المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غيمة أوحجر/ قراءة في النص وهامش التجربة



حسن العابدي
17/01/2009, 06:59 PM
غيمة أو حــــجــــــــــــر *
قراءة في النص وهامش التجربة .

يمكن القول إن تجربة الشاعر محمد بنطلحة مسلك فني استطاع أن ينتزع صك الدخول إلى عالم الحداثة والتميز الشعريين من باب الأصالة والعصامية والتجريب بحثا عن آفاق للشعر
جديدة ، ممكنة ومغايرة. وان " غيمة أو حجر" موضوع الحديث ، تجريب شعري مثقف
وواع ، محبوك وحصين، يتعالى أن يقدم نفسه سائغا ،مائدة من السماء، تكون عيدا لأول
مريد/قارئ نكرة من أول وهلة أو لقاء، قبل أن يكلف نفسه عناء حفر أركيولوجي يطول مساحة المقترح الشعري على كل المستويات. من ذلك استكناه جنيالوجيا العناصر البانية لمعمار المكتوب من حيث المعجم والتركيب والدلالة وسائر عناصر التدليل المعتمدة في الإرساليات الشعرية الحداثية. بذلك وحده يمكن اختراق جلدة الكتابة وسبر أغوار المكتوب
الشعري بما هو صياغة فنية ثخينة ومغايرة.

في معرض حديثه عن الأساس الفني والرؤياوي المؤطرين للعقيدة الشعرية الطلحاوية يقول صاحب غيمة أو حجر:
يقوم –الفضاء- كما أتصوره على سؤال محوري وأساسي هو سؤال الكينونة،" أليس السؤال شأنه في هذا شأن الشعر ذاته؟ هو هذه المقاربة الفيزيقية التي لا تضاهى للمشاعر 1والاستيهامات والأفكار، حتى وان بقيت دون الأفق المحلوم به ، أودون التعبير الممكن ."
ويضيف قائلا:" إن القصيدة المغربية بالرغم من روعة بعض الانجازات التي تمت هنا أوهناك
ما تزال في تقديري تبحث عن نفسها بدون هوادة.

نفهم من البحث عن الذات عدم الاطمئنان لراهن الكتابة وهو ما يختزل سؤال التجريب بحثا عن هوية شعرية مغايرة بأشكال فنية مبتدعة ومتجددة في اطار مشروع يخضع لإرادة وتخطيط مسبقين. فعلى مستوى الانجاز يعكس مجمل إنتاج الشاعر منحى متطورا سارت عليه الكتابة في أفق التأسيس لشعرية مفارقة تراهن على تحقيق اضافة وعلى التجديد. وان إنصاتا واعيا لنبض التجربة لكفيل بتمييز بصمة الصوت الشعري لدى محمد بنطلحة مقارنة بغيره من الأصوات الشعرية المغربية، وكأنه طائر خارج السرب من خلال:
-1-نشيد البجع/1989 باكورة مجاميعه الشعرية التي تميزت مجمل قصائدها بطابع غنائي، في حين أن غيمة أو حجر/1990 راهنت على خصيصة شعرية الكتابة بما هي سمة من سمات الخطاب الشعري أولا وقيمة مضافة عريضة ومتعددة الأبعاد ، مختلفة المظاهر والسمات،وعلى درجات.
أما التجربة الثالثة سدوم/1992 فيكفينا قول صاحبها في حقها:"تعود المعرفة إلى أصلها البعيد إلى الخطأ، والى ما تراه العين في غلوائها، أي إلى تلك الحكمة التي تقول: كل ما تلمسه النار لابد أن يتحول...."3

• بين يدي التجربة من الخارج:
تقدم مجموعة "غيمة أوحجر" الدفعة النوعية الثانية من برنامج بنطلحة الشعري ،كرهان
مفتوح على التجريب ينطلق من أن الشاعر "من يعرف منذ البداية أن عمله لابد أن يكون من داخل اللغة لا معها، وضدها في نفس الوقت" وأن "الشعر تغيير في نظام الأشياء" وانه تبعا لذلك"تحويل عارم للأنساق والقيم، وأنه لغة تتغذى بشراهة من ظلالها" وان علاقة الشاعر" مع العالم لا يمكن أن تتأسس إلا من خلال الشعر".إن الشعر بهذا المعنى وبحسب هذا التصور فاعلية / رهان يتطلب من المبدع اصطناع احد حلين:
- دفع الكلام إلى أقاصيه الذي يعني تشغيل ممكنات اللغة...واستنفار سائر الطاقات الاحتياطية التي تقبع في سراديب الذهن البشري.4
- انسحاب منهجي من أرخبيل الضوء إلى بلاغة العتمة.
في ضوء المناصات السابقة، كيف العبور الى النص؟

مباشرة بعد دفة الغلاف اليمنى ،نقرأ في أسفل الصفحة ما يلي:
-" جميع أسماء الأشخاص والأمكنة والإشارات الضمنية من صنع الخيال، وأي اشتباه مرجعي هنا إنما هو من قبيل الصدفة". هذه الإشارة -في تقديري- تؤكد افتراضا لاحقا
نثيره في إبانه، مسبوقا بملاحظات:
في الإشارة السابقة تأكيد ودعوة إلى وجوب تراجع الوظائف الاحالية،الإخبارية إلى الوراء لصالح وظائف أخرى/الوظيفة الشعرية والجمالية والتأثيرية مثلا.ولعل في الإشارة ما يعتزم معه ا لجنوح بالنص عن كونه انعكاسا آليا للواقع مع وجوب النظر الى الكتابة في ذاتها ولذاتها من حيث " ان النص هنا لا ينقل الخبر والمعلومة أو الفكرة بقدر ما هو
حالة أو تجربة جمالية، لابد من استقبالها والتفاعل معها" بشكل آخر.
ان ما تم التنصيص عليه من إشارات على أنها من صنع الخيال، يشكل النص الغائب المتعين استحضاره عند القراءة إلى جانب أسماء الأعلام ، على اعتبار أن نصوص الديوان برمتها هي " جماع نصوص ممتلئة حابلة بالصور والأخيلة والأفكار الممكن توليدها من خيال وذهن المتلقي" إلى هذا يشير الشاعر نفسه مصرحا – من خارج النص- بأنه يلتقط ... مادته من مصادر جد متنوعة، هوامش تزحف نحو مكان الوهج، عناصر من اليومي والمعيش، انحرافات للفكر في الحل، قفزات في فضاء اللاوعي ، إفرازات الأحلام ،ارتداد إلى الطفولة، وأجواء لاتحصى".

وحيث إن لغة النص الشعري غالبا ما تتحدد بغيابها ولا تحمل على حضورها المسطح فان عناصر الغياب تلعب دورا أساسيا إليه يرد تفعيل القراءة وعليه تنبني إنتاجية النص وتقوم
ديناميته وانسجامه.

إن النص الشعري بحسبانه امتلاكا جماليا ومعرفيا لراهن ما صدرت عنه الكتابة "فانه يراهن على مسافة توتر بعيدة لاتتعدى وجود وجه شبه صحيح ومعقول بين حد الواقع وحد الشعر ،من غير ما سقوط في الانعكاس. وبالتالى لن نعدم وجود خلفية معرفية مشتركة بين النص والمتلقي في كشفه عن مظان الإشارات والخلفيات بهدف تحيينها وتفعيلها لإنتاج معرفة بالنص.
تتحرك دلالة نصوص الغيمة داخل مستويات عديدة ومتداخلة للخطاب،طباعية ،سميولوجية
طباعية، لغوية واستعارية، عملت الإستراتيجية الشعرية على تشكيلها لخدمة سؤال الكينونة وقد تجسد في أشباح لغوية. كيف ذلك؟

عــتــــبـــة الـــــعنوان/غيمة أوحجر:
- أيها الشاعر
ماذا سوف يغريك إذا أعتم سور
أنت من دسه في خـــلــفية العنوان عمدا
ثم سلطت عليه موجة دون زبد.
نصك الغائب : ثلج
ورذاذ
وبرد . ـــــــــــــــــــــــــــــــ أساور حجرية.

*غيمة: -أ- تمظهر مادي كثيف <غيمة مثقلة، تحجب النهر عنا < هذا التمظهر مزدوج الدلالة، منقبض في ماهيته، متمدد من طبيعته، موسوس، سائر متحول ومنتشر. والتمدد
والانتشار خواص منافية للاستقرار والجمود.

- ب- شكل من أشكال تصريف المادة فيزيائيا، وتحول أشكال ماهيتها.
-ج- من مرادفاتها المفتلذة من قصائد الديوان: العجاج- السحب الغمام- الريح الغبار –
زوبعة- الهباء- الغيم-...
-د- استعارة لعالم علوي/فوق أرضي يفارق خاصية لصلابة، عالم متعال لانهائي، يقع هناك، في عالم المعنى والمعنى وربما في عالم المادة بدليل تردد الوحدات اللغوية التالية:
الحلم- الروح- رؤيا.....
-2- حـــــــــجــــــــــــر:

تمظهر مادي صلب ينفتح مؤداه على الشدة/القيس والمتانة/أرمم في رحبة أبراج القيس صوتي.
-إجراء تعبيري للدلالة على ما سوى الحركة من خصائص الوجود ، ويؤدي معنى المقاومة
والثبات: فإما برينا قرون الأيائل بالحجر الصلد/وإما برينا الحجارة حتى تلينا.
- الرصـــــــــانة: حجرا أنزل البئر، والحجر مادة البناء /حجر الزاوية.
- التحجر واللامـــبالاة: حجر قفاي.
- -الانبهام والاستغلاق: مبهم كالحجر.
- الرغبة المضادة، وقابلية التحول الى نقيض /قنفذ من حجر.
- تحول الصائت إلى صامت: أيها الناي الذي قد من الصخر.
غيمة أو حجر كناية عن عالمين متضادين لا يجمع بينهما جامع إلا جامع الصياغة الشعرية، وانتمائهما لعالم المادة:
غيمة = حجر
سماء=أرض
والعالمان متكاملان يربطهما لاصق العطف بالاختيار او الجبر، وربما البحث عن حل"لا يتم
إلا وسط الميدان فوق رقعة القصيدة"، المعني به ذات تجابه واقعا موزعا بين حدي الجرح/العري/الجنون من حيث أن"الفتق أبدى عورة الأيام"، وحد الكتابة.العالم الأول سفلي /
سافل متجذر في الحسية/حجر ، والثاني متمنع وعائم.

- لوحة الغلاف /الفضاء التصويري:
-
- اشتغال علامي بلغة اللون داخل إطار مستطيل عمودي <هو المكان بلغة التشكيل< كمكان أول ينغرس في امتداد بياض مصراع الكتاب الأول.
- حيز أسود،دامس، يهيمن على مساحة الإطار، ويشكل منطقة معتمة بما يقارب الثلثين،
- قياسا إلى ما يداني الربع المشكل لقاعدة اللوحة من الأسفل،وهي ما يعتبر منطقة القياس أو الاضاءةالكاشفة عن أرضية رملية/أوهي في لون الرمل،وحواشي زرقاء موغلة باتجاه السواد، وبعبارة،إطار أسود داخل إطار ابيض عام.
تقدم اللوحة نفسها بشكل يوهمنا بوجاهة وضعها الحقيقي، الاأن القراءة السليمة تقتضينا تناول اللوحة بالمعكوس ،في اتجاه يحتل فيه الحيز المضيء منطقة الرأس من الجسد .
لاغرو فالتشكيل توأم الشعر،كلاهما تغيير في نظام الأشياء وقلب لها. وقد يضطلعان بمهمة التصحيح والتسوية. من هنا نلتقط العلامة الأولى الدالة على المشاكسة واستحكام هاجس التدمير والقلب، ولم لا والشعر "تصويب للخطأ الموجود أصلا في اللغة، على نحو ما يهجس به النموذجان التاليان من قصيدة رسوم مائية:
-1- مدن ترى، فان اختفت عنك اختفاء اللفظ في دوامة المعنى، تجسد في نفير الباخرات المثقلة بغلة الزيتون والعنب المصادر من حقول الحلم....
-2- من رمى في البحر نعله وارتمى بالعرض في حوض السباحة؟
موطن الشاهد عندنا هو ا"اختفاء اللفظ في دوامة المعنى +ارتمى بالعرض في حوض السباحة" .

وأما بلاغة التعتيم/بلاغة العتمة عند الشاعر بنطلحة فنلمسها جليا من خلال منطوق وظلال النموذج التالي:
أيهذا الشاعر/ هب ما يلي غلطة شاقول /وهب هذي التعاويذ بنايات/ فماذا سوف يغريك إذا أعتم سور/أنت من دسه في خلفية العنوان عمدا /ثم سلطت عليه موجة من زبد/
نصك الغائب ثلج/ ورذاذ / وبرد.

بعد تصحيح /تعديل وضعية اللوحة،سينقلب شكل المكتوب ، وتستقيم القراءة هكذا:
- الأعلى: صفحة لمساء مشوبة باصفرار يحجب زرقتها/زرقة ماكرة.
- الأسفل :انحجاب مطبق لأفق الرؤية>غيمة مثقلة تحجب النهر عنا وتحجب من دخله>.
يتوسط منطقة العتمة التماع أحمر ضئيل، وكأنه شبح كائن خرافي مرعب تشتعل عيناه في صفاء الظلمة.وكأني بصاحب المنجز التشكيلي الفنان رافع الناصري استوحى فكرة انجازه من قصيدة" نوافذ وأجراس".وهكذا يكون ما هو تشكيلي قد رافد الكتابة في غيمة أو حجر.
تعانق المجموعة الشعرية33 نصا متراوحا،غفلا من أي إشارة أو تقديم،يستوطن75 صفحة، وموزعة إلى ست زمر.
انتحت المجموعة منحى تصاعديا في ترتيب مادتها،الأقصر والقصير فالأطول.ولامست جملة من القضايا والمحاور في مدار حركي دائري ينشد إلى قطبين "النحن" والأنا.ويعتبر هذا القطب الأخير المحطة النهائية التي استقر عندها الملفوظ الشعري في سفره الطارئ:
- فان نضب الشعر
- من سوف يلتف حول جذوع الشجر/سوى قنفذ من حجر/ يتربص بي
وينازعني قدمي
إلي إذن يادمي!
إلي إذن .
إلي
إلي

وما بين قطبي الذات والآخر استطاع البرنامج الشعري أن يغزل سبيكة ممكنات اللغة متوترا حينا وهادئا تارة أخرى، والذات من خلال ذلك تمارس مواسم بوحها،عريها،وقتها الممزق وتشمر عن ناظريها، وتؤدي صلواتها تراتيل تعلقها على محراب الشعر وعتبات النشيد والذكرى، حروفا تسلقن المدينة ببناياتها، ومنعطفا اثر منعطف.حيث يشف المزاج
الذي تتقلب فيه القصيدة عن نفس مسرحي وحيث:
تغفو النواطير عن جمعيات المرابين والوسطاء البدينين.وحيث السؤال: كيف نراهن قبل انحدار وشيك على أي شيء.
وصار القفل خاتم فضة في أصبع المجنون.
والقصيدة مطلعها قمر زئبقي/ وصوت شخير المغارات إيقاعها
وحيث أن القصيدة قبر الشاعر المجهول
وحيث أن المجاز مقبرة للعلامات،والأسطورة طبقات من المعنى لا تستنفد.
ولا تنتهي الحيثيات وتستمر القراءة.


*الهوامش:

محمد بنطلحة-غيمة أو حجر-دار طبقال للنشر الطبعة2/1995.
-1-2-3- 4- محمد بنطلحة، بداية التاريخ بداية الشعر.الملحق الثقافي لجريدة الاتحاد الاشتراكي عدد453 أبريل 1995.ص4.