها قط كاتبها.
ولقد ظل التلمود أربعة عشر قرناً من الزمان أساس التربية اليهودية وجوهرها. وكان الشاب العبراني ينكب عليه سبع ساعات في كل يوم مدى سبع سنين، يتلوه ويثبته في ذاكرته بلسانه وعينه؛ وكان هو الذي يكوِّن عقولهم ويشكِّل أخلاقهم بما تفرضه دراسته من نظام دقيق، وبما يستقر في عقولهم من معرفة، شأنه في هذا شأن كتابات كنفوشيوس التي كان يستظهرها الصينيون كما يستظهر اليهود التلمود. ولم تكن طريقة تعلمه مقصورة على تلاوته وتكراره، بل كانت تشمل فوق ذلك مناقشته بين المدرس والتلميذ، وبين التلميذ والتلميذ، وتطبيق القوانين القديمة على ما يستجد من الظروف، وقد أفادت هذه الطريقة حدة في الذهن، وتقوية للذاكرة، وتثبيتاً للمعلومات، ميزت اليهودي من غيره في كثير من الميادين التي تتطلب الوضوح، وتركيز الذهن، والمثابرة، والدقة، وإن كانت في الوقت نفسه قد عملت على تضييق أفق العقل اليهودي والحد من حريته. ولقد روض التلمود طبيعة اليهودي الثائرة المهتاجة، وكبح جماح نزعته الفردية، وبث فيه روح العفة والوفاء لأسرته وعشيرته؛ ولربما كان "نير الشريعة" عبئاً ثقيلاً على ذوي العقول السامية الكبيرة، ولكنها كانت السبب في نجاة اليهود بوجه عام.
وليس من المستطاع فهم التلمود إلا إذا درس في ضوء التاريخ على أنه العامل الفعّال الذي أبقى على شعب مطرود، معدم، مظلوم، يتهدده خطر التفكك التام. ولقد فعل أحبار اليهود في تشتتهم الواسع ما فعله أنبياؤهم للاحتفاظ بالروح اليهودية في الأسر البابلي. فقد كان لا بد لهم من أن يعيدوا إليهم عزتهم وكبريائهم، وأن يعملوا على أن يستقر بيتهم النظام، ويثبتوا في قلوبهم الإيمان، ويحافظوا على أخلاقهم القويمة، ويعيدوا إليهم سلامة العقول وصحة الأبدان اللتين حطمتهما المحن الطوال. وبفضل هذا التأديب الشاق، وغرس أصول التقاليد اليهودية في صدر اليهودي بعد اقتلاعها، عاد الاستقرار وعادت الوحدة، عن طريق التجوال في أطراف القارات والأحزان خلال القرون الطوال. ولقد كان التلمود على حد قول هيني Heine وطناً منتقلاً لليهود يحملونه معهم أينما ساروا. فحيثما وجد اليهود، حتى وهم جالية واجفة في أرض الغربة، كان في وسعهم أن يضعوا أنفسهم مرة أخرى في عالمهم، وأن يعيشوا مع أنبيائهم وأحبارهم، وذلك بأن يرووا عقولهم وقلوبهم من فيض الشريعة. فلا غرابة والحالة هذه إذا أحبوا هذا الكتاب الذي نراه نحن أكثر تنوعاً واختلافاً مما كتبه مائة كاتب من أمثال منتاني Montaigne. ولم يكفهم الاحتفاظ بالكتاب كله، بل احتفظوا بأجزاء صغيرة منه بحب يصل إلى درجة الجنون، وكانوا يتبادلون قراءة نتف من هذا المخطوط الضخم، وأنفقوا في القرون المتأخرة أموالاً طائلة لطبعه كاملاً، وبكوا حين كانت الملوك والبابوات، والمجالس النيابية تحرم تلاوته، أو تصادره، أو تحرقه؛ وابتهجوا حين رأوا روشلين Reuchlin وإرزامس Erasmus يدافعان عنه، وعدوه في أيامنا هذه أثمن ما تمتلكه معابدهم وبيوتهم، واتخذوه ملجأ وسلوى، وسجناً للروح اليهودية. :fl::fl: