المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فارس النور: باولو كويلو: ترجمة أسماء غريب



أسماء غريب
21/12/2006, 09:49 PM
فارس النور

http://arte2.tiscali.it/pittura/Media/foto/2005/10/gauguin/gaug.jpg

أنا سعيد.
أكثر الجمل تداولا في الحوارات الصحفية....هكذا حينما يقول لك الصحفي: وماذا عنك أنت الآن و قد حققت ذروة سعادتك؟
سؤال مستفز، لا يستحق سوى ردة فعل سريعة:
من قال أني سعيد؟ أنا؟ طبعا لا، لأني لست بسعيد، والبحث عن هذه السعادة لا ينتمي مطلقا إلى عالمي و ما هو واضح و بشدة بالنسبة لي، هو أنني ومنذ أن وعيت وجودي كإنسان، لم أقم إلا بما أحب القيام به، و هذا ما يفسر أمر انتهائي لثلاث مرات في مستشفيات علاج الأمراض النفسية، ثم أني قضيت أيضا بعضا من الأيام في الأقبية الأرضية لنظام الحكم الدكتاتوري العسكري البرازيلي، كانت أياما قليلة و لكنها مريرة و مرعبة. فقدت بسرعة شديدة أصدقائي و حبيباتي و لكن اكتسبت بنفس السرعة أصدقاء و أحبة آخرين. مشيت بطرقات لو عاد الزمن بي إلى الوراء لربما فكرت في عدم ارتيادها و تجنبها. و لكن كان ثمة شيء يجذبني دائما إلى الأمام، قد يكون كل شيء سوى دافع البحث عن السعادة، لأن كل همي، كان شغفي و فضولي المعرفي كي أتمكن من مواجهة التحديات بنجاح أو فشل. ندوبي كثيرة و لكني أحمل في جعبتي كل اللحظات التي لم يكن في استطاعتي اكتشاف جماليتها لو لم أجرب تجاوز طاقاتي و حدود قدرات التحمل لدي. و كلما عبرت مخاوفي ووحدتي كلما زاد يقيني بأن الإنسان السعيد لا يمكنه أن يمر أو يحس بما مررت به. و يبقى من الواضح أن الأمر ليس على هذا النحو من الأهمية: فأنا فرح، نعم و لكني لست بسعيد و شتان بين الأمرين، لأن السعادة بالنسبة لي قد تكون مثلا كدفئ مساء أحدي، حيث لا مكان لأي نوع من أنواع التحدي ولكن فقط شيء من الراحة التي ستتحول بعد ساعات إلى ملل، بعدها، البرامج التلفزيونية ليوم الأحد هي دائما نفس البرامج و لا جديد، ثم بعد ذلك ستهل عليك الشاشة ببرامج السهرة ثم ستبشرك بقدوم يوم الاثنين في كامل حلّته الروتينية المملة.
أتحدث عن كل هذا لأنني فوجئت بعنوان تقرير شامل، على أغلفة أحد أشهر المجلات الأمريكية، التي عادة ما تهتم بالقضايا السياسية، كان الموضوع يحمل عنوان "علم السعادة: يوجد في النظام الجيني للإنسان؟" و بغض النظر عن الأشياء البديهية التي تناقش في مثل هذه المواضيع (جداول تضم إحصائيات البلدان الأكثر أو الأقل سعادة، دراسات حول محاولة الإنسان إعطاء معنى لوجوده و حياته، و ثمان نصائح تساعد المرء على خلق الانسجام في كيفية معيشته). فإن من ضمن ما طرحه التقرير أيضا بعض النقط الجديرة بالاهتمام حقا، والتي اكتشفت من خلالها و لأول مرة أنني لست الوحيد الذي يفكر بنفس طريقتي.
1- الدول التي تقل مداخيلها عن 10.000 دولار في السنة هي الدول التي يعاني سكانها من التعاسة و لكن رغم كل ذلك فقد اكتُشف أن الفرق المالي بين الأشخاص ليس بمعيار أكيد، حسبما أثبتته الدراسة المجراة على أربعمائة شخص الأكثر غنى في أمريكا، حيث تم التوصل إلى أن هؤلاء الأشخاص هم أكثر سعادة من أولئك الذين يصل مدخولهم السنوي إلى 20.000 دولار و هكذا تصبح فكرة الرفض المطلق للفقر هي النتيجة الأكثر عقلانية لكل هذا. و لكن هذا لا يمنع من بقاء التعبير القديم و القائل بأن المال لا يجلب السعادة، تعبيرا قائما و قابلا للتداول حتى اليوم.
2 - نكتشف أيضا أن السعادة ما هي إلا نوع من التحايل على نظامنا الجيني حتى ندفعه إلى القيام بدوره الوحيد: الحفاظ على النوع البشري بالضبط كما يحدث حينما نضغط على أنفسنا متشحين بقناع البحث عن اللذة كي نتمكن من الاستمرار في الأكل أو ممارسة الجنس.
3 - كل من يدعي السعادة فهو كاذب، لأنه لا يوجد ثمة سعيد على البسيطة قانع بما لديه: ستبقى دائمة الحضور تلك الرغبة في الجري مثلا وراء امرأة أكثر جمالا من سابقتها أو وراء الحصول على بيت أكبر من السابق أو الجري وراء شراء سيارة جديدة. كل هذا ما هو إلا إشارة دقيقة و رفيعة جدا إلى غريزتنا الأم: الصراع من أجل البقاء، فإذا ما حدث و أحس الناس بالسعادة المطلقة فلن يصبح لدى أي شخص الرغبة في القيام بشيء مخالف و سيتوقف عندها العالم عن الاستمرار.
4- سواء على مستوى بنية المتطلبات الجسدية (الأكل و الجنس) أو على مستوى أرضية المتطلبات الحسية (الرغبة فيما لا نملكه)، فإن تطور الإنسان دفعه إلى تأسيس قاعدة شديدة الأهمية: لا يمكن للسعادة أن تدوم. فهي ستبقى مكونة دائما من لحظات بشكل لا يمكّننا من الجلوس باسترخاء على أريكة ما من أجل تأمل العالم عن بعد.
النتيجة: من الأفضل لنا أن ننسى فكرة البحث عن السعادة بأي ثمن و علينا أن نبدأ في رحلة البحث بدلا عن كل هذا ، عن بحار مجهولة، أشخاص غريبي الطبع، أفكار مستفزة، تجارب شجاعة. هكذا فقط يمكن للإنسان أن يعيش آدميته، حتى نساهم في بناء حضارة أكثر انسجاما و سلاما في ظل ثقافات أخرى.
طبعا لكل شيء ثمنه، ولكن إذا كان الشيء يستحق هذا الثمن فلم لا ؟

عن الكاتب الفيلسوف و المتصوف البرازيلي
Paulo Coelho
ترجمة: أسماء غريب