المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الــــصـــداق : قصة قصيرة : أحـمـد القاطي



أحمد القاطي
29/12/2008, 04:17 PM
الــــــصَــــــدَاق




عـبـد المولى رجـل قـروي في الأربعينات من عـمره ، ينتمي إلى قـبيلة صنهاجة . لما كان صغيرا لم يتسن له ولوج المدرسة التي كانت بعيدة عـن محـل إقامته . اكـتشف أبوه ذكاءه الحاد، وقـدرته الفائقـة على الحفـظ ، فأدخلـه إلى الكتاب لتعلم مبادئ القـراءة والكتابة ، وحفـظ الـقـرآن الـكـريم . كان مضرب المـثـل في الاستـقامة ، ونبل الأخلاق ، وحب الخير للجميع . جميع حفـظة الـقـرآن من أترابه كانوا يخطبون وده ويتقـربون منه. عـاداته معروفة لدى الكل . فجـل أوقاته يقـضيها في الكتاب ، أو المسجد للصلاة التي كان يحرص على أدائها في أوقاتها مع الجماعة . لماما ما كان يـرافـق أباه إلى السـوق بطلب من هـذا الأخيـر، لمساعـدته على التبضع وقـضاء حاجاته، فـهـو كان يـؤثـر الـقـراءة والتـحصيل على ذلك . هـذا الانضباط الصارم الذي فـرضه على نفـسه ، مكنه من حفـظ القـرآن في زمن قـياسي ، فأصبح يساعـد فـقـيه الكتاب عـندما يتغيب ، ويقـوم بـدوره التلقـيني لزملائه الذين كان بالأمس يـدرس معهم . لازم الفـقـيه مـدة خمس

سنوات ، يساعـده ويقـوم بدوره إلى درجة أنه في بعض الأحيان كان يتغيب كثيرا . وفي غـيابه ، كان يبـدع في تلقـين زملاء الأمس ، حيث يستعمل معهم اللين ، والحوار والتي هي أحسن إلى درجة أنهم كانوا يتمنون لو يطول غـياب الفـقـيه . هـذه المدة كانت كافـية ، ليكتسب فـيها عـبـد المولى المزيـد من العلم والتجربة اللازمين في التـدريس ، فأصبح يفـكر جـديا في أن يصبح هـو الآخـر فـقـيها مدرسا . لكن ما السبيل إلى ذلك . المنطـقة التي يـوجـد فـيها تعج بالفـقـهاء ؟
بـعـد طول تـردد وقع قـراره عـلى ضرورة مغادرة المنطقة ، وهـذا أمـر يحتاج هـو الآخـر إلى تفـكـير عـميـق كي لا تفـشل التجربة ويصاب بالإحباط . بـدأ يسأل القـريب والبعيد الـذي يعـرفـه عـن المنطـقة التي يمكنه الذهاب إليها، والتي هي في حاجة إلى فـقـيه يصلي بالناس ويعظهم ويرشدهـم ، ويعلم أبناءهـم . بـعـد طول استـقـصاء قـرر أن يشارط في منطقة يقال لها ارْشـيـدة يسكنها الشرفاء اليعاقـبة . لـقـد أرشـده إليها سلام أحـد سكانها الذي جاء إلى قـرية عـبد المولى لـزيارة ابنته المتزوجة والمقـيمة فـيها .
لـكن قـبل أن يـرحـل عـبـد المولى إلى ارشيدة نصحه سلام بضرورة إكمال دينه ، فالفـقـيه الأعـزب لا ينـظر إليه بعين الرضا هـناك ، ويمكن أن لا يلقى الموافـقة . درءا لكل فـشل ، أو خيبة أمل ، قام عـبد المولى ، وقـصد دار الحنصالي ، ولما أصبح عـلى مـقـربة منها تـوقـف ونادى:
ــــ آ الحنصالي ، آ الحنصالي .
مـن الداخل سمع صوتا يجيبه . آ شكــون . وبعـد برهة قـصيرة خرج الحنصالي وخاطب عـبد المولى :

ـــ هــل أنت غـريب كي تناديني من بـعـيد ، تـفـضل اقـترب الدار دارك ؟
اقـترب عـبـد المولى ، وقـبـل رأس صهره ، وجلسا فـوق مصطبة أمام دار الحنصالي ، وأراد الحديث معه في موضوع مهم لكن الحياء منعه ، ولما تفـطن الحنصالي إلى الأمر بادر عـبد المولى قائلا له :
ــــ هـل من أمر أقـضيه لك يا عـبد المولى ؟
ــــ نعم في الواقع ، لست أدري من أين أبدأ كلامي ، أنا مضطرب .
ــــ إلى هـذا الحد . إذن لا شك أن ما سوف تقـوله مهم للغاية .
طأطأ عـبد المولى رأسه من الخجل ، وقال للحنصالي :
ــــ أنا جئتك في شأن فاطمة الزهـراء .
ــــ لم أفـهـم ، هـل أساءت إليك ؟
ــــ لا ، حاشا لله ، هي بنت عاقـلة ، نِعـْم الفـتاة هي .
ــــ إذن لماذا جئت في شأنها أفـصح ولا تخف .
ــــ أثناء الخطوبة كنا اتفـقـنا على أن يكون الـزواج في فـصل الصيف المقـبل ريثما تكبر ، وريثما نرتب أمورنا سوية . لكن هـناك مستجدات طرأت وحتمت علي التعجيل بالزواج ، فأنا أنوي إن شاء الله الرحيل إلى منطقة يقال لها ارشيدة قـصد المشارطة هـناك ، غـير أن سكانها يشترطون على الفـقـيه أن يكون متزوجا لقـبوله ، فـماذا تـرى ؟
ـــ هـذا عـذر مقـبول ، ولا يمكنني إلا أن أوافـق عـليه دون قـيد أو شرط ، لكن لا بـد من أخـذ رأي فاطمة الـزهـراء وأمها وإذا وافـقتا فاعـتبر المسألة منتهية .


ـــ أطال الله عـمرك يا صهري وقام وقـبل رأسه ، وودعه على أمل العودة في اليوم الثالث إذا لم يكن هـناك اعـتراض من فاطمة الزهـراء ، وأمها.

انتظر يومين لم يتلق فـيهما أي جواب . الموافـقة كانت من الجميع . أقام حفـلا بسيطا استدعى إليه أقارب العائلتين ، وبعض الأصدقاء . وبعد انصرام الأسبوع الأول من تاريخ الزواج ، هاجـر إلى ارشيدة التي كان سكانها يعلمون بقـدومه من خلال سلاّم حيث استقـبلوه بالطبول والزغاريد والصلاة عـلى النبي محمد( ص)، وإقامة مأدبة عـشاء باذخة على شرفه . هـذه الحفاوة الكبيرة أدخلت البهجة إلى قـلبه وجعلته يشعر وكأنه بين أهـله وذويه .

ظل عـبد المولى يزاوج بين الإمامة بالناس في المسجد، و تلقـين أبنائهم مبادئ القـراءة والكتابة في الكتاب مـدة طويلة نال خلالها شهرة واسعة طبقـت الآفاق فأصبح حديث العام والخاص خصوصا الغنى المفاجئ الذي طرأ عـليه ولم يجد له الناس تفـسيرا. فـكـثرت الأقاويل، ونسجت الأساطير والخرافات حول شخصيته فهناك من يقـول بأنها بركة من الله ، وهـناك من يقـول بأنه استخرج كـنزا من ضريح أحد أولياء الله الصالحين ، وهـناك من يقـول ، ويقـول ، ويـقـو ل .... لكن اللافـت في شخصية عـبد المولى أن آثار النعمة والغنى لم تكن بادية عـلى حياته رغـم ما تراكم لديه من نشـَب . مما كان يثير فـضول الناس، واستغرابهم في آن ، فـظل الأمر لغزا محيرا للجميع ، رغـم ما بـُدل من جهد لفـك طلاسمه.

هـذه الشهرة دفعت الناس أيضا حتى القاصي منهم إلى قـصده كي يتمكـنوا من إيجاد موضع في كتابه لأبنائهم بغية
تعليمهم . لـقـد كان كتـّـاب عـبـد المولى مملوءا عـن آخره. وكعادته لم يتخلف ولو يوما واحدا عـن الصلاة بالناس في المسجد أو ترك الكتاب لسبب من الأسباب . ورغـم اكتظاظ الكتاب بحفـظة القـرآن الكريم لم يتأفـف ولم ينزعـج بل كان يعتز بذلك ويعـتبره دليلا عـلى نجاحه . وهـذا الاكتظاظ لم يمنعه من حفـظ اسم كل واحـد ممن في الكتاب ، ومن الانتباه إلى العسجـد الذي كان أول من يحضر للدروس وآخر من ينصرف ، بالإضافة إلى نباهـته وفـطنته وذكائه الذي لا مثيل له . أتـم العسجد حـفـظ القـرآن الكريم في زمن قـياسي ، وانـقـطع عـن المجيء إلى الكتاب . وفي أحـد الأيام عاد مـن جـديـد ، لكن فـقـط من أجـل عـزم عـبد المولى كي يحضر الوليمة التي ينوي والـده إقامتها على شرفـه قـصد تكريمه . لبى عـبد المولى دعـوة العسجد، وذهـب من أجل حضور الوليمة التي كانت مظاهـرها توحي بأن من أقامها لا يمكن أن يكون إلا ذا شأن عـظيم . جلس داخل فـسطاط عـظيم قـرب العسجد الذي اغـتنم الفـرصة وهـمس في أذنه مسرّا :
ــــ سـوف يطلب منك أبي أن تطلب منه ما تريد كي يلبيه لك ، فلا تنس أن تطلب منه صداق أمي .
ــــ صداق أمك ، طلب غـريب ، ولماذا؟
ــــ عـلى رِسْـلـك ، لا تتعجل سوف تعرف لاحقا، تلك مكافأة أخرى مني إليك.

انطوى عـبـد المولى على نـفـسه ، وتفكيره كله منصب على الطلب الغريب الذي يريده العسجد أن يطلبه من والده ، وعـلى المكافأة الأخرى التي ينوي تقـديمها إليه. فـبدأ يتمنى لو تنتهي الوليمة شوقا لمعرفـتهما. ولما انفـض الجمع ، جاء عـنـده والد العسجد وحياه تحية خاصة وشـكره عـلى ما أسداه من أيادي بيضاء لولده وقال له :

ــــ لـقـد تعلم ابني على يديك ، فـنعم الفـقـيه أنت . لـقـد استطاع بفـضلك أن يصبح علامة لا يشق له غـبار، ويضرب له ألف حساب . وعـرفانا مني بجميلك أريد أن أجازيك على خدماتك الجلّى . فاطلب ما تريـد ، واعلم أن طلبك مـقـضي مهـما عظم شأنه .
دون تفـكـير، وبهـدوء الواثق من نفـسه رد عـلى والد العسجد قائلا :
ــــ قـلت يا سيدي بأن طلبي لا يرد مهما عظم شأنه أليس كذلك ؟
ــــ بلى .
ــــ إذن أنا أريـد الصـداق الذي قـدمت لزوجك أم العسجد يوم زواجكما .
ــــ آه يا سيدي إلا ذاك اطلب ما تشاء .
ـــ لكن يا سيدي الفاضل ، ألم تقـل لي بأن طلبي مقـضي .
ــــ بلى ، وما زلت على عـهدي الذي لا يمكن أن أخالفه أبدا .
ــــ حسنا إذا كنت مازلت على عهدك ، ولا يمكنك أن تخالفه فأنا متشبث بطلبي ولا أقـبل غـيـره بديلا .
محاولات والد العسجد لثني عـبد المولى كي يغير طلبه باءت بالفـشل، ووصلت إلى الباب المسدود ، الشيء الذي جعله في خاتمة المطاف يذعـن له ويلبي طلبه قائلا له:
ـــ لـقـد لبيت طلبك .
ــ هـل تستهزئ مني يا سيدي ؟ أنا لم أر أي صداق أمامي .
ــ عـد إلى منزلك وسوف ترى بأني صادق يا عـبد المولى .
عاد عـبد المولى إلى منزله ، فـتغير حاله ، وبدأت تظهر عليه آثار النعمة واليسار ، ثم اكتشف أن العسجد ووالده ينتميان إلى عالم أحد الثقـلين ، وأتمنى أن تكتشف أنت أيها القارئ سر الصداق الذي أهـداه والد العسجد لزوجه .



أحمد القاطي