المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة



د.سعدالدين صالح دداش
11/12/2008, 07:02 AM
كيف يؤدي المثقفون واجبهم نحو الأمة
آثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي ج1 ص 354
هذا مقتطف من محاضرة ألقاها الشيخ رحمه الله في أحد نوادي تلمسان في الأربعينات من القرن الماضي، قال رحمه الله:

(( أما إذا صارحناكم بما نعتقده الحق في قيمة ثقافتنا ومثقفينا وفي مقدار انتشار الثقافة بيننا وفي آفات الثقافة والمثقفين منا ونقائصها ونقائصهم وعيوبها وعيوبهم فإننا نصارحكم برأينا في كيفية أداء المثقفين لواجبهم.
- إن أول واجب على المثقفين إصلاح أنفسهم قبل كل شيء، كل واحد في حد ذاته، إذ لا يصلح غيره من لم يصلح نفسه، ثم إكمال نقائصهم العلمية واستكمال مؤهلاتهم التثقيفية حتى يصلحوا لتثقيف غيرهم، إذ ما كل مثقف يكون أهلا لأن يثقف. وإذا كان المثقفون قبل اليوم في حالة اهمال فحالتهم إذا هيأوا أنفسهم لتأدية الواجب تستلزم اهتماما آخر واستعدادا جديدا .
- وثاني واجب هو إصلاح مجتمعهم كل طائفة مع كل طائفة بالتعارف أولا وبالتقارب في الأفكار ثانيا، ومن طبيعة الاجتماع أنه يحذف الفضول واللغو، وبالتفاهم في إدراك الحياة وتصحيح وجوه النظر إليها ثالثا، وبالاتفاق على تصحيح المقياس الذي تقاس به درجة الثقافة رابعا.
وهذه النقطة الأخيرة من ألزم اللوازم فإن التباعد بين المثقفين وخصوصا بين أهل الثقافة العربية والثقافة الأوربية، أدى إلى فتح الباب وكثرة المتطفلين، فأنا من جهتي لا أرضى بحال أن أحشر في زمرة المثقفين كل من يكتب بالعربية الصحيحة مقالة في جريدة ولا كل من يستطيع أن يخطب في مجتمع، وهو مع ذلك عار من الأخلاق أو لا يحسن الضروريات من المعارف العصرية وما أكثر هذا الصنف فينا وهم يعدون في نظر الناس وفي نظر أنفسهم من المثقفين وأنا أشهد الله أن هذا ظلم للثقافة ما بعده ظلم، كما أنه يوجد في قراء الفرنسية عدد كثير من حملة الشهادات يزعمون لأنفسهم أو يزعم لهم الناس أو يزعم لهم العرف الخاطئ أنهم من المثقفين وهذا كذلك ظلم للثقافة لا أرضاه وأن أمثال هؤلاء من الطرفين ما دخلوا في عمل إلا وأفسدوه لنقص معلوماتهم أو فساد أخلاقهم وقصر أنظارهم وجهلهم بالتطبيق. ولا نستريح من هؤلاء إلا إذا جاء وقت العمل فإن القافلة إذا سارت وشدت الرحال تخلف العاطل وظهر الحق من الباطل.
ولعل بعض السامعين يتشوف إلى معرفة السر في هذا التفاوت بين طبقات المثقفين منا، وأنا أشرح لكم بعض السبب وهو أن قراء العربية لم يخرجهم معهد واحد ولا معاهد متحدة التعليم موحدة البرامج مرتبة الدرجات منظمة الشهادات على التحصيل، وإنما هم متخرجون من معاهد مختلفة لا تجمع بينها جامعة إلا كونها عربية ومعظمها غير منظم ولا مرتب ومعظمهم تلقى تعليمه كيف ما اتفق ولم يكمل دراسته ولا أتم تحصيله، أما تربيتهم فجاءت ملونة بألوان تلك المعاهد.
ثم ألقى بهم الدهر إلى أمة متعطشة في أول عهدها باليقظة فهي لا تفرق بين صفو وكدر فكانت استفادتها منهم قليلة وربما ضروا أكثر مما نفعوا.
كذلك نعلم أن الثقافة الفرنسية في وطننا ثلاث معاهد متباعدة الغايات متفاوتة الدرجات - :
الأولى الكليات الجامعة وما يوصل إليها.
والثانية دار المعلمين.
الثالثة المدارس الثلاثة.
ومن المؤسف أن أبناءنا في التعليم الجامعي انكبوا على الجانب المادي أكثر من الروحي والأخلاقي فتخرج في جيلين بضع عشرات تناهز المائة من الأطباء والصيادلة ومثلها من المحامين، ودون العشرة من المهندسين، وإلى جانب ذلك كله دون العشرة في الآداب ولم نر إلى جنب هذا العدد واحد تخصص في الفلسفة أو علم النفس أو في الأخلاق أو في فلسفة الاجتماع والتشريع والآداب.
وتعليل هذا الاتجاه معقولا من روح الأمة وحالتها المادية وليس من المناسب شرحه في هذه المحاضرة، وإنما نقول إن للتقليد أثر كبير في هذا الاتجاه شأن الأمم التي تكون في درجتنا من الانحطاط.
وإني أذكر لكم على سبيل العبرة حكاية اتفقت لي: مرض والدي رحمه الله مرض الموت في دمشق وتسامع أصدقاءه فزاره في بضعة أيام نحو عشرين طبيبا فسهرت ليلة عند صديقي الدكتور عزت أفندي شموط وهو شاب أديب مع براعته في فنه فأكبرت دمشق إذ كان فيها فوق المائتين من الأطباء من أبنائها ومن اللاجئين إليها أيام الحرب فقال صديقي الدكتور شموط إن كثرة الأطباء في بلدة تدل على كثرة الأمراض والأوساخ فيها، وأنا أختار بلدة فيها عشرة مرشدين دينيين وعشرة أدباء وعشرة أطباء على بلدة فيها ثلاثمئة طبيب لأن الأدباء يرققون عواطفها فتميل إلى الروحيات فتقل الأمراض، والمرشدون يعلمونها القصد في الأكل واللذات ويحضونها على النظافة فهؤلاء أطباء ولكنهم يداوون المرض قبل وقوعه فإذا أفلت واحد، دواه الأطباء المعروفون، فأكبرت كلامه إذ كنت لا أنكره بذوقي.
ومن المؤسف أيضا أن دار المعلمين تهيء خريجيها لأعمال خصوصية محدودة مقيدة يدور المعلم فيها طول عمره فلا يجد الوقت لتوسيع ثقافته بالمطالعة والكتابة والتطبيق.
وكذلك القول في خريجي المدارس الثلاثة وهذه القيود تشل الثقافة وتحصرها في الدار الضيق.
وإذا تمت الإصلاحات الأربع جاءت الخامسة والأخيرة في الامتزاج بالأمة والاختلاط بطبقاتها والتحبب إليها ومشاركتها في شؤونها الاجتماعية والدخول في مجتمعاتها ومعابدها ومشاركتها في عبادتها وفي الصالح من عوئدها فبذلك تحصل الثقة منها وتنقاد لكل ما نريده، وبذلك يسهل على المثقف أداء واجبه على أكمل وجه، وثقة الامة بالمثقفين هي رأس المال في هذا الباب.
أما الواجب في حد ذاته فهو في الجملة إيصال النفع والخير إلى الأمة ورفع الامية والجهل عنها وحثها على العمل وتنفيرها من البطالة والكسل وتصحيح فهمها للحياة وتنظيف أفكارها وعقولها من التخريف وتنظيم التعاون بين أفرادها وتمتين الصلة والثقة بين العامة والخاصة منها وتعليمهم معاني الخير والرحمة والإحسان لجميع الخلق.
هذه أمهات المعاني التي تجهلها الأمة أو تغلط في فهمها وواجب المثقفين بعد أن يستوثقوا بها بالمخالطة أن يرفعوا عنها الجهل بها أو الغلط فيها وكيف يكون ذلك؟
يكون يتنزل المثقف في مخاطبة العامي واستدراجه في كل اجتماع إلى بيان ما يجهله أو يغلط فيه ويتخير لذلك المناسبات وأوقات الفراغ، وقد شاهدنا المثقفين إذا اجتمعوا بعوام الأمة وسمعوا سخافاتهم يقابلونهم بالضحك أو الاحتقار، وهذه نقطة من نقط تضييع الواجب حيث يجب أداؤه. فما ضرهم سامحهم الله لو عملوا بما ذكرناه. إذا لقاموا بالواجب وأوصلوا للعامي خيرا ما بعده خير وأحسنوا إليه إحسانا يستحقه. ))