خليف محفوظ
04/01/2009, 09:25 PM
الإهداء : إلى قطر الندى
وكان يوم ...
الغنم ترعى كعادتها في هدوء ، و"سحاب" عند ركبتي يبسط ذراعيه و يرفع وجهه إلي ، و أنا أرقب نحلة تغوص في قلب زهرة بين رجلي . النحلة تئز و تغوص في عمق الزهرة . مؤخرة النحلة ترتعش . تحط فراشة بديعة . أجمع كفي في حذر و أطبقهما عليها .تخرج بين يدي . تفلت .أتبعها . يركض "سحاب " فيمرح . أجري أنا . أركض . تبتعد الفراشة . و يبتعد "سحاب وراءها . أنادي عليه ، فيلتفت إلي ثم يستأنف ركضه و كأنه يشير لي أن أتبعه .
و أجدني مدفوعا وراءهما بكل ما أملك من طاقة في بحر من حقول القمح و الشعير تغمرني سنابله الخضراء إلى العنق ، و أحيانا تغمني فتغطي رأسي فأشقها بيدي كأني أسبح في بحر أخضر ينبسط على مد البصر .
عند شجرة ظليلة كان« سحاب " ينتظرني ، فقد أثر الفراشة فأقعى لاهثا . جلست إلى جانبه أمسد على ظهره ،وقد كان في أروع صورة ! ثم إذا امرأة تقف عندنا و تطرح قلتها عن ظهرها . جاءت تأخذالماء من العين . شدني إليها منديلها الأصفر ، و الكحل الأسود في عينيها فتعلق بها بصري .
أحاطت عنقي بذراعيها و سألتني عن اسمي ، ثم مازحة عن اسم كلبي .
أجبتها بصدق و حرارة :
- أنا سعد ، و هذا كلبي " سحاب " ، و أنا أرعى الغنم لجدي .
زرت لي قميصي المفتوح من أثر الجري وراء الفراشة ، وسألتني :
- لماذالا تغسل لك أمك ثيابك ؟
ولما أخبرتها أن جدتي ماتت ، و أني مع جدي نادرا ما نغسل ثيابنا كررت سؤالها في استطلاع :
- و أمك ؟ أين هي أمك ؟
وصدمني السؤال ، أمي ؟ حقا ، أين هي أمي ؟
وجاءني الجواب سريعا ، الظهر المحدودب ،جدتي فطوم ، آه جدتي ...
- أمي هي جدتي و قد ماتت .
و ضحكت المرأة فلاح في طرف فمها ضرس مذهب برقت فيه الشمس فازددت بها تعلقا
- أمك غير جدتك ، ألا تعرف من هي أمك ؟!
- جدتي هي أمي .
وبان الاهتمام في العينين المكحلتين :
- اسمع ، النعجة تلد ولدها فهي أمه لأنها هي التي ولدته ، فمن هي أمك التي ولدتك ؟أما جدتك فهي التي ولدت أمك .
و ذكرني كلامها عن النعجة بغنمي التي نسيتها فضربت« سحاب " على ظهره ، و انطلقنا عائدين إلى حيث تركناها ترعى وحدها .
لكن سؤال المرأة كحيلة العين مذهبة الضرس ظل يحفر رأسي ؟ من هي أمي ؟
وشد انتباهي توقف« سحاب " يمد بصره فيما يحيط بنا . أين النعاج ؟ لا أثر لها.
أسندت ظهري إلى جذع شجرة . ضياع النعاج يعني الحساب العسير مع جدي .
وشملني خدر فأغمضت عيني إعياء حتى كأني محمول على جناح ملاك ، وهاهنا ساحة بيتنا ، وها هي جدتي وافقة ، أسرعت نحوها ملهوفا فلم تفتح لي ذراعيها ،ظلت جامدة .
- جدتي هل عدت ؟ هل ستبقين معنا ؟
و تعلقت بطرف ثوبها .
- جدتي تكلمي معي ، خذيني إليك ، جدتي ...
وامتلأ قلبي وحشة .
أنا سعد ، لماذالا تنظرين إلي ؟ هيا ندخل إلى البيت .
وجذبتها من يدها فكانت مغروسة كشجرة.
وعدت أتعلق بطرف ثوبها ، و غمر وجهي فيض من الدموع فكنت أنتحب ، أنتحب بكل ما في القلب من وحشة وحنين إلى سالف عهدي مع جدتي .
وأفتح عيني فإذا " سحاب"باسط ذراعيه جنبي ، و إذا الشمس مالت إلى الغروب .
وحملت نفسي إلى البيت . كان جدي عند العتبة يتصاعد خيط دخان سيجارته كبقايا نار مطفأة ، اقتربت منه ، أبصرت في وجهه تلك المسحة البغيضة ، مسحة الغضب المكتوم إذ يصرف عني نظره متجاهلا قدومي ،فتيقنت أنه يعلم الأمر ، و يعلم أيضا مكان النعاج ، فلم أنبس بكلمة . جلست منتظرا ما سيسفر عنه صمته الذي أضحى كريها إلى نفسي .
سحق عقب سيجارته بين أصابعه الخشنة غير آبه بجمرتها - وهذه عادته - إنه مولع بالنار ، صدره مليء بالكيات ،ومليء أيضا بأشياء يخفيها عني .
التفت إلي و قال :
- أراك أتيت وحدك ، أين نعاجك ؟
- جرى " سحاب " وراء فراشة فجريت وراءه ، ولما عدنا لم نجدها ، فتشنا فلم نعثر عليها .
و ضحك ضحكة جافة .
- جريت أنت و "سحاب" ، فتشت أنت و "سحاب » .
ثم وقد اكتسى وجهه بحمرة عنيفة :
- « سحاب " كلب ، وأنت رجل ، الرجل لايغفل ، الرجل حذر ، الرجل لو ضاع منه شيء استرجعه ولو من الموت . وأنت تضيع قطيعا بأكمله ثم تعود إلي فرحا بنفسك على أنك فتشت و لم تجد .
وأحنقني ادعاؤه أن الرجل يسترجع الشيء ولو من الموت فكدت أقول له إن الموت أخذ منك جدتي فلماذا لم تسترجعها منه ؟ لكن تقطيبة جبينه المظلمة ردعتني.
ورأيت "سحاب " يحوم حول الزريبة ، فعلمت أن الغنم هناك ، فقمت أتفقدها ، بينما اتجه هو إلى البستان و قد اكفهر وجهه.
وكان المساء رصاصيا في قلبي ، وعلى الهضبة الجرداء أغربة تحوم ثم تحط فتتجمع كتلة سوداء سرعان ما تتوزع و تطير ثانية لتحوم من جديد في صمت ولا تكف عنالحومان .
ورأيت جدي يجول بين أشجار بستانه منقبا ، متفحصا ، فتصور لي غرابا يحوم ، وشق رأسي سؤالي أمي من تكون فتخيلت نفسي أنا الآخر غرابا أحوم ، وأن الدنيا كلها تحوم ، تحوم ...
=====
في الليل كان وجه جدي قد انبسط قليلا ، ربما أحسأنه كان فظا معي أكثر مما ينبغي ، فكانت نظراته إلي غير نظرات المساء.
تنحنح وراح يعيد علي ما قاله عند العتبة بكلام رقيق مضيفا أنه يريد أن يصنع مني رجلا ، وأنه يريد أن يهيئني لمهمة ثقيلة ، مهمة لا يقوى عليها إلا رجل .
وطفق يشرح في إسهاب مفهوم الرجل لا أذكر منه إلا قوله :" الرجل لا يسقط على أنفه ، الرجل يقف حتىينكسر " إذ رسم لي قوله في ذهني صورة فظيعة لأشياء هشة تتطاير ’ و أخرى صلبة تتكسر، فتخيلت ركيزة بينتا تتشقق و تنثني فينطرح السقف علينا في خبطة هائلة فإذا نحن الاثنين منبطحان على أنفينا .
وبينما أنا أتابع تسلسل صور المشهد في ذهني كان جدي يتحدث في إسهاب غير منقطع حتى تمثلته نهرا يفيض . ولم أكن أعي شيئا مما كان يقول ، وكان كمن يحدث نفسه .
أشعل سيجارة و نفخ سحابة كثيفة مسددا نحوي نظرات غريبة فرجعت من شرودي .
- جدي ، النعجة الحمراء توشك أن تلد .
فقال في اهتمام :
- إنها نعجة مباركة ، وستلد توأما ان شاء الله.
- جدي ، النعجة تلد ولدها فهي أمه ، فمن التي ولدتني أنا ؟
وأطرق لحظات، ثم رفع إلي وجهه الصلب .
الخروف يكبر فيصير كبشا فينسى أمه ، بل لا يتعرف عليها إن هو لقيها ، وربما ركبها كما يركب أية نعجة أخرى . و هكذا تصبح أمه مجرد أنثى ، وكذلك أمك أنثى .
وسألت في لهفة :
- و أين هي يا جدي ؟ أين هي ؟
تقلصت عضلات وجهه ، وقال مقتضبا ممتعضا :
- لا يمكن أن تعرفها ، لقد قلت لك إن الكبش لا يعرف أمه .
وقام يتفقد الغنم شأنه كل ليلة قبل أن يدخل الفراش مؤذنا بانتهاء السهرة .
ووجدت نفسي وحدي بين أربعة جدران مشققة تخرج منها أوتاد دقت إلى نصفها في غير رفق ، بدت لي غريبة كأني أبصرها لأول مرة .
و انتبهت إلى أني أقف وسط الحجرة والسقف فوق رأسي مليء بالحشرات ، ولساني يتمتم ، ينفي في إصرار :
- لست كبشا ،لست كبشا .
و امتلأ صدري حنقا عليه فتمنيت لو يذهب إلى ربه.
وسمعت وقع خطواته فأسرعت إلى فراشي الخاص عملا بقوله إني الآن رجل ، و الرجل ينام وحده إذا لم يكن متزوجا . تظاهرت بالنوم و رحت أنصت لحركاته : قرب المصباح من رأس السرير ، خلع عمامتة وبرنوسه ، سعل سعلتين فارغتين ، تمتم في غير وضوح ، نفخ على المصباح ، انزلق في فراشه وتمتم بوضوح :
- سيعرف بنفسه كل شيء فيما بعد.
وفتحت عيني في الظلمة ...
وكان يوم ...
الغنم ترعى كعادتها في هدوء ، و"سحاب" عند ركبتي يبسط ذراعيه و يرفع وجهه إلي ، و أنا أرقب نحلة تغوص في قلب زهرة بين رجلي . النحلة تئز و تغوص في عمق الزهرة . مؤخرة النحلة ترتعش . تحط فراشة بديعة . أجمع كفي في حذر و أطبقهما عليها .تخرج بين يدي . تفلت .أتبعها . يركض "سحاب " فيمرح . أجري أنا . أركض . تبتعد الفراشة . و يبتعد "سحاب وراءها . أنادي عليه ، فيلتفت إلي ثم يستأنف ركضه و كأنه يشير لي أن أتبعه .
و أجدني مدفوعا وراءهما بكل ما أملك من طاقة في بحر من حقول القمح و الشعير تغمرني سنابله الخضراء إلى العنق ، و أحيانا تغمني فتغطي رأسي فأشقها بيدي كأني أسبح في بحر أخضر ينبسط على مد البصر .
عند شجرة ظليلة كان« سحاب " ينتظرني ، فقد أثر الفراشة فأقعى لاهثا . جلست إلى جانبه أمسد على ظهره ،وقد كان في أروع صورة ! ثم إذا امرأة تقف عندنا و تطرح قلتها عن ظهرها . جاءت تأخذالماء من العين . شدني إليها منديلها الأصفر ، و الكحل الأسود في عينيها فتعلق بها بصري .
أحاطت عنقي بذراعيها و سألتني عن اسمي ، ثم مازحة عن اسم كلبي .
أجبتها بصدق و حرارة :
- أنا سعد ، و هذا كلبي " سحاب " ، و أنا أرعى الغنم لجدي .
زرت لي قميصي المفتوح من أثر الجري وراء الفراشة ، وسألتني :
- لماذالا تغسل لك أمك ثيابك ؟
ولما أخبرتها أن جدتي ماتت ، و أني مع جدي نادرا ما نغسل ثيابنا كررت سؤالها في استطلاع :
- و أمك ؟ أين هي أمك ؟
وصدمني السؤال ، أمي ؟ حقا ، أين هي أمي ؟
وجاءني الجواب سريعا ، الظهر المحدودب ،جدتي فطوم ، آه جدتي ...
- أمي هي جدتي و قد ماتت .
و ضحكت المرأة فلاح في طرف فمها ضرس مذهب برقت فيه الشمس فازددت بها تعلقا
- أمك غير جدتك ، ألا تعرف من هي أمك ؟!
- جدتي هي أمي .
وبان الاهتمام في العينين المكحلتين :
- اسمع ، النعجة تلد ولدها فهي أمه لأنها هي التي ولدته ، فمن هي أمك التي ولدتك ؟أما جدتك فهي التي ولدت أمك .
و ذكرني كلامها عن النعجة بغنمي التي نسيتها فضربت« سحاب " على ظهره ، و انطلقنا عائدين إلى حيث تركناها ترعى وحدها .
لكن سؤال المرأة كحيلة العين مذهبة الضرس ظل يحفر رأسي ؟ من هي أمي ؟
وشد انتباهي توقف« سحاب " يمد بصره فيما يحيط بنا . أين النعاج ؟ لا أثر لها.
أسندت ظهري إلى جذع شجرة . ضياع النعاج يعني الحساب العسير مع جدي .
وشملني خدر فأغمضت عيني إعياء حتى كأني محمول على جناح ملاك ، وهاهنا ساحة بيتنا ، وها هي جدتي وافقة ، أسرعت نحوها ملهوفا فلم تفتح لي ذراعيها ،ظلت جامدة .
- جدتي هل عدت ؟ هل ستبقين معنا ؟
و تعلقت بطرف ثوبها .
- جدتي تكلمي معي ، خذيني إليك ، جدتي ...
وامتلأ قلبي وحشة .
أنا سعد ، لماذالا تنظرين إلي ؟ هيا ندخل إلى البيت .
وجذبتها من يدها فكانت مغروسة كشجرة.
وعدت أتعلق بطرف ثوبها ، و غمر وجهي فيض من الدموع فكنت أنتحب ، أنتحب بكل ما في القلب من وحشة وحنين إلى سالف عهدي مع جدتي .
وأفتح عيني فإذا " سحاب"باسط ذراعيه جنبي ، و إذا الشمس مالت إلى الغروب .
وحملت نفسي إلى البيت . كان جدي عند العتبة يتصاعد خيط دخان سيجارته كبقايا نار مطفأة ، اقتربت منه ، أبصرت في وجهه تلك المسحة البغيضة ، مسحة الغضب المكتوم إذ يصرف عني نظره متجاهلا قدومي ،فتيقنت أنه يعلم الأمر ، و يعلم أيضا مكان النعاج ، فلم أنبس بكلمة . جلست منتظرا ما سيسفر عنه صمته الذي أضحى كريها إلى نفسي .
سحق عقب سيجارته بين أصابعه الخشنة غير آبه بجمرتها - وهذه عادته - إنه مولع بالنار ، صدره مليء بالكيات ،ومليء أيضا بأشياء يخفيها عني .
التفت إلي و قال :
- أراك أتيت وحدك ، أين نعاجك ؟
- جرى " سحاب " وراء فراشة فجريت وراءه ، ولما عدنا لم نجدها ، فتشنا فلم نعثر عليها .
و ضحك ضحكة جافة .
- جريت أنت و "سحاب" ، فتشت أنت و "سحاب » .
ثم وقد اكتسى وجهه بحمرة عنيفة :
- « سحاب " كلب ، وأنت رجل ، الرجل لايغفل ، الرجل حذر ، الرجل لو ضاع منه شيء استرجعه ولو من الموت . وأنت تضيع قطيعا بأكمله ثم تعود إلي فرحا بنفسك على أنك فتشت و لم تجد .
وأحنقني ادعاؤه أن الرجل يسترجع الشيء ولو من الموت فكدت أقول له إن الموت أخذ منك جدتي فلماذا لم تسترجعها منه ؟ لكن تقطيبة جبينه المظلمة ردعتني.
ورأيت "سحاب " يحوم حول الزريبة ، فعلمت أن الغنم هناك ، فقمت أتفقدها ، بينما اتجه هو إلى البستان و قد اكفهر وجهه.
وكان المساء رصاصيا في قلبي ، وعلى الهضبة الجرداء أغربة تحوم ثم تحط فتتجمع كتلة سوداء سرعان ما تتوزع و تطير ثانية لتحوم من جديد في صمت ولا تكف عنالحومان .
ورأيت جدي يجول بين أشجار بستانه منقبا ، متفحصا ، فتصور لي غرابا يحوم ، وشق رأسي سؤالي أمي من تكون فتخيلت نفسي أنا الآخر غرابا أحوم ، وأن الدنيا كلها تحوم ، تحوم ...
=====
في الليل كان وجه جدي قد انبسط قليلا ، ربما أحسأنه كان فظا معي أكثر مما ينبغي ، فكانت نظراته إلي غير نظرات المساء.
تنحنح وراح يعيد علي ما قاله عند العتبة بكلام رقيق مضيفا أنه يريد أن يصنع مني رجلا ، وأنه يريد أن يهيئني لمهمة ثقيلة ، مهمة لا يقوى عليها إلا رجل .
وطفق يشرح في إسهاب مفهوم الرجل لا أذكر منه إلا قوله :" الرجل لا يسقط على أنفه ، الرجل يقف حتىينكسر " إذ رسم لي قوله في ذهني صورة فظيعة لأشياء هشة تتطاير ’ و أخرى صلبة تتكسر، فتخيلت ركيزة بينتا تتشقق و تنثني فينطرح السقف علينا في خبطة هائلة فإذا نحن الاثنين منبطحان على أنفينا .
وبينما أنا أتابع تسلسل صور المشهد في ذهني كان جدي يتحدث في إسهاب غير منقطع حتى تمثلته نهرا يفيض . ولم أكن أعي شيئا مما كان يقول ، وكان كمن يحدث نفسه .
أشعل سيجارة و نفخ سحابة كثيفة مسددا نحوي نظرات غريبة فرجعت من شرودي .
- جدي ، النعجة الحمراء توشك أن تلد .
فقال في اهتمام :
- إنها نعجة مباركة ، وستلد توأما ان شاء الله.
- جدي ، النعجة تلد ولدها فهي أمه ، فمن التي ولدتني أنا ؟
وأطرق لحظات، ثم رفع إلي وجهه الصلب .
الخروف يكبر فيصير كبشا فينسى أمه ، بل لا يتعرف عليها إن هو لقيها ، وربما ركبها كما يركب أية نعجة أخرى . و هكذا تصبح أمه مجرد أنثى ، وكذلك أمك أنثى .
وسألت في لهفة :
- و أين هي يا جدي ؟ أين هي ؟
تقلصت عضلات وجهه ، وقال مقتضبا ممتعضا :
- لا يمكن أن تعرفها ، لقد قلت لك إن الكبش لا يعرف أمه .
وقام يتفقد الغنم شأنه كل ليلة قبل أن يدخل الفراش مؤذنا بانتهاء السهرة .
ووجدت نفسي وحدي بين أربعة جدران مشققة تخرج منها أوتاد دقت إلى نصفها في غير رفق ، بدت لي غريبة كأني أبصرها لأول مرة .
و انتبهت إلى أني أقف وسط الحجرة والسقف فوق رأسي مليء بالحشرات ، ولساني يتمتم ، ينفي في إصرار :
- لست كبشا ،لست كبشا .
و امتلأ صدري حنقا عليه فتمنيت لو يذهب إلى ربه.
وسمعت وقع خطواته فأسرعت إلى فراشي الخاص عملا بقوله إني الآن رجل ، و الرجل ينام وحده إذا لم يكن متزوجا . تظاهرت بالنوم و رحت أنصت لحركاته : قرب المصباح من رأس السرير ، خلع عمامتة وبرنوسه ، سعل سعلتين فارغتين ، تمتم في غير وضوح ، نفخ على المصباح ، انزلق في فراشه وتمتم بوضوح :
- سيعرف بنفسه كل شيء فيما بعد.
وفتحت عيني في الظلمة ...