المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : درويش



ظلال
03/10/2006, 11:21 PM
درويش

حدثني والدي يوماً عن أحد أصدقاء الطفولة الراسخة في ذاكرته كمجموعة صور بالكاد يستطيع جمعها. وقال:
كان درويش صديقاً عزيزاً على قلبي، أَحبته نفسي واستأنست بوجوده قبل اصطدامه بحوادث كثيرة غيرت من مجرى حياته وقلبتها رأساً على عقب. كنتُ عند رؤيته تنفرج أسارير نفسي، فابتسامته العريضة المرسومة دائماً على شفتيه الوردتين، وأسلوبه بالترحاب والسلام يبعث في النفس الراحة والاطمئنان لكلّ من يراه ويسمعه.
وكثيراً ما حسده الناس على ما هو عليه من خِفّة الرُّوح وجمال النفس، ناهيك عن قامته الممشوقة، وعضلات يديه البارزة على الرغم من صغر سنه، وسبب عرض كتفيه وبروز عضلات يديه وقسوتهما هو أنه عمل جزاراً منذ أن عرف اللعب بالحارات والأزقة. أجبره والده على ترك المدرسة التي كانت بالنسبة له صديقاً عزيزاً تحسّرَ على فراقه، تركها ليعمل مع والده في دكان اللحمة اليتيم في قرية أم الرمان، جزاراً، يذبح الماشية، يقطعها، ويبيعها لأصحاب المنازل الفخمة من أهل القرية بأغلى الأثمان، وأما فقراؤها فكان يكفيهم ما يجنونه من تراب الأرض من قمح وشعير.
كان درويش مشغولاً دائماً بالعمل في الدُّكان، فكنت لا أراه كثيراً، وبالحق كنت أشتاق لرؤيته، فلطالما ذهبت وأصدقائي إلى الدّكان نناديه، فيزجرنا والده ويلعننا، ودرويش ينظر إلينا بعينيه المغروقتين بالدموع نتراكض كالفراش، نركل كرة القماش بأقدامنا العارية.
كان يهاب أباه كثيراً ولا يرفض له طلباً، فهو الآمر النَّاهي، العنيفُ البخيلُ القاسي، الذي لم تدخل الأبوة قلبه في يوم، وولده الصغير درويش كان كالعبد العامل، أجرته هي النوم على الحصير ولقمةٌ تسدُّ جوعهُ.
أحب درويش والدته كثيراً، لأنّها كانت له الأم والصديقة والحبيبة أشفق عليها كثيراً لما كانت تلاقي من قسوةٍ مريرةٍ من زوجها الصُّعلوك المُرابي، فلابدّ لها أن تتجرع المرارة الممزوجة بالعلقم في الصباح عندما ينهض مع بزوغ الشمس صارخاً لاعناً، وفي المساء عندما تستر وحشيته ستائر حب خادع يستغله لإشباع رغباته، ولابدّ لها أيضاً أن تتحمل اللكمات والضربات التي كان يسددها ذاك الوحش إلى وجهها وجسدها الضئيل الهزيل الذي لم يحمل إلاّ درويش. وكل هذا كان يراه درويش غير قادر على فعل شيء إلاّ الانزواء وحيداً بجانب قن الدجاج صاكاً على أسنانه، ضارباً رأسه بالجدار مرّات عدة وكأنه يشاطر والدته ألمها ليخفف عنها قهرها وذلها.
كان يبكي ويبكي بصمت، ساجناً العويل والصراخ في أحشاء جسده المنتفض، عالماً أن لا أنيس له في وحدته وجزعه غير الليل وظلمته، وعند حلول سويعات الصباح الأولى يستيقظ الدّيك قبلهُ، ليزعجه بصياحه، ولتسرق منه أجمل وأعذب لحظات طفولته، ألا وهي الأحلام. عندما يقتاده ذاك الوحش البشري معه إلى الدكان وفي الطريق كأنّ شيئاً لم يكن يتناسى كلّ شيء، لترتسم ابتسامة عريضة على وجه الملائكي فتستر الألم والحقد اللذان يعششان في داخله، فإن بكى يبكي وحده، وإن ضحك، يضحك الجميع معه.
ثم قال لي أبي والحزن بدا واضحاً في عينيه: هكذا هي الدنيا، شريعة البشرية الظالمة، والإنسانية التائهة هذه الأيام، فما ذنبُ ذاك الطفل الصغير أن يحرمُ طفولته وأن تضنيه الأيام تعباً وقهراً وهو بعد لم يشتد عودهُ؟ أترينَ يا ابنتي، الحياة قاسيةٌ جداً، تريدنا أن نكون ذئاباً كي ننهش، وعقارب كل نلسع، وحجارة كي يُمحَى الإحساسُ من قلوبنا، فطيّبُ القلب والبريء في هذه الأيام يَسْخَرُ الجميع منه وينعتونه بكلمات بذيئة لا يستحقها، وأمّا عن الإله العظيم القدوس المترفع عن الأرض ونجاستها، الساكن خلف ما هو أبعد من الغيوم وأبعد من الكواكب والنجوم هو وحده من يحب طيب القلب ويجازيه خيراً، هو وحده من يرفع الظلم عن المظلوم ولو بعد حين.
ودرويش هذا عاش طيّب القلب مظلوماً، بطنُ أمه لم يحمل إلاّ هو، فكان هذا سبباً كافياً حتى يتزوج ذلك الوحش من فتاة بهية الجمال باعها أبوها الذليل الفقير بحفنة من نقود تكفي أولاده التسعة خبزاً وزيتاً لسنة كاملة، وسكنت البيت وأصبحت سيدته الحاقدة على الدنيا التي طمستْ شبابها وجعلتها فريسة ذاك الصّعُلوك. وأنجَبتْ كل سنة ولداً وبنتاً ملؤوا البيت ضجيجاً وصخباً، وكانت زوجة الأب هذه تتباهى كثيراً بحملها وإنجابها وتنعت أم درويش بالعاقر، إلى أن مرضت تلك الأخيرة من قهرها ولازمت الفراش غير قادرة على الحراك، وأما درويش فقد كان قلبه يتمزق حزناً غير قادر على خدمتها إلاّ في المساء بعد غروب الشمس عندما ينام في حضنها، غير تاركٍ إيّاها حتى الصباح إلاّ انه استيقظ يوماً والبرد ينخر عظامه، فما عاد حضن أمه دافئاً كالسابق، صدمةٌ قوية أَنهكتْ قواه، ورسمت البؤس على ملامح وجهه، وزادت من قسوة زوجة أبيه وظلمها، وتعاظم سخط أبيه عليه.
ومرّت السنون وكان درويش يكبر ويكبر إلى أن أصبح شاباً ذا عضلات مفتولة وابتسامته العريضة التي كانت لا تفارق أيّام طفولته فقد باتت ضحكات جنونية، ضحكات هلوسة ضحكات سكرى، لا معنى لها، يصدرها دون سابق إنذار، وأصبحت الكثير من تصرفاته تدل على ضياع عقله، يلعب مع أطفال الحي في الشوارع، سلوكه يدل على أنه طفل في جسد شاب.
من حينها بدأ أهل الحيّ يتهامسون عليه ويلقبونه "درويش المجنون"، ويجنّ جنون درويش عندما يركض وراءه أطفال الحي يرشقونه بالحجارة صارخين بأعلى أصواتهم: درويش المجنون، درويش المجنون. محافظين على مسافة بعيدة بينه وبينهم، لأنهم يعلمون أنه إن أمسك بواحدٍ منهم مزقه بأسنانه، فكان يركض كالملهوف إلى البيت ويدخل زريبة الحيوانات، يُلقي بنفسه الثقيلة الأوجاع على القش، ثم يجهش بالبكاء، ويرى أمّه دائماً هناك عندما يحتاجها، يضع رأسه على صدرها وبكفها الحنون تُربِّت على شعره وتبكي بصمت، وتبقى هكذا حتى ينام بعد طول بكاء، وكأن البكاء كان حملاً ثقيلاً على صدره أَزاحه بدمعٍ حزين، ثم يُلقي بنفسه إلى دنيا الأحلام الطفولية الساذجة التي تهون عليه هي الأخرى ما يعتصره من حزن وألم.
زاد بغض أبيه له بعد مرضه، احتاج درويش إلى الحنان والدفء فما قدّم له أبوه إلا ضربات السّياط والحبس في غرفةٍ معتمة كانت إحدى زواياها ملاذه الوحيد، ودرويش يهاب الظلمة ويتخيل أشياء كثيرة فيها، فكان يخفف من هلعه وجزعه بضرب رأسه بجدران الغرفة التي كادت أن تتشقق.
ثم علق أبي على مرض درويش قائلاً:
المريضُ هو الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي يحتاج للعطف والحنان، حتى من أبعد الناس إليه. فنظرة محبة واهتمام يشعرانه بأن من حوله مهتمون به ويخافون عليه، ولا يريدون له الشر. وكان درويش بحاجةٍ ماسة إلى هذه النظرة لكنه ما وجدها. درويش ذاك المسكين عاش حياته منذ الطفولة حتى الممات ذليلاً، فلم يعرف طعم الحياة الحلوة إلاّ بين أحضان أمه الدافئة التي تركته ورحلت إلى البعيد. فما هي هذه الحياة، نعيشها كي نتألم ونتعب ثم نرحل عنها محزونين على فراقها، فيا لغرابة ما نحن فيه! نحن بني البشر!
فسألت والدي:
وهل ما زال درويش يعيش على وجه الأرض؟؟
فأجأبني:
لا، فحقده على والده نما وترعرع مكتوماً صامتاً، حتى تحول جسده إلى بركانٍ يغلي يستعد للثوران.
وفي صباح إحدى ليالي كانون الأول، وجد أبو درويش مذبوحاً بسكين كما تذبح الشاة وأمّا عن درويش فقد إنساب مع ضباب الشتاء واختفى، فتقول الناس عليه كثيراً وألفّوا الأكاذيب والخرافات، حتى ظهرت الحقيقة مع أوائل آذار، عندما كان جمعه الراعي يقود خرافه في وادي أم الرمان بعد أن ذاب ثلج الشتاء، يعزف على شبابته التي تطرب الآذان ولعذوبتها تستيقظ الأشباح في ذلك الوادي الموحش، وجد جمعه جثة درويش ملقاة هناك في الوادي، حفظها الثلج من التعفن طوال أشهر الشتاء، ونمت حولها أزهار النرجس والياسمين في أوائل الربيع.
وعلم الناس أن درويش انتحر بعد قتل أبيه، فدرويش اشتاق لحضن أمه الدافئ وذهب لملاقاتها.

ظلال عويس
11/2/2000

فايزة شرف الدين
18/10/2007, 02:08 AM
شدتني قصة درويش هذا الفتي البائس ، وتعاطفت معه كأني أقرأ قصة حقيقية ، في صفحة الحوادث ، فرغم العبارارات الموحية ، والوصف الدقيق ، إلا أن القصة كان يمكن أن تسرد بشكل آخر ، يراق عليها نوع من البريق ، الذي تتصف بها القصة القصيرة ، فتكون كالومضة ، تمضي سريعا دون تكرار أو رتابة .

عبد الحميد الغرباوي
24/10/2007, 02:02 PM
حدثني والدي يوماً عن أحد أصدقاء الطفولة الراسخة في ذاكرته كمجموعة صور بالكاد يستطيع جمعها. وقال:
ـــــــ
من هنا تبدأ الحكاية...
ومثل هذه البدايات يستشف منها المتمرس في القراءة، قراءة القصة القصيرة، أنه سيدخل عالما من الأحاسيس و الأحداث التي تتجاوز في كثرتها و تصادمها ما اصطلح عليه بالقص القصير...
كثر في النص (كان..و كان...).. مما يدل على أن العمل طغى عليه أسلوب الحكي التقليدي؟...و يبرز ذلك في العبارة التقليدية الآتية: ومرت السنون...
وجليا في: ..وكان درويش يكبر ويكبر...
القصة القصيرة لا تستحمل عبارات من هذا القبيل...
القصة القصيرة هي فن التقاط اللحظات العابرة و المنفلتة..
تعدد الشخصيات و المشاعر لا يحيلنا سوى على فصل من رواية أو مقطع طويل من قصة طويلة....
الفاضلة ظلال عويس، أرجو ألا أكون قد أثقلت عليك بملاحظاتي لكني أرى أن الواجب يفرض قول ما يجب قوله في هذا المقام، و السلام...
مودتي