المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : صرير القلم أم صريفه ؟



خليف محفوظ
29/12/2008, 03:45 AM
كان ذلك منذ سنين خلت ، كنت في الخدمة العسكرية بالصحراء ، ضابط احتياط . كانت لنا رفقة طيبة ، بعد انقضاء اليوم الشاق بالتمارين و التدريب ، نتحرر ، نعانق الصحراء على امتدادها الشاسع ، نتحلق في جلسة شاي مع الغروب الساحر ، نغرق باللعب في نادي الضباط ، ونشطب على يوم اخر مع انطفاء الشمس وراء تلك الرمال المترامية الأطراف.
في الصيف تتحول غرفنا في الليل إلى أفران يستحيل المبيت بها ، فكنا نخرج فراشنا إلى البطحاء ، ونقضي الليل تحت السماء .
كان من أحب تلك الرفقة إلي صديقي حبيب المقداد ، فتى أوتي علما وأدبا و صوتا جميلا ، يصلي بنا التراويح فيملأ نفوسنا خشوعا . يغني لنا في أماسي الشاي خارج أسوار الثكنة فيملأنا طربا .
في تلك الليلة كنت أول من يحمل فراشه ويبسطه في البطحاء ، تمددت شابكا يدي خلف رأسي أحدق في النجوم وفي خيالي صورة أمي التي تفصلني عنها مئات الكيلومترات .
وقطع علي حبيب المقداد خلوتي يحمل فراشه بين يديه يبسطه بجواري ثم يتمدد ويحدق حيث أحدق .
ولأنه كان خريج كلية الأدب كان نقاشنا يدور دائما حول مسائل أدبية لغوية .
كانت تلك الليلة ملأى بالنجوم ، ونسائم لطيفة تتنفس بها الصحراء بعد نهار قائظ .
كان نقاشنا ليلتها حول الأصوات :
يسألني :
- ما صوت الغنم ؟
فأجيبه :
- الثغاء
و أسأله :
- ماصوت البقر ؟
فيجيبني :
- الخوار .
- ما صوت الضفدع؟
- النقيق.
- ما صوت الجمل ؟
- الرغاء .
- ما صوت الغراب ؟
- النعيب .
- ما صوت الثعلب ؟
- الضغاء .
وسكت قليلا ثم سأل :
- ما صوت القلم ؟؟
فأجبت:
- الصريف .
فاعترض :
- لا ، إنه الصرير .
- لا ، أنا على يقين بأنه الصريف .
- و أنا على يقين بأنه الصرير .
- إذن غدا نحتكم إلى القاموس بمكتبة الثكنة ، ومن كان على خطأ يدفع ثمن القهوة لمن كان في النادي
- موافق .
وكان هذا آخر سؤال ، إذ جاء بقية الرفاق من النادي وبسطوا أفرشتهم ، وتغير مجرى الحديث .

في الصباح انصرفنا إلى تنفيذ برنامجنا اليومي على أن ننظر في القاموس مساء .

كان برنامجي أن أدرب جنودي على استخدام الخريطة و البوصلة و نظارات الميدان وحساب المسافات .
وكان برنامج حبيب المقداد أن يدرب جنوده على استخدام القاذف الصاروخي Rpg7 .
كان في حقل الرمي ، وكان يجمع جنوده حوله في مربع ناقص ضلع. ثم فجأة سمعت الصاروخ ينطلق ، والجنود يهربون في كل اتجاه ، ورفعت نظارات الميدان إلى عيني لأرى حبيب المقداد واقعا على الأرض وقد انفصلت عنه فخذه من أصلها.
وجرينا نحوه ، كانت مازالت به بقية روح ، كان يرفع سبابته بالشهادة ، حملناه في الاسعاف نسابق الزمن ، لكن أقرب مدينة إلينا تبعد عنامئة كيلومتر .
في الطريق حلقت روحه إلى بارئها و سبابته تشير بالشهادة .
مات صديقي حبيب المقداد لخطأ في تدابير الإحتياط الأمني إذ وضع قمع القاذف الصروخي إلى فخذه
ولسنا ندري كيف ضغط على الزناد في تلك الوضعية ، فأحرقت الغازات و اللهب المندفع من القمع فخذه ، وهي كفيلة أن تحرق على بعد ثلاثين مترا .
وشربت الحزن ذلك اليوم كؤوسا مقطرة ذرفتها على صديقي في جلسة مساء بلا طعم .
وقلت لنفسي : سبحان الله كان آخر سؤاله حول " صوت القلم " ثم تذكرت قوله تعالى : "نون و القلم و ما يسطرون "كأن أجله أنطقه بهذا السؤال .
ودخلت المكتبة لأنظر في قاموسها ، من منا كان على صواب ؟
أهو صريف القلم كما قلت أم صرير القلم كما قال ؟
ويا عجبا !
كان كلانا على صواب ، صريف القلم وصريره ، هكذا حكم القاموس ، لكنا لم نشرب قهوة الرهان.

شوقي بن حاج
29/12/2008, 05:44 AM
الأديب/ خليف محفوظ

كأني بكسردت علينا قطعة من سيرتك الخاصة

بلغة قصصية تجذب إلى آخر حرف...

كأني بها قصة لغوية...

في الحقيقة لست ضليعا باللغة جيدا

وما لدي ما هو إلا تراكم مرحلة الثانوية

والمطالعة ...

ولا أخفيك أنني لم أسمع " بصريف" القلم إلا الآن

فالمعروف والمتداول هو " صرير "

تقبل الأقلام كلها

خليف محفوظ
29/12/2008, 02:50 PM
حقا يا صديقي كانت قطعة من السيرة الخاصة ، فلذة من ذاتي ، ما زلت أشيد قبرا لصديقي مقداد في أقصى زاوية من القلب .

قصة لغوية كما قلت ، لكني لم أنشئها لتمرير معلومة في أسلوب مسل ، بل هي التي كتبني في مجاهل الصحراء ذات زمن كانت فيه الأيام على قبل .

أما صوت القلم فيقال له أيضا " الصريف "

وفي الحديث النبوي الشريف ، حديث الإسراء و المعراج : " ...ثم عرج بي حتى ظهرت بمستوى أسمع فيه صريف الأقلأم.." يقصد الأقلام التي تنسخ بها الملائكة في صحفها باللوح المحفوظ .

شكرا صديقي المبدع شوقي بن حاج

ولك التحية و التقدير