المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : تــــحـــولات : قصة : أحــمـــد الــقـــاطي



أحمد القاطي
31/12/2008, 08:32 PM
تـــحـــولات



سنتان من الجفاف توالتا على القـرية التي يسكنها المعطي ، لقد كانتا كافـيتيـن لتحولا حياته ، وحياة قاطنيها إلى جحيم لا يطاق ، بعدما نـفـد كـل ما ادخروه من مؤن . ماشيتهم نفق الكـثير منها ، وما نجا غدا عبارة عـن هيكـل عظمي لا غير ، ينتظر حَـينه ولا يصلح لأي شيء . الآبار غيض ماؤها ، والأشجار رحلت أطيارها ،وقـفــّت أغصانها ، ولم يبـق إلا الصبار شاهدا على أفـول اخضرارها ، وسقـوط أوراقها كأنها في خريف عمرها فوق الربى تقـول للردى أهلا بك وألف مرحبا . نكبة حقيقية أصابت القـرية التي تحولت إلى شبه بيداء ، بعدما كانت روضة غناء ، يعمها الخصب والرخاء . أما الآن فـقد هجـرها أهـلها مكرهين ـ بعدما هلك الزرع والضرع ـ بحثا عـن البقاء ، وإنقاذ حياة الأبناء الذيـن أصبحوا أشباحا وهم أحياء .

المعطي الحاصل على رخصة للسياقة ، كان واحدا من الذيـن رحلوا إلى المدينة بحثا عـن عمل يؤمن به حياته وحياة والديه الكبيريـن في السن واللذين رفضا مغادرة
القرية لاعتقادهما أن الموت أهـون من تركها ، وساعة الضيق لا بد أنها ستزول مهما كان وقعها وفتكها .

استطاع المعطي بعد طول معاناة وبحث ـ كاد معهما أن يفـقـد كل أمل في العثور على عـمل ـ أن يجد له عملا كسائق لإحدى سيارات الأجرة الصغيرة ، حيث كان يتناوب مع سائق آخـر من نفـس قـريته على سياقتها . واحد نهارا والآخر ليلا . ما كان يوفره من مصاريف الإقامة والأكل كان يشتري به السكر والشاي والخبـز : الأكـل المفضل لدى البدوييـن وكان يبعـث به إلى والديه في نهاية الأسبوع أو يحمله بنفسه إليهما عندما يكون الأمر ممكنا . عمل المعطي أنساه في سنتي الخصاص اللتيـن عاشهما في البادية ، وأصبح يحلم ككل من هم في مثل سنه بالزواج وتكوين أسرة يسعد بالعيش معها ، وتؤنسه في وحدته التي
أصبحت تؤرقه .
في ليلة من ليالي الصيف القائظ ، كان المعطي يقوم بعمله كالمعتاد ، ينقـل الناس في سيارته إلى حال سبيلهم وهو كله نشاط ، يستمع إلى أغاني المذياع ، ونشرات أخبار العالم الملتهب في كل البقاع . حروب أشعلها الإنسان من أجل قتل أخيه الإنسان ، وجعله يغوص في ويلات الطوفان . ليلة كانت أخبارها كصيفها حارة حرارة النيران ، والمتيم الولهان . انتبه إلى ساعة معصمه ، كانت تشير إلى الحادية عشر والنصف ليلا . تذكر القطار القادم من مدينة وجدة والمتوجه إلى مدينة الدار البيضاء والذي لم تـبق له إلا دقائق معدودة للدخول إلى المحطة . توجه بسرعة إلى المحطة . على غـيـر عادته ، وجده قد وصل مبكرا ولفظ كل ركابه الذين توجهوا إلى حال سبيلهم سوى زوجيـن ما زالا ينتظران من ينقلهما . ما يحملانه من حقائب ثـقيلة اضطرهما للانتظار وعدم السير على الأقدام . أوقف سيارته بجانبهما وشحن حقائبهما ثم توجه بهما إلى حيث يسكنان . في طريقه مرّ عـبـر وسط المدينة التي كانت ما تزال تعج بالناس الذين هربوا من منازلهم الساخنة كالحمّام.
اشترى قـنينة ماء معدني ووضعها بجانبه ليطفئ بمائها ظمأه عند الحاجة ، وتابع طريقه إلى شرق المدينة الذي عمّره الناس البسطاء ،الذين يعيشون حياة الأموات الأحياء ، والتهميش والإقصاء ، في بلاد يدعي من تولوا تدبير أمورها أنهم أتـقـياء ، يسعون إلى أن يسودها النماء والرخاء . شعارات زائفة أثبتت السنون أنها مجرد أقاويل جوفاء ، لا يراد منها إلا الضحك على ذقون الفـقـراء ، وتكديس الأموال في الجيوب التي لا يعرف أصحابها إلا
الرياء والارتشاء .
أثناء مسافة طويلة قطعها المعطي ، كانت الظلمة سيدة المكان ، شاهدة على الفصل والحرمان ، الذي يعاني منه سكان الضواحي ، القاطنون في بيوت لا تصلح إلا للجرذان ، ولا يصلحون هم أنفسهم إلا للموت من أجل أن يعيش الوطن ، ومن سلطوا على رقابهم وتحكموا فيها كما يتحكم في القطعان .
قـبل أن يصل المعطي إلى الحي الذي يقطن فيه الزوجان مر بجانب مقبرة فاستوقفته سيدة آية في الحسن والجمال كانت ترتدي حلة بيضاء لا يملك نظيرا لها إلا ذوو الجاه والسلطان . ابتسم ورفع يده معتذرا لها ، فالسيارة لا يوجد فيها مكان شاغـر لأي إنسان ، فهي مليئة بالحقائب والزوجين . تابع طريقه إلى أن أوصلهما إلى حيث يشاءان ورجع من نفس الطريـق إلى أن وصل إلى المقبرة فوجد المرأة التي مر عـليها ما زالت واقفة في نفس المكان . أوقـف سيارته جانب الطريق ، فاقتربت منها السيدة وفتحت بابها الخلفي وأخذت مكانها فيها دون أن تنبس ببنت شفة ، فخاطبها المعطي قائلا لها :
ــ إلى أيـن توديـن الذهاب يا سيدتي ؟
ــ قـبل أن أجيبك عـن سؤالك أود أولا أن أعرف لماذا تركتـني وحيدة في هذا المكان الموحش عرضة للأخطار، خصوصا أنني امرأة ولا رفيـق لي يمكنه أن يذود عني الأشرار في زمان قل فيه الأخيار .
ــ أعـتذر يا سيدتي ، السيارة لم يكن فيها مكان شاغر كي أحملك .
ــ كلامك غير مقبول حتى ولو كان من النوع المعسول . والآن ، من فضلك أوصلني إلى العمارة رقم 5 الكائنة بشارع النسيم ، من أجل تنـفـيذ ما أنا عازمة عليه بكل تصميم .
ــ أنا هنا من أجل خدمتك يا سيدتي الموقرة .
تابع المعطي طريقه وهو حائر في أمر السيدة التي لم ترد أن تتفهمه أو أن تقـبل اعتذاره . ولما وصل إلى حي النسيم أوقف سيارته فنزلت السيدة وترجته أن ينتظرها إلى أن تعود بحجة أنها لا تحمل معها المال الكافي لتأدية واجب نقلها . لكن المعطي تذكر أن العمارة التي ذكرتها السيدة مهجورة منذ سنة تقريبا ، وقد مات كل سكانها بسبب الحريق الذي شب فيها ، فخاطبها قائلا لها :
ــ يا سيدتي ، العمارة رقم 5 مهجورة ولا أحد يسكن فيها .
فأجابته بنبرة المتيقن مما يقـول :
ــ لقد سكـنت فيها حديثا .
ظل المعطي ينتظر طويلا إلى أن عـيل صبره ، فـذهب إلى العمارة ، ليفاجأ ببابها المسدود بقـفـل قد علاه الصدأ ،مما يؤكد أنه لم يفـتح منذ زمن بعيد ، وأنه ذهب ضحية مقلب عـتيد . حملق في العمارة التي كانت أضواؤها مطفأة ولا شيء فيها يوحي بأنها مأهولة ، وسرح نظره في كل الاتجاهات فلم يعثر على أي أثر للمرأة . ساورته عدة شكوك في هوية المرأة ومن تكون ، فـقرر العودة إلى سيارته دون تأخير ، كي يستأنف عمله لمضاعفة ما جمعه من مال يسيـر ، قد يكون مدعاة لشك مالك السيارة فيخضعه لحساب عسيـر ، وهذا أمر وارد لما يعرفه عنه من شح يفوق كل تصور وتـقـدير .
لما أنهى المعطي عمله ، وعاد إلى منزله من أجل أخذ قسط من الراحة والخلود إلى النوم ، ظل تفكـيره كله منصبا حول ما وقع له مع المرأة الغريبة الأطوار، التي شغلت لبه كل أطراف النهار ، وأوشكـت أن تقوده إلى حافة الانهيار، مما دفعه إلى البوح لصديقه ـ العربي الذي يتناوب معه على سياقة سيارة الأجرة الصغيرة ـ بكـل ما حصل له البارحة .
لكن العربي لم يأخذ على محمل الجد ما حكاه له المعطي ، ونصحه بأن يزور طبيبا نفسانيا للتأكد من حالته الصحية . كـتم المعطي غيظه من جواب صديقه الذي تضايق منه كثيرا ، ولم يزر الطبيب كما أشار إليه ، وبالمقابل قرر أن ينسى كـل ما حدث له .
في ليلة اليوم الموالي استأنف المعطي عمله كالمعتاد ، رغم أنه كان يعاني من السهاد . كبرياؤه منعه من التخلف عن العمل ، ورفع راية الاستسلام الذي لم يلجأ إليه خلال حياته أبدا . لقد مرّ من ظروف أصعب من الحالية ، ورغم ذلك خرج منها منتصرا وأقوى عزيمة على التحدي والمواجهة . ظل يعمل وهو يقاوم الكرى إلى حدود منتصف الليل ، ولما كان مارا بجانب المقبرة رأى نفـس المرأة التي رآها البارحة واقـفة في نفـس المكان فاستوقـفته وطلبت منه أن يوصلها إلى نفس العنوان . فتحت باب السيارة الخلفي وصعدت ثم سددت مقابل الأمس واليوم كي تشعره بالاطمئنان . فما كان من المعطي إلا أن أوصلها وهو راض عن تصرفها الذي أعاد إليه بعض الثقة في النفـس ، وبدد كـل الأوهام والشكوك التي كونها حول شخصيتها بالأمس . غادرت السيدة السيارة في اتجاه العمارة ، فألقى المعطي نظرة على العلبة الموضوعة بجانبه والتي وضع فيها النقود الصغيرة التي تسلمها منها ، لم يجد أي أثر لها ، فرفع بصره نحوها ليجدها قد تبخرت ولم يعد لها أي أثر هي الأخرى . كـل ما رآه قطا أسود خالص السواد ، ينظر إليه نظرة شزراء وهو يبصبص دون توقف أو تحرك .
عــاد المعطي إلى منزله البئيس دون أن يكمل عمل يومه .أوقف سيارته أمامه ، ودخـل وهـو شبه منهار لا يدري كيف وصل ، ولا ما الذي حصل ويحصل . قصد سريره الخشبي الذي صنعه بنفسه كي ينام ويستريح ، لكنه فوجئ بوجود السيدة ذات الثياب البيضاء ، ممددة فوقه . كتم دهشته وسألها :
ــ ألست السيدة التي تـقـطن في العمارة ... ؟
لم تتركه يكمل كلامه فقالت له .
ــ بلى .
بصوت متهدّج ، واضطراب باد على سَحنته قال لها :
ــ ما ذا تفعـلين هنا ، وما ذا تريديـن يا سيدتي ؟؟
ــ أريدك أنت ، أريد أن أعـيش معك وأؤنسك في وحدتك وأخلصك من شقائك ، وأرتب محتويات شقتك ، وهذا قرار وليس طلبا .
ــ وإذا رفـضت يا سيدتي .
ــ أنا لست من اللائي يرفض طلبهن ، ما أريده أحصل عليه وأمتلكه .
ــ تمتلكينه ؟
ــ نعم .
ــ إذن حسب ما فهمت أنا أمسيت الآن ملكا لك .
ــ بالتأكيد يا أيها المعطي .
ــ يبدو أنك تعرفين اسمي .
ــ كل شاذة وفادة كل شيء حتى الذي لا يمكن أن يخطر لك على البال ، أو تصوره في الخيال .
ــ حسنا يا سيدتي ، ما دمت توديـن مؤانستي ، وتخليصي من شقائي ، وترتيب محتويات شقتي فأنا موافق .
ــ وافق أو لا توافق . لقد قلت لك سابقا : ما أريده أحصل عليه وأمتلكه .
بعد صمت خيم على المكان ، والمعطي لا يدري أهـو في حلم أم يقظة ، تابعت السيدة كلامها ولكن هذه المرة بنبرة حادة ، وصرامة جادة .
ــ والآن أريدك أن تصغي إلي جيدا، وأتمنى أن تكون قد وعيت المقصود من كلامي السابق ، وعرفـت من أكون ، لتتركَ عنك نزقك غير المقـبـول ، وتجنبَ نفسك دواهي المجهول ، وتعيشَ في النعيم المأمول ، حسب شروطي التي لا تقـبل الرفض أو التـأويل . وقبل أن أتابع كلامي وأحدد لك ميثاق العشرة بيننا ، أريدك أن تخرج في الحال
وتغلقَ أبواب سيارتك التي تركتها مفتوحة ، وتستوعبَ الدرس من الذي جرى ، وعندما تعود ، عليك أن تقـول لي ماذا ترى ، كي أحدد لك ميثاق الليلة الأولى و ..
خرج المعطي من منزله غير ملتفـت إلى الوراء ، ودون أن يتركها تتمم كلامها . استعاد وهو في طريقه إلى سيارته شريط كل الأحداث منذ أول لقاء ، ففكر في هجر بيته وعدم العودة إليه لكنه عـدل عـن فكرته لعدم جدواها . لما وصل إلى سيارته أراد أن يتأكد بنفسه مما قالته له حول أبواب السيارة المفتوحة . فتح الباب الأمامية فانفتحت . ألقى نظرة على ما بداخلها فوقع بصره على حبل ملقى فوق المقعد الأمامي . ظل ينظر إليه طويلا وهـو لا يدري ما يفعل ، وأخيرا اتخذ القرار، ونفذه في الحال غـيـر بعيد عـن الدار .


أحـــمــــد الــقـــاطــي : شاعر وقاص من المغرب

باسين بلعباس
31/12/2008, 09:31 PM
الأستاذ أحمد القاطي :
شكرا لك على أن أتحفتنا بهذا النص الممتع..
كان على المعطي أن يذهب فعلا الى طبيب نفسي ..
كما أشار عليه العربي..
النهاية كانت مأساوية..والمقدمات كلها أدت الى تلك النتيجة،خاصة وقد توفر الحبل..
وعلى السرير (المرضي)ما ينتظره ليعيش فيه..
والمدينة بتشابك عمرانها(عمارة مغلقة...!!لحريق قد يكون نفسيا بالدرجة الأولى(توهم)..)
وتداخل العلاقات بين أفرادها،وتقاطعهم مع المعطي في الـ(إنسان)فقط..
محطة قطار،عبور،عابرون،امرأة ورجل:زوجان،أزواج..بحث عن دفء..سرير خشبي..
امرأة في طريق المقبرة..
ترسبات،أوهام ،وجود حبل ،مكان القط الأسود..
انصراف للتنفيذ..وبعد هذا ؟الحياة مستمرة ،والمدينة تحيا بتناقضاتها..
وقبل هذا ؟:ريف بسيط..
والشيخ مازال يكابد الحياة وقساوتها في البادية..ولكنه يعيش مرتاح البال..
على الرغم من العيش الضنك..
الحبكة كانت متعددة العناصر،متكاملة ومترابطة بدقة،
لا نشعر بفراغات قد تعيق البناء الفني،
أو الفكري الذي تقوله التيمة،وتترائى عناصرها متتالية في تناسق جميل..
السرد كان ممتعا،واللغة اعتمدت في بعض مواضع الحكي والوصف على السجع..
( وتابع طريقه إلى شرق المدينة الذي عمّره الناس البسطاء ،
الذين يعيشون حياة الأموات الأحياء ، والتهميش والإقصاء ،
في بلاد يدعي من تولوا تدبير أمورها أنهم أتـقـياء ، يسعون إلى أن يسودها النماء والرخاء .
شعارات زائفة أثبتت السنون أنها مجرد أقاويل جوفاء ،
لا يراد منها إلا الضحك على ذقون الفـقـراء ، وتكديس الأموال في الجيوب
التي لا يعرف أصحابها إلا الرياء والارتشاء .)
..
ولكنك أكثرت منه في غير حاجة،وكان يمكنك الاستغناء في مواضع السرد،والحوار..
ويدل على تمكنك من لغة التعبير ،وتحكمك في مستويات الخطاب..
أتمنى أن نقرأ لك المزيد..
......................
همسة:
جاء في القصة:(ولما كان مارا بجانب المقبرة رأى نفـس المرأة التي رآها..)
والسؤال ماذا رأى؟:المرأة أم نفسها؟
الجواب المرأة نفسها،لا نفس المرأة..والله أعلم

أحمد القاطي
12/06/2009, 10:59 AM
العزيز باسين بلعباس .
شكرا على القراءة الواعية المتأنية الدقيقة .
كل ما ذهبت إليه ، عبارة عن ملاحظات قيمة جدا .
أشكرك على الهمسة . التي كان ينبغي أن تكون جهرا لأنك على صواب .
فلا حرمت من مثل هذه القراءات التي تنير عتمات النص .
أحمد القاطي يحييك .