خليف محفوظ
09/01/2009, 01:01 AM
إهداء : إلى الصديق خلوفي عدة
الفصل الثاني
وحدقت في عيني جدي ذاك المساء فكان بهما الذبول ، توارت الحدة القاسية ، وخبا البريق المتوهج ، قال لي بصوت هادئ ، صوت خال مما كنت أعهده فيه من اندفاع و إصرار :
-سأدخلك إلى المدرسة غدا .
و هزتني المفاجأة
-أصحيح يا جدي ؟ أدخل المدرسة و أكون مثل أولئك الأطفال ، و تكون لي محفظة و أقلام و دفاتر ؟
كان يتأملني بنظراته الذابلة ، و كنت فرحا مثرثرا .
أذهب إلى القرية كل صباح ! ألعب مع الأطفال ! ولكن من يرعى لك الغنم يا جدي ؟
وأمسكني من يدي .
- كنت أنوي ألا أدخلك المدرسة ، كنت أريد أن أكون أنا معلمك ، لكني فكرت ، قد لا يسمح العمر بذلك ، ذرية الشيب يأكلها الذيب يا ولدي ، يجب أن تدخل المدرسة يا سعد ، في المدرسة لا نلعب ، في المدرسة تتعلمون كيف تكونون رجالا .
و قام إلى الصندوق الخشبي في زاوية البيت - الصندوق الذي كانت جدتي تضع فيه متاعها منذ زفافها إلى جدي - و أخرج محفظة سوداء ناولني إياها قائلا:
-فيها دفاتر و أقلام ، من الغد ستبدأ حياة جديدة ، ينطلق بكم المعلم من الهمزة إلى الياء ، فاحرص على أن تكون من الواصلين .
كان صوته هادئا و جميلا فأحدث في نفسي أبلغ الأثر ، ورسم خيالي صورة دافئة للأطفال و المعلم و المدرسة فنمت ليلتها متوسدا محفظتي .
في المنام رأيت جدتي ، كانت واقفة عند الجدول ، اختفت حدبتها ، و امتلأ جسدها ، شدت شعرها ضفائر سوداء أرسلتها على صدرها ، تنظر إلي بعينين باسمتين و تشير لي أن : اقترب . اقتربت حتى صرت قاب قوسين أو أدنى ، فلاحت لي منها ملامح المرأة التي لقيتها عند العين ، و أطبقت علي ذراعيها فكان الملمس دافئا عذبا ، وكنت أنشج بين ذراعيها .
في الصباح كنت بمحاذاة جدي نتسمت القرية ، وكانت صورة الحلم لا تبرح ذهني . كان جدي يحث الخطى غير ملتفت إلي ، وكنت أتعقبه أسائل نفسي : كيف بدت لي جدتي في الحلم على تلك الصورة ؟ ثم كيف انقلبت فلم تعد جدتي ؟ و تذكرت أني لم أعرف من جدي من تكون أمي فعاودني حنقي عليه.
و دخلنا القرية فرأيت جدي يفتل شاربه الأشيب ، أمسكني من يدي و قال مشيرا إلى بناية منعزلة محاطة بالسياج تجمهر أمامها أطفال كثيرون .
- هذه هي مدرستك ، ستأتي كل يوم إلى هنا وتعود مع الطريق الذي سلكناه.
ودنونا من البوابة فكان هناك رجال يمسكون بأيدي أولادهم ، و نظرت إلى يد جدي الخشنة فألفيتها تقبض على على سيجارة انعقف رمادها على وشك السقوط . و كان الأطفال يتحركون في كل اتجاه يتباهون بملابسهم الجديدة ، وفي الساحة أخرجت طاولتان وقف خلفهما جماعة من الرجال بدا لي أنهم المعلمون .
وعوى شيء مثل الذئب فسألت جدي فقال إنها المدرسة تعلن أوان الدخول . وفتح الباب فاندفع الأطفال في غير نظام ، بينما انتحى الرجال الماسكون بأيدي أولادهم ناحية وقف بي جدي فيها معهم . وجاء معلم ذو نظارات سميكة فأشار لهم أن ينتظموا في طابور أمام الطاولتين حتى يتسنى لهم تسجيل الأطفال الجدد . و كنت مع جدي آخر من في الطابور .
كنت أتأمله فكان صامتا لا يكلم أحدا ، وبدا لي لحظتها أن ظهره قد احدودب من غير أن أنتبه إليه ، وأن وقفته المتشامخة أخذت تنكسر ، وأن طوله الفارع قد أظهر هزاله بصورة منكرة .
وجاء دور جدي كي يسجلني فانتحى بالمعلم بعيدا عني ، وراح يهمس له بكلام لم أفهم منه غير استغراق المعلم في الإصغاء ، وغير هزة رأسه الخفيفة ، ويده التي مررها على ذقنه ، ثم النظرة الخاصة التي صوبها نحوي .
وانصرف جدي بعد أن صافح المعلم من غير أن ينظر إلي فأحسست كأنه يسلمني إلى المعلم نهائيا ، فانقبض قلبي ووددت لو أعود معه إلى البيت .
جاءني المعلم فمسح على رأسي و قال :
- أنا معلمك " أحمد" و هؤلاء الأطفال زملاؤك في المدرسة و إخوانك .
و دفعني إلى الجمع فظللت منكمشا .
أدخلونا قاعة كبيرة صفت كراسيها و طاولاتها في أربعة صفوف متوازية ، أجلسنا فيها مثنى مثنى ، و كان الذي يجلس إلى جانبي طفلا أزرق العينين لا يكف لسانه عن الحركة ، بادرني بالسؤال عن اسمي و مسكني ، ثم راح يغني بصوت خافت عن طاكسي الغرام ، مسابق الحمام ، مقرب البعيد .
ودخل المعلم أحمد رفقة جماعة من المعلمين فعم الصمت ، ولمحت المعلم أحمد يشير إلي بطرف خفي فانصبت علي أعين رفاقه في نظرة هي نفسها التي رمقني بها هو لما همس له جدي . وأحسست بالحرارة تصهد وجهي و أذني ، و صرخ في أعماقي السؤال " لماذا ينظرون إلي هكذا ؟ " و لم أعثر على جواب فغرست نظري في الطاولة المخربشة.
وشرع المعلم أحمد في المناداة ، وكلما صاح على اسم أحدنا أجابه : حاضر سيدي . ولما بلغ أسمي ترددقليلا ثم ناداني
- سعد .
فقلت من غير أن أشعر
- حاضر جدي .
فضج القسم ، و ضحك المعلمون إلا أحمد فظل يرمقني بنظرته الأولى .
ولكزني رفيقي
- اسمك سعد فقط ؟
ونظرت في عينيه الزرقاوين و لم أجبه ، وأردف يقول
-لا تقل للمعلم جدي .
و ضحك ثم عاد إلى غنائه الخافت المضطرب .
في المساء عدت إلى البيت و قد تهشمت الصورة الجميلة التي رسمتها للمدرسة و الأطفال.
كان "سحاب " في استقبالي مرحبا بذنبه عند الجدول ، وكنت منكسر الوجدان .
هذا جدي قد أدخل الغنم زريبتها وهو قابع عند العتبة يتصاعد خيط سيجارته يرقبني قادما إليه وقد شرد ذهنه . ترى فيم يفكر ؟
جلست جنبه ، بادرني بالسؤال :
- هه، كيف قضيت اليوم بالمدرسة ؟
- لم نبدأ بعد ، قضينا كل الوقت جالسين في القسم .
-ستبدأون فلا تستعجل .
وهز رأسه ، ثم تمتم بما لم أفهم .فقد صار كثير التمتمة كأنما هو يخاطب أشباحا لا أراها .
-جدي ، كل الأطفال لهم اسمان في القسم إلا أنا ، لماذا ؟
وخرج من غيبته لحظة كأنما لكز ، ثم عاد إلى هدوئه العميق قبل أن يجيبني :
- لايهم كيف تسمى ، الذي يهم هو أن تكون الأول دائما في القسم .
وأدركت أنه يراوغني فصمتت.
دخلنا البيت فشربنا قهوة المساء ، فقد أحسن جدي إعدادها ذاك المساء ، إذ زكمتني رائحتها فانفتحت روحي على نشوة غامضة ،،، غسق المساء ،،، أشباح أشجار الصنوبر والسرو في الأفق ،،، أسراب الطيور الضاربة في الفضاء تسابق الظلام ،،، تكوري في الفراش و ابتهالي العميق إلى الصورة أن تجيء ثانية في المنام ، ان تجيء مرة أخرى أملأ منها عيني .
ولم تجئ الصورة بالحلم فخرجت أفتش عنها في اليقظة .
أكثرت من الذهاب إلى العين ، عساني ألقى التي سألتني عن أمي فأبحث في وجهها عن ملامح الصورة ، ولم أكن لألقاها قط .
وفطن جدي الى ذهابي المنتظم كل يوم أحد إلى العين ، فلم يمنعني . صار جدي يرقبني من بعيد ، لا يأمرني ولا ينهاني ، حتى الغنم لم يعد يأمرني برعيها ، باع معضمها ، ولم يبق الا على ما نشرب لبنها ،صار يعد كل شيئ بنفسه ، ، إعداد الطعام ، رعي المتبقى من الغنم ، غسل الثياب ...
أحسست أنه يتعمد الانسحاب من حياتي ، وأنه فعلا يسلمني الى المدرسة ، المدرسة التي لم أكف عن البحث في وجوه بناتها عن وجه يشبه الصورة التي رأيت في الحلم ، وجه فيه بعض من العينين العميقتين ، ولم يكن ، كل العيون كانت خالية من ذلك الشيء الغامض ، السحر الذي حرك وجداني لحظة الحلم فانجذبت نحو الصورة وتهت و شاع في قلبي الحنين الى ما لست أدريه .
في الفصل كنت صموتا لا يحركني الا استجواب المعلم ، وأجيب فيعجب لجوابي ويعلق مازحا .
-إنك تفكر تفكير الكبار يا سعد .
وفي حصة للتربية الدينية كان يحدثنا عن منزلة الوالدين عند الله ، كان مستغرقا في شرحه ، وكنت مستغرقا في سؤالي أمي من تكون ؟
فتلوح لي صورة الحلم ، بعض من جدتي ، وبعض من امرأة العين ، وبعض آخر لا أعرفه.
ولم أدر كيف خرجت من صمتي .خطر في نفسي أن المعلم أحمد يعرف كل شيء فسألت :
-سيدي، من هي أمي ؟
والتفتت نحوي الابصار محملة بالاستغراب والاستنكار ، وصمت المعلم ، ولكزني زميلي أزرق العينين
- كيف تسأل المعلم عن أمك؟
احتار المعلم لحظة ثم أشرق وجهه
-في الحقيقة نحن في هذا القسم كلنا إخوة لأن أمنا واحدة هي حواء ، وأبانا واحد هو آدم ، فأمك الحقيقية وأم كل زملائك هي حواء.
وهمست تلميذة خلفي لزميلتها :" أمي أنا اسمها سعدية ".فأحسست نحوها بالغيرة .
وتهامس بعض التلاميذ وضحك بعضهم فعاد المعلم يدق على مكتبه
- صحيح أمهاتنا يختلفن ، لكن أمنا الأولى هي حواء ، ثم إننا نحن المسلمين لنا أكثر من أم واحدة ، فكل زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، وخديجة زوجة النبي عليه السلام هي أم المؤمنين الأولى .
وراح يروي لنا في إسهاب بداية الخلق والتكوين ، تمرد إبليس وتواطأه مع الآفعى لإغواء حواء حتي تغري آدم بالأكل من الشجرة المحرمة فيحل بهما غضب الله فيطردهما من الجنة إلى الأرض ، هناك حيث تبدأ المتاعب فيقتل أخونا قابيل أخاه هابيل ، ويبدأ الإنسان مسيرته مضرجة بالدم و الخطيئة ، خطيئة ودم بلا ندم . وتوالى الأنبياء تباعاعبر الزمن عساهم يوقفون الخطيئة ، فما نجحوا إلا قليلا ، حتي جاء سيدنا محمد آخر الأنبياء ، فأرسى قواعد الخير للناس ، فكانت زوجاته أمهاتنا ، وفتح بعضنا قلبه لبعضنا ، وصرنا إخوانا لا فرق بيننا ، أبونا آدم وأمنا حواء و ربنا الله .
كان المعلم يتحدث بصوت شجي سحر التلاميذ فسكنوا كالتماثيل ، وكنت مأخوذا بما فعل الخطأ و الدم . مستنكرا سلوك حواء وفعلة قابيل مكبرا ما عناه الأنبياء .
في المساء عدت إلى جدي يملأني فرح غامض ، عانقت "سحاب" الذي استقبلني عند الجدول يكاد ينطق . جعلت له محفظتي في فمه فعض عليها من عروتها وسبقني إلى البيت جذلا ،كأنما أحس ما أحدثته المدرسة من تغيير في مجرى حياتنا فراح ينتظرني مشوقا كل النهار.
====
في الليل كان جدي يتربع فوق حصيرة جرداء، جالسا القرفصاء ، أمامه مجمرة متوهجة فوقها إبريق الشاي ، بإحدى يديه سيجارته التي لا تكاد تغادر إصبعيه .
كنت أحكي له ما سمعته من المعلم في المدرسة ، أحكي مسهبا ، مندفعا ، مرخيا العنان لخيالي ليجمل ما أشاء و يقبح ما أشاء ، وإني أكره حواء ، هذه التي يقول عنها المعلم إنها أمنا جميعا ، فهي مسببة الشقاء بتحالفها مع الشيطان ، مخرجتنا من الجنة إلى الأرض الخلاء .
وأمن جدي على قولي :
-نعم ، كان بإمكانها أن تتفطن إلى مكر إبليس ، لأنها أمكر منه ، لكن طبعها المعوج دفعها إلى أن تجر آدم الى المأزق.
وحدثته عن الآنبياء فأنصت إلي مندهشا
-رائع ما تقول ، لقد صرت تتحدث حديث العلماء ، أنت تكبر الآن ، خذ دخن هذه السجارة ، شاركني وحدتي قليلا .
وجذبت نفسا تمزقت له رئتاي ، وقهقه جدي قهقهة غريبة ، قسوة و سخرية وشيء لا يفســر لمحته في العينين الذابلتين .
- هه ، وماذا بعد ؟
و أسمعته رواية المعلم أن زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، و أني أفضل أن تكون خديجة هي أمي ، إني أحسها قريبة مني .
وحكيت له عن الصورة التي شاهدت في الحلم فكان ينصت إلى في استغراب ، وكان الجمر يتوهج ، و الإبريق يخور ، و "سحاب" ينبح في الخارج نباحا خشنا ، وكان قلبي ينفتح لجدي ، إذ منحني السمع فلم يعد ينهرني حين شغلت نفسي بأمور كان يعدها تافهة .
ناولني نفسا آخر من سجارته وقال .
-خذ نفسا، أنت كبرت ، وستكون أعظم تلميذ في المدرسة .
وكانت السجارة التي أحرقت بعدها الآلاف.
الفصل الثاني
وحدقت في عيني جدي ذاك المساء فكان بهما الذبول ، توارت الحدة القاسية ، وخبا البريق المتوهج ، قال لي بصوت هادئ ، صوت خال مما كنت أعهده فيه من اندفاع و إصرار :
-سأدخلك إلى المدرسة غدا .
و هزتني المفاجأة
-أصحيح يا جدي ؟ أدخل المدرسة و أكون مثل أولئك الأطفال ، و تكون لي محفظة و أقلام و دفاتر ؟
كان يتأملني بنظراته الذابلة ، و كنت فرحا مثرثرا .
أذهب إلى القرية كل صباح ! ألعب مع الأطفال ! ولكن من يرعى لك الغنم يا جدي ؟
وأمسكني من يدي .
- كنت أنوي ألا أدخلك المدرسة ، كنت أريد أن أكون أنا معلمك ، لكني فكرت ، قد لا يسمح العمر بذلك ، ذرية الشيب يأكلها الذيب يا ولدي ، يجب أن تدخل المدرسة يا سعد ، في المدرسة لا نلعب ، في المدرسة تتعلمون كيف تكونون رجالا .
و قام إلى الصندوق الخشبي في زاوية البيت - الصندوق الذي كانت جدتي تضع فيه متاعها منذ زفافها إلى جدي - و أخرج محفظة سوداء ناولني إياها قائلا:
-فيها دفاتر و أقلام ، من الغد ستبدأ حياة جديدة ، ينطلق بكم المعلم من الهمزة إلى الياء ، فاحرص على أن تكون من الواصلين .
كان صوته هادئا و جميلا فأحدث في نفسي أبلغ الأثر ، ورسم خيالي صورة دافئة للأطفال و المعلم و المدرسة فنمت ليلتها متوسدا محفظتي .
في المنام رأيت جدتي ، كانت واقفة عند الجدول ، اختفت حدبتها ، و امتلأ جسدها ، شدت شعرها ضفائر سوداء أرسلتها على صدرها ، تنظر إلي بعينين باسمتين و تشير لي أن : اقترب . اقتربت حتى صرت قاب قوسين أو أدنى ، فلاحت لي منها ملامح المرأة التي لقيتها عند العين ، و أطبقت علي ذراعيها فكان الملمس دافئا عذبا ، وكنت أنشج بين ذراعيها .
في الصباح كنت بمحاذاة جدي نتسمت القرية ، وكانت صورة الحلم لا تبرح ذهني . كان جدي يحث الخطى غير ملتفت إلي ، وكنت أتعقبه أسائل نفسي : كيف بدت لي جدتي في الحلم على تلك الصورة ؟ ثم كيف انقلبت فلم تعد جدتي ؟ و تذكرت أني لم أعرف من جدي من تكون أمي فعاودني حنقي عليه.
و دخلنا القرية فرأيت جدي يفتل شاربه الأشيب ، أمسكني من يدي و قال مشيرا إلى بناية منعزلة محاطة بالسياج تجمهر أمامها أطفال كثيرون .
- هذه هي مدرستك ، ستأتي كل يوم إلى هنا وتعود مع الطريق الذي سلكناه.
ودنونا من البوابة فكان هناك رجال يمسكون بأيدي أولادهم ، و نظرت إلى يد جدي الخشنة فألفيتها تقبض على على سيجارة انعقف رمادها على وشك السقوط . و كان الأطفال يتحركون في كل اتجاه يتباهون بملابسهم الجديدة ، وفي الساحة أخرجت طاولتان وقف خلفهما جماعة من الرجال بدا لي أنهم المعلمون .
وعوى شيء مثل الذئب فسألت جدي فقال إنها المدرسة تعلن أوان الدخول . وفتح الباب فاندفع الأطفال في غير نظام ، بينما انتحى الرجال الماسكون بأيدي أولادهم ناحية وقف بي جدي فيها معهم . وجاء معلم ذو نظارات سميكة فأشار لهم أن ينتظموا في طابور أمام الطاولتين حتى يتسنى لهم تسجيل الأطفال الجدد . و كنت مع جدي آخر من في الطابور .
كنت أتأمله فكان صامتا لا يكلم أحدا ، وبدا لي لحظتها أن ظهره قد احدودب من غير أن أنتبه إليه ، وأن وقفته المتشامخة أخذت تنكسر ، وأن طوله الفارع قد أظهر هزاله بصورة منكرة .
وجاء دور جدي كي يسجلني فانتحى بالمعلم بعيدا عني ، وراح يهمس له بكلام لم أفهم منه غير استغراق المعلم في الإصغاء ، وغير هزة رأسه الخفيفة ، ويده التي مررها على ذقنه ، ثم النظرة الخاصة التي صوبها نحوي .
وانصرف جدي بعد أن صافح المعلم من غير أن ينظر إلي فأحسست كأنه يسلمني إلى المعلم نهائيا ، فانقبض قلبي ووددت لو أعود معه إلى البيت .
جاءني المعلم فمسح على رأسي و قال :
- أنا معلمك " أحمد" و هؤلاء الأطفال زملاؤك في المدرسة و إخوانك .
و دفعني إلى الجمع فظللت منكمشا .
أدخلونا قاعة كبيرة صفت كراسيها و طاولاتها في أربعة صفوف متوازية ، أجلسنا فيها مثنى مثنى ، و كان الذي يجلس إلى جانبي طفلا أزرق العينين لا يكف لسانه عن الحركة ، بادرني بالسؤال عن اسمي و مسكني ، ثم راح يغني بصوت خافت عن طاكسي الغرام ، مسابق الحمام ، مقرب البعيد .
ودخل المعلم أحمد رفقة جماعة من المعلمين فعم الصمت ، ولمحت المعلم أحمد يشير إلي بطرف خفي فانصبت علي أعين رفاقه في نظرة هي نفسها التي رمقني بها هو لما همس له جدي . وأحسست بالحرارة تصهد وجهي و أذني ، و صرخ في أعماقي السؤال " لماذا ينظرون إلي هكذا ؟ " و لم أعثر على جواب فغرست نظري في الطاولة المخربشة.
وشرع المعلم أحمد في المناداة ، وكلما صاح على اسم أحدنا أجابه : حاضر سيدي . ولما بلغ أسمي ترددقليلا ثم ناداني
- سعد .
فقلت من غير أن أشعر
- حاضر جدي .
فضج القسم ، و ضحك المعلمون إلا أحمد فظل يرمقني بنظرته الأولى .
ولكزني رفيقي
- اسمك سعد فقط ؟
ونظرت في عينيه الزرقاوين و لم أجبه ، وأردف يقول
-لا تقل للمعلم جدي .
و ضحك ثم عاد إلى غنائه الخافت المضطرب .
في المساء عدت إلى البيت و قد تهشمت الصورة الجميلة التي رسمتها للمدرسة و الأطفال.
كان "سحاب " في استقبالي مرحبا بذنبه عند الجدول ، وكنت منكسر الوجدان .
هذا جدي قد أدخل الغنم زريبتها وهو قابع عند العتبة يتصاعد خيط سيجارته يرقبني قادما إليه وقد شرد ذهنه . ترى فيم يفكر ؟
جلست جنبه ، بادرني بالسؤال :
- هه، كيف قضيت اليوم بالمدرسة ؟
- لم نبدأ بعد ، قضينا كل الوقت جالسين في القسم .
-ستبدأون فلا تستعجل .
وهز رأسه ، ثم تمتم بما لم أفهم .فقد صار كثير التمتمة كأنما هو يخاطب أشباحا لا أراها .
-جدي ، كل الأطفال لهم اسمان في القسم إلا أنا ، لماذا ؟
وخرج من غيبته لحظة كأنما لكز ، ثم عاد إلى هدوئه العميق قبل أن يجيبني :
- لايهم كيف تسمى ، الذي يهم هو أن تكون الأول دائما في القسم .
وأدركت أنه يراوغني فصمتت.
دخلنا البيت فشربنا قهوة المساء ، فقد أحسن جدي إعدادها ذاك المساء ، إذ زكمتني رائحتها فانفتحت روحي على نشوة غامضة ،،، غسق المساء ،،، أشباح أشجار الصنوبر والسرو في الأفق ،،، أسراب الطيور الضاربة في الفضاء تسابق الظلام ،،، تكوري في الفراش و ابتهالي العميق إلى الصورة أن تجيء ثانية في المنام ، ان تجيء مرة أخرى أملأ منها عيني .
ولم تجئ الصورة بالحلم فخرجت أفتش عنها في اليقظة .
أكثرت من الذهاب إلى العين ، عساني ألقى التي سألتني عن أمي فأبحث في وجهها عن ملامح الصورة ، ولم أكن لألقاها قط .
وفطن جدي الى ذهابي المنتظم كل يوم أحد إلى العين ، فلم يمنعني . صار جدي يرقبني من بعيد ، لا يأمرني ولا ينهاني ، حتى الغنم لم يعد يأمرني برعيها ، باع معضمها ، ولم يبق الا على ما نشرب لبنها ،صار يعد كل شيئ بنفسه ، ، إعداد الطعام ، رعي المتبقى من الغنم ، غسل الثياب ...
أحسست أنه يتعمد الانسحاب من حياتي ، وأنه فعلا يسلمني الى المدرسة ، المدرسة التي لم أكف عن البحث في وجوه بناتها عن وجه يشبه الصورة التي رأيت في الحلم ، وجه فيه بعض من العينين العميقتين ، ولم يكن ، كل العيون كانت خالية من ذلك الشيء الغامض ، السحر الذي حرك وجداني لحظة الحلم فانجذبت نحو الصورة وتهت و شاع في قلبي الحنين الى ما لست أدريه .
في الفصل كنت صموتا لا يحركني الا استجواب المعلم ، وأجيب فيعجب لجوابي ويعلق مازحا .
-إنك تفكر تفكير الكبار يا سعد .
وفي حصة للتربية الدينية كان يحدثنا عن منزلة الوالدين عند الله ، كان مستغرقا في شرحه ، وكنت مستغرقا في سؤالي أمي من تكون ؟
فتلوح لي صورة الحلم ، بعض من جدتي ، وبعض من امرأة العين ، وبعض آخر لا أعرفه.
ولم أدر كيف خرجت من صمتي .خطر في نفسي أن المعلم أحمد يعرف كل شيء فسألت :
-سيدي، من هي أمي ؟
والتفتت نحوي الابصار محملة بالاستغراب والاستنكار ، وصمت المعلم ، ولكزني زميلي أزرق العينين
- كيف تسأل المعلم عن أمك؟
احتار المعلم لحظة ثم أشرق وجهه
-في الحقيقة نحن في هذا القسم كلنا إخوة لأن أمنا واحدة هي حواء ، وأبانا واحد هو آدم ، فأمك الحقيقية وأم كل زملائك هي حواء.
وهمست تلميذة خلفي لزميلتها :" أمي أنا اسمها سعدية ".فأحسست نحوها بالغيرة .
وتهامس بعض التلاميذ وضحك بعضهم فعاد المعلم يدق على مكتبه
- صحيح أمهاتنا يختلفن ، لكن أمنا الأولى هي حواء ، ثم إننا نحن المسلمين لنا أكثر من أم واحدة ، فكل زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، وخديجة زوجة النبي عليه السلام هي أم المؤمنين الأولى .
وراح يروي لنا في إسهاب بداية الخلق والتكوين ، تمرد إبليس وتواطأه مع الآفعى لإغواء حواء حتي تغري آدم بالأكل من الشجرة المحرمة فيحل بهما غضب الله فيطردهما من الجنة إلى الأرض ، هناك حيث تبدأ المتاعب فيقتل أخونا قابيل أخاه هابيل ، ويبدأ الإنسان مسيرته مضرجة بالدم و الخطيئة ، خطيئة ودم بلا ندم . وتوالى الأنبياء تباعاعبر الزمن عساهم يوقفون الخطيئة ، فما نجحوا إلا قليلا ، حتي جاء سيدنا محمد آخر الأنبياء ، فأرسى قواعد الخير للناس ، فكانت زوجاته أمهاتنا ، وفتح بعضنا قلبه لبعضنا ، وصرنا إخوانا لا فرق بيننا ، أبونا آدم وأمنا حواء و ربنا الله .
كان المعلم يتحدث بصوت شجي سحر التلاميذ فسكنوا كالتماثيل ، وكنت مأخوذا بما فعل الخطأ و الدم . مستنكرا سلوك حواء وفعلة قابيل مكبرا ما عناه الأنبياء .
في المساء عدت إلى جدي يملأني فرح غامض ، عانقت "سحاب" الذي استقبلني عند الجدول يكاد ينطق . جعلت له محفظتي في فمه فعض عليها من عروتها وسبقني إلى البيت جذلا ،كأنما أحس ما أحدثته المدرسة من تغيير في مجرى حياتنا فراح ينتظرني مشوقا كل النهار.
====
في الليل كان جدي يتربع فوق حصيرة جرداء، جالسا القرفصاء ، أمامه مجمرة متوهجة فوقها إبريق الشاي ، بإحدى يديه سيجارته التي لا تكاد تغادر إصبعيه .
كنت أحكي له ما سمعته من المعلم في المدرسة ، أحكي مسهبا ، مندفعا ، مرخيا العنان لخيالي ليجمل ما أشاء و يقبح ما أشاء ، وإني أكره حواء ، هذه التي يقول عنها المعلم إنها أمنا جميعا ، فهي مسببة الشقاء بتحالفها مع الشيطان ، مخرجتنا من الجنة إلى الأرض الخلاء .
وأمن جدي على قولي :
-نعم ، كان بإمكانها أن تتفطن إلى مكر إبليس ، لأنها أمكر منه ، لكن طبعها المعوج دفعها إلى أن تجر آدم الى المأزق.
وحدثته عن الآنبياء فأنصت إلي مندهشا
-رائع ما تقول ، لقد صرت تتحدث حديث العلماء ، أنت تكبر الآن ، خذ دخن هذه السجارة ، شاركني وحدتي قليلا .
وجذبت نفسا تمزقت له رئتاي ، وقهقه جدي قهقهة غريبة ، قسوة و سخرية وشيء لا يفســر لمحته في العينين الذابلتين .
- هه ، وماذا بعد ؟
و أسمعته رواية المعلم أن زوجات الرسول "ص" يعتبرن أمهاتنا ، و أني أفضل أن تكون خديجة هي أمي ، إني أحسها قريبة مني .
وحكيت له عن الصورة التي شاهدت في الحلم فكان ينصت إلى في استغراب ، وكان الجمر يتوهج ، و الإبريق يخور ، و "سحاب" ينبح في الخارج نباحا خشنا ، وكان قلبي ينفتح لجدي ، إذ منحني السمع فلم يعد ينهرني حين شغلت نفسي بأمور كان يعدها تافهة .
ناولني نفسا آخر من سجارته وقال .
-خذ نفسا، أنت كبرت ، وستكون أعظم تلميذ في المدرسة .
وكانت السجارة التي أحرقت بعدها الآلاف.