المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اشكالية الترجمه وثقافة النص



ايناس حمدي
21/12/2006, 11:33 AM
الكاتب عدي جوني
التاريخ
اشكالية الترجمه وثقافة النص العنوان
مقال في الانترنت / جامعة في سدني
إشكالية الترجمة وثقافة النص

ما كادت عيناي تقعان على العدد الخامس من مجلة " الجذور" حتى تلقفتها تلقف الظامئ لشربة ماء في قلب الصحراء ، فمنذ زمن طويل وأنا أبحث عن مجلة تختص بالأدب في هذه القارة مترامية الأطراف تروي غليلي إلى قراءة الإبداعات العربية التي حرمتنا إياها الجغرافية ، فأستراليا بعيدة آلاف الأميال مكانا وثقافة عن الوطن الأم . صحيح أن هنالك مجلات ودوريات صادرة باللغة الإنجليزية تتناول المشهد الثقافي بكافة تفاصيله ، لكن القراءة باللغة الأم لها وقع حميمي أكثر دفئا وحنانا .
في الحقيقة ليس هنا بيت القصيد إذ أن ما شدني إلى العدد أنه احتوى على غلافه إشارة إلى مقال خاص بإشكاليات الترجمة نشر بالتزامن مع مجلة " أفق " الثقافية لكاتب لم أقرأ له من قبل وهو الأستاذ برهان شاوي وهو موضوع طالما يشكل لديّ موقعا خاصا لا لأنني تعاملت وما زلت مع الترجمة بكافة أشكالها ، بل لأنني واجهت إشكاليات الترجمة أثناء تقديمي لأطروحة الماجستير في الأدب الإنجليزي ، وتحديدا في النقد الأدبي قبل عامين في جامعة ماكوري في سيدني ، حيث تضمنت الأطروحة في فصلها الرابع والأخير تساؤلا " إلى أي حد تؤثر الترجمة على القيمة الجمالية للنص الأدبي عموما والشعري على وجه الخصوص ؟ "
على أي حال ، أسرعت إلى المقال المذكور الذي حمل عنوانا مثيرا " إشكاليات الترجمة " ، ولم أنتظر حتى فرغت من قراءته.. ولكن لم أر أن المقال اقترب من طرح إشكاليات الترجمة بل اقتصر على الإطار التاريخي وإن أشار في بعض فقراته إلى الاجتهادات الشخصية في " ترجمة الأستاذ ثروت عكاشة في تفسير النص " والمقصود هنا نص لكتابي أوفيد الشاعر اللاتيني المعروف أوفيد " مسخ الكائنات " و " فن الهوى " .
لا أنكر على الأستاذ شاوي أنه طرح بخجل بعض المصطلحات التي رافقت ، ولم تزل ، قضايا الترجمة مثل " كثافة النص ودلالته " ، و " كونه لا يتعدى ناقلا للنص " و " اللغة الوسيطة " وما شابه . بيد أني أنكر عليه عدم الخوض بالعمق الذي كنت أرتجيه في خصوصية إشكاليات الترجمة الأدبية والفكرية بشكل عام فبقي مقاله ناقصا ، رغم أنني أحييه على أنه أقدم على موضوع شائك إلى حد القلق الذي يسيطر على المترجم من أنه هل ترجم فعلا النص أم لم يترجم ، إذ في الترجمة تحديدا لا يوجد حل وسط ويكفي دليلا على ذلك ما يقوله النقاد من أنه يكفي المترجم أن ينجو من اللوم كي ينال أقصى درجات المديح . على أي حال أشكر كاتب المقال لأنه استفزني بما يكفي كي أحاول أنا الآخر ، وأعوذ بالله من كلمة أنا ، إن أخوض تلك المغامرة .
أولا وقبل كل شيء سأحاول في هذه المقالة الابتعاد عن المصطلحات الصعبة وقد لا أنجح في ذلك ، مع الاعتراف مسبقا لقارئي العزيز ، بأن الإحاطة بهذا الموضوع قد تقترب من المستحيل ، والاكتفاء بالتركيز على ثلاث قضايا رئيسية ألا وهي :
- الترجمة تقنية معرفية " ابستمولوجية "
- الترجمة كفعل تأويلي .
- الترجمة وثقافة النص .
الترجمة تقنية معرفية
بادئ ذي بدء ، تعني كلمة ترجمة " الإيضاح والتفسير لما عَجُم واسُتغرب " ، وقد بقي هذا التعريف سائدا على مدى فترة طويلة من الزمن وتحديدا منذ بدء العرب بترجمة أثار الإغريق القدماء والفلسفة الهندية في عهد الدولة العباسية التي شهدت أكبر حركة ترجمة عن اليونانية والفارسية . في حين بدأ عصر الحداثة في ميدان الترجمة مع ظهور دراسات فقه اللغة أو الألسنية التي وجدت النور على يد المفكر السويسري فرديناند دو سوسير . وهنا يمكن القول أن دوسوسير هو أول من أطلق عجلة الدراسات والبحوث في ميدان اللغة لا سيما في تقديم مفهوم الدلالة " العلاقة بين الدال والمدلول : SIGNIFIED AND SIGNIFIER " .
وانطلاقا من رؤية دوسوسير للغة كنظام يستند على بنية ذات علاقات خاصة تكشف عن منتوج تعبيري تواصلي ، لم تعد الترجمة تقنية تفسيرية بل تقنية معرفية إي أنها جزء من آلية إدراك الفكر الإنساني أو بمعنى آخر عامل ابستمولوجي وسيط بين مكون معرفي وأخر لا ناقل يشترط الأمانة بمعناها الحرفي بل بمعناها الدلالي . مع تذكير قارئي العزيز أن هذا المفهوم يجبرنا على مواجهة ما يسمي بالسياق اللغوي وتفصيلاته الكثيرة على أساس توزع النص على مساحة كبيرة من العلاقات الداخلية بين مكونات النص اللغوية والتي بدورها تقرر دلالة النص طبقا للمكون المعرفي للغة دون أخرى ودون تجاهل البعد الاجتماعي والفردي لكاتب النص ، فاللغة أولا وأخيرا آلية اجتماعية تواصلية . طبعا هذا بدوره يضع المترجم أمام إشكالية بمنتهى الخطورة ألا وهي " خطاب النص " .
كما تتميز الترجمة بأنها تقنية معرفية لأنها تتناول مباشرة المخزون الثقافي للنص . فالنص كما يسميه النقاد من أصحاب المدرسة التاريخية في النقد الأدبي ومنهم الماركسيون منعكس لثقافة المجتمع بكافة شبكاته المعقدة عبر التاريخ والجغرافية والعلاقات بين الأفراد أي أنه ذاكرة ملخصة للنظام المعرفي للمجتمع . وعلى هذا الأساس تظهر اشكالية الترجمة من كونها تقديم نظام معرفي كامل داخل نظام آخر مختلف ، وأوضح دليل على هذا النصوص الفكرية وتحديدا الدينية المدعومة بدائرة القداسة التي لا تتيح للمترجم الحرية وربما حرمانه من أبسط حقوق الاجتهاد لا سيما أن النصوص الدينية في لغتها الأصلية تحمل اشكالية أخرى ألا وهي التأويلية ، فالنص أيا كان هو مجموعة من العلاقات اللغوية التي تخدم فكرة أو مجموعة أفكار أو مفاهيم قابلة للتفسير أو التأويل مما يمهد لتطويع النص لقراءات جديدة أو تأكيد قراءة ما ، وهذا يقودني للحديث عن الترجمة كفعل تأويلي .
الترجمة فعل تأويلي
الترجمة فعل تأويلي لأنها تخضع النص المنتمي لنظام لغوي مختلف لعملية القراءة الاستثنائية التي بدورها تحيل النص إلى مدركات واضحة قابلة للنقاش والمقاربة بما في ذلك المقاربة النقدية . إذن ومن باب المنطق الترجمة هي فعل قراءة والمترجم هو بالأصل قارئ تنطبق عليه شروط تلقي وتأويل النص .
أما القراءة ، فهي آلية تفكيك الشفرة اللغوية المتمثلة في تداخل شبكة العلامات والإشارات اللغوية ضمن سياق محدد تعتبر الجملة وحدته الأولى والتي يقسمها العالم اللغوي ناعوم تشومسكي، رائد البنيوية في فقه اللغة ، إلى مستويين سآتي على ذكرهما بعد حين . كما تعتبر القراءة ، كما يراها أصحاب نظرية التلقي التي تؤمن بأن القارئ يشارك في كتابة النص ، هي عملية نفسية / حركية تختص بإعادة العمل / النص إلى مدركات أولية عبر إعادة تفكيك الإشارات اللغوية وموازنة العلاقة بين مجموعة الدوال مع المدلولات في الجملة الواحدة ومن ثم النص كاملاً . وهنا نرى أن القراءة ، المرحلة الأساسية من عمل المترجم ، هي أيضا فعل تأويلي لأنها مطالبة وقادرة على إضاءة النص وعلى نحو يتيح للقارئ اكتشاف البنية الداخلية للعمل .
وتنقسم البنية الداخلية للنص اللغوي ، كما قدمت عند ذكر تشومسكي ، إلى طبقتين : بنية فوقية سطحية وأخرى تحتية عميقة . وفي الحقيقة يعتبر هذا التقسيم النظري لمفهوم الوحدة الرئيسية في النص " الجملة " تطويرا مباشرا للعلاقة بين الدال والمدلول . إذ يري تشومسكي أن البنية السطحية الفوقية المتمثلة في توظيف العلامات والإشارات اللغوية في خط أفقي هو إنعكاس مباشر لمجموعة من العلاقات الداخلية التي تفزرها البنية التحتية الممثلة في تكوين النظام اللغوي المكون للآلية المعرفية من تاريخ وجغرافية ومجتمع ومن ثم مجموعة التأويلات الفردية لهذه الشبكة المتداخلة من العلاقات التي اتفق علماء اللغة على تسميتها بالسياق على أساس أن السياق هو الذي يحدد وظيفة المفردة القاموسية التي تخضع لقوانين حركة اللغة في النص لا العكس ، والدليل على ذلك استخدام المفردة الواحدة في أكثر من سياق . على سبيل المثال لا الحصر :
طرقت الباب حتى كل متني ولما كل متني كلمتني
هذ التعاقب في استخدام المفردة " كل متني " بالمقارنة مع كلمة " كلمتني " تعطي لكل واحدة بعدا لفظيا واحدا لكنهما على مستوى السياق مختلفتان تماما. مع ضرورة الإشارة إلى أن هذه اللعبة اللفظية بين المبنى والمعنى : SEMANTICS AND SYNTACTICS ، محكومة هي الآخر بجملة من الضوابط التي تفرضها القواعد وحركة الإشارات والعلامات تبعا للغة التي ينتمي إليها النص . ومن أوضح الأمثلة على ذلك الآية القرآنية الكريمة : " إنما يخشى الله من عباده العلماءُ " . في هذه الآية الكريمة تلعب حركة الضم والفتح دورا رئيسيا في فهم المغزى الرباني . فتقديم المفعول به لفظ الجلالة الله وتأخير الفاعل " العلماء " محكوم في حركة الفتح على لفظ الجلالة والضم على كلمة " العلماء " ، أي العلماء هم أكثر خشية لله تعالى من غيرهم من بني البشر .
وتبدو هذه الأمثلة المتفرقة بسيطة جدا لو قارناها بجملة المتغيرات الدلالية للنص ، وأخص بالذكر هنا النص الأدبي والنص الشعري على وجه التحديد . فقد أجمع النقاد على أن اشكالية الأدب تأتي من طبيعة اللغة ذاتها ، أدبية النص " LITERARINESS " ، والتي تعمل على توظيف الآلية اللغوية بعيدا عن معناها التداولي البسيط نحو ما يعرف باستكشاف جماليات اللغة من خلال " المجازية " ، والمجاز عموما هو عملية تطويع السياق اللغوي ضمن إطار يتجاوز القاموسية وصولا إلى التغريب " DEMYSTIFICATION " ، أي تغريب المفردة عن بعدها القاموسي نحو صيغة المجاز التي تتيح للمفردة الواحدة أن تخدم وظيفة تعبيرية / جمالية في آن معاً .
وهنا تحديدا تبرز وظيفة الترجمة كفعل تأويلي لأنها لا تستند على فك الشيفرة اللغوية على أساس تخاطبي بل على أساس تفكيك الشفرة المجازية للنص ، وإلا سيسقط المترجم في فخ الترجمة الحرفية أو النقلية وسأعطي مثالا بسيطا على هذه الفكرة . فقد نشرت إحدى الصحف المحلية الصادرة باللغة العربية في سيدني نصا مترجما عن خبر محلي يتحدث عن ضرورة قيام حكومة الولاية باستثمار المواقع الأولمبية حيث تحدث رئيس حكومة الولاية بهذا الصدد قائلاً فيما معناه :
We don' t want to leave the Olympic venues to become a white elephant
وجاءت الترجمة على الشكل التالي : " نحن لا نريد أن تتحول المنشآت الأولمبية إلى فيل أبيض " . المترجم كان أمينا في كل شيء ونقل الجملة إلى اللغة العربية بلباس إنكليزي بحت . لو راجعنا هذه الترجمة لوجدنا أنها لا معنى لها على الإطلاق ، فما العلاقة بين الفيل الأبيض والمواقع الأولمبية ؟ ولماذا استخدم رئيس الحكومة هذا التعبير المجازي الاصطلاحي أصلاً ؟
فالفيل الأبيض مخلوق غير موجود في عالم الفيلة ، وأن وجد يبقى نوعا نادرا يفيد العرض لا الفائدة العملية ، وبالتالي تحويل المواقع الأولمبية إلى فيل أبيض يدل على عدم جدواها من الناحية العملية واقتصارها على العرض المتحفي . طبعا لا يختلف معي القارئ على أن الذهنية العربية للقارئ العربي غير العارف باللغة الإنجليزية لن تتقبل صورة الفيل الأبيض كما هي لأنها لا تشكل لديه مقابلا تأويليا صحيحا ، الأمر الذي كان يستدعي من المترجم فهم الخلفية الدلالية للعبارة والبحث عن المضمون الدلالي لها في اللغة العربية . هذا يؤكد على أن الترجمة فعل تأويلي لسياق النص أو ما سوف أدعوه في الجزء الثالث والأخير من هذا البحث القصير بـ " ثقافة النص " .
الترجمة وثقافة النص
إن الحديث عن ثقافة النص يعني الحديث عن وظيفة العلامة أو الإشارة اللغوية " sign " التي تكتسب طبيعتها ومشروعيتها من النسق اللغوي " السياق " من خلال علاقاتها الجدلية بالعلامات الأخرى والتي تشكل في مجموعها وحدات النص ضمن وظيفته التواصلية وضمن العلاقة التالية :
المرسل ــــ النص ــــ المتلقي
أي إن النص هو الإطار الناقل للعلامة اللغوية مع اعتبار أن المرسل هو في نفس الوقت متلق والعكس صحيح .
لقد قدم سوسير نظريته في البنيوية اللغوية ، والتي كانت على شكل محاضرات جمعها عدد من تلامذته بعد وفاته في الكتاب الذي حمل اسمه : COURSE IN GENRAL LINGUISTICS ولأول مرة مصطلح النسق اللغوي الذي يحكم الاستخدام الفردي للغة مع تطوير مفهوم العلامة اللغوية بشقيها الدال والمدلول .
وقبل أن أشرح لقارئي العزيز مفهوم العلامة أو الإشارة اللغوية ، أرى أنه من واجبي أن أبدأ بالحديث عن تعريف النسق اللغوي كما قدم له ربروت شولز في كتابه : " البنيوية في الأدب STRUCTRALISM IN LITERATURE " ( 1964) ونقله الدكتور عبد الرحمن حمودة في كتابه ( المرايا المحدبة : من البنيوية إلى التفكيك ) ( مجلة عالم المعرفة ، العدد 232، نيسان 1998. الكويت . ص :223) :
" ...النسق إذن هو مجموعة القوانين والقواعد العامة التي تحكم الإنتاج الفردي للنوع [ اللغوي ] وتمكنه من الدلالة. ولما كان النسق تشترك في إنتاجه الظروف والقوى الاجتماعية والثقافية من ناحية ، والإنتاج الفردي للنوع من ناحية أخرى ، وهو إنتاج لا ينفصل هو الآخر عن الظروف الاجتماعية والثقافية السائدة ، فإن النسق ليس نظاما ثابتا وجامداً . إنه ذاتي التنظيم من جهة ، ومتغير يتكيف مع الظروف الجديدة من جهة ثانية .. "
بالعودة إلى تعريف شولز للنسق ، يبدو واضحا أن اللغة تنطلق من قوانين الحركة الذاتية لتطور المجتمعات والتي بدورها تحكم البنية التحتية للآلية اللغوية " تشومسكي " التي تفزر بدورها وظيفة العلامة اللغوية تبعا للعلاقات الدلالية والتي يحددها النظام المعرفي للنص أو ما أفضل أن أدعوه هنا بثقافة النص استنادا إلى تعريف شتراوس للغة كعامل أنثروبولوجي يمكن من خلاله الاستفادة منه في علم كشف الآثار المعرفية للأمم .
إذن النص هو مكون ثقافي تشكل فيه العوامل الثقافية بكافة تفاصيلها من تاريخ وجغرافية واقتصاد وعلاقات اجتماعية وسياسية بين الأفراد بعداً ذاتيا يعطي للعلامة اللغوية ثوابت الوظيفة التعبيرية في الوقت الذي تمنحها العلاقات الداخلية لتلك العلامات في وحدات النص الصغرى " السياق " متغيراتها الدلالية . وأرجو هنا من قارئي العزيز غير المتخصص أن يبقي هذه التعريفات في ذهنه لدى تفسير العلاقة الثنائية بين الدال والمدلول القائمة على التناوب والثنائية .
فالدوال هي إشارات لغوية تتألف من رموز " أحرف صائتة أو ساكنة " تدل على مفاهيم عقلية للمواد أو الأجسام المحسوسة ، مثلا " شجرة " ، وهي هنا الدال ، تدل على ذلك التفرع النباتي الكبير المورق أو المثمر ، وهو هنا المدلول ، والذي يوجد له صورة عقلية مخزنة يستحضرها الاسم أو الإشارة اللغوية . إذ تنقسم العلامة اللغوية إلى جزأين يشكلان كسرا عشريا على الشكل التالي :
الدال : الإشارة اللغوية / المدلول : المفهوم العقلي للمادة .
من خلال ارتباط الوظيفة اللغوية بالآلية الدلالية للعلامات اللغوية ، توفر البنية السطحية " الفوقية " للجملة المظهر اللغوي لجملة المدلولات والتي بدورها تأتي انعكاساً عن المكون الثقافي الذي يجمع تلك المدلولات ضمن دائرة النسق الاجتماعي والثقافي للغة . يضاف إلى ذلك أن علاقة الدال بالمدلول ليست ثابتة حتى في النص الواحد طالما أن معطيات الإشارة اللغوية تتغير بتغير السياق ، الأمر الذي يمنحنا الحرية في الحديث عن ثقافة الجملة ضمن ثقافة النص كدوائر متداخلة فيما بينها .
هذا بحد ذاته يشكل أمام المترجم واحدة من أكبر إشكاليات الترجمة ألا وهي فهم الآلية الدلالية للنص أو معرفة وتأويل ثقافة النص . إذا لا تنحصر مهمة المترجم ، وبالأخص من يتعامل مع النصوص الأدبية ، في كشف الرابط القاموسي للعلامة اللغوية ضمن ضوابط وقوانين اللغة ، بل تتعدى ذلك إلى كشف العلاقة الجمالية بين الدال والمدلول ضمن مفهوم المجاز والبلاغة والصور البيانية من تشبيه واستعارة وكناية . إذ وفي هذه الحالة يتعين على المترجم أن يفكك النظام الدلالي للنص .
وقد يستغرب القارئ لو قلت له أن ثقافة النص هي المناخ الذي يحدد طبيعةالعمل وأدواته، أذ تختلف الترجمات الإبداعية للنصوص الخالدة مثل الإلياذة لهوميروس والكوميديا الإلهية لدانتي عن راوية لتشارلز ديكينز دون الانتقاص طبعا من قيمة هذا الأخير . والمترجم أثناء العمل يستخدم ذاكرته اللغوية وذوقه الجمالي في قراءة النص قبل استحضار أدوات العمل ، وهنا لابد من التذكير بأن المترجم غير المتذوق لجماليات النص بلغته الأصلية غير قادر على نقلها إلى لغة أخرى مهما كان هذا المترجم قديراً ومتمكناً من تقنيات الترجمة .
كما تبرز ثقافة النص واحدة من أهم إشكاليات الترجمة أولا وهي المقابل الدلالي في اللغة المنقول إليها النص ، أو لنقل المجاور الجمالي في اللغة المنقول إليها النص ، مع العلم أن المقابل أو المجاور لو تطابقا مع الأصل تبقى جمالية العلاقة بين الدوال والمدلولات في النص ناقصة لغياب عناصر أخرى مثل الوزن والقافية في العمل الشعري وسأعطي مثالا على ذلك مقطعاً لقصيدة للشاعر الفلسطيني محمود درويش بعنوان " أبيات غزل " استخدمتها كتطبيق عملي في البحث الذي قدمته لنيل شهادة الماجستير :
أتبقين فوق ذراعي حمامة
تغمس منقارها في فمي ،
وكفك فوق جبيني شامة
تخلد وعد الهوى في دمي .
في الحقيقة هذا المقطع على بساطته يعطي مثالا تطبيقيا ناجحا لما يسمى «بثقافة النص» وقد حاولت في ترجمته إلى الانكليزية إن أبرز المعايير الدلالية لكلمتي «حمامة، وشامة» التي تعطي للمقطع مناخا خاصاً، ولا أدعي طبعا بأنني نجحت تماماً:
my armWould stay a pigeon on
to my mouth, in Immersing her peak
,Your palm a mole
eternalizing the promise of love in my blood
لتحليل ثقافة النص في هذا المقطع ، علينا أولا أن نقرأ اللعبة الدلالية لمحمود درويش في توظيف كلمتي " حمامة وشامة " . فقد وجدت أثناء عرضي النص على بعض من طلاب الجامعة من الجنسين " خمسة طلاب وست طالبات " لم يسبق لأي منهم أن سمع حتى باسم محمود درويش ، كما أسمعتهم القصيدة مغناة بصوت وألحان الفنان المبدع البحريني خالد الشيخ . وقد توزع الطلاب على جنسيات مختلفة ، أسترالية ، ويابانية ، وأميركية ، وسيرلانكية ، ويابانية ، وماليزية ، حيث طلبت من كل طالب وطالبة أن يكتبوا انطباعاتهم بعد قراءة الترجمة وقبل سماعها مغناة ومن ثم بعد سماع الأغنية . وجاءت النتائج على الشكل التالي :
الأميركيون استغربوا استخدام الحمام في الصورة التي رأوا فيها تضمينا غير مباشر لفعل جنسي " sexual implication " إلى جانب أن الحمام طائر مزعج ، في حين وجد الطلاب الأستراليون العلاقة بين الحمامة والشامة غريبة نوعا ما . أما الطلاب اليابانيون فقد فهموا المغزى من رمز الحمامة كونها رمزا للسلام حالهم حال نظرائهم من سيريلانكا وماليزيا . هنالك طالب أسترالي واحد استطاع أن يربط الحمام برمز السلام ، وعند سؤالي له عن السبب اكتشفت أنه يحضر لدراسة الماجستير في شؤون الشرق الأوسط . في حين أن طالبة أسترالية أخرى ، وهي متزوجة وأم رأت في صورة الحمامة رمزا للأمومة .
أما بالنسبة لصورة الشامة والخلود فقد استغرب الجميع توظيفها في قصيدة غزلية على أساس أن الشامة جسم غريب يحمل في خفاياه احتمالات التحول إلى سرطان ، في حين أن طالبا واحدا يدرس الطب أشار إلى أن الشاعر ربما استخدم الشامة دلالة على تأصل الحالة الوجدانية لدى الشاعر بما أن الشامة لا يمكن إزالتها إلا بالاستئصال .
كما ترى عزيز القارئ أن استخدام مفردة واحدة أعطى النص عدة مفاهيم دلالية تبعا لثقافة كل قارئ وبيئته المهنية أو الدراسية أو حتى الاجتماعية مما يؤكد أن النص يستحضر في وجوده مناخا تفسيريا خاصا يستتبع مستويات متعددة للعبة الدلالية ، مع التذكير بأن النص الإنجليزي لهذا المقطع يفتقر إلى جماليات الأدوات الشعرية وانسياب القافية والخصوصية الغنائية التي عادة ما تتمتع بها نصوص محمود درويش . والأطرف من ذلك أن انطباعات الطلبة اختلفت تماما بعد سماع الأغنية إذ أشار الجميع إلى نبرة الحزن في المقطع الملحن والذي جاء على مقام الصبا ، إن لم أخطئ التقدير . هذا يدل على تغير المعنى الدلالي للنص لدى جمعه مع وظيفة تعبيرية أخرى تمتلك أدواتها الفنية الخاصة .
تلخيصا لما سبق ، لا أدري إن كان قارئي العزيز يتفق معي على إن النص المترجم عادة ما يصطدم بإشكالية ثقافة النص المنتج عبر علاقات لغوية تتحكم فيها آليات دلالية تختلف عن تلك التي تعود القارئ سماعها ، قد يفهم النص لكنه ليس شرطا أن يتذوق المعني الجمالي للنص . فلوعدنا إلى نص محمود درويش وقاربناه بطريقة تحليلية معمقة لوجدنا أن النص يتوزع على مساحات دلالية مرتبطة بالواقع الفلسطيني الذي يرى في الحمام رمزا للسلام في صراعه اليومي لإثبات وجوده على أرضه وربما يرى البعض في ذلك الرمز ، كما وظفه محمود درويش ، دعوة للتعايش لو افترضنا أن المخاطب هنا هي فتاة يهودية . أما بالنسبة للشامة فهي بالنسبة للقارئ العربي واحدة من معايير الجمال التي تضيف على المحبوبة حسنا آخر.
منقول للفائدة
http://www.alshaikh.com/ArticleDetails.asp?hArticleNo=916