خليف محفوظ
29/12/2008, 02:15 PM
وظلت صورة جدتي محمولة على الأكتاف ، مغطاة بالحائك الاحمر، لاتبرح عيني ،وجهها وقد تصلب ، صوتي الذي رددته جدران البيت ...
في الليل كنت ألتصق بظهر جدي ، أخاف أن تدخل علي جدتي بحائكها الأحمر و عينينها المطفأتين .
وكانت حسرة عارمة في قلبي ، كيف تحولت جدتي - نبع الحنان الدافق- إلى ذلك الكائن المرعب ؟
لم أطلع جدي على مخاوفي ، كان سينهرني لأن الرجل لا يخاف ، و أنا رجل في نظره.
كنت أخاف الليل ، أخاف الذئاب حين تتعاوى و تتنادى، أخاف نباح كلبنا "سحاب" حين يتغير صوته بالليل .
وكان جدي يحاول أن يصنع مني بطلا ، كان يقسو علي من غير هوادة ، يعلمني كيف أغسل ثيابي و كيف أخيطها ، كيف أعد الدراهم ، كيف أكون حذرا إذا ما نبح « سحاب " في الليل، فأخرج ولو مرة واحدة أتفقد الغنم .
كان يأخذني معه إلى السوق ، ندورفي رحبة الغنم ، يغرز أصابعه الخشنة في ظهر الكبش ، ثم يساوم البائع في غلاظة :
- كم أعطوك في هذا ؟
- خمسين .
- بع ، ستحمى الشمس و تنفض السوق .
و أتساءل مع نفسي ، ما دخل جدي في الرجل ؟
و يلتفت إلي :
- الغنم غالية اليوم يا سي سعد ، السوق القادم نأتي بالكباش .
نشتري مؤونة أسبوع من قهوة و سكر و زيت و غيرها ، ثم نعرج على مقهى متطرفة ، فيجلس جدي إلى أناس لا أعرف منهم إلا سي السعيد الذي بقي مع جدي إلى المساء يوم موت جدتي . يتحدثون ساعة ثم يستأذن جدي ونعود إلى البيت على البغلة الشهباء ، نخرجها من الإصطبل العمومي محملة بأغراض الأسبوع ، يردفني خلفه و ينخرط في حديث متشعب مع جماعة المتسوقين يقطعون به الطريق ، و أنشغل أنا بعد أعمدة الهاتف المتسلسلة مأخوذا بحفيف الأسلاك و بتلك الفناجين المرصوصة في رؤوس الأعمدة !! من يشرب بها القهوة ؟
حتى إذا وصلنا كانت المسافة التي قطعناها قد أنهكت قواي فيعفيني جدي يومها من مشاركته أشغاله.
وكانت الأيام الأخرى تتكرر، أخرج بالغنم صباحا مع "سحاب " إلى المرج ، ويبقى جدي يعمل بالبستان ، أو يكنس الزريبة ، و يعد الغداء . حتى إذا انتصف النهار جاءني يسوق معي الغنم إلى الزريبة.
كانت الأيام بلا طعم ، في المرج مع الغنم تنقبض روحي ، يزيدها انقباضا مشهد الغربان تحوم على مقربة مني ، ثم تحط بعيدا على هضبة جرداء .
كنت أكره الغراب ، أود لو أمسك يوما غرابا فأحرقه ،إذ كان يخيل إلي أن الغراب كائن شرير ، و أنه حين ينعب إنما يريد أن يقول شيئا ما ، شيئا لا أعرفه بالتحديد ، ولكنه شيء كريه لا يطاق .
و سألت جدي مرة :
- ما الذي يقوله الغراب عندما ينعب ؟
فتذمر قائلا:
- وهل أنا سيدنا سليمان حتى أفهم لغة الطبر ؟
ثم أمسكني من أذني :
- اسمع أيها الأحمق ، دع عنك الأسئلة الفارغة ، اسألني عن الأمور الهامة ، عن القيمة التي يبلغها الكبش في السوق القادم مثلا ، عن الأنسب ، بيع الكباش أم النعاج ؟ حدثني حديث الكبار يا سعد.
و لما أرخى أصبعه كان ظفره قد انغرز في لحمة أذني ، تدفق الدم غزيرا فاندهشت ولم أبك .
ابتسم و قال في زهو :
- هكذا أريدك شجاعا ، اذهب اغسل أذنك.
كان جدي يقتل في طفولتي بمطرقة من خشب ، تماما كما يفعل بالعجل عندما يقتل فحولته كي يغدو ثورا . و مع ذلك كنت أحبه ، لم يكن في وسعي إلا أن أحبه ، كان الإنسان الوحيد في حياتي ، لم أكن أعرف من العالم إلا جدي و "سحاب" و الغنم .
كانت المدينة القريبة منا عالما مستغلقا لا أدخله إلا أيام السبت مع جدي . أما القرية المتوسدة سفح الجبل فكانت لي دائرة غامضة ، أرى فيها أطفالا يتسلقون الشجر يصيدون أفراخ العصافير ، ولم أكن أقترب منهم . كان البيت المبتدأ و المرج المنتهى ، بينهما الجدول و بستان جدي .
كانت القرية تجذبني بسحرها ، بأطفالها ، بضبابها الفضي و خضرتها الداكنة ، أهيم وجدا إذا أصبح الضباب يلف القرية بغلالته الشفافة ، تأخذني نشوة غامضة فأود لو يخلق لي الله جناحين فأطير مع العصافير أحوم حول القرية ، فوق المدينة . كنت أحب العصافير ، أتخيلهم ملائكة الجنة التي حدثتني عنهم جدتي فطوم إذ قالت لي بأن للملائكة أجنحة مثل العصافير ، فأثارت في حبا مبهما للطير .
كان جدي يتضايق من وقوفي الطويل صباحا أمام الجدول مستقبلا القرية فيصيح بي :
- دع عنك الخمول ، يجب أن تكون شاطرا ، أن تكون كالمقص في يد الحلاق الماهر.
كان قاسيا معي مثل المحراث ، مثل يديه المشققتين .
وتذكرت وعده لي عشية الرجوع من دفن جدتي بأنه سيكون الذي ألعب معه فامتلأت ثورة على إخلافه الوعد .
كان عالمي موحشا ، و بروحي انقباض ، وبالغ جدي في قسوته حتى كدت أتخيله الرجل الشرير الذي يمكن أن يكونه الغراب . ربما أخفى وراء قسوته رحمة و حنانا ، لكن المؤكد عندي أن الأمان ضاع منذ أن غاب الظهر المحدودب إلى الأبد.
في الليل كنت ألتصق بظهر جدي ، أخاف أن تدخل علي جدتي بحائكها الأحمر و عينينها المطفأتين .
وكانت حسرة عارمة في قلبي ، كيف تحولت جدتي - نبع الحنان الدافق- إلى ذلك الكائن المرعب ؟
لم أطلع جدي على مخاوفي ، كان سينهرني لأن الرجل لا يخاف ، و أنا رجل في نظره.
كنت أخاف الليل ، أخاف الذئاب حين تتعاوى و تتنادى، أخاف نباح كلبنا "سحاب" حين يتغير صوته بالليل .
وكان جدي يحاول أن يصنع مني بطلا ، كان يقسو علي من غير هوادة ، يعلمني كيف أغسل ثيابي و كيف أخيطها ، كيف أعد الدراهم ، كيف أكون حذرا إذا ما نبح « سحاب " في الليل، فأخرج ولو مرة واحدة أتفقد الغنم .
كان يأخذني معه إلى السوق ، ندورفي رحبة الغنم ، يغرز أصابعه الخشنة في ظهر الكبش ، ثم يساوم البائع في غلاظة :
- كم أعطوك في هذا ؟
- خمسين .
- بع ، ستحمى الشمس و تنفض السوق .
و أتساءل مع نفسي ، ما دخل جدي في الرجل ؟
و يلتفت إلي :
- الغنم غالية اليوم يا سي سعد ، السوق القادم نأتي بالكباش .
نشتري مؤونة أسبوع من قهوة و سكر و زيت و غيرها ، ثم نعرج على مقهى متطرفة ، فيجلس جدي إلى أناس لا أعرف منهم إلا سي السعيد الذي بقي مع جدي إلى المساء يوم موت جدتي . يتحدثون ساعة ثم يستأذن جدي ونعود إلى البيت على البغلة الشهباء ، نخرجها من الإصطبل العمومي محملة بأغراض الأسبوع ، يردفني خلفه و ينخرط في حديث متشعب مع جماعة المتسوقين يقطعون به الطريق ، و أنشغل أنا بعد أعمدة الهاتف المتسلسلة مأخوذا بحفيف الأسلاك و بتلك الفناجين المرصوصة في رؤوس الأعمدة !! من يشرب بها القهوة ؟
حتى إذا وصلنا كانت المسافة التي قطعناها قد أنهكت قواي فيعفيني جدي يومها من مشاركته أشغاله.
وكانت الأيام الأخرى تتكرر، أخرج بالغنم صباحا مع "سحاب " إلى المرج ، ويبقى جدي يعمل بالبستان ، أو يكنس الزريبة ، و يعد الغداء . حتى إذا انتصف النهار جاءني يسوق معي الغنم إلى الزريبة.
كانت الأيام بلا طعم ، في المرج مع الغنم تنقبض روحي ، يزيدها انقباضا مشهد الغربان تحوم على مقربة مني ، ثم تحط بعيدا على هضبة جرداء .
كنت أكره الغراب ، أود لو أمسك يوما غرابا فأحرقه ،إذ كان يخيل إلي أن الغراب كائن شرير ، و أنه حين ينعب إنما يريد أن يقول شيئا ما ، شيئا لا أعرفه بالتحديد ، ولكنه شيء كريه لا يطاق .
و سألت جدي مرة :
- ما الذي يقوله الغراب عندما ينعب ؟
فتذمر قائلا:
- وهل أنا سيدنا سليمان حتى أفهم لغة الطبر ؟
ثم أمسكني من أذني :
- اسمع أيها الأحمق ، دع عنك الأسئلة الفارغة ، اسألني عن الأمور الهامة ، عن القيمة التي يبلغها الكبش في السوق القادم مثلا ، عن الأنسب ، بيع الكباش أم النعاج ؟ حدثني حديث الكبار يا سعد.
و لما أرخى أصبعه كان ظفره قد انغرز في لحمة أذني ، تدفق الدم غزيرا فاندهشت ولم أبك .
ابتسم و قال في زهو :
- هكذا أريدك شجاعا ، اذهب اغسل أذنك.
كان جدي يقتل في طفولتي بمطرقة من خشب ، تماما كما يفعل بالعجل عندما يقتل فحولته كي يغدو ثورا . و مع ذلك كنت أحبه ، لم يكن في وسعي إلا أن أحبه ، كان الإنسان الوحيد في حياتي ، لم أكن أعرف من العالم إلا جدي و "سحاب" و الغنم .
كانت المدينة القريبة منا عالما مستغلقا لا أدخله إلا أيام السبت مع جدي . أما القرية المتوسدة سفح الجبل فكانت لي دائرة غامضة ، أرى فيها أطفالا يتسلقون الشجر يصيدون أفراخ العصافير ، ولم أكن أقترب منهم . كان البيت المبتدأ و المرج المنتهى ، بينهما الجدول و بستان جدي .
كانت القرية تجذبني بسحرها ، بأطفالها ، بضبابها الفضي و خضرتها الداكنة ، أهيم وجدا إذا أصبح الضباب يلف القرية بغلالته الشفافة ، تأخذني نشوة غامضة فأود لو يخلق لي الله جناحين فأطير مع العصافير أحوم حول القرية ، فوق المدينة . كنت أحب العصافير ، أتخيلهم ملائكة الجنة التي حدثتني عنهم جدتي فطوم إذ قالت لي بأن للملائكة أجنحة مثل العصافير ، فأثارت في حبا مبهما للطير .
كان جدي يتضايق من وقوفي الطويل صباحا أمام الجدول مستقبلا القرية فيصيح بي :
- دع عنك الخمول ، يجب أن تكون شاطرا ، أن تكون كالمقص في يد الحلاق الماهر.
كان قاسيا معي مثل المحراث ، مثل يديه المشققتين .
وتذكرت وعده لي عشية الرجوع من دفن جدتي بأنه سيكون الذي ألعب معه فامتلأت ثورة على إخلافه الوعد .
كان عالمي موحشا ، و بروحي انقباض ، وبالغ جدي في قسوته حتى كدت أتخيله الرجل الشرير الذي يمكن أن يكونه الغراب . ربما أخفى وراء قسوته رحمة و حنانا ، لكن المؤكد عندي أن الأمان ضاع منذ أن غاب الظهر المحدودب إلى الأبد.