المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسرار صاحب الستر - رواية - الجزء الثالث - ابراهيم درغوثي - تونس



ابراهيم درغوثي
21/12/2006, 09:26 PM
أسرار صاحب الستر
رواية
الجزء الثالث

ابراهيم درغوثي / تونس



ديوان المجذومين والعميان
والبرصان والعرجان والحولان .


طلائع الحزب تصل إلى قصر الرصافة .

طاف المنادون بأسواق " دمشق " وأزقتها وحواريها وضواحيها ، وفي بادية الشام ، ينادون المجذومين والعميان والبرصان والطرش وكل ذي عاهة . فتداعى هؤلاء المنبوذون من كل مكان ويمموا وجوههم شطر عاصمة الخلافة .
جاءوا من " أرمينية " و " أذريبجان " ومن " إفريقية " و " الأندلس " ، فقد عمم أمير المؤمنين " الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان " منشورا سلطانيا على كل أمصار الدولة الإسلامية وطلب منهم أن يحرضوا أصحاب العاهات على الذهاب إلى " دمشق " بعد أن ينفحوا كل واحد منهم ما ينفق أثناء الطريق .
قرأ الولاة منشور الأمير وطلبوا من وزرائهم تطبيق تعليمات الخليفة ، وهمسوا في آذانهم بأن خزائنهم خالية ، وبأن الأموال ذهبت في أيدي قواد الجيش الذين صرفوها في الجهاد في سبيل الله وفي قتال الكفار من بربر وترك وعلوج وأعاجم وروم .

قال الوزراء للأمراء سنتصرف ولن نعدم الحيلة .
ورد الأمراء : كيف يا حكماء الزمان ؟
فقال الوزراء : سنزيد في الضرائب .
ووافق الأمراء على هذه الفكرة الطريفة ، فتكدست الأموال وفاضت على الخزائن وعم الرخاء القصور وضواحيها . ووجد الأمراء من أين يدفعون لمعاقي بلدانهم تفقات السفر إلى عاصمة الخلافة الأموية .
وتجمهر أصحاب العاهات في ساحة الاجتماعات القريبة من السوق وهم يتساءلون عن سبب لم شملهم ، فكثرت التخمينات والاجتهادات . فمن قائل بأن الأمير ينوي بهم شرا لأن جلهم لا يصلح للحرب والنزال واقتحام المصاعب والأهوال ونشر دين الله ورفع راية الإسلام خفاقة على مدى الدهور من جبال " الهملايا " إلى جبال " البرانس " .
إلى قائل بأن هذا الكلام هراء ، وإن الله وحده يعلم ما يخفي الأمير ويبطن ، ولكن الدلائل تقول إن الأمير رقيق وطيب ولا يقدر على إيذاء عصفور .
وتواصل هذا الهرج أياما إلى أن جاء " رئيس الحرس السلطاني " واجتمع بهم وخطب فيهم وحرضهم قائلا بلهجته العسكرية القاطعة :
لبوا دعوة أمير المؤمنين فقد قرر أن تكونوا طليعة حزبه .
احزموا أمركم ، وهيا بنا إلى قصره بالرصافة .



أمير المؤمنين يشارك في لعبة اليانصيب .

عمت الأفراح الساحة ، وانطلقت صيحات الفرح من كل مكان ، فرقص الرجال على رجل واحدة ثم اتكأ العميان على المجذومين والعرجان على البرصان وتحرك الحولان يقودون طليعة الموكب .
ساروا هاتفين بحياة " أمير المؤمنين " الوليد بن يزيد ، إلى أن وصلوا تحت أسوار القصر .
تجمعوا تحت الأشجار ، وترقبوا خروج الخليفة .
ولم يطل ترقبهم ، فقد أطل عليهم من شرفة بالقصر عليه ثوبان : إزار ورداء يقيئان الزعفران قيئا ، فسلم على جمهوره أكثر من مرة . والجمهور يصفق ويصفر تصفير الاستحسان والفرح ، إلى أن طلب منهم بحركة من يده الهدوء والاستماع لخطبته . فخفتت الحركة وساد الساحة سكون .
بدأ الأمير خطابه بالصلاة والسلام على رسول الله وعلى ، وترحم على أرواح المسلمين الذين استشهدوا في ساحات الوغى – ( والغريب في الأمر أنه لم يعرج على ذكر علي بن أبي طالب ، ولم يلعنه ولم يسب ذريته ) – ثم شكر لهؤلاء الناس تلبيتهم دعوته ، وأعلن أمامهم وعلى رؤوس الأشهاد أنه سيخرج من بيت مال المسلمين كل أنواع الطيب والتحف التي جمعها الخلفاء قبله ليوزعها على عيالات المسلمين . وأطنب في وصف قوارير العطور وأشكالها وأنواعها وطيب رائحتها ، وكيف أنه قرر أن لا يحرم منها نساء أعوانه القريبين إلى قلبه . ومر بعد ذلك إلى الحديث عن التحف التي ملأت خزائن بيت المال . تحف جاءت من كل مكان : من قصور الفراعنة في مصر إلى إيوانان الأكاسرة ودهاقنة الأتراك . تحف عجيبة تحار العين في حسنها ، صحون من البلور المكسو بالذهب ، وكؤوس من الفضة المرصعة بالجوهر والياقوت ، وأقفاص لحيوانات وطيور ، وموائد من الذهب الخالص ، وصور مرسومة على زرابي بخيوط الحرير الملون ، وأشياء كثيرة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت .
ثم أضاف : كنت أظن أن عدد طليعة حزبي أقل من هذا العدد . وبما أن ظني كان في غير فحله ، فسأطلب من
" صاحب الخاتم الصغير " أن يكتب أسماء الحاضرين على أوراق ثم نقوم بعملية سحب ومبروك للفائزين .
بعد ذلك أكد الخليفة أنه سيزيد في أعطيات الناس وفي رواتب الموظفين المسجلين في ديوان العطاء ، وأنه سيرفع في رواتب أهل الأمصار جميعا عشرة دراهم . وأنه يدعو أصحابه هؤلاء إلى الإقامة هنا في دمشق لأنه سيمنح أهل الشام عشرة دراهم أخرى زيادة على بقية الأمصار لقربهم منه .
وأمر بإعطاء خادم لكل مجذوم وأعمى .
ومتع كل واحد من البرصان والحولان والعرجان بجارية يختارها على هواه من أسواق النخاسة .
كما أعلن أنه سيخرج في موكب لمواساة البؤساء والضعفاء والعجزة والقاعدين ، وأنه سيوزع الهدايا على أطفالهم ، وأنه سيضاعف الأعطيات والهبات لأقربائه الذين قدموا عليه وأعلنوا مساندتهم له ، وبايعوه على الطاعة مدى الحياة .
وقال إنه سيتألف أهل مكة والمدينة ، سيسترضيهم بأن يعيد لهم أرزاقهم وحقوقهم التي سلبها عمه هشام ، وعطلها حولا كاملا عقابا لهم لأنهم أعربوا عن تأييدهم ل " زيد بن علي بن الحسين " لما خرج عليه بالكوفة .
وراح يردد " مكة " موطن أجدادي و " المدينة " مدينة الرسول . وعمي هشام ظالم غشوم حين عاقب المدينتين بجريرة مجموعة صغيرة من الناس . أما أنا فلن أكون مثله سوطا على أبناء عمومتي .
وقرر أن يكون حديثه في نهاية الخطبة عن أحوال الشام . والشام صرة الدنيا كما قال . لهذا سعى إلى تحسين أحوال المواطنين ، فأمر منشآت مائية على النهار للنهوض بالزراعة وتوسيع رقعة الأراضي الفلاحية .
كما قرر أن تكون الأرض ملكا للعاملين بها .
وأعلن أنه سيستغني عن كل موظفي هشام : أصحاب الشرطة والرسائل والخراج والجند والخاتم والخزائن وبيوت الأموال والحرس والخاتم الصغير والحجابة وصاحب الستر ، وكل البصاصين . وأنه سيسمي عوضا عنهم جماعة من طليعة حزبه .
ما كاد أمير المؤمنين ينهي خطبته ، حتى انهالت الأكف على الأكف في تصفيق محموم دام نصف ساعة ، وكلما فتر لحظة عاد إلى الارتفاع من جديد . وتخللته هتافات بحياة " خليفة رسول الله " و " أمير المؤمنين " وقاهر الكفار والمرتدين ونصير المستضعفين .
ثم ارتفع صوت من الحاضرين يدعو إلى اعتبار هذا اليوم عيدا وطنيا . وطالب آخر بتسمية هذه الساحة باسم أمير المؤمنين الوليد بن يزيد . وكثرت الاقتراحات ، فتمنى عليهم الأمير الاقتصار على الأهم وترك البقية إلى مؤتمر الحزب القادم ، فتجاوب معه الحضور بالتصفيق والتهليل والتكبير .



مسيرة تأييد .

اتكأ العميان على المجذومين والعرجان على البرصان ، وتحرك الحولان في طليعة الموكب .
كانت مسيرة عظيمة لم ير لها أهالي دمشق مثيلا منذ أيام الفتح الذي قاده المنصور بالله خالد بن الوليد المخزومي .
كانت مسيرة صاخبة رفع فيها المتظاهرون شعارات التنديد بالخليفة السابق والتأييد للخليفة الجديد " الوليد بن يزيد " ودعوا له بالسلامة وطول العمر .
ولم تنته إلا بحلول الظلام .


اجتماع المعارضة

في تلك الليلة اجتمع أنصار " الحزب القادري " في منزل بالمزة كان على ملك " صالح بن سويد " تلميذ " غيلان بن مسلم الدمشقي " اشتراه واحد من الموالي الموسرين بعد مقتل صالح وحوله إلى ناد يلتقي فيه المتذمرون والساعون إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي .
كان الاجتماع حاشدا على غير العادة ، فلم يدقق الحارس في هويات الداخلين إلى المنزل مما سهل اند ساس ثلاثة بصاصين بعث بهم أمير " أمير الحزب الجبري " فحضروا الاجتماع على أنهم من أنصار " إفريقية " وأنهم وصلوا " دمشق " منذ يومين فقط .
تدارس الحاضرون الوضع العام للبلاد ، وانتخبوا وفدا منهم للاتصال بالأمير الجديد لتذكيره بعلاقته بمؤدبه وخليله " عبد الصمد بن عبد الأعلى " الذي كان واحدا منهم ، ولحثه على الإفراج على معتقلي الحزب والإسراع في تنفيذ خططه الإصلاحية والسياسية والاجتماعية .
وتحدثوا بإطناب عن الاجتماع الذي ترأسه الوليد في ساحة قصره واستبشروا خيرا بتسامحه مع أهل مكة والمدينة . وطال الاجتماع إلى أن نادى الآذان لصلاة الصبح ، فتفرق الجماعة . وذهب البصاصون يكتبون تقاريرهم إلى " صاحب الشرطة " الذي عينه الوليد منذ ساعات .



تقرير عن اجتماع " الحزب القادري " بضاحية المزة
يوم الخميس 7 ربيع الآخر 125ه
على الساعة العهاشرة والنصف ليلا .

حضر الاجتماع عناصر مختلفة من العرب والموالي من أنصار القدرية " مجوس هذه الأمة " الذين قال واحد منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيقدر الله على الشر ، ثم يعذبني ؟ فرد عليه : نعم ، وأنت أظلم .
هذه الجماعة تصدى لها أجداد أمير المؤمنين وأعمامه ، فطلبوا من العلماء والفقهاء من أهل السنة مجادلتهم لدحض آرائهم ونقض مقولاتهم التي تدعو إلى الزندقة وتحث على الكفر .
وقد كافح ّ الخلفاء هذه الجماعة بالاعتقال والنفي والإعدام ، ولكن أنصارهم ما زالوا في تكاثر يبثون سمومهم في الأمصار القريبة والبعيدة ويتآمرون على أمن الدولة . وقد طالبوا الليلة الماضية بأن تصبح " الخلافة " حقا لجميع المسلمين
قرأ " صاحب الشرطة " تقارير بصاصيه وركنها جانبا غي صندوق قائلا :
- لن أفسد على مولاي فرحته بهذا الهراء ، وسأتكفل بملاحقتهم . أما الآن فسأترك سيدي خليفة المسلمين يرتاح قليلا بعد تعب هذا اليوم العصيب .
ولم يذهب للنوم إلا بعد أن سمع مولاه يقول : الآن ، وقد اطمأن قلبي على مصير الشعب الكريم وقد كلفت به وزراء وحجابا جددا ، سأهتم بنفسي ، فلنفسك أيضا عليك حق . أليس كذلك يا وليد ؟


أسرار الأرواح المجنحة .

ّ وددت أن كل كأس تشرب من خمر بدينار ،
وأن كل حر في جمجمة أسد . فلا يشرب إلا سخي
ولا ينكح إلا شجاع "

الخليفة " الوليد بن يزيد "


سر الدوران عكس اتجاه الشمس

الدار وسيعة رائعة الجمال ، مفروشة بالرخام . والنوافذ تطل على حديقة غناء . ومجلس الأمير مزين بالرخام بين كل رخامتين قضيب من الذهب . والحيطان منقوشة بالفضة
وفي وسط المجلس أربعة فرش من خز أحمر ومثلها مرافقها . والستائر نادرة في أشكالها وألوانها قد ابتدعت خصيصا للأمير . وفراش الأمير قد نظم بالدر الأبيض والياقوت الأحمر والزمرد الأخضر .
كان المغنون والعازفون والطبالون والزمارون في حالة تأهب حين وصول الأمير الذي جاء وعليه جبة وشي تلمع بالذهب التماعا ، ورداء وشي وخف وشي ، وفي يده عقد جوهر ، وفي إصبعه الوسطى خاتم ياقوت أحمر قد كاد البيت يلتمع من شعاعه ، فتصدر المجلس وأعطى إشارة انطلاق الحفل .
جس " معبد " عوده جسات خفيفة ، وحنا عليه حنو الوالدة على وليدها ثم بدأ في الغناء .
كنت أتابع تشنجات وجه الوليد . أطرب لطربه ويصيبني الخوف حين تعلو وجهه سحابة حزن ، فتخبو نظراته وتغيب البسمة من على شفتيه . هكذا جيئة وذهابا ، كان الحزن والفرح يتناوبان عليه إلى أن غلب الانبساط على أساريره ، فصاح :
- أحسنت والله يا أميري .
وفاحت في القاعة رائحة مسك وعنبر .
وانبسط الحاضرون ، فراحوا يعلقون على غناء " معبد " في همس خفيف .
وأجاد " معبد " في الغناء والترنم بالألحان الملاح وقول الشعر ، فعاد الأمير يصيح :
أعد فداك أبي وأمي .
إلى أن استخفه الطرب ، فأشار لي بإصبعه أن إنه الجلسة مؤقتا .
أومأت إلى الحاضرين بالانصراف ، فانصرفوا ولم يبق إلا " أشعب " الذي أمسكه الوليد من رجله حين هم بالانصراف ثم سحب سراويله فبانت عورته صغيرة كإصبع الغلام ، والتمعت إليتيه المدهونتان بالزيت فضج الحضور بالضحك والأمير يصيح ويرفس الأرض برجليه ولا يكاد ينتهي من الضحك حتى يعود إليه .
ونصب الخوان ، فأكل الحاضرون مما لا عين رأت ولا أذن سمعت وما لم يخطر على البال .
أكلوا وشربوا حتى البشم ، ثم رفع الخوان فعاد " معبد " إلى الغناء و " أشعب " الذي استرد سراويله المصنوعة من جلد قرد له ذنب طويل ، شدت في رجليه أجراس وفي عنقه جلاجل يرقص كالقرود ويغني وراء " معبد " بصوت أجش ليفسد عليه ترنيماته وتلاحينه . فيرفسه معبد برجله ويسقطه أرضا ولكنه يعود إلى القيام والسقوط بعدما فعل فيه السكر فعله .
وكان الوليد يصيح :
- أعد فداك أبي وأمي .
ثم وثب من سريره مهمهما :
- ليلة كليلة أبي يزيد .
ونادى جواريه ، فجأن كالدر المكنون . فطلب منهن أن يفعلن فعله . وجعل يدور في الدار وهن يدرن معه . ويغني ، فيغنين :

يا دار دوريني * يا قرقر امسكيني
آليت منذ حين * حقا لتصرميني
ولا تواصليني * بالله ، فارحميني
لم تذكري يميني .

ولم يزل يدور كما يدور الصبيان ويدرن معه حتى خر مغشيا عليه ، فوقعن فوقه لا يعقلن ولا يعقل .
فطلبت من الخدم أن يقيموه ، فأقاموه وأقاموا من كان على ظهره من جواريه وحملوه ، وقد جادت نفسه أو كادت .
فأغلقت الستارة ، وذهبت لأنام .





سر عسل الجنة .

قال لي "الوليد " اشتقت إلى " حماد الراوية " يا صاحب ستري ، وسكت ففهمت أنه يطلب مني إحضاره إلى مجلسه وأنه ينوي السكر والعربدة هذه الليلة لأن " حماد " كان من أصدقائه الخلص أيام التشرد في بادية الشام وفي قصور
" البخراء " ، فبعثت في طلب حماد على أن يحمل على أحصنة البريد فوصل عند السحر والقمر طالع وعند الوليد جماعة من ندمانه .
فقال له قبل أن يجلس :
- أنشدني في النسيب .
فأنشده ، وعليه غبار الطريق أشعارا كثيرة فلم يهش إليها حتى قال :
أصبح القوم قهوة * في الأباريق تحتذى
من كميت مدامة * حبذا تلك حبذا .
فوقف الأمير واهتز طربا واقتبل " حماد " في حضنه ، وجعل يدور وإياه دوران الدوامة ، وهما يرددان الأهزوجة مرددين :
" حبذا تلك حبذا " .
ثم التفت الأمير ناحيتي ، وأشار لي ، فأومأت إلى خادم كأنه الشمس كان قائما عند رأسه فكشف سترا خلف ظهر الأمير فطلع منه أربعون وصيفا كأنهم اللؤلؤ المنثور في أيديهم الأباريق والمناديل .
فقال الأمير :
- اسقوهم من عسل الجنة .
فما بقي أحد إلا أسقي . و" حماد " ينشد الشعر ويغني والجواري يتمايلن أمامنا أقمارا تمشي على الأرض وهن لا يمتنعن على أحد .
فمازال الأمير يشرب ويسقي إلى طلوع الفجر .
وارتمى الندمان صرعى كالأموات . ولم يجار الأمير في الشرب سوى " حماد الراوية " الذي لم يمتنع عن الشرب إلا حين رآني أغمزه بعيني ، فتماوت مع الموتى .
وانسل الأمير لينام ، فطلبت من الفراشين حمل أصحابه على البسط فحملوهم وألقوا بهم في دار الضيافة .
وبقيت واقفا أحرس الستارة حتى طلعت الشمس .





سر الدير

عندما نقص عدد الخصيان في القصر وكثرت الحاجة إليهم ، حزن الأمير حزنا شديدا فهو يحبذ خدماتهم ووقوفهم أمام مقصورته ودخولهم عليه مقصورته وهو نائم أو نصف يقظ يغازل جواريه . فهم عنده من جملة زينة القصور كتحف الذهب وملابس الحرير .
رأيت الحزن في عينيه ، فاقترحت عليه أن نذهب إلى دير النصارى في غوطة " دمشق " لنختار للقصر مجموعة أخرى من الخصيان .
ابتهج الأمير كطفل يوعد بلعبة وطلب أن أترقبه مدة حتى يجهز نفسه للمأمورية ، ثم تنكر في لباس تاجر مغربي وألبسني مثله وقصدنا الدير .
وصلنا عند منتصف النهار ، فطلبنا مقابلة القيم على الدير الذي ترقباه زمنا حسبناه طويلا خاصة والأمير لم يعتد الترقب إلى أن وصل شيخ وقور بادرنا بالتحية فرددنا على تحيته بأحسن منها وعرفناه بأنفسنا . فقال إنه عرفنا من ملابسنا – ورأيت على شفتيه طيف ابتسامة – وزاد في الترحيب بنا . وسألنا عن الغرض من زيارة الدير ، فأعلمناه أننا نرغب في شراء عدد من الخصيان . وشدد الأمير على أن يكونوا من الصبية الصغار ، فأدخلنا القيم حجرة واسعة وعرض علينا عددا منهم .
كان هناك أطفال من كل الأجناس : صقالبة وزنوج وبربر وإفرنجة ومن الصين والروم . أطفال تطل من عيونهم نظرات وديعة ، باهتة كضوء القمر من وراء الغيوم . كانوا يتحركون بهدوء ويتهامسون فيما بينهم بخفر البنات .
حين رأوا نظراتنا تتفحصهم ، تكوموا في ركن من أركان الحجرة ، وغطوا وجوههم بأيديهم الصغيرة .
قال القيم إنهم استأنسوا ببعضهم بعضا ، وإنهم يحزنون كثيرا حين يفتقدون أحدهم فيغطي كل واحد منهم وجهه حتى لا يقع عليه الاختيار .
وكان أكثرهم لا يعرف العربية .
زدنا منهم اقترابا فتفرقوا في أرجاء الغرفة كما قطيع غنم هاجمه ذئب . وأعجبت اللعبة الأمير ، فصار يخاتلهم ويجري وراءهم ويضحكهم بحركات كحركات المهرجين التي تعلمها في مجالس لهوه إلى أن أطمأنوا إليه فاقتربوا منه وصاروا يرتمون في حضنه فيلاعبهم ويلاعبونه .ووصل الأمر بأحدهم أن حاول نتف لحية الأمير ، فكدنا تفتضح .
وعرى الأمير سوأة أصغر الأطفال ، فوجدها ممسوحة والجرح ملتئم فكأن لم يكن هناك في وقت من الأوقات عضو يحمل لصاحبه الخير والشر ، مما أشعل رغبة الأمير في التعرف على كيفية خصاء الأطفال فعبر لي عن هذه الرغبة ووضع في يدي خاتم ذهب استله من خنصره . فقدمت للقيم الخاتم وسألته أن يحكي لنا كيف تتم عملية الخصاء . رأيت الحرج في عينيه ، واعتذر بأنه غير مسؤول عن هذا العمل الذي لا يرضي الله – وعدت ، فرأيت على شفتيه طيف الابتسامة السابقة - ، وطلب منا أن نترقبه لحظة .
ولكن لحظة الشيخ دامت أكثر من ساعة مما أغضب الأمير ، فدعوته بلطف أن يهدأ فعاد للعب مع الأطفال .
وأخيرا ، جاء قيم الدير مصحوبا برجل صار يحدثنا عن الخصاء وكأنه يحدث عن مشهد في سوق المدينة .
قال إنه يؤتى بهؤلاء الصغار ، فيختار في الكنيسة أجملهم وأكثرهم صحة وعافية . ثم يعرضون على طبيب فيمسح القضيب والمزودان في مرة واحدة وذلك بأن يشق المزودان فتخرج البيضتين ثم يجعل تحت القضيب خشبة بعد أن يقط من أصله . ويلحم الشق بعد أن يجعل مرود رصاص في منفذ البول إلى أن يبرأ المخصي .
التفت إلى الأمير ، فرأيته يتحسس مكان سوأته ويرتجف فأصابني رعب شديد ونظرت إلى الرجل فرأيته في شكل مسخ مقزز .


وتكلم فقال :
- كثير من هؤلاء الصغار يموتون بعد أن يقط الطبيب أعضاءهم فنبيع من يبقى منهم على قيد الحياة بأثمان عالية لا يقدر عليها إلا أهل اليسار والنعمة .
وقال قيم الدير، وشبح الابتسامة يعاود الظهور على شفتيه:
- لكنني سأبيعكم ما تحتاجون إليه بالثمن الذي يرضيكم .
التفت والأمير في نفس الوقت ناحية الأطفال ، فرأيناهم يلعبون بهدوء وهم يمرحون في ساحة البيت الوسيعة وكأن هموم الدنيا لا تعنيهم .
وقام الأمير، فاختار خمسة أطفال وأوصى قيم الدير قائلا :
- جهز هؤلاء الطفال ، فستصل عربتنا بعد قليل .
ودفع للقيم ثمنهم وزاده فوق الثمن هدية . وانصرفنا ، وشبح الابتسامة يرتسم مرة أخرى على شفتي العجوز .


dargouthibahi@yahoo.fr