المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ثنائية الوهم والحلم في ديوان " وهج الليلة السابعة " / للشاعر المغربي محمد فريد الرياحي .



أحمد القاطي
03/01/2009, 08:59 PM
ثنائية الوهم والحلم في ديوان " وهج الليلة السابعة "
للشاعر المغربي محمد فريد الرياحي .

محمد فريد الرياحي شاعر مغربي أصيل ، كانت مهرجانات الشعر والأغنية التي انعقدت في تازة في السنوات الخوالي مناسبة طيبة مكنتني من التعرف عليه ومعرفته عن قرب ، وبالتالي تمتين أواصر الأخوة والصداقة في ما بيني وبينه إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه من السمو والرقي والنبل . وكثيرا عندما كان يأتي إلى تازة في ما ذكر آنفا ، كنا نلازم بعضنا البعض طيلة أيام المهرجانات ، عن عفوية ، وربما عن إحساس ، براحة نفسية نابعة من الارتياح للآخر . وتلك اللقاءات السابقة ، أسعفتني أيضا كي أكتشف إنسانيته ، ونبله ، وأخلاقه الفاضلة ، وتسامحه ، وتواضعه وترفعه لما يقتضي الترفع ذلك ، هذا من جهة ومن جهة أخرى ، أسعفتني أيضا كي أعرف انطوائيته ، وانزواءه في الأوقات التي كانت تحتم علينا الافتراق من جهة أخرى . ولا شك أن ذلك الانطواء كانت له أسبابه الذاتية الحارقة الجارفة الشاجية بالنسبة للشاعر ، وهي التي سوف أحاول الآن استشفافها من خلال ديوانه ـ قصيدته ـ الجديد الموسوم بــ " وهج الليلة السابعة " (1 ) وقبل الغوص في عالمه الشعري الغني بالدلالات والإيحاءات والمعاني العميقة ، أود أن أقف قليلا عند العنوان باعتباره عتبة النص ومفتاحه ( 2) حيث اعتمد فيه الشاعر على الجملة الاسمية ، هذه الجملة التي اختارها عن وعي ينم عن رهافة حسه لكي تختزل لنا مدى المعاناة الرهيبة التي كابدها جراء المرض( 3) والتي كادت أن تعصف بحياته لولا الألطاف الإلهية كما جاء على لسانه في مستهل الديوان .
ما قبل المرض : صورة للشاعر على ظهر الغلاف ، ناطقة عن النعيم ورغد العيش الذي كان يتنعم به ويتقلب في خيراته ، وليس ذلك بغريب لأنه معروف عنه أنه ينتمي إلى أسرة مثقفة غنية ميسورة الحال . وهذا هو الذي حدا بالشاعر إلى أن يتحدث عن هذه المرحلة الزاهية من فترات حياته واصفا نفسه بالطفل الأروع (4) مكررا تلك الجملة ثمان مرات ، والتكرار هنا الغرض الأساس منه هو تأكيد المعنى حتى يترسخ في ذهن القارئ كي يكون فكرة عن حياة البحبوحة التي عاشها والتي وسمت طفولته البريئة ، ومن أجل تهييئه للآتي ، للغد الأسود الحالك القاتم المتمثل في مرض الشاعر بمرض الوهم والوساوس التي انهالت عليه وحولت حياته رأسا على عقب ، ولازمته دهرا طويلا ، وكانت قاب قوسين أو أدنى من هلاكه وإصابته بالجنون . يقول :
كان ذاك اليوم من أيامه دهرا طويلا
كان ذاك اليوم من أيامه يوما عبوسا قمطريرا
ريحه الهوجاء ألقت
في غيابات الحنايا زمهريرا
فذوى ما
كان في الإدراك روحا
.....
وهوى ما
كان من سحر الليالي
والأمالي (5)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي استبد بعقل الشاعر فحول حياته إلى جحيم لا يطاق ، حيث أصبح كابوسا مخيفا ومقلقا لازمه أينما حل وارتحل ، يرحل في ذاته إلى ذاته ، وهو ما جعله يردده في أكثر من مكان في هذه القصيدة (6) إنه الفاجعة ، والطامة الكبرى التي نغصت عليه حياته ،وأفقدته صبره مما دفعه إلى القول :
ما لهذا الوهم يا صاحبتي يرحل في الذات إلى

1.
الذات وما في الذات إلا
وهج الحلم المجدد
ما لهذا الوهم يا صاحبتي يجرفني
ما لهذا الوهم لا يهجرني ( 7)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي تملك الشاعر ، فأصدر آهاته وتأوهاته من شدة ضيقه وتـضايقه منه لكونه كان جرارا عرمرما مؤثرا في نفسه ، لا يفارقه إلا لماما لكي يعود من جديد . يقول:
أيها الشاعر قد جاءتك أوهام من الليل قبيلا
جاءك الحلم على أشلائه العطشى قتيلا
جاءك الليل فما ترتد أوهامك إلا
حين يغفو الجرح في الحس قليلا .( 8)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي جرعه كل أصناف المرارة والأحزان والأشجان فجعله يصدح شاكيا همه وغمه الذي ألم به ، وأذهب النوم عن جفنيه وحرمه حلاوة وطلاوة وطراوة البذخ الذي عاشه في طفولته . يقول :
كنت أمشي
بين ما كان من الإبحار يجري
في اشتعالي
بجنون الخضرة الزرقاء في الحلم المندى
والذي يجرفني في
غربة الليل من الوهم المسهد . (9)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي كانت تشتد وطأته على الشاعر صيفا ، وفي المقابل كان الشاعر يمشي ، كان يقاوم في عناد وإصرار ، كان يمشي ، كان يمشي وهذا مؤشر إيجابي ، لأنه لم يستسلم ، ولم يعلن عن اندحاره ، وعن رضوخه للأمر الواقع ، نعم إنه كان يمشي ، كان يغدو ويروح ، في صيف قائظ يقطع الأنفاس آه . يقول :
كنت أمشي
في لهيب الصيف آه
من لهيب الصيف في موج غدوي
ورواحي
كنت أمشي .(10)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي بلغ ذروته في الليلة السابعة ، فاشتدت الأحزان على الشاعر ، وتكاثرت كالطوفان الجارف الذي لا عاصم منه ، إلى درجة أنه وهو يمشي في الشارع العام كالمجنون لم يعد يعر أي اهتمام للناس من حوله ، فهو الموجود لا أحد سواه . يقول :
الناس حولي
من جنوني
يتوارون وكان الوقت في أنحاء ذاتي
يتجدد (11)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي يذكره ، ويتذكره الشاعر بمرارة وحرقة بالغة لا تكاد تفارق مخيلته ، هذا الوهم الذي فرض عليه العزلة والانطواء والهذيان خصوصا عندما كان يلج المقهى ، ويجلس في ركن ، فيلاحظ العيون وهي تطارده وترمقه . يقول:
إنه ما زال يذكر
وحشة المقهى وريح القهوة الليلاء في الركن
المحير

2.
وعيونا في الدخان
ترمق الشاعر في الركن المعنى
يشرب القهوة سقما
في عرام الهذيان ( 12)
نعم إنه المرض ، إنه الوهم الذي جعل أصدقاء الشاعر يتخلون عنه ويهجرونه ، كي يعمقوا من جراحاته في أوج ليلته السابعة المتوهجة ، نعم إنه لا زال يذكر ذلك الغدر المدبر ، وتلك الردة الكبرى . يقول :
إنني ما زلت أذكر
ردة الأصحاب عني
وفلولا من خيالات المدى تسخر مني
وهيام البحر بالظل وغدرا
من جنون الردة الكبرى وصبحا
قد تمطى ( 13)
وفي مقابل الردة الكبرى لأصدقائه الذين كان في أمس الحاجة إليهم ، كي يقفوا إلى جانبه في محنته الجليلة ، ويخففوا من أتراحه وأحزانه وكلومه ، لم يعاملهم بالمثل ، بل أوكل أمره إلى خالقه ، وحاول أن يغسل قلبه المفتون بفاتحة النسيان . يقول :
أخرج ما في الصدر المسنون
من الأدران
اغسل ما بالقلب المفتون
من الأحزان بفاتحة النسيان . ( 14)
سبق أن تمت الإشارة آنفا إلى أن الديوان ــ القصيدة ــ تتوزعه ثنائية الوهم والحلم ، وفي ما مضى من تحليل تطرقت إلى الوهم وما أوقعه من كلوم غائرة في ذات ونفس الشاعر ، حيث كان على شفا حفرة من الجنون ، ولكن الألطاف الإلهية كانت رحيمة به فأنقذته من هلاك مبين . فماذا عن الحلم الذي تكرر في الديوان أكثر من تكرر الوهم فيه ؟(15) . أحلام الشاعر بدأت عندما كان طفلا رائعا بريئا مسالما يدري كنه الألوان . بدأت صغيرة بسيطة وهو يجري ، ويدري ولا يدري ، ولكن على الرغم من صغرها وبساطتها سوف يكون لها شأن بالنسبة إليه عندما يشتد عوده ، وهي التي سوف تسعفه فتكون سلاحه الذي واجه به مصيره وحيدا ، ودرأ به أعداءه الشامتين . يقول
الطفل الأروع يسري
في أشتات اللون الشاحب في ليل الأنواء
أحلام الطفل الأروع حبات
من إشراق البحر الموزون
تطير فويق الأنداء . ((16)
مم لاشك فيه أن الشاعر قد عنى بـ " حبات من إشراق البحر الموزون " الشعر ، ففيه وجد ضالته المنشودة ، ومتنفسه الوحيد الذي كان من خلاله ينفس عن روحه الهموم والظنون ، ويطرد عنها قدر المستطاع ، زحف الهواجس والجنون . يقول :
رب إني
لبستني همة الشعر وبالشعر اكتفيت
ليس في الهمة إلا الشعر موزونا بما في
خلوة الذات من الحرف نويت . (17)

3.
نعم إن الشاعر يحلم ، والحلم حق مشروع لكل واحد من الأنام . من حقه أن يحلم ، ومن حقه في أحلامه ، وبواسطة بلسم الشعر أن يداوي جراحاته وكلومه التي لازمته طويلا ، فعمقت مأساته ، وزلزلت كيانه، وهوت به إلى الجحيم . لقد كان الشعر ملاذه كلما ضل الطريق ، وكلما اشتد وقع النكسة الكبرى عليه . يقول :
ليس لي في
فورة الأحلام إلا الشعر موزونا بما في
مدد النجوى وعيت . ( 18)
وبالإضافة إلى الشعر ، فقد لاذ الشاعر بربه ، لما عيل صبره ، ولم يعد إلى الصبر من مزيد . عاد إليه متضرعا متوسلا مبتهلا ساجدا آملا في رحمته التي وسعت كل شيء . آملا في أن يرفع عنه البلاء الذي أرقه وأرهقه وأقلقه وأشقاه الشقاء الذي جرعه من المرارة أصنافا وألوانا لا تحصى . آملا في أن يزول الليل ،ويعود الصحو إلى اللحن المصفى . وبالفعل لم يخب ظن الشاعر ، إذ أعاد الله إليه عافيته ، وصحو الليالي الغابرة . يقول :
ها أنا أصحو فلا شيء يحد المدد الطالع من
دائرة الوثبة لا شيء يشد الدفقة الخضراء في
سد من الردة لا شيء يصد الشاعر المولود في
رائعة الشعر المقفى
عن منارات من الحلم الذي أوفى فوفى . (19)
نعم لقد لجأ الشاعر إلى الشعر ، وإلى الله ، أفضل ما يمكن أن يلجأ إليه المرء وقت الإحن ، فكان له ما أراد ، حيث تحقق حلمه في الشفاء من الداء اللعين الذي كاد أن يعصف بكيانه ، ويلقي به في الهاوية ، ليعود إلى نشاطه المعتاد ، ويواصل عطاءه الوقاد ، مستمدا طاقته من اقتداره ، ومن إصراره على ، المشي لا شيء غير المشي .
يقول :
واصطفيت الفجر إيذانا بإبكاري وإبحاري وفتحا
لزمانات انتظاري
واقتداري
وانتشاري
إنني للصحو في عنف اذكاري
وانتصاري
أيها الحلم مشيت . (20)
وفي الختام لا يسعني إلا أن أهنيء صديقي الشاعر على صدور ديوانه الجديد الذي كان موضوع هذه القراءة ، وعلى تماثله للشفاء ، وعودته إلى حالته الطبيعية كي يمارس حياته بشكل طبيعي ، بعيدا عن الأوهام والآهات والأنات ، قريبا من الواقع والأفراح والمسرات .

هـــــــــــــوامش :
1) وهج الليلة السابعة : ديوان شعري للشاعر المغربي محمد فريد الرياحي . صدر عن مطبعة فضالة بالمحمدية سنة 2005م
2) مساءلة الحداثة : ص : 115 كتاب الشهر 5 سلسلة شراع ــ نجيب العوفي .
3) وهج الليلة السابعة : ص : 5 ــ ط : 1
4) نفسه : ص : 7 ـ 8 ـ 9
5) نفسه : ص : 10 ـ 11
6) ترددت كلمة الوهم مفردة وجمعا في الديوان ( 13) مرة .

4
7) نفسه : ص : 52
8) نفسه : ص : 34 ــ 35
9) نفسه : ص : 24
10) نفسه : ص : 23
11) نفسه : ص : 22
12) نفسه ص : 12
13) نفسه ص : 27
14) نفسه ص : 20
15) ترددت كلمة الحلم مفردة وجمعا في الديوان ( 19) مرة
16) نفسه : 7 ـــ 8
17) نفسه : ص : 44
18) نفسه : ص : 45
19) نفسه : ص : 46
20) نفسه : ص 47 ــ48 .