المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الرفض بين الايجاب والسلب



تميم فخري الدباغ
25/12/2006, 09:42 AM
الرفض بين الإيجَاب والسّلبْ

من منشورات الدكتور فخري الدباغ رحمة الله عليه
في مجلة العربي الكويتي
القاعدة تقضي أن يهب الإنسان ما يملك ، لا ما يملكه الآخرون . . والمنطق أن يرفض الإنسان ما يعتقد أنه ضار أو فاسد أو باطل . . .
أما أن يعرف الإنسان ما يملك ، فهذا أول متطلبات الحكمة . . ومن لا يعرف مقدار ملكاته وماهيتها كان مخلوقا ساذجا أو جاهلا ، وأما أن يعرف الإنسان الضار والفاسد والباطل ، فهي أدق متطلبات الحكمة ، ومن يريد رفض شيء قبل اكتساب حكمة المعرفة تلك ، كان أيضا مخلوقا ساذجا أو جاهلا .
أقول هذا ، لأنني أرى- كما لا يرى غيري- أن كثيرا من الناس يهبون ما لا يملكون ، ويرفضون ما لا يعرفون . وأصبح (الرفض) سلوكا مرحليا براقا كمستحدث الأزياء مثلا . . وأصبح الرفض مفخرة ولازمة لأعمال قسم من الأدباء والشعراء والنقاد وكذلك - وهو الأسوأ والأخطر- في تصرفات بعض الشباب .
الرفض البناء :
ولا أريد الادعاء أن الرفض عمل منكر أو مستهجن ، لان أروع الأعمال وأعاظم السير وأخلد الحوادث تكونت من نطفة الرفض ومن طاقاته ، الأنبياء رفضوا أوضاعا فاسدة أو ضارة أو باطلة . . المخترعون والعلماء والرواد رفضوا نظريات جامدة أو ناقصة . . المكتشفون رفضوا العيش ضمن جغرافية محدودة وحياة رتيبة مملة . . مشاهير الكتاب والأدباء ، والمجددون في القصة أو الشعر رفضوا بعض الأساليب الوضعية المتكررة الخاملة . . وأخيرا المصلحون في كل مكان رفضوا النظم والسياسات التي كانت تذل الإنسان أو تسيء إلى تمتعه بديمقراطية اجتماعية واقتصادية وثقافية ، والجميع رفضوا وحاربوا الرياء والدجل في كل شيء .
الرفض إذن هو لب أعاظم الأفعال ، إلا أنه رفض مشروع ومعقول ، وشرعية هذا النوع من الرفض أنه ترعرع بفعل عوامل ملحة ، وكان مهضوما ومدروسا لا اعتباطيا أحمق ، وكان يرمي إلى الإصلاح والفائدة الأعم أو دفع الأذى ومكافحة الشر الخطير ، ومعقولية هذا النوع من الرفض أنه في البناء الحضاري للمجتمع وللعالم .
الرفض الطفولي :
إن بعض الأطفال يرفضون الذهاب إلى المدرسة مثلا ، وأصبح هذا النوع من الرفض مرضا نفسيا يدعي بـ (رفض المدرسة) وللمرض النفسي أسباب ودوافع لا ريب فيها . . وقد تكمن في المدرسة نفسها فتنفر التلميذ من الاقتراب منها ، وقد تكمن في البيت والأسرة التي تجذبه إليها وتعرقل اندفاعه أو مودته نحو المدرسة ، ومعظم الدوافع والأسباب يمكن معالجتها بالوسائل النفسية ، وينقلب الرفض بالنهاية إلى ألفـة وانسجام ، ويغدو الرفـض المدرسي وأمثاله من الأمراض النفسية للطفولـة ظاهرة مرضية تستوجب العطف والرعايـة الطبية - النفسية .
وما يروعنا ويثير اهتمامنا ، هو الرفض الطفولي الأرعن ، الرفض الذي يمارس علنا وبوعي وإصرار . فرافض المدرسة يستاء من سلوكه ويتعجب لتوجسه وإحجامه . . أما الرافض المعاصر فانه يبارك نفسه ، ويتعجب من توجس الآخرين وإحجامهم عن مجاملته أو تشجيعه ! .
الرفض المعاصر المريض .
والرافض المعاصر المقصود هو واحد من منتمي الجماعـات الجديدة التي أطلقت على نفسـها (الهيبيز) والـ (بيتلز) - الخنافس – والـ (بيتنك) والـ (البروفوك) . وهو ينسلخ ويتبرأ من أسرته ومجتمعه والنظم السائدة فيه ، لينساق وراء أسرة وجماعة ونظام آخر يتميز باللامبالاة واللاإرادية والممارسات الجنسية الفاضحة والإدمان و العنف والإجرام .
يقول (الرافض المعاصر) : أنا أرفض التعليم ، واسخر من العلم ، ولا أكترث بالأخلاق ، وأتحدى السائد المزيف ، وأتنكر للعادات والتقاليد البالية ، وأحارب الظلم والاستعمار والتفرقة ، وأتبرأ من رجعية آبائي وأجدادي وجمودهم ، يقول ذلك ولا يفعل شيئا جادا تجاه ذلك . هو يرفض التعليم الجامعي لأنه فاشل . . ويسخر من العلم ولا يطعمه بالأخلاق . . وينتقد النظم والتقاليد ولا يقترح كيف يريد أن تتطور وكيف يجب أن تكون . . ويحارب الاستغلال والتفرقة وهو مستلق على أعشاب حديقة أو حقل منعزل وبجانبه فتاته التي تتبعه كالشاة الراكضة وراء خروف .
أفكار مثالية وحلول خيالية . . مبادئ عالية وممارسات دنيا . . اقتراحات مبهجة وأعمال تعسة . عالم من المتاهة والضياع والتذبذب . . مجتمع من المتراجعين الناكصين . . جزر بشرية تطفو على بحار من الأمجاد والتضحيات القديمة . . وأعجب ما في هذه الجزر البشرية أنها تعوم على أذرع الآباء والأجداد المساكين ، وترقد في أحضان الحضارة والحنان التليد . . وتقتات بل وتستجدى من تلك المدنية التي يتنكرون لها ، ومنظر الرافض المعاصر وهو يستجدي القروش القليلة من المارة (غير الرافضين) يجسم ازدواجية الرافض المعاصر وانحلاله ، ويصور هامشية حياته وتطفله على الناس والمدنية التي يدير لها ظهره .. ولكن ، يمد إليها يده !! .
الأدب الغاضب :
والحديث عن الرفض يجرنا إلى أدب الرفض الذي يضم كتابات لمجموعة من الشباب الغربيين أطلق عليهم (الجيل الغاضب) من الكتاب ، وأصبح بعضهم من كتاب (اللامعقول) ومسرح (اللامعقول) ، وهم موزعون بين ألمانيا وفرنسا و انكلترة وأمريكا . . وأحدث إنتاجهم صدى مقبولا لدى القراء ، واحتل مكانا مرموقا في الأدب المعاصر . وما يجب أن يقال عن هذا النوع من الأدب أنه لا يمت بصلة أو يتجاوب مع حياة الرافضين الهاربين الآنفي الذكر وآمالهم وأفكارهم ، كما أن كتابه لا ينتمون إلى تلك الجماعات لا بالهيئة ولا بالمضمون ، ولم يؤلفوا فيما بينهم جماعة أو اتحادا أو اتفاقا منهجيا ، بل إن كتاباتهم تواجدت وتجاوبت بطابع تلقائي عام . ومثل هؤلاء يصح أن يطلق عليهم (الرافضون الهادفون) لما في إنتاجهم من تجديد وبناء ومعنى وعمق ، وقد ذكرنا سابقا أن الأعمال المجيدة لم تكن إلا نوعا من الرفض المنتج ، فغضبهم هو تعبير عن إدراكهم العميق لتناقضات مجتمعهم ، وأدبهم ومسرحهم هو صراخهم وتحديهم وتمردهم ، ولا معقولهم هو تصوير صادق للامعقولية مجتمعهم ، إنهم يتعاملون بشيء جدير بالاهتمام والدرس مقابل ما يرفضون خلافا للرافضين المعلولين الذين يرفضون ويتعاملون دون مقابل .
الرافضون المقلدون :
وهنالك (الرافضون المقلدون) الذين ابتلى بهم مجتمعنا العربي النامي في شتى ميادينه الفكرية والاجتماعية ، فمن (شاعر- ناثر) يفهم الرفض كلاما نابيا مفتقرا للذوق . . أو سليطا منمقا غريب التعابير ، ومن أديب رافض ينحو نفس المنحى في مقاله أو قصته أو نقده - ومن شاب مراهق يحاول رفض أي شيء بارتدائه غرائب الأزياء أو بإرخاء شعره واكتناز قذارته .
هؤلاء الرافضون المقلدون مجموعة من السذج أو الجاهلين الذين لا يعرفون ما يملكون ويرفضون ما لا يعرفون ، فلا المطبوعات ولا الأفلام السينمائية يمكن أن تجعل الفرد العربي غربيا حقا إلا في الخيال ، والمجتمع الغربي ليس مجرد صورة في صحيفة أو واجهة مخزن تجاري كبير ولا هو بظاهرة هينة يتمتع بها السائح العابر ، الحياة الغربية تجربة عميقة لا يحسها إلا الغربي الأصيل . فالتقاليد . . والإنتاج غير الأصيل . . والرفض الساذج . . كلها أشياء ممجوجة ومنفرة وغريبة على المجتمع العربي . وهنا يكمن الداء الذي يجب أن نشخصه ونعالجه على مستويات الفرد والجماعة والدولة .
ولو اعتبرنا ظاهرة الرفض مرضا نفسيا ، لهان علينا الأمر . . ولكن البلية أن الرافضين من هذا النوع يجادلون ويتبارون في النقاش والدفاع عن إنتاجهم أو سلوكهم ، ويتذرعون بالحرية الشخصية . . وما أكثر ما للحرية من معان وتفسيرات ! . .
سيكولوجية الرفض والمريض :
أقول لو اعتبرنا ظاهرة أو (موضة الرفض) مرضا نفسيا، لكان الواجب علينا أن نستقصى أسبابه ، فالظواهر المرضية تنبع من ظروف تبررها ويمكن معالجتها . وقد تكون الأسباب واحدة أو أكثر مما يلي :
1- الشعور بالفراغ والخواء الفكري والعاطفي ، ويعزي ذلك إلى ارتخاء الضبط التربوي ، وإلى الحرمان وتفكك الأسرة وسيطرتها .
2- الفشل والخيبة في الحياة العامة .
3- الشعور بالنقمة تجاه الناجحين واللامعين .
4- الانفعال العدائي ضد السلطة والآباء والذين يمثلون القانون والنظام والعرف السائد .
5- التحدي - بالفعل أو القول - لكل كيان منظم ومنسق .
6- الإصابة بأمراض نفسية مزمنة كالقلق والعصاب ، والتي تمهد للانجراف نحو الإدمان والإجرام والى الهرب الاجتماعي .
7- عدم الثقة بالذات والمواطنة و بالانتماء الطبيعي ، مما تدفع بالمرء إلى المحاكاة والتقليد والى الاحتماء بالجماعات الشاذة أو العصابات الإجرامية .
8- رفض الإحسان ونكران الجميل الذي يقدمه لهم مجتمعهم أو مؤسساتهم الإنسانية كنتيجة حتمية لشعورهم بالإثم والتقصيـر . أي أنهم - علاوة على إثمهم - يريدون حفظ ماء وجههم ومواراة خجلهم بالنكران والاستعلاء ! .
9- انعدام الوازع الديني والأخلاقي الذي يشد الفرد إلى المجتمع والأسرة ، ويحثه على العمل والكفاح .
هل من علاج ؟
لعل في قول يوجين يونيسكو - أحد زعماء مسرح ألامعقول - التصوير الدقيق لأوضاع المجتمع الغربي إذ يقرر : (المجتمع اللامعقول هو الذي لا غاية له .. وهو المجتمع المنفصل عن جذوره الدينية وتقاليده .. وفيه يكون المرء ضائعا .. ولا معنى لكل ما يصدر عنه ، ولا فائدة ترجى منه) .
والرافضون الهاربون الذين تحدثنا عنهم هم الجيل الضائع المنفصل عن جذوره التاريخية والدينية وتقاليده ، وما يصدر عنهم لا معنى له في الحقيقة ، وفقدان المعنى وغموضه أحيانا هو ما يحاول عرضه وتجسيمه الكتاب الغاضبون ، أو تمثيله على مسرح اللامعقول ، لكن ما الذي يحاول تجسيمه وتصويره الكتاب المقلدون وهم لا يزالون في مجتمع يعيش مرحلة تختلف بكثير عن المجتمع الغربي ؟ . لقد تسرع يونيسكو عندما جزم بانعدام الفائدة وفقدان الرجاء .. إذ لو صح ذلك لتلاشت الفروق بين الرافضين التائهين والناس الآخرين ، بل لأصبح سلوك الضائعيـن والمقلديـن أقرب إلى الصواب من سلوك الراشدين الملتزمين ، وهنا يتجلى الفرق بين اليـائس المهزوم من جهة والمتفائـل الصامـد من جهة أخرى .
ان التجديد والإصلاح ، وأبحاث التربية وعلم النفس والاجتماع تحاول بجد وتفاؤل تعديل الأوضاع الفاسدة وتقويمها وإزالة التناقضات وإعادة المجتمع الإنساني إلى دروب الخير والعدل قبل أن تربكه وتعكر صفوه تلك الجماعات (اللاعاقلة) .
والجواب على ذلك كامن في التربية البيتية ، في التعاليم الأخلاقية والدينية ، في احترام القانون ، في الأصالة ، في الاعتزاز بالتراث ، وفي الانتماء القويم .