المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تذكرة مقتضبة في المسار التاريخي لتشكل التوراة



عيسى بن ضيف الله حداد
08/12/2008, 10:20 AM
تذكرة مقتضبة في مسار التشكّل التوراتي- نذكّر هنا بما أنجزه البحث العلمي التاريخي من نتائج في الحقل التوراتي، حيث يعلن، أن مسار تشكّل التوراة والأسفار الملحقة بها قد مر عبر عمل طويل امتد على عشرات القرون، واصل فيه العمل أفواج متتالية من فرق الكتبة. وعلى سبيل التبسيط نضع هذا المسار في نسق موزع على ثلاثة أطوار:
الطور القديم ( المفترض - بين 2200 و 333 ق م) – أظهر البحث التاريخي وجود أكثر من مصدر، مختلف النشأة والنزعة. ونظراً لبعد المدة عن عهد البداية، فقد ران الخلاف على هوية هذه المصادر وتعددها، قال فريق بالوثائق المتعددة (نظرية الوثائق)، وفريق آخر زعم بوجود متممات تتالت تباعاً لترفد مأثورات أولية (نظرية المتممات)، وآخر آخر انطلق من وجود وحدات أولى ترابطت فيما بينها ( نظرية الوحدات الأولية ). لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قد أشتق وأنشق عن هذه النظريات الأساسية تفرعات وإضافات وتفصيلات، مما يفصح عن صعوبة هذه المسألة وتعقد شؤونها.
بكل الحالات، ثمة ما هو مشترك تجمع عليه هذه النظريات، يتحدد في وجود طور شفوي، سادت فيه حكايات أولية تنقلت عبر قرون وقرون متتالية تناولت سير آباء أوائل. جاءت على غرار ما كان في ربوع الشرق القديم. كما يظهر اتفاق آخر له صلة بأهمية الدور ذي تنطع به الطور البابلي والفارسي من شأن في وضع الأساس الأولي للفكر التوراتي. ألا يمكن والحالة هذه افتراض وجود منطلقات وأفكار مختلفة بين هذه المصادر المتعددة.. ألا يمكن أن يكون كل مصدر قد مثل في عهده توراة بحد ذاتها..! ومن ذا الذي يستطيع أن يحدد بشكل مدقق محتوى تلك التوراتات..! ومن ذا الذي بوسعه أن يحدد ماهية الطور الشفوي الأصلي.!!. ومن ذا الذي يستطيع أن يضع منهجاً دقيقاً يحدد معالم التطوّر والإضافات التي لحقت بتلك المأثورات المتداولة عبر الأماسي الشتوية في جلسة عائلية حول نار دافئة في تلك العصور السالفة..!! (وفق تعبير أحد الباحثين الكبار)..
أجل فمهما جلنا ودرنا في متن هذه النصوص للكشف عن حقيقة جذورها أو مصادرها القديمة، فلن نعثر إلا على قبض من الافتراضات.. لأننا إن شئنا أو أبينا نكون كمن يغوص في بحر متلاطم من المبهم، الذي لا يتضمن إلا على قبس من المؤشرات التائهة هنا و هناك..
طور حضور الوثائق الأولى ( مخطوطات قمران- 250 ق م 135 م ) - تعتبر هذه المخطوطات الشاهد التاريخي الأول لحضور مادي لوثائق ذات صلة بالكتاب العبري المقدس.
في هذا الصدد، أفصحت المعطيات المستمدة هذه المخطوطات عن وجود خلافات هامة بينها، بالإضافة لوجود مخطوطات أخرى على هامشها، تتجاوز كثيراً بحجمها وتنوعها، في ما قد تم اعتباره لاحقاً أدباً مقدساً. موجز ما يمكن القول في معطيات هذه المخطوطات، يمكن تلخيصه في ما قد توصلت إليه أبحاث فرانك كروس من نتائج، حيث أعلنت عن وجود نمطين من النصوص: نصوص بدئية قديمة ( في كهوف قمران، بين عام 250 ق م إلى 68 م ) تبدي اختلافات كبرى فيما بينها، بحث يمكن توزيعها على عدد من المحاور المتباينة الدرجات من حيث الافتراق والاتفاق، دعاها كروس بنصوص المواقع، مشيراً إلى مراكز ثلاثة: المواقع الفلسطينية والمصرية والبابلية. نصوص أحدث ( في كهوف البحر الميت، تمتد من عام 70 حتى عام 135 م )، تبدي هذه النصوص عن ظهور لنصوص تحمل بصمات شديدة الصلة ما يمكن أن يسمّى بالكتاب المقدس العبري الحبري الرسمي. دفعت هذه المعطيات فرانك كروس لاعتبار، كون هذا النص لم يسيطر على المحيط اليهودي العام إلا في الوقت الذي تعممت فيه سيطرة الحزب الفريسي على الملأ اليهودي ( منذ نهاية القرن الميلادي الأول). بينما قد ساد قبلئذ العديد من النصوص المتمايزة في أوساط التيارات العبرية المتصارعة. ويرى كروس، كأن في الأمر تفاهم قد تم، بين جماعة حزب المركز الفلسطيني وجماعة حزب المركز البابلي، على إصدار القرار الرسمي الخاص بالنصوص الأولى الممثلة لخط الكتاب المقدس العبري- الحبري. القرار الذي تم اعتباره لاحقاً أساس القوننة المقدسة.. !
كنتيجة تفصح هذه المعطيات عن واقعتين: تبدي الأولى عن وجود العديد من التيارات والفصائل العبرية المختلفة والمتصارعة، كانت عبّرت عن ذاتها بأدبيات خاصة بها، في حين تظهر الثانية عن تنطع الحزب الفريسي بتأسيس خط الأحبار اليهودي، المعلن في الكتاب المقدس الحبري الرسمي.
يستدعي جملة ما تقدم وضع الافتراض الآتي: إن كان خلال العهد الفارسي قد تم وضع الأساس الأولي، للنص التوراتي، فإن هذا النص ما زال يسير في طريق من التطوّر والتبلوّر، عبر دائرة من الخلافات الموروثة والمستجدة..
من جانب آخر، لم يحضر طور تثبيت النصوص المقدسة وإصدار قرار قوننتها المقدسة، إلا على إثر
أعمال تشكيل الأحبار، في غضون النصف الثاني من القرن الميلادي الثاني..
ومما يدعم شأن مقولتنا هذه، تلك الحصيلة التي توصل إليها الباحث في حقل الإنجيل، إيمانويل توف، التي بدت في الحكم الآتي " يجب أن نتذكر في تلك الأزمة القديمة، أن النصوص كانت تتغير بسرعة، حيث كان الكتبة يتمتعون بحرية كبرى في ممارساتهم " ومع " ما يقارب من 200 مخطوطة قمرانية، نظيرة للأسفار الإنجيلية، يطرأ تغير جذري على الدراسات الإنجيلية، بحيث لم تعد قطعاً على ما كانت عليه " و" إن النصوص الإنجيلية لقمران تختلف بعضها عن بعض، كما تختلف عن النصوص الماسورية - التي تعتبرها اليهودية النصوص المعتمدة، والتي هي بالنسبة للمسيحيين والعاملين في حقل البحث- النصوص العبرية الأساسية ".. من المؤكد، أن إيمانويل توف ( الأستاذ في الجامعة العبرية- القدس ) لم يتعمد التوصل إلى هذه النتيجة، ولم يكن سعيداً بها، ولكن الوازع العلمي هو ما أرسلها عبر لسانه.
طور تشكّل المخطوطات المعتمدة كمصدر– تلك المخطوطات التي قد جاءت كنتاج لمسار أعمال المدارس الماسورية (توالت بين القرن السابع وحتى العاشر ميلادي). ومما يدل على أهميتها، ذلك التقدير الهائل الذي قد حملّها إياه أقوال كالآتي: لو لم يعمل الماسوريون على إنجاز النص الصحيح للتوراة لما استطاع آخر فعل ذلك. لقد استطاعوا عبر المناقشة التوصل إلى الحل الصحيح. ولولاهم لكانت التوراة قد نُسيت كلياً لدى إسرائيل، ولتحولت التوراة الموحدة - لا قدر الله - إلى توراتات مختلفة (جمع توراة)، وحين ذاك لا نستطيع التوصل إلى لفافتين متماثلتين للكتاب ذاته، بل ويكون الأمر كأننا أمام العديد من الكتب المختلفة لمؤلفين مختلفين. الأمر الذي يعني فيما يعني، أن شأن تشكّل التوراة قد استمر من عصر سحيق القدم حتى القرن العاشر ميلادي..
علينا أن نعلم هنا، أن الأمر لم يتوقف قط عند التعديلات التي قد حلت على النصوص من خلال أعمال الماسوريين، بل أن أعمال التاريخ اللاحق لهم شهدت مختلف أشكال التحسين اللغوي، ولاسيما أن الترجمة قد أتاحت للعاملين بهذه النصوص قدراً كبيراً من الحرية، فعملوا على استغلالها وذلك بهدف تغطية ما يفرزه النص من مواقع ومواقف على درجة عالية من الإحراج والمفارقات المثيرة..
بكل الحالات، لم يستطع ذلك التاريخ الطويل المفعم بإعادة التأليف والتعديل، أن يستر كل ما توفر في النص من مثالب وعورات، مما دعا الفاعلين المنافحين عن قدسية النص إلى استدعاء أساليب التسويغ الرمزي من أجل تطويق المظاهر المثيرة للاستهجان.
من المؤكد، إن مثل هذه الظواهر المتبقية تعكس مدى وعمق الإشكاليات القديمة التي قد أمسكت بخناق النص في بواكيره الأولى، سواء أكانت على صلة باختلافات نصوص الأصول، أو بما أعقب ذلك من ممارسات في متنه عبر مراحل التطور المتتالية..
قياساً على ما تقدم، ولاسيما من ما أعلنته مخطوطات كهوف قمران من معطيات بصدد تشكّل التوراة، فإن كان في ذلك الزمن قد حدث ما حدث من تغيير في النصوص المتداولة المكتوبة، على الرغم من وجود رقابة متبادلة بين تيارات متصارعة، فكيف يكون الشأن عبر القرون السابقة (زهاء عشر قرون)، التي لم يكن في أغلب أوقاتها أي أثر لكتابات.. حيث كانت المأثورات تنتقل بحرية مطلقة عبر قنوات الحكايات..!
بكل الحالات ما انطبق على أسفار التوراة في سيرورة مسار التكوّن، انطبق تماماً على غيرها من أسفار، الأمر الذي قد أظهرته بكل جلاء.. معطيات مخطوطات كهوف قمران..
على هذا الأساس، ننظر إلى النص التوراتي ونصوص الأسفار الملحقة بها، كنص مركب من شرائح متعددة، أطبق بعضها على بعض حيناً، وتسلل بعضها في لحمة بعض حيناً آخر، مما يستدعي التنقيب فيه عن مؤشرات اختفت في القاع وظل لها بقايا. كما لابد في إطار هذا التنقيب العمل على الكشف عن الدافع الذي حدا بكتبة الطور الأخير لوضع التوراة على صورتها المتداولة، حيث نرى، عبر هذه العملية التاريخية في طورها المتأخر، قد وضعت التوراة فيها أوزارها وحملت ميسمها الخاص بها، ومن خلالها عمل فريق الكتبة على إسقاط فكرهم على نصوص من سبقهم. ولعلها هي التي جعلت من تلك النصوص المتوارثة، توراتاً لنا..
على ذات المنوال، ما أتى على تشكل التوراة يُرى في تشكّل الأسفار، ففي العصر الهلنستي ظهرت كتابات نبوئية رئوية خلاصية أتت كإستطالات كبرى في أسفار الأنبياء القدامى، كأشعيا وأرميا ودانيال، قام بوضعها كتبة التيار الحبري، بحيث قد بدت كنبوءات من أقاصي الماضي تنبأ بها هؤلاء الأنبياء في زمنهم، لوقائع وأحداث تحدث في المستقبل التالي لهم.. ألا يوحي ذا، بكون ما تبقى قد جرى على ذات المنحى..!
أمام حملة تلك الحقائق الصارخة المستنبتة في حقل مخطوطات كهوف قمران وغيرها، ليس من الغرابة بمكان أن يعلن أحد الباحثين الفرنسيين ( أندري بول) في" أن المفاهيم والنظريات التي كانت معتمدة منذ مدد طويلة قد تزلزلت أركانها " بل " وعلينا الإقرار في البداية لم يكن ثمة نص وحيد بل جملة من النصوص المتعددة " و" إنها ثورة في عالم دارسي النص المقدس "، و" أن الدوغمائية المتمثلة بوجود نص أصلي وحيد وحقيقة النص العبري الأصلي قد طارت شظايا ". وفي نظر موازٍ يضطر جنرال صهيوني بأن ينادي " هلموا لتباشروا في إعادة النظر فيما لديكم من قديم تكهناتكم، وتأهبوا للبدء من جديد..". يدفعنا جملة ما تقدم للقول هنا، إن كانت تلك النصوص قد خضعت لمسيرة طويلة متعددة المراحل لمثل ذلك النمط من السير المتغيّر والمتطوّر، وعلى مدى زمني بعيد عن أصحاب الشأن الخاص بالأحداث والأشخاص المعنيين بها، فكيف بوسعنا والحالة هذه، القبول بما أعلنته الأسفار والتوراة من أخبار ومرويات..!!