د.سعدالدين صالح دداش
13/12/2008, 02:11 PM
يا مصر ...
نسميك بما سماك الله به في كتابه، فكفاك فخرا أنه سماك بهذا الاسم الخالد، الذي تبدلت أوضاع الكون ولم يتبدل، وتغيرت ملامح الأرض ولم يتغير، وحسبك تيها على أقطار الأرض أنه سماك، ووصفَها، فقال في فلسطين: ( الأرض المقدسة ) و ( القرى التي باركنا فيها ) وقال في أرض سبأ: ( بلدة طيّبة ) ولم يسم إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قرية، فتيهي وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفال على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمة رعاية لا تخفر، وبجوار أمن لا يخزى جاره.
نأسى لك – يا مصر – أن أنزلتك الأقدار بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء وجرّت عليك الشقاء، فتطاول عليك الغرباء وتكالب عليك الأعداء، وتجاسر عليك السفهاء، وتنكر لك من أياديك البيضاء كانت سحاء غدقا له بالأمس القريب!
فصبرا يا مصر إن تحكم فيك الصّعاليك، الذين لعبت بهم أهواء المماليك، فامتهنوا فيك الدّين، وباعوا الفضيلة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقعدوا عن نيل المعالي ببناء المصانع والتشييد، فتأخروا بركبك عن زمانك.
إن شانئوك - يا مصر – ما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثورا، ووضعوا لك في كل فج فخا، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في بر، فمن بعض ذلك كل ما تعانين.
لئن كانت أزمانك في التاريخ كثيرة، فكلها إلى انفراج عاجل، ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تبتلي بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدّه للأسف بعض من انتسب إليك ظلما بالمدد والعون، فاستحل بمنطق القوة والقهر حرماتك، وسلب إرادتك ومقدراتك، فجعل منك – من حيث يشعر أو لا يشعر – أداة لكيد ذلك اللعين، وجارحة لصيده، ومطية لصولته، وطريقا لظلمه وظلامه ... فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك لكان لك شرك في كل ما حمل العدو الصهيوني من أوزار، ولحملك العدل كفلا من مأثمهم وجرمهم، سواء بسواء، لا وكس ولا شطط! إذ لولا معابرك الموصدة لما اشتكى أبناؤنا في غزة من ضيم، ولولا قناتك ما ثبت للعدو على أرضنا قدم، فليتك تعاسرت بالأمس في حفر هذه القناة، أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتُوسعين هذه ردما، كما أوسعوا تلك هدما... حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك لا ما يرديك، وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ وما ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردا.
انثُري كنانتك – يا كنانة الله – فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تُراعي واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد؛ وهو العزائم؛ والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف، والمسنّ الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر؛ فلعمرك – يا مصر – إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالمجلة الفاسدة التي تنشر عبثا تارة صورا خليعة، وتارة فكرا معوجا، وتبشر بدين الرافضة المجوس، وتتطاول على خيار هذه الأمة وعظمائها، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفلم الذي يزين الفاحشة، وبالبًغيّ التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث؛ وبالمهازل التي تقتل الجدّ والشهامة؛ وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكاماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب؛ فإن شئت أن تّذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها ... إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم ... وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها ... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا ... وماذا يصنع ( المرابي ) في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟
يا مصر! لا توحشنك غربة .... إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة على موارك، هائمة بحبك، تقطع الآنّات في التفكير فيك، ولا تقطع الأنّات من الامتعاض لك؛ وإن ملايين من الألسنة رطبة بذكرك، متحركة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنية بمحاسنك؛ وإن هذا لرأس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان، وما هذا الذي تعانيه إلا مغارم الجمال والشرف والسّطَة، وفي ذمة كل عربي حر الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء.
من مقال طويل للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
نشر في جريدة البصائر العدد 178 – سنة 1952
بتصرف وتعديل وإضافة من الدكتور سعدالدين
أقول:
أيها الإخوة والأخوات الأفاضل أطلب منكم التفكير في كلام هذا الرجل الألمعي، يكتب مقالا قبل أكثر من نصف قرن، وكأنه ينظر إلى واقع الأمة الحالي، والخبل الذي تتخبط فيه – لا أقول مصر فقط – وإنما الأمة بكاملها، هي اليوم تعيش في بؤرة من الفساد العريض، والانحطاط في جميع المستويات، وهو ما يتطلب من ذوي الهمم العالية والعزائم القوية من العلماء والمفكرين والمصلحين؛ الذين تتشوف نفوسهم إلى غد مشرق تعود فيه هيبة الأمة؛ ومعها العزة والكرامة، أن يتحدوا جميعا – كل فرد بحسب مجاله ودائرته التي هو فيها – على العمل والاجتهاد أولا في إصلاح نفسه ثم الدعوة إلى إصلاح غيره بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة والرفقة الصالحة عسى بعد ذلك أن يرينا الله من أنفسنا خيرا وينصرنا على عدونا.
كلمة للتاريخ: لابد منها دون محاباة ولا مجاملة:
شعب مصر من أكثر الشعوب العربية والإسلامية روحانية، وحبا للدين ودعوة إليه، ولا ينكر هذا الفضل إلا أحد رجلين: عدو مماحق! أو جحود مكابر! أما من يكره مصر جملة فلا أشك أنه زنديق!
د. سعدالدين الجزائري
,
,
,
نسميك بما سماك الله به في كتابه، فكفاك فخرا أنه سماك بهذا الاسم الخالد، الذي تبدلت أوضاع الكون ولم يتبدل، وتغيرت ملامح الأرض ولم يتغير، وحسبك تيها على أقطار الأرض أنه سماك، ووصفَها، فقال في فلسطين: ( الأرض المقدسة ) و ( القرى التي باركنا فيها ) وقال في أرض سبأ: ( بلدة طيّبة ) ولم يسم إلا الطور وهو جبل، ومكة وهي مدينة، ويثرب وهي قرية، فتيهي وافخري بهذه الملاءة التي كساكيها الله، وخذي منها الفال على أنك منه بعين عناية لا تنام، وبذمة رعاية لا تخفر، وبجوار أمن لا يخزى جاره.
نأسى لك – يا مصر – أن أنزلتك الأقدار بهذه المنزلة التي جلبت لك البلاء وجرّت عليك الشقاء، فتطاول عليك الغرباء وتكالب عليك الأعداء، وتجاسر عليك السفهاء، وتنكر لك من أياديك البيضاء كانت سحاء غدقا له بالأمس القريب!
فصبرا يا مصر إن تحكم فيك الصّعاليك، الذين لعبت بهم أهواء المماليك، فامتهنوا فيك الدّين، وباعوا الفضيلة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، وقعدوا عن نيل المعالي ببناء المصانع والتشييد، فتأخروا بركبك عن زمانك.
إن شانئوك - يا مصر – ما عابوك، ولكنهم هابوك، فنصبوا لك في كل حفرة عاثورا، ووضعوا لك في كل فج فخا، وأجمعوا على أن لا تكون لك جارية في بحر، ولا سارية في بر، فمن بعض ذلك كل ما تعانين.
لئن كانت أزمانك في التاريخ كثيرة، فكلها إلى انفراج عاجل، ومن المؤلم أن تطول بك المحنة في هذه الدورة من أدوار الفلك، وأن تبتلي بخصم لئيم الخصومة والكيد، يمدّه للأسف بعض من انتسب إليك ظلما بالمدد والعون، فاستحل بمنطق القوة والقهر حرماتك، وسلب إرادتك ومقدراتك، فجعل منك – من حيث يشعر أو لا يشعر – أداة لكيد ذلك اللعين، وجارحة لصيده، ومطية لصولته، وطريقا لظلمه وظلامه ... فلو أن المسالك تشترك في الإجرام مع السالك لكان لك شرك في كل ما حمل العدو الصهيوني من أوزار، ولحملك العدل كفلا من مأثمهم وجرمهم، سواء بسواء، لا وكس ولا شطط! إذ لولا معابرك الموصدة لما اشتكى أبناؤنا في غزة من ضيم، ولولا قناتك ما ثبت للعدو على أرضنا قدم، فليتك تعاسرت بالأمس في حفر هذه القناة، أو ليتك تصنعين بها اليوم ما صنع العرب بمناة، فتُوسعين هذه ردما، كما أوسعوا تلك هدما... حتى إذا ملكت أمرك حفرت ما يرويك لا ما يرديك، وما فضل ماء استنبطته يداك، لينتفع به عداك؟ وما ذاد الأباة عن الحياض إلا لتكون لهم وردا.
انثُري كنانتك – يا كنانة الله – فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تُراعي واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد؛ وهو العزائم؛ والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف، والمسنّ الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر؛ فلعمرك – يا مصر – إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالمجلة الفاسدة التي تنشر عبثا تارة صورا خليعة، وتارة فكرا معوجا، وتبشر بدين الرافضة المجوس، وتتطاول على خيار هذه الأمة وعظمائها، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفلم الذي يزين الفاحشة، وبالبًغيّ التي تخرب البيت، وبالحشيش الذي يهدم الصحة، وبالممثلة التي تمثل الفجور، وبالراقصة التي تغري بالتخنث؛ وبالمهازل التي تقتل الجدّ والشهامة؛ وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال، وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكاماليات التي تثقل الحياة، وبالعادات التي تناقض فطرة الله، وبالمعاني الكافرة التي تطرد المعاني المؤمنة من القلوب؛ فإن شئت أن تّذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها ... إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم ... وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها ... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا ... وماذا يصنع ( المرابي ) في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معه بالربا؟
يا مصر! لا توحشنك غربة .... إن مئات الملايين من القلوب رفافة على جنباتك، حائمة على موارك، هائمة بحبك، تقطع الآنّات في التفكير فيك، ولا تقطع الأنّات من الامتعاض لك؛ وإن ملايين من الألسنة رطبة بذكرك، متحركة بمدحك، ناطقة بفضلك، متغنية بمحاسنك؛ وإن هذا لرأس مال عظيم، لم تظفر به قبلك يدان، وما هذا الذي تعانيه إلا مغارم الجمال والشرف والسّطَة، وفي ذمة كل عربي حر الدم لك دين واجب الوفاء، وهذا أجل الوفاء.
من مقال طويل للشيخ محمد البشير الإبراهيمي رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
نشر في جريدة البصائر العدد 178 – سنة 1952
بتصرف وتعديل وإضافة من الدكتور سعدالدين
أقول:
أيها الإخوة والأخوات الأفاضل أطلب منكم التفكير في كلام هذا الرجل الألمعي، يكتب مقالا قبل أكثر من نصف قرن، وكأنه ينظر إلى واقع الأمة الحالي، والخبل الذي تتخبط فيه – لا أقول مصر فقط – وإنما الأمة بكاملها، هي اليوم تعيش في بؤرة من الفساد العريض، والانحطاط في جميع المستويات، وهو ما يتطلب من ذوي الهمم العالية والعزائم القوية من العلماء والمفكرين والمصلحين؛ الذين تتشوف نفوسهم إلى غد مشرق تعود فيه هيبة الأمة؛ ومعها العزة والكرامة، أن يتحدوا جميعا – كل فرد بحسب مجاله ودائرته التي هو فيها – على العمل والاجتهاد أولا في إصلاح نفسه ثم الدعوة إلى إصلاح غيره بالقدوة الحسنة والكلمة الطيبة والرفقة الصالحة عسى بعد ذلك أن يرينا الله من أنفسنا خيرا وينصرنا على عدونا.
كلمة للتاريخ: لابد منها دون محاباة ولا مجاملة:
شعب مصر من أكثر الشعوب العربية والإسلامية روحانية، وحبا للدين ودعوة إليه، ولا ينكر هذا الفضل إلا أحد رجلين: عدو مماحق! أو جحود مكابر! أما من يكره مصر جملة فلا أشك أنه زنديق!
د. سعدالدين الجزائري
,
,
,