المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ازدواجية وحول؟!



عزت السيد أحمد
01/01/2009, 11:38 AM
ازدواجية وحول؟!
الدكتور عزت السيد أحمد

إن كانت السَّنوات الخمس عشرة الأخيرة من القرن العشرين قَدْ حَفَلَتْ بأحداثٍ جسامٍ زلزلت المنظومة السِّياسيَّة العالميَّة، وهزَّت الكيان الجغراسي والجغراتيجي العالمي فإنَّ السَّنوات الثَّلاث الأولى من القرن الحادي والعشرين قَدْ حَفَلَتْ بأحداثٍ أكبر من خطيرة، وأعظم من عظيمة، زلزلت الأخلاق وداست الضَّمائر وأفقدت الإنسانيَّة ثقتها في الإنسان... وزعزعت إيمان الإنسان بما يسمَّى قيماً إنسانيَّة.
لا عجب، فإنَّ الأحداث الَّتي غيَّرت الخرائط الجغراسيَّة والجغراتيجيَّة العالميَّة في السَّنوات الأخيرة من القرن العشرين هي الَّتي كانت التَّمهيد المباشر لهذه الأحداث الَّتي دُشِّن بها القرنُ الحادي والعشرين.
إنَّ زوال القطبيَّة الثُّنائيَّة بانهيار الاتحاد السوفيتي، ومن ثَمَّ انتهاء الحرب الباردة، وتفرُّد الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة بزعامة العالم، كلمة سهلة النُّطق باللسان، ولكِنَّها في واقع الأمر ليست سهلةً أبداً، وليست محض كلمةٍ تقال، إنَّها وقائع كارثيَّة على العالم، ونتائجها ليست أقلَّ منها كارثيَّة على الإطلاق.
من النَّتائج المباشرة للتَّفرُّد الأمريكي في الهيمنة العالميَّة سعي بل تفرُّد الولايات المتَّحدة في إعادة بناء الاصطلاحات والمفاهيم والقيم، ولو أنَّ في إعادة البناء هذه شيءٌ من المنطقيَّة أو العقلانيَّة، أو أقلَّ نفحة من رائحة المعقول، لما كان هناك ما يستدعي الدَّهشة أَو التَّوتُّر أو التَّشنُّج الذي يؤدِّي إِلَى تصلُّب الشرائيين وتخثر الدِّماء في الأوردة.
إنَّ الدَّلالات الأمريكيَّة الجديدة للاصطلاحات والمفاهيم والقيم دلالات مرعبة حقًّا، وتضع العالم على حافة هاويةٍ سحيقةٍ ما لها قاعٌ ولا قرارٌ!! إنَّها تضعُ العالم على كفٍّ عفريتٍ كما تقول العامَّة.
قَدْ يكون للممارسة الازدواجيَّة والمعايير المزدوجة ما يجعلها متقبَّلة بمعنى أو آخر إذا نظرنا إليها من الزاوية الحادَّة، الضيِّقة، الَّتي يرى صاحبها إِلَى الأمور من خلالها، ولكننا لا نستطيع أبداً الزَّعم أنَّ الازدواجيَّة أمرٌ متقبَّلٌ عقليًّا أَو منطقيًّا أو أخلاقيًّا ، ولا نستطيع إلا أن نؤكِّد أنَّ صاحب النَّظرة الازدواجيَّة هذه إن لم يدرك أَنَّهُ يقفز فوق أطر المنطق والعقل فإنَّهُ بحاجة إِلَى صيانة دماغه وتنظيفه. أما إن كان يدرك أَنَّهُ يقفز فوق ضوابط المنطق والعقل فإنَّهُ سيدرك أَنَّهُ إنَّما يمارس هذه الازدواجيَّة بسبب ضعف حجَّته وقلَّة حيلته لأنَّهُ لو كان قوي الحجَّة سديد الدليل فإنَّهُ لن يكون أبداً بحاجة إِلَى الوقوع في أشراك هذه الازدواجيَّة. ورُبَّما لا يحتاج هذا الكلام إِلَى ما يؤكِّده لأنَّهُ مؤكَّدٌ بحكم المنطق والعقل.
مرَّة أُخْرَى أقول، وإن كان على مضض: يمكن تقبُّل الازدواجيَّة في المعايير والتَّعامل إن كانت محصورةً في حدودٍ دنيا من المفارقة واللامعقول. ولكن أن تصل الازدواجيَّة إِلَى حدٍّ يكون اللامعقول ذاته معها معقولاً، واللامقبول معها مقبولاً بل من كبريات النِّعم... فهذا أمر لا تطيقه النفس ولا تستطيع معه أن تملك نفسها من الانفطار غيظاً وحنقاً... وهذا ما وصلت الممارسة الأمريكيَّة اليوم في صياغتها المفاهيم والأعراف والتَّقاليد.
إذا أردنا أن نبدأ بعدِّ الممارسات الازدواجيَّة أو المعايير المزدوجة في سياسة الولايات المتحدة الأمريكيَّة فإنَّ البدر سيكون سهلاً بكلِّ تأكيد ولكنَّ التَّوقُّف عن العدِّ لن يكون سهلاً أبداً وبكلِّ تأكيد أيضاً.
سنتجاوز كلَّ ما مضى على كثرته الَّتي يصعب عدها أَو إحصاؤها، ونتوقَّف فَقَطْ عند تداعيات الحرب العدوانيَّة على العراق الَّتي انتهت بما انتهت إليه من خرابٍ ودمار وتشجيع عصابات السَّطو والسَّلب والنَّهب.
منذ ما قبل بدء الحرب العدوانية على العراق راحت تروِّج الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة في وسائل إعلامها أنَّ الدول المجاورة للعراق لن تمنع استخدام سمائها وأرضها وبحارها وأنهارها لأنَّها لن تستطيع ذلك... وكانت الذَّريعة في ذلك أنَّ هذه الدُّول لن تستطيع منعها من ذلك إمَّا لعدم قدرتها على هذا المنع أَو لأنَّها سماءٌ دوليَّة! ومعابر دوليَّة! ومنع استخدامها يعدُّ خرقاً للقانون الدُّولي، وهذا الخرق للقانون الدُّولي يعرِّضُ صاحبه للعقوبات الدُّوليَّة وإلى وضع هذه المعابر والسَّماوات والأرضين تحت الوصاية الدُّوليَّة...!!
أما السَّماء الأمريكيَّة خاصَّةً والغربيَّة عامَّة فإنَّها خارج القوانين الدُّوليَّة، ولا يسمح للطيران ورُبَّما الطَّير أن يطير فوقها، بل حَتَّى الأقمار الصِّناعيَّة الَّتي تكون في أعالي السَّماء لا يسمح لها أن تدور فوق السَّماء فوق الأمريكيَّة!!
نحن نتفهَّم، أو نتقبَّل أن تكون السَّماء الأمريكيَّة، الأرض الأمريكيَّة حمى أمريكيًّا لا تسمح الولايات المتَّحدة لأحدٍ بالتَّعدي عليه بأي طريقة من الطُّرق. ولكن بأيِّ حقٍّ، وبأيِّ قانونٍ، وبأيِّ شرعةٍ تجوز هذه الازدواجيَّة:
لماذا تعدُّ أرضنا أرضاً دوليَّة لا يجوز لنا التَّصرُّف فيها بحريَّة، ولا بما يتوافق مع مصالحنا ومنافعنا، فيما تعدُّ أرضهم مقدَّسةً لا يحقُّ لغيرهم المساس بها؟!
لماذا تعدُّ معابرنا البريَّة والبحريَّة والجويَّة معابر دوليَّة لا يجوز لنا إغلاقها ولا التَّحكم بها بما يتوافق مع مصالحنا ومنافعنا فيما تعدُّ معابرهم البريَّة والبحريَّة والجويَّة محميَّة مقدَّسة لا يحقُّ لأحدٍ المساس بها؟!
لماذا يعدُّ نفطنا ثروة لكلِّ البشر ولا يحقُّ لنا التَّحكم بها فيما يعدُّ نفطهم مقدَّساً لا يحقُّ لأحدٍ التَّدخُّل أو حَتَّى محض التَّفكير في التَّدخُّل فيه؟!
لماذا يحقُّ لهم السَّيطرة على نفطنا وثرواتنا ولا يحقُّ لنا نحنُ السَّيطرة على نفطنا وثرواتنا؟ وأيُّ عقل هو الذي يمكن أن يتمالك نفسه من الغثيان أو التَّقيؤ من محض إدراك ذلك؟!!
لماذا يعدُّون إنسانهم إنساناً وإنساننا كلباً؟!
لماذا يحقُّ لهم قتلنا ولا يحقُّ لنا الدِّفاع عن أنفسنا؟!
لماذا يكون تعويض قتيلهم الذي نتَّهم به زوراً مئتي مليون دولار أَو على الأقل عشرة ملايين دولار تضاف إليها الفوائد المترتبة على المبلغ ما بين القتل والدَّفع، فيما يكون تعويض من يقتلونه منا مئتي دولار، أو أقل، تُدفع على هيئة معونات وصدقات بالقطَّارة والباقي بالتَّقسيط من دون فوائد؟!... إذا قبلوا أن يدفعوا أصلاً!!
لما يعدُّ اعتداؤهم على أيِّ شعب في العالم تحريراً ويعد دفاعنا عن حقوقنا إرهاباً؟!
لماذا يعدُّ قتلهم ملايين البشر خدمة للإنسانيَّة وإذا حاولنا إيواء لاجئ ضعيف مستغيث كان ذلك مناصرة للإرهاب؟
هل هم فعلاً بنو آدم ونحن من بني غير آدم؟
ليس من الغريب أبداً أن نجدهم يؤمنون بذلك يعتقدونه، أَو يربون أبناءهم على هذا الاعتقاد، أو يصوروننا في إعلامهم على أننا كذلك... على أننا لسنا من البشر!!
فهل سنصدقهم في ذلك ونتمسَّك بذيلهم ليحولونا إِلَى بشرٍ بعطفهم كما يقولون؟!
سؤالٌ للأسف مطروح بجديَّة، وللأسف ينتظر الإجابة من الجماهير العربيَّة من محيطها إِلَى الخليج، لأنَّ هذه الجماهير، وللأسف أيضاً ما زالت تفكِّر في الإجابة... فمتى ستكون الإجابة؟ نرجو ألاَّ يطول الزَّمان بها، فكلُّ لحظة تأخُّر ستعقبها سنواتٌ من الذُّل... وأظنُّ أننا أمةٌ لا تحب الذل.
ــــــــــــــــــ
ــــــــــــ