المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : فضل الشهادة وسر اندفاع المجاهدين إليها



عادل ابراهيم عامر
14/01/2009, 07:47 PM
فضل الشهادة وسر اندفاع المجاهدين إليها
الدكتور عادل عامر
يتعجب كثير من المتابعين للشأن الفلسطيني من تلك الروح العجيبة التي تملأ قلوب المجاهدين، ومن تلك الهمم العالية التي يتمتع بها المجاهدون الاستشهاديون، الذين ينطلقون في سبيل الله لا يوقفهم ترهيبٌ ولا ترغيبٌ ولا يشغلهم زخرفٌ ولا متاعٌ، ولا تشدهم إلى الأرض أيةُ غرائز أو شهوات. إن هذه الصورة الأكمل والأعظم من صور الجهاد بالنفس وذلك السلاح العظيم الذي غيَّر ميزانَ القوى في المعركة مع الصهاينة المجرمين، قد شغلت المراقبين للأوضاع وباتوا يتساءلون عن سر ذلك السلاح الذي كشفه وجلاه أحمد ياسين وإخوانه وتلاميذه للدنيا، بعد أن كان قد طُوِي منذ زمن بعيد. فهذا المجاهد يعلم أن الموت لا بد منه، وأنه لا يكون إلا مرةً واحدةً، وأن أجلَ الله إذا جاء لا يُؤَخَّر، ولهذا لا يتردد عند الوَغَى، ولا تَهزه زخاتُ الرصاص ولا أزيزُ الطائرات ولا هديرُ المجنـزرات ولا جلبةُ الدبابات ولا رعودُ القاصفات، فإن كتب الله له الشهادة فقد فاز بإحدى الحسنيين وأعز الفضليتين. إن تلك النماذج الرائعة من الرجال والنساء الذين يُقْدِمون على افتداء أمتهم بأرواحهم فيُحْدِثون في أعداء الله أشد أنواع النكاية والإثخان لهم دليلٌ واضحٌ على ما تفعله العقيدةُ الحيةُ بالنفوس، ويرحم الله الإمام الشهيد بإذن الله حسن البنا الذي قال: "أيها الإخوان، إن الأمة التي تحسن صناعةَ الموت، وتعرف كيف تموت الموتةَ الشريفةَ؛ يَهَب الله لها الحياةَ العزيزةَ في الدنيا، والنعيمَ الخالدَ في الآخرة، وما الوهم الذي أذلنا إلا حبُّ الدنيا وكراهية الموت، فأعِدُّوا أنفسَكم لعملٍ عظيم، واحرصوا على الموت تُوهَب لكم الحياة". لقد بعث هؤلاء المجاهدون الاستشهاديون في الأمة معاني كثيرة كان النسيانُ وطولُ الأمد قد طواها، وانتهض بناء الأمة على جثث أولئك الشهداء يسمق ويتطاول عزةً وإباءً وعزماً ومضاءً، حتى يبلغ غايته إن شاء الله. فلماذا يتحمل هؤلاء الشباب كل هذه المهمة الثقيلة برضا نفس وعن طيب خاطر؟ هذا ما تجيب عنه الآيات الكريمة والأحاديث العظيمة في هذه الحلقات من الحديث عن الشهادة في سبيل الله. أ- الشهادة هي الحياة الحقيقية: قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)﴾ (البقرة) وقال عز من قائل: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمْ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172)﴾ (آل عمران). إن الشهادة في سبيل الله هي الحياة حقًّا، بها يغلب الإنسان غريزة حب البقاء وطول الأمل وإرادة الخلود التي أغرى بها الشيطان آدم عليه السلام؛ ليستنـزله من الدرجة الرفيعة والدار العالية البهية التي بوَّأه الله إياها، حين قال له: ﴿قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى﴾ (طه: من الآية 120) فقد أوهم إبليس آدم وزوجه، فأطمعهما أن يصيرا من الملائكة إذا أكلا من الشّجرة، ويبقيا خالديْن بلا موت. نعم إن الشهيد هو الذي قهر تلك الإرادة، ورضي بحياة حقيقية في جوار الله، دفع في مقابلها روحه وماله، فقبل الله البضاعة وقدَّم لصاحبها ذلك الثمن النفيس الفردوس الأعلى فقال عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنْ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمْ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)﴾ (التوبة). قال العلماء في تفسير هذه الآية: لا ترى ترغيبًا في الجهاد أحسنَ ولا أبلغَ من هذه الآية؛ لأنه أبرزه في صورة عقد، عاقدُه: رب العزة، وثمنُه: ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ومكان التسليم: أرضُ المعركة، وإليه الإشارة بقوله- صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه الشيخان عن عبد الله بن أبي أوفى عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "... وَاعْلَمُوا أَنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ ظِلاَلِ السُّيُوفِ"، ولم يجعل اللهُ المعقودَ عليه كونَهم مقتولين فقط، بل إذا كانوا قاتلين أيضًا لإعلاء كلمته ونصر دينه، وجعله مُسجَّلاً في الكتب السماوية، وناهيك به من صدقه! وجعل وعده حقًّا، ولا أحد أوفى من وعده! تنسيئُه سبحانه (أي ما أخَّره من الوعد) أقوى من نقد غيره! وأشار إلى ما فيه من الربح والفوز العظيم. إن الشهيد يقدم روحه فداء لدينه، وعزة لأمته، فيموت عزيزًا لتحيا أمته عزيزة، ويبقى دينه خالدًا مرفوعًا، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله، ولهذا استحق هذا الشهيد بجدارة أن يكتب الله له الحياة السعيدة. لأجل هذا يتسابق العقلاء المخلصون في طلب الشهادة، وهم يعلمون معناها ويدركون أين يطلبونها، فيسعون إلى الجهاد غير هيابين ولا مترددين، فقد صحح ابن حبان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قال رجل: يا رسول الله، أي الجهاد أفضل؟ قال: "أَنْ يُعْقَرَ جَوَادُكَ، وَيُهْرَاقَ دَمُكَ".وصحح ابن حبان أيضًا عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي- صلى الله عليه وسلم- وهو يصلي، فقال حين انتهى إلى الصف: اللهم آتني أفضلَ ما تُؤْتي عبادَك الصالحين، فلما قضى النبي- صلى الله عليه وسلم- الصلاة قال: "مَن المُتَكَلِّمُ آنِفاً؟" قال الرجل: أنا يا رسول الله. قال: "إِذاً يُعْقَرُ جَوَادَُُك، وَتُسْتَشْهَدُ فِي سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى". هذا هو السبيل لتحصيل أفضل ما أعطى الله عباده الصالحين، أن يموتوا ليحيا دينهم، ويستشهدوا لتعز أممهم. ب- الأنبياء يفضلون الشهداء بدرجة النبوة فقط: نعم تلك هي درجة الشهداء المخلصين، التي تلي درجة الأنبياء مباشرة، فقد صحح ابن حبان عن عتبة بن عبد السلمي وكان من أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "القَتْلَى ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَهُمْ حَتَّى يُقْتَلَ، فَذَلِكَ الشَّهِيدُ المُمْتَحَنُ، فِي خَيْمَةِ اللهِ تَحْتَ عَرْشِهِ، وَلا يَفْضُلُهُ النَّبِيُّونَ إِلاّ بِفَضْلِ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ. وَرَجُلٌ مُؤْمِنٌ قَرَفَ عَلَى نَفْسِهِ مِنَ الذُّنُوبِ وَالخَطَايَا، جَاهَدَ بِنَفْسِه وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَتِلْكَ مَصْمَصَةٌ مَحَتْ ذُنُوبَهُ وَخَطَايَاهُ؛ إِنَّ السَّيْفَ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا، وَأُدْخِلَ مِنْ أَيِّ أَبْوَابِ الجَنَّةِ شَاءَ، فَإِنَّ لَهَا ثَمَانِيَةَ أَبْوَابٍ، وَلِجَهَنَّمَ سَبْعَةَ أَبْوَابٍ، وَبَعْضُهَا أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ. وَرَجُلٌ مُنَافِقٌ جَاهَدَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، حَتَّى إِذَا لَقِيَ الْعَدُوَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ، فَذَلِكَ فِي النَّارِ، إِنَّ السَّيْفَ لا يَمْحُو النِّفَاقَ". الله الله! ما أكرمها منزلة! وما أرفعها درجة! ولم لا وقد أقدم حين أحجم المترددون، وجاهد حين قعد المخلفون، وباع روحه لله حين أمسك الجبناء والمخذولون. ج- الله تعالى يعجب من همة الشهيد: أخرج أحمد وصححه ابن حبان عن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "عَجِبَ رَبُّنَا عز وجل مِنْ رَجُلَيْنِ: رَجُلٍ ثَارَ عَنْ وِطَائِهِ وَلِحَافِهِ مِنْ بَيْنَ أَهْلِهِ وَحِبِّهِ، فَيَقُولُ رَبُّنا: أَيَا مَلائِكَتِي، انْظِرُوا إِلَى عَبْدِي، ثَارَ مِنْ فِرَاشِهِ وَوِطَائِهِ، ومِنْ بَيْنِ حَيِّهِ وَأَهْلِهِ إِلَى صَلاتِهِ، رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي، وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي، وَرَجُلٍ غَزَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَانْهَزَمُوا، فَعَلِمَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الفِرَارِ وَمَا لَهُ فِي الرُّجُوعِ، فَرَجَعَ حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِمَلاَئِكَتِهِ: انْظُرُوا إِلَى عَبْدِي رَجَعَ رَغْبَةً فِيمَا عِنْدِي وَشَفَقَةً مِمَّا عِنْدِي حَتَّى أُهَرِيقَ دَمُهُ".د- النبي- صلى الله عليه وسلم- يتمنى الشهادة: بلغ من رفعة الشهادة أن أفضل الخلق- صلى الله عليه وسلم- كان يتمناها، وهو الذي غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت النبي- صلى الله عليه وسلم- يقول:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلاَ أَنَّ رِجَالاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لاَ تَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنِّي وَلاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ؛ مَا تَخَلَّفْتُ عَنْ سَرِيَّةٍ تَغْزُو فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ، ثُمَّ أُحْيَا، ثُمَّ أُقْتَلَ". هـ- الشهيد يتمنى أن تتكرر شهادته: حين يرى الشهيد كرامته عند الله وما أعد الله له من الدرجات العالية، يدرك أنه اشترى غاليًا برخيص، وباع خسيسًا بنفيس، فيتمنى أن يُعاد إلى الدنيا؛ ليكرر عمله العظيم وجهاده الرائع، لولا أن الحق قد سبقت كلمته أنهم إليها لا يرجعون، فقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ عَبْدٍ يَمُوتُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَأَنَّ لَهُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا إِلاّ الشَّهِيدَ؛ لِمَا يَرَى مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى".وفي رواية عند البخاري وابن حبان: "مَا أَحَدٌ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ الشَّهِيدُ يَتَمَنَّى أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ عَشْرَ مَرَّاتٍ لِمَا يَرَى مِنْ الْكَرَامَةِ".وفي رواية عند ابن حبان: "مَا مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ أَحَدٌ يَسُرُّهُ أَنْ يَرْجِعَ إِلَى الدُّنْيَا وَلَهُ عَشْرَةُ أَمْثَالِهَا إِلاَّ الشَّهِيدَ؛ فَإِنَّهُ وَدَّ أَنَّهُ رَجَعَ إِلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلُ عَشْرَ مَرَّاتٍ؛ لِمَا يَرَى مِنَ الْفَضْلِ".وأخرج الضياء في المختارة بسند حسن عن عبادة بن الصامت أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ نَفْسٍ تَمُوتُ وَلَهَا عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ تُحِبُّ أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْكُمْ وَإِنَّ لَهَا الدُّنْيَا إِلاّ الشَّهِيدَ؛ فَإِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَرْجِعَ فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى".و- الشهداء يستبشرون بإخوانهم الذين لم يلحقوا بهم: يقول الله تبارك وتعالى ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، إن من أعظم علامات الإيمان الصادق والأخوة الوثيقة التي تربط الشهداء الذين سبقوا إلى الله بإخوانهم الذين ينتظرون: أن الشهداء يرغبون في أن يعرف إخوانهم ما نزلوا فيه من الخير، وما آلوا إليه من النعيم المقيم؛ ليجتهد الخامل وينشط الكسول ويخف الثقيل، ولتتحرك الأشواق إلى لقاء الحنان المنان جل وعلا في صحبة الأنبياء والصديقين، فقد أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بَعَثَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- أَقْوَامًا مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ إِلَى بَنِي عَامِرٍ فِي سَبْعِينَ، فَلَمَّا قَدِمُوا قَالَ لَهُمْ خَالِي: أَتَقَدَّمُكُمْ، فَإِنْ أَمَّنُونِي حَتَّى أُبَلِّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللَّه- صلى الله عليه وسلم- وَإِلاَّ كُنْتُمْ مِنِّي قَرِيبًا، فَتَقَدَّمَ فَأَمَّنُوهُ، فَبَيْنَمَا يُحَدِّثُهُمْ عَنْ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- إِذْ أَوْمَئُوا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ فَطَعَنَهُ فَأَنْفَذَهُ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، فُزْتُ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ. ثُمَّ مَالُوا عَلَى بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ فَقَتَلُوهُمْ، إِلاَّ رَجُلاً أَعْرَجَ صَعِدَ الْجَبَلَ، فَأَخْبَرَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلام النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُمْ قَدْ لَقُوا رَبَّهُمْ فَرَضِيَ عَنْهُمْ وَأَرْضَاهُمْ. فَكُنَّا نَقْرَأُ: أَنْ بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا فَرَضِيَ عَنَّا وَأَرْضَانَا، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا عَلَى رِعْلٍ وَذَكْوَانَ وَبَنِي لَحْيَانَ وَبَنِي عُصَيَّةَ الَّذِينَ عَصَوْا اللَّهَ وَرَسُولَهُ- صلى الله عليه وسلم-. وأخرج أبو داود وصححه الحاكم على شرط مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ؛ لِئَلاَّ يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلاَ يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا". إِلَى آخِرِ الآيَةِ". إن المؤمن المجاهد لا ينسى في غَمْرَةِ فرحه بالجنة ونعيمها إخوانَه الذين ساروا معه على الدرب، ويرجو أن يُعَرِّفَهم ما سِيقَ إليه من الخير الذي ينتظرهم؛ ليخِفُّوا للجهاد والاستشهاد، ومن قبل ذلك قال الرجل الصالح الذي دعا قومَه لإتباع الرسل فأبَوْا عليه وقتلوه، حين نزل في مقعد الصدق وقيل له ﴿قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنْ الْمُكْرَمِينَ (27)﴾ (يس). وفي المقال القادم أسوق إليك أيها الأخ الكريم عشرًا من ثمرات الشهادة، وكرامات الشهيد عند ربه، من فيض ما ذكره رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في حديثه، لتعرف سر اندفاع أصحاب الهمم العالية نحو الشهادة، وأسأل الله العظيم أن يرزقنا إياها، ويجعلنا من أهلها. الكرامات العشر للشهيد في سبيل الله مما يدفع المجاهدين إلى طلب الشهادة علمُهم بما أعدَّ الله للشهيد من الخير والكرامة في الدنيا والآخرة، بحيث لا يجد المؤمنُ بوعد الله مفرًّا من القبول بالصفقة الربانية الرابحة التي عرضها الله تبارك وتعالى في قوله تعالى﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ (13)﴾ (الصف). وهاك عشرًا من الكرامات التي أعدها الله للشهيد: 1- تخفيف ألم القتل على الشهيد: فمن رحمة الله بهذا العبد المخلص المجاهد أن يُهَوِّن عليه الألم فلا يجد ألمًا لما يصيبه من القتل، إلا شيئًا يسيرًا: فقد أخرج الضياء المقدسي في المختارة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "عَضَّةُ نَمْلَةٍ أَشَدُّ عَلَى الشَّهِيدِ مِنْ مَسِّ السِّلاحِ، بَلْ هُوَ (أي القتل بالسلاح) أَشْهَى عِنْدَهُ مِنْ شَرَابٍ بَارِدٍ لَذِيذٍ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ".وأخرج أحمد والنسائي وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَا يَجِدُ الشَّهِيدُ مَسَّ الْقَتْلِ إِلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ مَسَّ الْقَرْصَةِ".فسبحان من يرحم أولياءه ويعطف على أهل كرامته!. 2- تجب له الجنة بمجرد الشهادة: كما قال تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111)، وأخرج البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: قَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- يَوْمَ أُحُدٍ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فَأَيْنَ أَنَا؟ قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ" فَأَلْقَى تَمَرَاتٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. بل هو في الدرجات العلا من الجنة، فقد أخرج البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أَنَّ أُمَّ الرُّبَيِّعِ بِنْتَ الْبَرَاءِ وَهِيَ أُمُّ حَارِثَةَ بْنِ سُرَاقَةَ أَتَتْ النَّبِيَّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَلا تُحَدِّثُنِي عَنْ حَارِثَةَ، وَكَانَ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ أَصَابَهُ سَهْمٌ غَرْبٌ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ عَلَيْهِ فِي الْبُكَاءِ. قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي الْجَنَّةِ وَإِنَّ ابْنَكِ أَصَابَ الْفِرْدَوْسَ الأَعْلَى".على أن بعض الروايات تذكر أن حارثة لم يكن قتل يوم بدر في قتال، بل انطلق ينظر ما صنع القوم، فأصابه ذلك السهم الغرب، فقد أخرج أحمد وصححه ابن حبان عن أنس قال: انْطَلَقَ حَارِثَةُ ابْنُ عَمَّتِي يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- غُلامًا نَظَّارًا، مَا انْطَلَقَ لِلْقِتَالِ، قَالَ: فَأَصَابَهُ سَهْمٌ فَقَتَلَهُ، قَالَ: فَجَاءَتْ أُمُّهُ عَمَّتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ابْنِي حَارِثَةُ إِنْ يَكُنْ فِي الْجَنَّةِ أَصْبِرْ وَأَحْتَسِبْ، وَإِلاَّ فَسَيَرَى اللَّهُ مَا أَصْنَعُ. قَالَ: "يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّ حَارِثَةَ فِي الْفِرْدَوْسِ الأَعْلَى".فإن كان حارثة في الفردوس الأعلى مع ذلك، فما ظنك بمن خرج مقاتلاً، ولقي العدو مقبلاً غير مدبر‍؟ 3- يُغْفَر للشهيد مع أول قطرةٍ من دمه ذنوبُه كلُّها إلا الدَّيْن: من كرامة الشهيد على ربه أن يغفر الله ذنوبَه وخطاياه كلها إلا الدَّيْن- لأنه حق العباد- مع أول قطرة من دمه الزكي الطاهر، فقد صحح الحاكم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْن". كما صحح عن سهل بن حنيف رضي الله عنه أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ أَوَّلَ مَا يُهْرَاقُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ يُغْفَرُ لَهُ ذُنُوبُهُ". وأخرج النسائي وصححه ابن حبان عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا مُقْبِلاً غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنِّى خَطَايَايَ؟َ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ". فَلَمَّا وَلَّى الرَّجُلُ نَادَاهُ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ أَمَرَ بِهِ فَنُودِيَ لَهُ- فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "كَيْفَ قُلْتَ؟". فَأَعَادَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "نَعَمْ إِلاَّ الدَّيْنَ، كَذَلِكَ قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ".4- يُزوَّج من الحور العين قبل أن تجف دماؤه: إن الذي ترك زينة الدنيا، وأعرض عن مصاحبة وملاعبة الغيد الحسان من أهلها؛ طمعًا فيما عند الله، ورغبةً في إعلاء كلمة الله لحقيق بهذه الكرامة الإلهية والمنحة الربانية، فلا يكاد دمه يسيل حتى يكون قد زُفَّ إلى الحور العين، فقد أخرج ابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ذُكِرَ الشُّهَدَاءُ عِنْدَ النَّبِيّ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ: "لاَ تَجِفُّ الأَرْضُ مِنْ دَمِ الشَّهِيدِ حَتَّى تَبْتَدِرَهُ زَوْجَتَاهُ كَأَنَّهُمَا ظِئْرَانِ (يعني مرضعتين) أَضَلَّتَا فَصِيلَيْهِمَا فِي بَرَاحٍ مِنَ الأَرْضِ، وَفِي يَدِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حُلَّةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا".وكم من شهيدٍ أخلص نيَّتَه وصدق في طلبه، فأُري في منامه الحورَ الحسانَ تستعجلن مقدمه في شوقٍ ولهفٍ. 5- تظلله الملائكة بأجنحتها: الشهيد المبارك الذي استرخص روحه في سبيل الله، وهانت عليه الدنيا بزخرفها جدير بأن تحتفي به الملائكة، فتظلله حتى يُرفع من موضع استشهاده، فقد أخرج الشيخان عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لَمَّا قُتِلَ أَبِي (يعني في غزوة أُحُد) جَعَلْتُ أَكْشِفُ الثَّوْبَ عَنْ وَجْهِهِ أَبْكِي وَيَنْهَوْنِي عَنْهُ، وَالنَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم- لا يَنْهَانِي، فَجَعَلَتْ عَمَّتِي فَاطِمَةُ تَبْكِي، فَقَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: "تَبْكِينَ أَوْ لا تَبْكِينَ، مَا زَالَتْ الْمَلائِكَةُ تُظِلُّهُ بِأَجْنِحَتِهَا حَتَّى رَفَعْتُمُوهُ".6- يُحفظ من فتنة القبر: فتنة القبر وسؤال الملكين فيه هو أشد ما يلقى الإنسان عقب موته، حتى كان النبي- صلى الله عليه وسلم- يتعوذ من فتنة القبر، ويحض على التعوذ بالله منها، لكن الشهيد الذي صبر للسيوف اللامعة والرصاص القاتل والصواريخ المدمرة وهو يرى الموت يحصد النفوس ويقطع الرؤوس، يجعل الله ما رأى وعاين من تلك الشدائد في الميدان وعند الموت حظَّه من تلك الفتنة، وينجيه منها، فينجو من هول المطلع وشدة السؤال، فقد صحح الحاكم عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ لَقِيَ فَصَبَرَ حَتَّى يُقْتَلَ أَوْ يَغْلِبَ لَمْ يُفْتَنْ فِي قَبْرِهِ".وأخرج النسائي عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَنَّ رَجُلاً قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: "كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً".7- يكلمه ربه كفاحًا أي مواجهة بلا واسطة: كيف لا، وقد باع لله نفسَه! واسترخص في سبيل الله روحَه! وآثَرَ ما عند الله على الدنيا وما فيها! فقد أخرج الترمذي وحسَّنه عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: لَقِيَنِى رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِي: "يَا جَابِرُ مَا لِي أَرَاكَ مُنْكَسِرًا". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتُشْهِدَ أَبِي، قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ وَتَرَكَ عِيَالاً وَدَيْنًا. قَالَ: "أَفَلاَ أُبَشِّرُكَ بِمَا لَقِي اللَّهُ بِهِ أَبَاكَ؟". قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: "مَا كَلَّمَ اللَّهُ أَحَدًا قَطُّ إِلاَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ، وَأَحْيَا أَبَاكَ فَكَلَّمَهُ كِفَاحًا، فَقَالَ: يَا عَبْدِي تَمَنَّ عَلَيَّ أُعْطِكَ. قَالَ: يَا رَبِّ تُحْيِينِي فَأُقْتَلَ فِيكَ ثَانِيةً. قَالَ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ: إِنَّهُ قَدْ سَبَقَ مِنِّي أَنَّهُمْ إِلَيْهَا لاَ يُرْجَعُونَ" قَالَ: وَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾ (آل عمران). يا بشرى تلك العين الكريمة التي تلذذت بالنظر إلى وجه الله الكريم! وتلك الأذن العظيمة التي تلذذت بهذا الخطاب الرحيم! وذلك اللسان الطيب الذي خاطب العلي الأعلى جل وعلا! ولئن كان ذلك عقب استشهاده ونحن في الدنيا، فما ظنك بكرامة ذلك الشهيد على الله يوم لقائه والعرض عليه؟. 8- تطير روحه في الجنة وتَعْلُق بأغصانها حيث شاءت: ألا ما أكرم الشهيد على ربه، وما أرفع منزلته عنده! إذ تُحَلِّقُ روحُه في رياض الجنة وتسرح فيها حيث شاءت، حتى ترده إلى جسدها يوم القيامة، فتنال الجائزة الكبرى والفوز العظيم، وقد أخرج أبو داود وصححه الحاكم على شرط مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-:"لَمَّا أُصِيبَ إِخْوَانُكُمْ بِأُحُدٍ جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ تَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَأْوِي إِلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلِهِمْ وَمَشْرَبِهِمْ وَمَقِيلِهِمْ قَالُوا: مَنْ يُبَلِّغُ إِخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ؛ لِئَلاَّ يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَلاَ يَنْكُلُوا عِنْدَ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ. قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا". إِلَى آخِرِ الآيَةِ. وأخرج أبو داود وصححه ابن حبان عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "الشُّهَدَاءُ عَلَى بَارِقِ نَهَرٍ بِبَابِ الْجَنَّةِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ، يَخْرُجُ عَلَيْهِمْ رِزْقُهُمْ مِنْ الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا".وأخرج مسلم عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: سَأَلْنَا عَبْدَ اللَّهِ (يعني ابن مسعود رضي الله عنه) عَنْ هَذِهِ الآيَةِ ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169)﴾ (آل عمران). قَالَ: أَمَا إِنَّا قَدْ سَأَلْنَا عَنْ ذَلِكَ (يعني سألوا رسول الله- صلى الله عليه وسلم-) فَقَالَ: "أَرْوَاحُهُمْ فِي جَوْفِ طَيْرٍ خُضْرٍ، لَهَا قَنَادِيلُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ، تَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شَاءَتْ، ثُمَّ تَأْوِي إِلَى تِلْكَ الْقَنَادِيلِ، فَاطَّلَعَ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمُ اطِّلاَعَةً فَقَالَ: هَلْ تَشْتَهُونَ شَيْئًا؟ قَالُوا: أَيَّ شَيْءٍ نَشْتَهِي وَنَحْنُ نَسْرَحُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ شِئْنَا؟ فَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا رَأَوْا أَنَّهُمْ لَنْ يُتْرَكُوا مِنْ أَنْ يُسْأَلُوا قَالُوا: يَا رَبِّ نُرِيدُ أَنْ تَرُدَّ أَرْوَاحَنَا فِي أَجْسَادِنَا حَتَّى نُقْتَلَ فِي سَبِيلِكَ مَرَّةً أُخْرَى. فَلَمَّا رَأَى أَنْ لَيْسَ لَهُمْ حَاجَةٌ تُرِكُوا".9- يُبْعَث الشهيدُ يوم القيامة وريحُ دمه ريحُ المسك: إن هذا الدمَ الزكيَّ النفيس الذي أهريق في ذات الله لهو أنفس وأغلى ما يُبذَل، ولئن كان الموتى تتغير روائحُهم وروائحُ دمائهم فإن الشهداء سيُعْرَفون بين الناس يوم القيامة حين يُبْعَثون بدمائهم، اللونُ لونُ الدم والريحُ ريحُ المسك، وتلك آيةٌ لهم خاصة، حتى يعرف الأشهادُ كرامةَ الشهداء عند الله، فقد أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:"وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِهِ- إِلاَّ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّوْنُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ". وصحح ابن حبان عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى، اللَّوْنُ لَوْنُ دَمٍ وَالرِّيحُ رِيحُ مِسْكٍ، وَمَنْ جُرِحَ فِي سَبِيلِ اللهِ طُبِعَ بِطَابَعِ الشُّهَدَاءِ". وفي رواية عند ابن حبان أيضًا: "مَنْ جُرِحَ جُرْحًا فِي سَبِيلِ اللهِ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رِيحُهُ كِرِيحِ المِسْكِ، لَوْنُهُ لَوْنُ الزَّعْفَرَانِ، عَلَيْهِ طَابَعُ الشُّهَدَاءِ، وَمَنْ سَأَلَ اللهَ الشَّهَادَةَ مُخْلِصًا أَعْطَاهُ اللهُ أَجْرَ شَهِيدٍ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ".ولذلك أُمر بأن يُزَمَّل الشهيد في دمه، ولا يُمْسَح عنه الدم، حتى يخرج به آية يوم القيامة، فقد أخرج الترمذي وحسَّنه، وصححه ابن حبان عن عبد الله بن ثعلبة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم- لِقَتْلَى أُحُدٍ: "زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي اللَّهِ إِلاَّ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ". 10- هو أول من يدخل الجنة مع الأولين: حُق للشهيد وقد باع لله روحه، وأسلم لله نفسه، ولم يبخل بحياته في سبيل دينه أن يكون من أول الداخلين إلى الجنة، بل أن ينزل في الجنة في أحسن دورها وأعلى قصورها، فأخرج الترمذي وحسنه، وصححه ابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "عُرِضَ عَلَيَّ أَوَّلُ ثَلاَثَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: شَهِيدٌ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ، وَعَبْدٌ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنَصَحَ لِمَوَالِيهِ".وصحح ابن حبان عن سَمُرَة بن جُنْدب قال: كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إذا صلى الغداة (يعني الفجر) أقبل علينا بوجهه، فقال: "هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟" فَسَأَلَنا يَوْمًا، ثم قال: "أُرِيتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدِي فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ فَأَدْخَلانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنََ مِنْهَا، فَقَالَ: أَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ".فهل أدرك المتعجبون بعض أسرار اندفاع المجاهدين المخلصين لنيل الشهادة وسر تسابقهم إلى الفوز بها؟ هنيئًا للشهداء تلكم المكانة العالية والمنزلة الرفيعة، والله نسأل أن يبلغنا منازلهم. كرامة الشهيد في أهله وماله مما لفت نظر كثير من الناس: هذا الاحتضانُ العجيبُ من قِبَل الشعب الفلسطيني للاستشهاديين، وخصوصًا أولئك الآباء والأمهات الذين يفرحون باستشهاد آبائهم وبناتهم، ويستقبلون التهاني بالشهادة كأنها عرس لذويهم، فقد سمعنا السيدة أم نضال أم الاستشهاديين محمد ونضال وياسر فرحات تقول: "كان من أجمل أيام حياتي عندما امتلك محمد السلاح فأحضره لي ليسعد قلبي به، ويؤكد لي أنه أصبح رجلاً يمكن أن يسير في طريق الجهاد".ثم تقول لابنها محمد وهي تودعه ليفجر نفسه في الصهاينة وقد غلبها البكاء: "إياك أن تصدق دموعي؛ فإنها دموع أمّ تزفُّ ابنَها إلى الحور العين فأطعْ ربك، وجاهدْ، واثبتْ حتى تلقى ربك". ثم توجِّه تلك السيدةُ العظيمةُ نساء الأمة، فتقول: "من يحب الله والوطن فلا يتوانى عن تقديم أبنائه فداء له، والأم التي تحب ولدها تطلب له النجاة في الدنيا والآخرة وتدفعه للجهاد ولا تجزع عند فوزه بها، ولا تُشْمِت الأعداءَ بشعبنا بدموعها على شاشات التلفزة". هذا هو نموذج الأم المسلمة التي تصنع أولئك الاستشهاديين، إنها أم تملك قلبَ الأم المحبة لأولادها، ولكن حبها لدينها وربها أعظم من حبها لبنيها، وإن قيمة الوطن عندها أغلى من أولادها وفلذات كبدها. ولا يزال مثل هذا الموقف من أهالي الشهداء يثير إعجاب البعض وعجب البعض، ويحار الكثيرون في تفسير هذه الحالة الإيمانية العجيبة. وفي هذا المقال الذي أختم به هذه المقالات أشير إلى ما يلحق أهالي الشهداء من ورائهم، وما يحصل من بركة في أموالهم، فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهله، ويبارك الله في ماله ونسله ويجعل عاقبة أمره كلها خير، فقد أخرج ابن حبان عن نمران بن عتبة الذماري (وكان أبوه قد استشهد في سبيل الله) قال: دخلنا على أم الدرداء ونحن أيتام صغار، فمسحت رؤوسنا وقالت: أَبْشِرُوا يَا بَنِيَّ، فَإِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا فِي شَفَاعَةِ أَبِيكُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه يقول: سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول: "الشَّهِيدُ يَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ".ومسك ختام هذه الباقة ما أورده الإمام البخاري في صحيحه بعنوان (باب بركة الغازي في ماله حيًّا وميتًَا مع النبي- صلى الله عليه وسلم- وولاة الأمر)، حيث أخرج عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: "لَمَّا وَقَفَ الزُّبَيْرُ يَوْمَ الْجَمَلِ دَعَانِي فَقُمْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ إِنَّهُ لا يُقْتَلُ الْيَوْمَ إِلا ظَالِمٌ أَوْ مَظْلُومٌ، وَإِنِّي لا أُرَانِي إِلا سَأُقْتَلُ الْيَوْمَ مَظْلُومًا، وَإِنَّ مِنْ أَكْبَرِ هَمِّي لَدَيْنِي، أَفَتُرَى يُبْقِي دَيْنُنَا مِنْ مَالِنَا شَيْئًا؟ فَقَالَ: يَا بُنَيِّ بِعْ مَالَنَا فَاقْضِ دَيْنِي. وَأَوْصَى بِالثُّلُثِ وَثُلُثِهِ لِبَنِيهِ- يَعْنِي بَنِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ- يَقُولُ: ثُلُثُ الثُّلُثِ، فَإِنْ فَضَلَ مِنْ مَالِنَا فَضْلٌ بَعْدَ قَضَاءِ الدَّيْنِ شَيْءٌ فَثُلُثُهُ لِوَلَدِكَ، وَكَانَ بَعْضُ وَلَدِ عَبْدِ اللَّهِ قَدْ وَازَى بَعْضَ بَنِي الزُّبَيْرِ خُبَيْبٌ وَعَبَّادٌ وَلَهُ يَوْمَئِذٍ تِسْعَةُ بَنِينَ وَتِسْعُ بَنَاتٍ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَجَعَلَ يُوصِينِي بِدَيْنِهِ وَيَقُولُ: يَا بُنَيِّ إِنْ عَجَزْتَ عَنْهُ فِي شَيْءٍ فَاسْتَعِنْ عَلَيْهِ مَوْلايَ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا دَرَيْتُ مَا أَرَادَ، حَتَّى قُلْتُ: يَا أَبَةِ مَنْ مَوْلاكَ؟ قَالَ: اللَّهُ. قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ. فَقُتِلَ الزُّبَيْرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَدَعْ دِينَارًا وَلا دِرْهَمًا، إِلا أَرَضِينَ مِنْهَا الْغَابَةُ وَإِحْدَى عَشْرَةَ دَارًا بِالْمَدِينَةِ وَدَارَيْنِ بِالْبَصْرَةِ وَدَارًا بِالْكُوفَةِ وَدَارًا بِمِصْرَ، قَالَ: وَإِنَّمَا كَانَ دَيْنُهُ الَّذِي عَلَيْهِ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَأْتِيهِ بِالْمَالِ فَيَسْتَوْدِعُهُ إِيَّاهُ فَيَقُولُ الزُّبَيْرُ: لا، وَلَكِنَّهُ سَلَفٌ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ. وَمَا وَلِيَ إِمَارَةً قَطُّ وَلا جِبَايَةَ خَرَاجٍ وَلا شَيْئًا، إِلا أَنْ يَكُونَ فِي غَزْوَةٍ مَعَ النَّبِيِّ- صلى الله عليه وسلم- أَوْ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: فَحَسَبْتُ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَوَجَدْتُهُ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ(1.200.000) قَالَ: فَلَقِيَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي كَمْ عَلَى أَخِي مِنْ الدَّيْنِ؟ فَكَتَمَهُ فَقَالَ: مِائَةُ أَلْفٍ. فَقَالَ حَكِيمٌ: وَاللَّهِ مَا أُرَى أَمْوَالَكُمْ تَسَعُ لِهَذِهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَفَرَأَيْتَكَ إِنْ كَانَتْ أَلْفَيْ أَلْفٍ وَمِائَتَيْ أَلْفٍ؟ قَالَ: مَا أُرَاكُمْ تُطِيقُونَ هَذَا، فَإِنْ عَجَزْتُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ فَاسْتَعِينُوا بِي. قَالَ: وَكَانَ الزُّبَيْرُ اشْتَرَى الْغَابَةَ بِسَبْعِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ، فَبَاعَهَا عَبْدُ اللَّهِ بِأَلْفِ أَلْفٍ وَسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ (1.600.000) ثُمَّ قَامَ فَقَالَ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ حَقٌّ فَلْيُوَافِنَا بِالْغَابَةِ. فَأَتَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ وَكَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ أَرْبَعُ مِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ: إِنْ شِئْتُمْ تَرَكْتُهَا لَكُمْ. قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا. قَالَ: فَإِنْ شِئْتُمْ جَعَلْتُمُوهَا فِيمَا تُؤَخِّرُونَ إِنْ أَخَّرْتُمْ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لا. قَالَ: فَاقْطَعُوا لِي قِطْعَةً (يعني يطلب أن يأخذ دينه جزءًا من الأرض) فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَكَ مِنْ هَاهُنَا إِلَى هَاهُنَا. قَالَ: فَبَاعَ مِنْهَا فَقَضَى دَيْنَهُ فَأَوْفَاهُ، وَبَقِيَ مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ. فَقَدِمَ عَلَى مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ وَالْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ وَابْنُ زَمْعَةَ فَقَالَ لَهُ مُعَاوِيَةُ: كَمْ قُوِّمَتْ الْغَابَةُ؟ قَالَ: كُلُّ سَهْمٍ مِائَةَ أَلْفٍ. قَالَ: كَمْ بَقِيَ؟ قَالَ أَرْبَعَةُ أَسْهُمٍ وَنِصْفٌ. قَالَ الْمُنْذِرُ بْنُ الزُّبَيْرِ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، قَالَ عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، وَقَالَ ابْنُ زَمْعَةَ: قَدْ أَخَذْتُ سَهْمًا بِمِائَةِ أَلْفٍ، فَقَالَ مُعَاوِيَةُ: كَمْ بَقِيَ؟ فَقَالَ: سَهْمٌ وَنِصْفٌ. قَالَ: قَدْ أَخَذْتُهُ بِخَمْسِينَ وَمِائَةِ أَلْفٍ. قَالَ: وَبَاعَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ نَصِيبَهُ مِنْ مُعَاوِيَةَ بِسِتِّ مِائَةِ أَلْفٍ، فَلَمَّا فَرَغَ ابْنُ الزُّبَيْرِ مِنْ قَضَاءِ دَيْنِهِ قَالَ بَنُو الزُّبَيْرِ: اقْسِمْ بَيْنَنَا مِيرَاثَنَا. قَالَ: لا وَاللَّهِ لا أَقْسِمُ بَيْنَكُمْ حَتَّى أُنَادِيَ بِالْمَوْسِمِ أَرْبَعَ سِنِينَ: أَلا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى الزُّبَيْرِ دَيْنٌ فَلْيَأْتِنَا فَلْنَقْضِهِ. قَالَ: فَجَعَلَ كُلَّ سَنَةٍ يُنَادِي بِالْمَوْسِمِ، فَلَمَّا مَضَى أَرْبَعُ سِنِينَ قَسَمَ بَيْنَهُمْ. قَالَ: فَكَانَ لِلزُّبَيْرِ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ، وَرَفَعَ الثُّلُثَ فَأَصَابَ كُلَّ امْرَأَةٍ أَلْفُ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ، فَجَمِيعُ مَالِهِ خَمْسُونَ أَلْفَ أَلْفٍ وَمِائَتَا أَلْفٍ".أي أنه بعد سداد دين الشهيد الزبير رضي الله عنه أعطى الثلث الذي أوصى به لأبناء عبد الله، ثم قسم باقي الميراث على الورثة فكان نصيب المرأة الواحدة من نسائه الأربع مليونًا ومائتي ألف أي أن ثمن الباقي بعد الوصية بلغ أربعة ملايين وثمانمائة ألف، وكان جميع ماله خمسين مليونًا ومائتي ألف. أرأيت هذه الكرامة العظيمة، وهذه البركة الكبيرة التي وضعها الله تبارك وتعالى في مال الغازي وفي تركته، وكيف سدد عنه دينه، وبارك لورثته فيما بقي من ماله، بعد أن ظنوا وظن غيرهم أن ماله أعجز من أن يقضي ديونه؟ وانظر إلى قول عبد الله بن الزبير: "فَوَاللَّهِ مَا وَقَعْتُ فِي كُرْبَةٍ مِنْ دَيْنِهِ إِلا قُلْتُ: يَا مَوْلَى الزُّبَيْرِ اقْضِ عَنْهُ دَيْنَهُ، فَيَقْضِيهِ". فما أكرم الشهيد على ربه!. بشارات نبوية لعشاق الشهادة: إليك أيها الأخ الحبيب هذه الجملة من البشارات والكرامات يزفها الحبيب- صلى الله عليه وسلم- إلى طالبي الشهادة وعاشقي الجنة، فقد أخرج الترمذي وصححه عَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- صلى الله عليه وسلم-: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَى مَقْعَدَهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الْوَقَارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الْحُورِ الْعِينِ، وَيُشَفَّعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ". نسأل الله أن يتقبل شهداءنا، وأن يختم لنا بشهادة صادقة يرضى بها عنا. وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.