المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : مــأساة إســماعـيـل : قصة : أحمد القاطي



أحمد القاطي
03/01/2009, 08:38 PM
مــأساة إســماعـيـل


لا شيء يمكنه أن يصرفني عـن السكن في البادية . هذه العبارة هي التي كانت تسمعها كـنزة من زوجها كلما طلبت منه الرحـيل إلى المدينة من أجـل التمتع بما تزخر به من أشياء تـفـتـقـد في القـرية . لقد كانت كثيرة المطالب ، والثرثرة على غـير ما اتصف به زوجها المهدي . فهو قد اكتسب الاحترام والتقديـر من جيرانه إلى درجة أنه كان المرجع الوحيد الذي تـتم العودة إليه من أجـل حـل الخلافات التي كانت تـقع بيـن سكان القـرية ، ومغادرة من أحبهم وقدروه كان من المستحيلات التي تطلب منه . قراراته وأحكامه في الفصل في النزاعات كلها كانت صائبة لا أحد يجادل في عدالة ، ورؤية صاحبها الثاقـبة . لقد كان إنسانا ورعا حافظا لكتاب الله الحكيم ، محياه دائما تعلوه إشراقة ابتسامة صادقة ، وجبهته كانت آثار الصلاة واضحة عليها من كثرة السجود لله الواحد القهار . لا تراه إلا والسبحة في يده ، لم يسمع عنه قط أنه تخلف يوما عـن الصلاة في المسجد مع الناس ، أو تـلفظ بكلام فاحش يجـرح الإحساس، أو أصدر حكما من أجل إرضاء الأهواء ، وكسب ثـقة أصحاب النفـوس المريضة العمياء . كل الولائم التي كانت تـقام كان أول من يستدعى إليها باعـتباره فـقـيها عالما من جهة ، ونظرا لصوته الرخيم الشجي الذي كان ينفـذ إلى أعماق مستمعيه الذيـن كانوا ينصتون إليه في إكبار وانبهار من جهة أخرى . الوليمة بدون حضوره كانت لا تساوي شيئا ،لهذا كان من يقيمها أول ما يفكر فيه هـو استدعاؤه ، والذهاب عنده من أجل استقدامه . لقـد كان رجلا متقدما في السن قـد تجاوز عقده التاسع ، ورغم ذلك كان يتمتع بذاكرة قوية ، يتحدث عـن الأحداث التي وقعت في الأمس البعيد وكأنها حدثت في اليوم القـريب . لما مرض لم يمهله المرض طويلا . لقد أسلم الروح لبارئها وهو ساجد مع المصليـن يصلي صلاة الفجر في المسجد . جنازته كانت عرسا حضره الأقارب والأباعد ، وبكوه بكاء حارا ، وودعوه إلى مثواه الأخير ، وهم غـيـر مصدقيـن أنه مات .

الهادي الابـن الوحيد للمهدي ، المتزوج والذي له أبناء ، كل ما ورثه عـن أبيه ، كان عبارة عن ضيعة وسكن متواضع مشيد فوقها . لقد كان على عكس أبيه غيـر قنوع .
طموحاته وتطلعه إلى مستقـبل أفضل ، كانا يفـرضان عليه التفكير في مستقـبل الأبناء ، وتجاوز كل العقبات الكأداء ، وتحسيـن ظروف عيشهم التي لا تـقبل الإبطاء . هذا التفكير قاده إلى بيع السكن والضيعة اللذين ورثهما عـن أبيه ، واقـتـناء بديـل لهما أقرب إلى المدرسة والسوق الأسبوعي للقرية . في إقامته الجديدة كان هناك شيء خطيـر يقـلق راحته ، لكنه احتـفظ بالسر في نفسه ولم يبح به إلى أي أحد . وضع الهادي خطة عمل نصب عينيه ـ وظل يعمل بتفان وكـدّ ونكران للذات ـ أثمـرت عـن تنامي خيراته وممتلكاته من ضياع ، وأشجار مثمرة وأنعام ، حتى أصبح حديث الخاص والعام . لما كبر أبناؤه قرر من جديد الرحـيل والذهاب معهم إلى المدينة حفاظا على سلامتهم ، ولرعايتهم ومراقبتهم عـن كـثب حتى لا تضيع طباعهم وتـُفسدهم عادات المدينة التي سمع ويسمع عنها الشيء الكـثير .
قـبل الرحيل رتب الهادي أموره ، حيث بحث له عـن " ربّاع " وأسكـنه في منزله ، وطلب منه أن يعـتـني بممتلكات منزله وأنعامه وأشجاره التي ستصبح أمانة في عنقه وأوصاه بما يلي :
ــ اسمع يا إسماعـيـل ، ما تركته لك من ممتلكات وأغراض خاصة ، هي أمانة عندك أرجو أن تكون عند حسن ظني بالاعـتناء بها كما لو كانت لك . فالأنعام إن أحسنت رعايتها توالدت وتكاثرت ، والأشجار إن تعهدتها بالخدمة والسقي أينعت وأثمرت ، والأرض إن حـرثـتها ونوّعت حرثها حصدت وجنيت و .....
ــ أنا في خدمتك وطوع أمرك يا عمي الهادي ، فليهنأ بالك.
ــ بالي مرتاح يا إسماعـيـل ، فأنا لم أخترك إلا بعد تروّ وتفكير عـمـيقـيـن .
ــ هـل هناك من وصية أخرى يا عمي ، كل ما ذكرته لي يدخل في مجال عملي وأنا أعرفه جيدا أكثر من غيري ؟
ــ نعم لقد كـدت أن أنسى ، انظر إلى البيت المقـفـل الكائن على يسارك ، هـل رأيته ؟
ــ أي بيت ، هـل الذي بابه غير مصبوغة ؟
ــ لا أقصد البيت الذي بابه مصبوغة باللون البني .
ــ نعم إني عرفته الآن .
ــ ذاك البيت يحتوي على بعض أغراض أبي رحمه الله ، ومحبتها في قلبي خاصة رغم عدم أهميتها من الناحية المادية ، لكن أهميتها عندي كبيرة من الناحية الروحية . فاحذر أن يتم الدخول إلى البيت والعـبث بها أو رميها .
ــ لا عـليك يا عمي الهادي ، اطمئن ، سأحرص بنفسي على تطبيـق ما أوصيتني به مهما كلفني الأمر من ثمن .

مرت سنتان على رحيل الهادي ، التزم فيهما إسماعـيل
بكل وصاياه ، وجنى فيهما الخير العميم من وراء عمله الدؤوب ، الذي لم يطله الفتور أو اللغوب . لكن في فصل شتاء السنة الثالثة ، تغيـرت عادات إسماعـيل كـثيرا.
لقد أصبح دائم الذهاب إلى المدينة ، والتردد على حاناتها لشرب الصهباء التي أصبح مدمنا عـليها ، ومنفـقا لماله على زمرة من المدمنين ـ الذين تعرف إليهم ـ بكـل سخاء .

بعد قضاء ليلة حمراء في المدينة ، عاد إسماعـيل إلى بيته وهــو ثمل قد لعبت الصهباء بعقله ، ولم يعد يتذكر ما ذا يفعل . مــر أمام البيت ذي الباب المصبوغ باللون البني ، فاعتقد أن رائحة كريهة تنبعث منه . فـتح قـفله عنوة ودخل إليه ضاربا وصايا الهادي عرض الحائط . في الداخل لم يجد شيئا مما اعـتـقـد . كـل ما كان هناك أثاث منزلي قديم كبعض الأفرشة والملابس التي لم تعد صالحة لأي شيء .
دون وعي منه قام برمي الملابس القـديمة في مزبلة الدار ، وذهـب إلى غرفته لينام . في فراشه ما أن بدأ الكرى يغازل عينيه حتى سمع صوتا يخاطبه قائلا له :
ــ إسماعـيل ، يا إسماعـيل ، لقد خـنت الأمانة ، ونقضت العهد بينك وبين من أنقذك من المهانة . ردّ ما رميته في مزبلة الدار إلى مكانه قبل أن يحل بك أمر مكروه ، فتندم حيث لن ينفعك الندم أيها المعتوه .

طول الليل لم يكـف صاحب الصوت عـن تنبيه إسماعـيل ، ودعوته إلى رد الملابس إلى مكانها ، لكنه لم يفعل ظنا منه أن ما كان يسمعه هــو من تأثير ما احتساه من كؤوس النبيذ . في الصباح لما قامت زهرة زوجة إسماعـيل ، عجنت الدقيـق وأكثرت من دعكه ودلكه خوفا من تعليقات زوجها العـيّاب ، الذي أضحى لأتفه الأسباب يكشر عـن الأنياب . وقـت انتهائها انتبهت إلى الباب المفتوح لكنها لم تعره اهتماما . نظفت كعادتها حوش الدار من روث الأنعام ، وجمعته ثم خرجت لتلقي به في مزبلة الدار . في تلك الأثناء انتبهت إلى الملابس الملقاة فيها . بفـطنتها وربطها بيـن الأشياء ، علمت أن وجودها هناك هــو من فعـل إسماعيل الذي تجاوز الخطوط الصفراء والحمراء . جمعت الملابس ، وأعادتها إلى مكانها المعهود ، وأغلقـت الباب الذي لم يرد أن ينغلق كسابق عهده ، وانصرفـت إلى إتمام أشغال بيتها ليتها تسلم من لسان زوجها السليط ، الذي أصبح ينعتها بابنة اللقيط بـن اللقيط . ذهـبت إلى البيدر كالنحلة خفة ومعها كيس من الخيش ملأته تبنا ، ثم عرجت على مكان فيه " وكيد " (1) وملأت القـفة ثم دخلت إلى البيت الذي فيه الكانون ونصبت الأثافي ووضعت فوقها
" الفرّاح " (2) وأوقدت النار وجلست قبالتها تنتظر الوقـت المناسب لوضع العجيـن المقرص فوقه لطهـوه وإعداده للأكل . إبان انتظارها بدأت زهرة ترى حيوانات لم تألف رؤيتها حيث هي . في أول الأمر حطت حمامة بيضاء فـوق رأسها ، وفي المرة الثانية رأت قطة تدور بجانبها ، رغم أنها لا تتوفـر على مثيلة لها . لما انتهت من عملها حضرت الفطور وقدمته لزوجها الذي كان قد نهض بعد حين من نومه . تناوله على عجـل ، وأخرج البغـل من الإسطبـل ثم وضع( البردعة ) على ظهـره وفوقها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) وكيد : روث البهائم اليابس .
2) الفرّاح : إناء من الفخار لطهو العجين المقرص .


( الشواري ) ، وظل النهار بكامله ينقـل من مكان غـيـر بعيد تربة تدعى " مزواغ " توضع فوق سطوح المنازل وتدك بعد بلّها بالماء لمنع المطر من النفاذ إلى داخـل البيـوت .

في المساء ، بعد انتهائه من العمل قصد إسماعيل المدينة وظل في إحدى حاناتها يحتسي كؤوس الخمر . لم يغادرها إلا بعد أن أساء إلى أحد المدمنين الذي كان بجواره مما اضطر صاحب الخمارة إلى الأمر بإلقائه في الخارج . عاد إلى منزله وهو يجـر ذيول الخيبة والمذلة غير مستسيغ لما تعرض له من إهانة . لما وصل كرر فعل الأمس وعـبث بمحتويات البيت وهـو في حالة هـستيـرية لم يـر عـليها من قـبل ، ثم ذهـب إلى النوم . في فراشه زاره صاحب صوت الأمس وخاطبه قائلا له :
ــ لقد بلغ السيل الزبى ، بتجاوز طغيانك المدى ، فجهـز نفسك للرحيل غدا ،غدا ،غدا ، غ د ا .

كيف لثمل أن يعي ما يقال له ؟ لقد نام ملء جفنيه ، وقضى الليل جله وهو يغط غطا . لم يغادر فراشه إلا بعد أن أصبحت الشمس في كبد السماء . على غير عادته لم يتناول فطوره . نادى على زهرة بأعلى صوته ، وبنبرة فيها كثير من الحدة :

ــ يا زهـرة ، تعالي إلى هنا كي تساعديني على ترميم سقـف " نحيفة " (1) الحـوش .
رغـم ما كان لديها من أشغال امتثلت زهرة لأمر زوجها كي تجـنب نفسها غضبه . صعدت إلى سطح البيت كما طلب منها وظل هـو في حـوش الدار . كان يحمل على
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) نحيفة الحوش : سقيفة تمتد من كل غرفة إلى الحوش .
عاتقه السقائف ويصعد بها درج السلم الخشبي ، فـتـتسلمها
منه وتضعها جانبا فوق السطح . لما نقـل كـل السقائف ، أخذ القفة وبدأ يملأها بالتراب المسمى " مزواغ " ، ولما كان يكمل ملأها ، كان يحملها هي الأخرى على عاتقه ويصعد بها درج السلم الخشبي ، ويسلمها إليها فتأخذها منه وتـفـرغها في جانب آخـر قـريب من السقائف . زهرة غـير المتمرسة بمثـل هـذا العمل ، لم تـنتبه إلى الخطأ الذي ارتكبته بوضع كل من السقائف والتراب في مكان متقارب . وهكـذا ما أن أوصل إسماعـيـل القـفـة الأخيرة إلى زهـرة وأفـرغـتها ، ونـزل لأخـذ قـسط من الراحة تحـت
" النحيفة " حتى انهار سقـفها بما فوقه من ثـقـل وطمره بالكامل . صراخ زهـرة وطلبها للنجدة لم ينفعاها في شيء . سكنها كان بعيدا عـن الجيـران الذين يمكنهم أن يساعدوها . نزلت من فوق السطح واعتمدت على نفسها في محاولة يائسة وشبه مستحلية لإنقاذ إسماعـيـل . بعد جهد جهيد استطاعت زهرة أن تنتشل زوجها من تحت الأنقاض لكنه كان جثة هامدة بفعل ما تساقط عليه من أحجار .

بكت زهرة زوجها بكاء حارا ، واستعانت بعائلتها التي حضرت بعد سماعها الخبر على دفنه . الهادي لما علم بموت إسماعـيل قدِم إلى القرية وقـدّم تعازيه لزهرة وطمأنها على مصيـرها بعد موت زوجها . لقد أخبرها بأنه سوف يحتفـظ بها ، وسوف يخصص لها إقامة خاصة ، ومساعدة هامة تتدبر بها عـيشها . لكن زهرة سرعان ما غادرت القرية وعادت للعيش مع أهلها ، مؤثرة السلامة كما آثرها الهادي لما غادر إلى المدينة .


أحمد القاطي : شاعر وقاص من المغرب