محمد سامي البوهي
26/12/2006, 08:45 PM
رائحــة الخشــب
كنت أظن في صغري أنه لايوجد مكان آخر على الأرض غيرهذا الحي الذي أسكنه، قدر له أن يحصره النيل بزرقته ، والبحر بأمواجه ، أنظر ناحية البحر فأتعثر بنهاية العالم ، أستدير ناحية النيل فيواجهني بمنتهى الجمال ، كنت إذا انتقلت إلى أي مكان آخر أطلق عليه في نفسي مسمى جزيرة ، كنت أعتقد أن حينا هو الأرض الشاسعة ، و ما دون ذلك من أمكنه جزر عالقة بمياة البحر الممتدة ، أغمض عيني ، أُصبح على تلك الدقات المتتالية ، المنتظمة ، التي تنظمها جواكيش النجارين ، الكلمات الصباحية التي تهشم أقفال ورش النجارة الصغيرة (يا فتاح يا عليم ، يارزاق يا كريم - أصبحنا وأصبح الملك لله) ، أشم رائحة الخشب المطحون ، أتلذذ بها ، تعيدني معها إلى أيام أجازتي الصيفية ، حيث إلحاقي بإحدى ورش النجارة للعمل ، ذلك ماتجري عليه العادة بمدينتي العاشقة ( دمياط )، بل كان تعلم الحياة هو الغاية من هذه العادة، كل شىء بالورشة كان له بذاكرتي مدلوله الخاص ، الغراء بأبخرتها الساخنة ، تترك داخلي صوراً للخوف ، نعم كنت أرتعد منها ، من سطوتها ، طغيانها ، تغلي فوق الموقد الحجري ، تلهث بفقاقيع ملتهبة ،أكتم أنفاسها بفرشاة كبيرة يستعين بها "المِعَلم " ليفرض هيبتها على ألواح الخشب المسكينة ، كانت "المنجلة " تمثل لي رمزاً للقيد ، السجن ، بل للموت أحياناً ، كانت رمزاً للعقاب ، يعتقل "المعلم " يد المذنب بين شفرتيها الخشبيتين ، يشد عليها بقوة كقطعة خشب صغيرة أبت الإنصياع للتشكيل ، كان يوم الخميس هو أجمل يوم بحياتي ، يوم التحرر ، يوم الحصاد ، كنا نجني فيه ثمرة تعبنا ، اتقاسمها بين نفس الطفل الكامنة داخلي ، وبين حصالتي الخشبية ، أفرح عندما أهدهدها ، أسمع صوت النقود تزغرد داخلها ، أشم رائحة الخشب المنبعثة منها ، أهتف بالحياة لكل أشجار العالم ، أطير إلى البحر لشراء "الدوم - التين الشوكي - غزل البنات ) ، أتبادل مع أصدقائي المعلومات ، عن ورش النجارة التي يعملون بها ، "المِعَلمين" ، الأجور ، عند المغرب نودع الرمال المبللة ، جحورنا التي بنيناها ، الأمواج العائدة ، بقايا أشرعة القوارب البعيدة التي كنا نتسابق على رؤيتها ، نطوي الشمس خلفنا تصارع النوارس المهاجرة ، نعود ، أصبح كي أهشم قفل الورشة ، أنظف الأرضية من قشور الأخشاب المتطايرة ، أدير مؤشر الراديو ، أتوقف به علي إذاعة القرآن الكريم ، أنشغل برش المياة أمام الباب لإحباط محاولات الغبار من التراكم بالداخل ، أنتظر "المِعَلم "لأبدأ معه قطف يوماً جديداً من باقة أجازتي الصيفية ، أودع أيام العمل ، استعد لإستقبال أيام الدراسة ، أهشم بالفرح غطاء حصالتي الخشبية ، أعُد نقودي ، أطير صوب أبي كي أبلغه بما جمعت ، يطعمني بإبتسامته الحانية ، يربت على كتفي ، يضع بين يدي أضعاف المبلغ ، بأول أيام عامي الدراسي ، أكتسي ملابسي الجديدة ، حقيبتي ، جوربي ، حذائي ، أمشي ببهاء المنتصر ، أشم رائحة الخشب العالقة بندى الصباح ، فأهدي شكري لكل أشجار العالم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
المنجلة : هي أداة يدوية تستخدم في تثبيت قطع الخشب ليتمكن النجار من تشكيلها
كنت أظن في صغري أنه لايوجد مكان آخر على الأرض غيرهذا الحي الذي أسكنه، قدر له أن يحصره النيل بزرقته ، والبحر بأمواجه ، أنظر ناحية البحر فأتعثر بنهاية العالم ، أستدير ناحية النيل فيواجهني بمنتهى الجمال ، كنت إذا انتقلت إلى أي مكان آخر أطلق عليه في نفسي مسمى جزيرة ، كنت أعتقد أن حينا هو الأرض الشاسعة ، و ما دون ذلك من أمكنه جزر عالقة بمياة البحر الممتدة ، أغمض عيني ، أُصبح على تلك الدقات المتتالية ، المنتظمة ، التي تنظمها جواكيش النجارين ، الكلمات الصباحية التي تهشم أقفال ورش النجارة الصغيرة (يا فتاح يا عليم ، يارزاق يا كريم - أصبحنا وأصبح الملك لله) ، أشم رائحة الخشب المطحون ، أتلذذ بها ، تعيدني معها إلى أيام أجازتي الصيفية ، حيث إلحاقي بإحدى ورش النجارة للعمل ، ذلك ماتجري عليه العادة بمدينتي العاشقة ( دمياط )، بل كان تعلم الحياة هو الغاية من هذه العادة، كل شىء بالورشة كان له بذاكرتي مدلوله الخاص ، الغراء بأبخرتها الساخنة ، تترك داخلي صوراً للخوف ، نعم كنت أرتعد منها ، من سطوتها ، طغيانها ، تغلي فوق الموقد الحجري ، تلهث بفقاقيع ملتهبة ،أكتم أنفاسها بفرشاة كبيرة يستعين بها "المِعَلم " ليفرض هيبتها على ألواح الخشب المسكينة ، كانت "المنجلة " تمثل لي رمزاً للقيد ، السجن ، بل للموت أحياناً ، كانت رمزاً للعقاب ، يعتقل "المعلم " يد المذنب بين شفرتيها الخشبيتين ، يشد عليها بقوة كقطعة خشب صغيرة أبت الإنصياع للتشكيل ، كان يوم الخميس هو أجمل يوم بحياتي ، يوم التحرر ، يوم الحصاد ، كنا نجني فيه ثمرة تعبنا ، اتقاسمها بين نفس الطفل الكامنة داخلي ، وبين حصالتي الخشبية ، أفرح عندما أهدهدها ، أسمع صوت النقود تزغرد داخلها ، أشم رائحة الخشب المنبعثة منها ، أهتف بالحياة لكل أشجار العالم ، أطير إلى البحر لشراء "الدوم - التين الشوكي - غزل البنات ) ، أتبادل مع أصدقائي المعلومات ، عن ورش النجارة التي يعملون بها ، "المِعَلمين" ، الأجور ، عند المغرب نودع الرمال المبللة ، جحورنا التي بنيناها ، الأمواج العائدة ، بقايا أشرعة القوارب البعيدة التي كنا نتسابق على رؤيتها ، نطوي الشمس خلفنا تصارع النوارس المهاجرة ، نعود ، أصبح كي أهشم قفل الورشة ، أنظف الأرضية من قشور الأخشاب المتطايرة ، أدير مؤشر الراديو ، أتوقف به علي إذاعة القرآن الكريم ، أنشغل برش المياة أمام الباب لإحباط محاولات الغبار من التراكم بالداخل ، أنتظر "المِعَلم "لأبدأ معه قطف يوماً جديداً من باقة أجازتي الصيفية ، أودع أيام العمل ، استعد لإستقبال أيام الدراسة ، أهشم بالفرح غطاء حصالتي الخشبية ، أعُد نقودي ، أطير صوب أبي كي أبلغه بما جمعت ، يطعمني بإبتسامته الحانية ، يربت على كتفي ، يضع بين يدي أضعاف المبلغ ، بأول أيام عامي الدراسي ، أكتسي ملابسي الجديدة ، حقيبتي ، جوربي ، حذائي ، أمشي ببهاء المنتصر ، أشم رائحة الخشب العالقة بندى الصباح ، فأهدي شكري لكل أشجار العالم. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــ
المنجلة : هي أداة يدوية تستخدم في تثبيت قطع الخشب ليتمكن النجار من تشكيلها