المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اللغة والهوية في إسرائيل



محمدالحربي
04/12/2008, 12:49 AM
اللغةوالهويةفي إسرائيل


صدر عن المركز الفلسطيني للدراسات الاسرائيلية "مدار" في رام الله كتاب جديد بعنوان "اللغة والهوية في اسرائيل"، من تحرير الدكتور محمد امارة. يبحث الكتاب في "الجوانب الديناميكية الفاعلة في ضوء تطور المجتمع الاسرائيلي، ويحاول فحص المفاهيم والابعاد المختلفة لدور اللغة وعلاقاتها بالهوية في اسرائيل".
يضم الكتاب مجموعة من الدراسات بقلم محمد امارة، اليعيزر بن رفائيل، سمدار دونيتسا سميدث، برنارد سبولسكي، عبد الرحمن مرعي، ميري كريسي، اييلت شاحر ونيرة هراتي.

فيما يلي مقدمة الكتاب التي وضعها امارة:

نسمع أنه، على سبيل المثال، الفرنسية هي الفرنسية أو العربية هي العربية. وفقا لهذه المفاهيم - لغوية folk linguistic فإن الصلة بين اللغة والهوية هي مباشرة. حقيقة إن اللغة مكوّن مهم في تعريف الجماعات سواء أكانت جماعات عرقية أم قومية. ولكن كما سنرى لاحقاً فإن العلاقة بين اللغة والهويات الاجتماعية بعيدة عن كونها مباشرة. وتختلف طبيعة هذه الصلة من مجموعة إلى أخرى ومن سياق إلى آخر.

وهذا يقودنا إلى أن نتمعن أولاً في طبيعة اللغة قبل أن نستمر في فحص صلتها بالهوية الاجتماعية. المناهج المختلفة لدراسة اللغة تعتمد على الفرضيات حول طبيعة اللغة. لقد قدمت المناهج المختلفة معلومات قيمة حول طبيعة اللغة. ومع قدوم المناهج الحديثة المرتبطة بفروع المعرفة المتداخلة (inter-disciplinary approaches) أي اللغة النفسي و اللغة الاجتماعي و النفس الاجتماعي للغة و الأنثروبولوجية لم يعد مفهوم اللغة مبسطا وسطحياً. و تعريف المصطلح اللغة لا يأخذ شكلاً مشابهاً، للمناهج المتنوعة تعاريف مختلفة. ولا يوجد معنى للسؤال: >ما هي اللغة؟< لأن هذا السؤال يتلقى الجواب: >اللغة هي اللغة.< إن الأسئلة الأكثر فائدة لبحث اللغة هي: >كيف تبدو اللغة؟< أو >ماذا تستطيع اللغة أن تفعله وماذا لا تستطيع أن تفعله؟< (أي بحث مبنى ووظائف اللغة)، ليست اللغة نظاماً من الإشارات التي تخدم الناس للاتصال؛ فحسب (Hormann,1971 ) هذا فقط إحدى وظائف اللغة. يفحص علماء اللغة الأنثروبولوجيون اللغة كجزء من الثقافة. وفي المقابل ينظر علماء اللغة الاجتماعيون إلى اللغة كشبكة من المعاملات 1967 Gross . وحسب علم النفس الاجتماعي فإن اللغة تحمل مضموناً وهي مضمون بحد ذاتها. اللغة هي واقع وتستعمل لتعزيزه 1987 Giles and Johnson، والأهم من ذلك أن اللغة هي حدث اجتماعي.

تلبي اللغة وظائف عديدة في حياتنا اليومية. إن الوظائف المتنوعة والمتعددة التي يتم تأديتها من خلال استعمال اللغة هي انعكاس ونقل لواقعنا، ويفصّل هارمان الوظائف المتنوعة للغة كالآتي:

بالإضافة إلى إنشاء شبكة للمعرفة حول العالم فإن اللغة تخدم أيضاً للتعبير عن المشاعر والاتجاهات والقيم، لقول الأكاذيب وللمراوغات، للشتم والإهانة، للمديح والتوبيخ. اللغة هي وسيلة تعمل أشياء للناس وتسبب ردود فعل إيجابية وسلبية. تمكن اللغة الشخص بأن يجرب الفرح مثلاً عند سماع اعتراف بالحب، أو إراحة باله أو بالها، مثلاً من خلال كلمات التعزية أو الصلاة. ويمكن أن تكون للكلمات تأثير مدمر، مثلاً عندما تكشف صحيفة عن إشاعة حول فضيحة مزعومة أو يمكن للكلمات أن تؤثر على وجود مجتمعات بكاملها كما هو الحال في الإعلان عن الحرب. إن اللغة وسيلة لنوايا الإنسان ويمكن أن تكون نوايا مستعمليها إيجابية ينتج عنها انسجام في التفاعل أو سلبية ينتج عنها إنشاء التحيز والآراء الثقافية المسبقة.

وبقطع النظر عن طبيعة اللغة وعلاقتها بالناس والمجموعات الاجتماعية فإنه يوجد عدد من الصفات الأساسية للغة جديرة بالذكر بشكل رئيسي من وجهة نظر اجتماعية-نفسية، نجملها في ثلاث نقاط : أولاً، إن اللغة هي الوسيلة الرئيسية للتهيئة الاجتماعية لدى الأطفال. ثانياً، تميز لغة مجموعة الناطقين عن غير الناطقين بها، وبهذا المعنى تستعمل اللغة لإنشاء حدود بشكل فعال في داخل المجموعة وخارجها. وثالثاً، إن المكانة المعطاة للغة المجموعة العرقية من قبل المجتمع تنقل إلى الطفل مكانة المجموعة ككل في المجتمع. (116:1999 Padilla).

ليست طبيعة اللغة فقط جدلية وإنما أيضا الاجتماعية كذلك وبصورة أكبر، إن الهوية الاجتماعية كما طورها بشكل رئيسي (Tajfel) هي >ذلك الجزء من المفهوم الذاتي للفرد الذي يستمد من معرفته (معرفتها) لعضويته-ها في مجموعة (أو مجموعات) اجتماعية، مع القيم والأهمية العاطفية المرتبطة بتلك العضوية< (تاجفل، 63:1978). ومؤخراً فقد أكد الباحثون الآخرون (1997: 1-2 Woodward) إن الهوية الاجتماعية في العالم المعاصر تستمد أبعادها من تعددية المصادر (مثلاً القومية والعرقية والطبقة الاجتماعية والمجتمع والجنس الخ). ويضيف وودوارد (1997: 1-2) >إن الهوية الاجتماعية تعطينا موقعاً في العالم وتعرض الصلة بيننا وبين المجتمع الذي نعيش فيه ... وغالباً يتم تحديدها بالاختلافات أي بماذا ليست هي.< (1997: 1-2).

إن الهويات هي مؤشرات عاكسة للنظم والتغيرات الاجتماعية. الهويات مهمة لكل من الأفراد والجماعات. ويتم عمل تنظيم البيئة الاجتماعية باستعمال الاجتماعية (social categories). ويساعد عمل الفئات الاجتماعية في التقليل من تعقيدات العالم ووضع حدود بين المجموعات المختلفة نحن (المجموعة الداخلية) مقابل هم (المجموعة الخارجية). ولكن علينا أن نتذكر بأن الهويات الاجتماعية ليست ثابتة، ويمكنها أن تتغير فيما يتعلق بالوظائف والأهمية والأدوار.

وكمصطلح فإن للعرقية جذور بشكل أساسي في الانثروبولوجيا وعلم الأعراق ( 1999 Leibkind). ويتم تعريف العرقية غالباًً على أساس معايير موضوعية مثل الخصائص البيولوجية والجغرافية واللغوية والثقافية أو الدينية. ولكن المعايير الذاتية تبدو أكثر أهمية من المعايير الموضوعية. وتعرف العرقية ببساطة بأنها مسألة اعتقاد ذاتي بالسلالة المشتركة (لايبكند، 140:1999).

ومن المقبول به على نطاق واسع بأن (1970 Barth) الذي استخدم الطريقة الذاتية قد أرسى الأسس للفهم الحديث للعرقية، أنه من السهل >الانتقال من الطريقة الثابتة إلى الطريقة التفاعلية للعرقية< بتقديمه >للعرقية أو العرقية كجانب من التنظيم الاجتماعي وليس الثقافة< ( و2:1994 Vermeulen and Govers ). وهكذا فإن الحدود العرقية هي التي تحدد المجموعة وليس القضايا الثقافية المرتبطة بها (بارث،1970). وبدلاً من وضع قائمة بالمعايير الموضوعية، فإن الاهتمام الرئيسي هو المحافظة على الحدود وتشكيلها ( كادت،2000 de Kadt ). من بعض الأسئلة التي تثير التحدي حول الجماعات العرقية هي: كيف يتم إنشاء الحدود بين الجماعات والمحافظة عليها؟ وأين وكيف يرسم الناس الحدود الفاصلة بينهما؟

لقد ادعى كثير من الباحثين خصوصاً الليبراليين بأن العرقية ميتة. وكما تقول -كانغاس (54:1999 Skutnabb-Kangas):

لقد أُعلن عن وفاة العرقية عدة مرات خلال هذا القرن (القرن العشرين) خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية. لقد ادعى الباحثون الليبراليون (ويستمر الكثيرون في الادعاء) بأنها كانت ميزة تقليدية عاطفية ستختفي مع و الحضرية و العولمة. وسيتم استبدال الهويات العرقية بولاءات وهويات أخرى: مهنية واجتماعية وجنسية وجماعة المصالح والهويات المتعلقة بالدولة والعولمية وهكذا دواليك. وادعى الباحثون الماركسيون بأن التضامنات المتعلقة بالطبقات الاجتماعية التي تخطت الحدود القومية سوف تحل محل العرقية: سوف تتحد البروليتاريا الدولية ضد الرأسمالية العالمية. يعلن الآن الباحثون المحدثون أنه يجب أن لا تكون لنا هويات دائمة وإنما فقط هويات مرنة مؤقتة ومتنقلة: كل شيء صلب يذوب في الهواء.

ولكن الهويات العرقية وخصوصاً الهويات العرقية اللغوية هي صلبة ومتينة ومفعمة بالحياة. والعرقية ليست ميتة على الإطلاق، والصحيح هو العكس تماماً.

وترتبط العلاقات العرقية والتسامح حيال الهويات الأخرى بدرجة الأمان التي تتمتع به المجموعة ونظرة أفراد المجموعة حيال هويتهم. واستنتج 50:1986 Lambert, Mermigis, and Taylor) بأنه >كلما كان أعضاء المجموعة أكثر أمناً وإيجابية حول هويتهم فإنهم يكونون أكثر تسامحاً مع المجموعات الأخرى<.

وبعد أن فحصنا بإيجاز طبيعة اللغة ومظاهر الهوية الاجتماعية بمعزل فنحن الآن بحاجة لتناول طبيعة العلاقة بينها، ومن الواضح أن هنالك صلة بين اللغة والهوية الاجتماعية، ولكن ما هو غير واضح هو طبيعة العلاقة: هل هي مباشرة؟ هل هي سببية؟ ماذا يؤثر على ماذا؟ بأية درجة؟ هذه بضعة أسئلة يمكن إثارتها كمقدمة للنقاش الذي سنعرضه لاحقا.

لقد تم إرساء الصلة الوثيقة بين اللغة والهوية القومية في نهاية القرن التاسع عشر مع قدوم (1996,Shohamy). ويعتقد أن اللغة هي أحد أهم مؤشرات الفردية والجماعية. أنها أحد المكونات الرئيسية التي بها تعرف المجموعات وتشكل هويتها وهي تؤثر أيضا على العلاقات بين المجموعات العرقية المختلفة ( 1988 Edwards ؛ 1989 Feuerverger ؛ 1977 Giles؛ تاجفل،1977). وبهذا الصدد يقول بوتش >إن اللغة هي غالباً أكثر رموز العرقية بروزاً لأنها حملت الماضي وتعبر عن الاتجاهات والطموحات الحاضرة والمستقبلية< (2000: 25 Bosch).

وهنالك ادعاء أيضاً بأن اللغة هي إحدى المكونات الرئيسية التي تستعملها المجموعات كرمز للهوية و الثقافي (غايلز وآخرون، 1977 Giles et al). وبالإضافة لذلك فإنه يتم إدراك اللغة بأنها عامل موحد لثقافة معينة ورمز قويً للهوية الجماعية (شوهامي و- شميدت، 1998 Shohamy and Donitsa-Schmidt).

ولكن طبيعة العلاقة بين اللغة والهوية ليست دائماً واضحة، وهنالك الكثير من الأسئلة حول طبيعة هذه العلاقة، والتي لا إجابات قاطعة عليها.

إن موضوع العلاقة ما بين اللغة والعرقية موضوع جدلي. ويوجد اتجاهان أساسيان ، ينكر الاتجاه الأول الصلة المباشرة والضرورية بين اللغة والهوية العرقية، ويدعي أن العلاقة بينهما عارضة (مثلاً و1987 Appel and Muysken). ويشدد الاتجاه الثاني بأن اللغة وسيلة للهوية العرقية وهي المعيار الأساسي إلى جانب التراث الثقافي والفرضيات والقيم والمعتقدات (مثلاً 1977 Fishman).

وبالرغم من أننا قد أظهرنا بأن اللغة هي مكّون في غاية الأهمية للهوية العرقية فإنه من الواضح بأن أهميتها تختلف باختلاف الأوضاع والسياقات، وأهميتها هي أقل بالنسبة لبعض المجموعات وأكبر لمجموعات أخرى. وتعتمد الرابطة بين اللغة والهوية على السياق الاجتماعي المتعلق بالجماعات اللغوية المقصودة. هذا يعني أن أهمية اللغة بالإمكان أن تزداد أو تقل بالنسبة للمجموعة نفسها حسب الظروف والسياقات الاجتماعية. ليست اللغة المعيار المهم الوحيد وليست بالضرورة أهم معيار لجميع المجموعات الاجتماعية. (لايبكند، 1999 Leibkind).

* اللغـة والهويـة فـي إسرائيل

لقد أدت نهاية العثماني في العام 1917 إلى تغييرات بعيدة المدى في جميع النواحي ومن ضمنها اللغة. لقد عزّز البريطاني في فلسطين مكانة اللغة العبرية التي ترسخت آنذاك كلغة تم إحياؤها للمجتمع اليهودي وأصبحت رسمية إلى جانب العربية.

وأثناء فترة الانتداب البريطاني في فلسطين كانت اللغة الإنكليزية اللغة الرئيسية للحكومة. ولكن وبالرغم من حقيقة أنه كانت للمجتمعات العربية واليهودية أنظمة مدارس مختلفة، فقد كان للعرب اتصال لغوي مع اليهود الذين، بشكل عام، تعلموا اللغة العربية.

إن إحياء اللغة العبرية ودخولها الحلبة كان عنصراً رئيسياً في تغيير اللغوي (language landscape) الاجتماعي في فلسطين. وبفضل تأثير الأيديولوجية الصهيونية، أصبحت اللغة العبرية الرمز الرئيسي والناقل لهوية قومية جديدة بينما تم تهميش الهويات القديمة التي أحضرها المهاجرون اليهود إلى فلسطين من الشتات، وكذلك تم تهميش اللغات الأم أو تركها كلياً (شوهامي، 82:1999).

إن الصلة بين اللغة والهوية كما تبنتها أيديولوجية الحركة الصهيونية عنت اللغة. وقد شجعت هذه الأيدلوجية أو بالأحرى ضغطت على المهاجرين اليهود إلى إسرائيل بأن يتعلموا اللغة العبرية كاللغة الرئيسية. وقد شجعت هذه الأيديولوجية الانتقال اللغوي من لغاتهم الأصلية إلى العبرية وقد نظر إلى المحافظة على اللغات الأم وحتى اللغات الأخرى بأنه تعبير عن الكراهية ومقاومة الهوية القومية الجديدة (شوهامي، 4991؛ وشوهامي، 1999 Spolsky and Shohamy), وفي هذا الواقع فقد تم النظر إلى اللغات الأخرى كعوائق أمام نجاح الأيديولوجية الصهيونية.

وبدون شك فقد كانت العبرنة (الأيدلوجية الأحادية اللغة للعبرية) ناجحة جداً. فقد دعمت الحكومة المركزية اللغة العبرية بكل الوسائل. وعبر السنين أصبحت اللغة العبرية اللغة الرئيسية في كل من المجالات الخاصة والعامة. فقد أصبحت اللغة العبرية اللغة الرئيسية للاتصال في إسرائيل عندما تبنت أجيال جديدة من الإسرائيليين والمهاجرين بسرعة >اللغة العبرية كلغة وطنهم ولغتهم الأم في عملية اتخاذ هويتهم الجديدة كيهود إسرائيليين.< (شوهامي 83:1999). وقد تسربت العبرنة أيضاً بنجاح إلى اللغوي للفلسطينيين في إسرائيل (انظر الفصل الثالث في هذا الكتاب).

ولكن بالرغم من نجاح سيطرة اللغة العبرية، فإن بعض الجماعات (بشكل رئيسي الفلسطينيون في إسرائيل وبعض الجهات الأرثوذكسية المتطرفة (الحريديم) والمهاجرون الجدد من روسيا في التسعينيات) استمروا في استعمال اللغات الأخرى وحافظوا على هويات أخرى، وان كان ذلك لأسباب ودوافع متنوعة.

ويدعي سبولسكي وشوهامي (1999) أن الأيديولوجية أحادية اللغة لإسرائيل - >لغة واحدة، شعب واحد< - تتغير، وإن البلاد تظهر إشارات لتسامح أكبر حيال اللغات المتعددة. وبالرغم من أن الادعاء الذي أثاره سبولسكي وشوهامي قوي جداً (لأن اللغة العبرية هي اللغة الوحيدة والمسيطرة في معظم المجالات العامة) إلا أنه توجد بعض الإشارات لغوي (language diversity) أكبر في المجالات العامة والخاصة في إسرائيل عما كان عليه الحال في سنوات مضت.

لقد طرأ في السنوات القليلة الماضية اعتراف وشرعية متنامية بحقيقة تعدد اللغات في إسرائيل. إن اللغة العربية التي تم إدراكها وممارستها كلغة الأمن بدأت تتغير. وتأتي التغيرات من داخل ومن خارج إسرائيل. وبعد معاهدات السلام مع بعض الدول العربية والفلسطينيين بدأت تسمع أصوات في إسرائيل في الدوائر المختلفة للحاجة إلى تعزيز وضع تعلم اللغات ومكانة اللغة العربية في إسرائيل. وتبذل بعض الجهود لتعليم العربية في مساق موسع وذلك بشكل رئيسي للاتصال والأعمال وتعليم العربية في المدارس اليهودية بشكل أكثر تكثيفاً. وثمة ضغط آخر قادم من المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. فإنهم يريدون من الدولة أن تعترف بالمكانة الرسمية للغة العربية كأمر واقع في المجالات العامة وليس فقط بشكل قانوني على المستوى المعلن. النشاط الرئيسي للفلسطينيين في إسرائيل في هذا المجال يعتمد إلى حد بعيد بأخذ الحالات اللغوية إلى المحكمة العليا.

وثمة تحدٍ آخر قادم من اللغة الإنكليزية . فمع تزايد والاتصال الدولي فإن القوة غير المسبوقة للغة الإنكليزية في العالم والعلاقة القوية والفريدة مع الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة، فقد ازدادت الحاجة إلى العمل الفعال في العالم من خلال اللغة الإنكليزية وهكذا فإن اللغة الإنكليزية تتحدى فعالية أيديولوجية أحادية اللغة العبرية.

وتحدٍ آخر قادم من الروسية. يدعي عدد من الباحثين (أنظر، على سبيل المثال، وليشم، 2000) بأن الهجرة الروسية إلى إسرائيل في التسعينيات كانت بشكل رئيسي براغماتية وليست أيديولوجية، أي أنهم يقولون بأن الهجرة إلى إسرائيل كانت من أجل فوائد اجتماعية - اقتصادية. وعلى عكس من المهاجرين الآخرين إلى إسرائيل في الماضي فإن هؤلاء المهاجرين يشعرون بثقة أكبر في لغتهم الأم ويستعملونها لأغراض متنوعة وليس فقط في البيت، وإنما أيضاً في المجالات العامة عندما يكون ذلك ممكناً، مثلاً على لافتات حوانيتهم وهم أيضاً يعبرون عن فخرهم بلغتهم الأم وثقافتهم.

إن الأجانب هم قضية رئيسية في الأمور الاجتماعية - السياسية في إسرائيل اليوم ومن ضمنها اللغة، ويقدر عدد هؤلاء العمال بأكثر من ثلاثمائة ألف عامل. وفي مخاطبتهم يستعمل مشغلوهم لغة عبرية مبسطة (Hebrew Pidgin) أو اللغة الإنكليزية إذا كان يعرفها كل من المشغل وصاحب العمل.

إن إحدى القضايا الرئيسية التي سيحاول هذا الكتاب أن يعالجها هي العلاقات بين الأقليات والأغلبية في إسرائيل كما تنعكس لغوياً. وقد تم تحديد أربع تثاقف بديلة (acculturation) في اتصال الأقليات بالاغلبيات (بري، 1990 Berry) : الدمج (integration)، الاستيعاب (assimilation)، الانفصال (separation)، أو التهميش (marginalization). ففي الدمج، يتم الاحتفاظ على درجة معينة من الثقافة الأصلية بينما يتحرك الفرد ليشارك كجزء لا يتجزأ من الاجتماعية الأكبر (لايبكند، 142:1999). وفي الاستيعاب يتم التخلي كلياً عن المظاهر الثقافية الأصلية (مثل اللغة والدين) وتفضيل المظاهر الثقافية للأغلبية. وفي الانفصال لا يتم قبول مظاهر ثقافة الأغلبية ويتم رفضها كلياً تقريباً وتثمن عالياً ثقافة الأقلية. وفي التهميش فإنه لا الأغلبية ولا الأقلية تستطيع أن تقدم هوية مقبولة. وفيما يتعلق باللغة فإن هذا يمكن أن يعني خسارة الأصلية بدون إحراز كافٍ للغة المسيطرة (لايبكند، 142:1999).

ولكن التصنيف المذكور أعلاه لا يعني بأن الأقليات تستعمل استراتيجية واحدة فقط أو غيرها. يمكن لأعضاء الأقلية أن يستعملوا استراتيجيات مختلفة في نواحي مختلفة من الحياة. أي إستراتيجية واحدة في مجال واحد واستراتيجية أخرى في مجال آخر. مثلاً السعي إلى الاستيعاب الاقتصادي في العمل، و اللغوي (عن طريق اللغة). ما هي استراتيجيات التثاقف التي تستعملها الأقليات المختلفة في إسرائيل في اتصالها مع الأغلبية؟ هل يستعملون استراتيجيات مختلفة؟ لماذا؟ ما هي نتيجة استعمال استراتيجيات مختلفة على المشهد اللغوي لإسرائيل؟ ستكون في هذا الكتاب محاولة للإجابة على هذه الأسئلة.

بإيجاز فإن الصلة بين اللغة والهوية في إسرائيل تعطينا فرصة جيدة للوقوف عن كثب حول التطور الديناميكي للمجتمع الإسرائيلي. وقد تم تضمين سبعة مقالات لوصف ومناقشة هذه الصلة. وقد تم اختيار عدد من المواضيع لإلقاء الضوء على هذه الصلة. ونحن ندرك التحيز في تضمين موضوع واحد واستثناء آخر. إن الانتقائية بطبيعتها متحيزة. ولكننا نأمل بمساعدة المقالات المختارة أن نتمكن من إلقاء الضوء على تأثيرات وانعكاسات اللغة العبرية في المشهد اللغوي الإسرائيلي من جانب، والنسيج اللغوي الاجتماعي المتطور مع إشارات التغيير والتحديات المحتملة لأحادية اللغة العبرية من جانب آخر.

المقال الأول لعبد الرحمن يلقي الضوء على الأسباب التي أدت إلى إحياء العبرية المعاصرة ودورها في بلورة اليهودية الحديثة من وجهة نظر لغوية - اجتماعية. بينت لنا هذه الدراسة أن العبرية أصبحت اللغة الأساسية لليهود الذين قدموا إلى إسرائيل وتركوا لغاتهم الأصلية.

في المقال الثاني يحاول - رفائيل أن يرسم لنا صورة لغة اليديش ووضعها في إسرائيل. لغة اليديش كانت إحدى اليهودية التي ازدهرت بين الغربيين في الشتات، وكانت هنالك حرب بين العبرية واليديش حول اللغة التي ستكون اللغة القومية والرسمية للوجود اليهودي - الصهيوني في فلسطين، ومن بعد ذلك في دولة إسرائيل. لقد بينت دراسته بوضوح اضمحلال هذه اللغة في إسرائيل. هذه اللغة بطريقها إلى الزوال وفقط كبار السن يستعملوها من اليهود العلمانيين، وخاصة أولئك من الطبقات الدنيا. كذلك فان هذه اللغة تنتمي إلى اللغات التي لها قيمة منخفضة في اللغات الإسرائيلي. لا شك أن العبرنة انتصرت وجعلت اليديش لغة هامشية وليس لها بروز في المشهد اللغوي لليهود العلمانيين. في المقابل هذه اللغة ما زالت لغة مهمة جدا الحريديم، رغم أنها تواجه منافسة شديدة من قبل العبرية. بسبب بعد الحر يديم عن الحضارة المهيمنة في إسرائيل وعدم التزامهم بها فانهم يحافظون على لغة اليديش كلغة البيت و التدريس.

أما المقال الثالث، لمحمد يفحص اللغوي - الاجتماعي للفلسطينيين في إسرائيل. المحور الأساسي الذي تتبناه الدراسة بأن نسيجهم اللغوي الاجتماعي هو انعكاس لوضعهم الاجتماعي - السياسي الفريد في العبرية. وبالرغم من وجود عدة لغات مهمة في مخزونهم اللغوي ركزت الدراسة بشكل رئيسي على العربية والعبرية نظراً للتأثيرات الاجتماعية - السياسية واللغوية بعيدة المدى. بداية يعرض بإيجاز الوضع اللغوي ومن ثم يعطي خلفية عامة عن المجتمع العربي الفلسطيني في إسرائيل. ويتبع ذلك وصف مفصل لمخزونهم اللغوي، بالتركيز على مكان العربية في إسرائيل وخصائص الصيغة العربية الفلسطينية المتطورة، ويتم بعده وصف ومناقشة اللغة العبرية ومكانها وتأثيراتها بين الفلسطينيين. وأخيراً كانت هنالك محاولة لرسم صورة للسياسات التربوية اللغوية في كلتا اللغتين.

أما برنارد سبولسكي فهو يفحص في المقال الرابع دور الإنكليزية في الإسرائيلية. فهو يبين أن للإنكليزية دور مشابه جدا لمعظم الدول في العالم والتي لها لغة قومية متطورة وراسخة. فهي مؤشر لثقافة افضل ومكانة اجتماعية-اقتصادية عالية، وشرط ضروري للوصول إلى الأعمال ذات المكانة العالية. ولكن لا توجد مؤشرات بان هذه اللغة تهدد القبول العام للغة العبرية. أما المقال الخامس لسمدار - سميدث فيعالج السلوك اللغوي والهوية العرقية والمواقف لدى المهاجرين الروس في إسرائيل،. رغم أنها لم تجد فقداناً سريعاً للهوية العرقية في الجيل الأول بين المهاجرين الروس، كما عبرت عنه مواقفهم الإيجابية حيال الحفاظ على اللغة الروسية، إلا أنها وجدت مؤشرات بارزة لإمكانية الانتقال اللغوي (من الروسية إلى العبرية) في الأجيال القادمة. فمن بين الأسباب البارزة للتأثير على السلوك اللغوي هي: الثقافة الرسمية إلزامية، الخدمة العسكرية، دخول العبرية إلى مجال البيت . فالباحثة تتوقع انه بدون تدخل رسمي ستسمر عملية اللغوي وفي مرحلة ما سيتبعون ممر الهجرات الأخرى لإسرائيل وذلك بفقدان لغتهم الأصلية والانتقال تماما إلى اللغة العبرية.

المقال السادس لميري ومحمد أمارة يبحث دمج وانتشار مفردات من اللغة العبرية إلى الأمهرية التي يتكلمها غالبية السكان الأثيوبيين القاطنين في وهي مدينة إسرائيلية جنوبية. استخدم الباحثان، بشكل رئيسي، طريقة توافر المفردات (availability technique) لجمع المعطيات من عينة طبقية مؤلفة من ستين شخصا من سكان المدينة. يظهر التحليل بأن دمج المفردات يختلف وفقا للمجالات (domains): انتشار أكبر في الحديثة منه في التقليدية . ويظهر تحليل المؤشرات الاجتماعية - الديموغرافية بأن المصادر الرئيسية للانتشار هم الأثيوبيون الشباب الذي لهم اتصال واسع مع الإسرائيليين الناطقين بالعبرية، الطلبة والمهنيون المتعلمون. وتكشف الدارسة أيضاً عن حيوية منهج توافر المفردات في قياس دمج المفردات اللغوية.

أما المقال السابع والأخير في هذا المجلد، لايلت ونيره فيبحث في العمال الأجانب والجوانب اللغوية في إسرائيل. الأبحاث في هذا المجال ما زالت في بدايتها، ولمعرفتي الجيدة هذا هو أول مقال في هذا المجال في اسرائيل. إن وجود اكثر من ثلاثمائة عامل أجنبي في إسرائيل من خلفيات عرقية مختلفة خلق وضعاً اتصالياً خاصاً والذي لم يكن موجودا في إسرائيل إلى الآن: عبرية مبسطة (pidginized Hebrew) بينهم وبين مشغليهم، وكذلك استعمال الإنكليزية كلغة الاتصال الواسع بينهم وبين المجتمع الإسرائيلي. النمط اللغوي للاتصال مع المجتمع الإسرائيلي يختلف باختلاف البلد الذي قدم منه العمال، منهم من يستعمل بالأساس الإنكليزية والآخرون يستعملون العبرية المبسطة. ما من شك أن العمال الأجانب يشكلون تحديا اخر للبيئة اللغوية والمشهد اللغوي في إسرائيل.

بيسان مصاروة
04/12/2008, 12:19 PM
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

واخيرا صدر ايضا كتاب لنفس المؤلف

أمارة، محمد حسن، 1960-


اللغة في الصراع :قراءة تحليلية في المفاهيم اللغوية حول الصراع العربي-الاسرائيلي /محمد أمارة، عبدالرحمن مرعي

http://www.arabswata.org/forums/imgcache/1921.imgcache.jpg


يتناول هذا الكتاب مصطلحات لغوية وليدة الصراع في منطقة الشرق الأوسط. إن الكتاب ليس معجمًا يُعنى بتفسير المفاهيم اللغوية، وإنما يتمحور في مناقشتها وتحليلها لغويًا، تاريخيًا، وسياسيًا، وفي مدى وكيفية استخدامها من قِبل أطراف النزاع.

بيّن الكتاب أن اللغة تعدّ إحدى الأدوات الرئيسية في الصراع العربي- الإسرائيلي، وتساهم في تشكيله من خلال ما نسميه "الامبريالية اللغوية" من جهة، "والاستشراق اللغوي" من جهة أخرى. فاللغة تساهم في بناء الرواية، التي تشكّل أهم المكونات للحفاظ على الذاكرة الجماعية. لقد سيطر الإسرائيليون على أرض فلسطين، ليس فقط من خلال الحسم العسكري والسياسي فحسب، وإنما أيضا عبر إحياء اللغة العبرية. ولكن بالرغم من خسارة العرب والفلسطينيين في كثير من الميادين السياسية والعسكرية والإعلامية في مواجهة إسرائيل، وفقدان الأرض والسيادة عليها، إلا أن الذاكرة الجماعية النابضة لدى العرب، والإيمان بأن لهم حقًّا تاريخيًّا ودينيًّا وجغرافيًّا، شكلت حاجزًًا منيعًًا أمام شطب الذاكرة، وشطب الرواية، وشطب الهوية واللغة العربية.

إن المفاهيم اللغوية التي أنشأتها الانتفاضات الفلسطينية، والمقاومة اللبنانية في حربها ضد إسرائيل 2006، وبناء العرب- الفلسطينيين من مواطني إسرائيل تصورات رؤيوية خاصة بهم، بيّنت بوضوح أن للغة دورًا مركزيًّا في الصراعات المؤدلجة عامة، وفي منطقة الشرق الأوسط خاصة، التي لم يحسم فيها الصراع بعد.


شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .