المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : أتصمت العصافير ؟ - 6 -



خليف محفوظ
18/01/2009, 12:08 AM
...كان عشاؤنا ليلتها " بركوكسا " حارا أعدته المازية ليشيع فينا الدفء ليلة برد شتوي قارس .
و كان جدي ينشر ذاته حول المجمرة ، بينما السيجارة في يمناه و القهوة إلى يساره ، وقد خاطب المازية :
- اذهبي لتنامي ، سيلحق بك سعد بعد حين.
كان وجهه كالحا من تعب الطريق ، و صدره لا يكاد يتسع لما يجذب من دخان السيجارة ، و في عينيه تردد و حيرة ، وخاطبني كالمتهرب :
- كيف الحال عندكم في المدرسة ؟
و حدثته في اندفاع عما قاله لي المعلم ، عن المركز و الدولة و أمثالي من الأطفال . كنت ألهث في كلامي ، أحسني مطاردا ، فقد خيل إلي أن المعلم يحاصرني بمركزه ذاك ، و كذا كان شعوري و أنا أقف على حافة القبر المفتوح .
وصمت جدي ، فرك كفيه ، حك لحيته ، أسند جبهته إلى يده . حركات متعاقبة غامضة ، ثم تمتم بما لم أفهم ، فصرت أرى فيه لحظتها كتلة ضخمة من الغموض .
- ومن هم الأطفال الموجدون في المركز و الذين يقول عنهم إنهم أمثالي ؟
فأسرع يقول :
- لا تسمع لمعلمك في هذا ، لن ينقصك شيء ما دمت حيا .
و انتصب أمام ناظري القبر المفتوح و حارس المقبرة في أبشع ما يكون .
- وهل سيطيل الله في عمرك كثيرا ؟
و كأنما هو السؤال نفسه الذي كان يعصف برأسه في اللحظة ذاتها إذ وجه إلي عينين منكسرتين :
- ولم لا يابني ؟
وحركني نداؤه لي " يا بني " فتدفقت في مشاعر الحب و الشفقة ،فقلت صادقا مستعينا بما علمني إياه المعلم من قصص الأنبياء :
-إن الله قد أمد في عمر نوح تسعة قرون .
فربت على كتفي و لحيته تنام فوق رأسي ، إذ كنت قد اندسست في حضنه .
- لا مفر من النهاية .
و اغتنمت تحرك مشاعره فتساءلت :
- ولكن من هي يا جدي ؟
لم يجبني ، ظلت لحيته تضغط على رأسي في شيء من التوتر ، فأضفت :
- يقولون عنها ربما هي متزوجة برجل آخر ، أو هي متشردة في حهة ما ، أو هي نائمة تحت التراب ، و أنا لست كبشا يجهل أمه إن صادفها ، لقد أبصرتها في الحلم ذات ليلة ، احتضنتني قليلا ثم غابت ، لا أذكر تفاصيل وجهها ، لكنها لو عادت ثانية لعرفتها بين ألف امرأة ، قل لي من هي ؟
و أبعدني من حضنه ، وأخرج سيجارة أشعلها في عصبية :
- ما هذا الكلام الذي تقوله ؟ إنك تتحدث كبنت كسيحة في البيت . أنت رجل ، فحل ، كبش لا يهمه وجود أمه أو عدمه . وبم تنفع الأمهات الأبناء غير أن يغرسن فيهم الخوف و الدلال و الهشاشة ؟
وسعل سعالا خشنا تمزق له صدره و دمعت عيناه ، و أعطاني سيجارته
- خذ ، اجذب نفسا .
وسكب فنجانا آخر من القهوة ، و سعلت المازية في غرفة الضيوف فأدركت أنها تتنصت ، بينما المطر في الخارج أخذ ينسكب في غزارة .
وقال منفعلا :
- اسمع سأحكي لك ، وعليك أن تكون رجلا ، و إن لم تكن كذلك فلن تكون جديرا بالحياة .
وكان شارباه ينتصباه .
- أنا رجل تزوج كثيرا من النساء ، لم أخضع لسلطان أية واحدة منهن ، أنتظرها عاما إن لم تنجب لي ولدا ذكرا فحلا طلقتها و جئت بالأخرى ، أتزوجهن أبكارا ، لا أقبل بغير البكر ، لا أمد يدي إلى إناء ولغ فيه كلب .
وقهقه ساخرا :
- ثم اتضح لي أني أنا العاقر ، و أنجب من طلقتهن جرادا من الذرية . لم أسف ، قدري أن أموت كالبغل من غير ذرية . لم أطلق بعدها امرأة ، النساء كلهن متشابهات ، أنت تسأل و تلح ، لماذا تتعب نفسك ؟ أمك واحدة من أولئك النساء ، لكن الأهم من هو أبوك ؟ هذا الذي كان يجب أن تسأل عنه لو كانت فيك شعرة الرجولة ، لكنك أرضعت الأنوثة مع حليب النعجة .
وسكت وجهه في هيئة استعلائية قاسية ، بينما كان عقلي يلهث في قفر لا متناه ، صحيح ! كيف لم يخطر ببالي السؤال عن أبي ؟ !
و أضاف جدي في لهجة تنضح مرارة :
- في ذلك اليوم خرجت مع قوات فرنسية لتمشيط الغابة مطاردة للمجاهدين ، جندتني فرنسا في صفوفها لأكون لها دليلا في غابة و جبال المنطقة ، و سمحت لي الجبهة بذلك لأكون عينا لهم على فرنسا، يومها كنت ضمن مجموعة نقوم بمهمة استطلاع في جبل الزيتونة ، لما اقتربنا من مغارة الجبل استوقفنا بكاء صبي ، أمرني الضابط أن أدخل ، دخلت ، كنت أنت ، كتلة ملفوفة في ثوب امرأة ، إلى جانبك شموع و صرة و طعام و نمل ، عندما رآك الضابط الفرنسي صرخ : " أما يكفي الجبال ما تسببه لنا من بلاء حتى تلد الأطفال" ورأيت في عينيه كأنه يريد قتلك ، اجتمع في قلبي كل الأطفال الذين كنت أراني في الحلم أنجبهم ، ، فباغتهم ، فتحت النار عليهم ، و هربت بك ، لاحقوني في مسالك الغابة التي أعرفها كجيبي فضللتهم وتركتهم يبحثون في الغابة وعدت بك إلى فطوم ، وتشردنا ثلاثتنا : أنا ، فطوم ، أنت ما بقي من أيام الحرب ، ثلاثة أشهر و أعلن وقف القتال .عشية الاستقلال سجلتك كما وجدتك ، عديم اللقب ، عديم الأهل ، لم أشأ أن أكذب عليك أو أن أكذب على نفسي ، لكني سميتك "سعد" و قلت لفطوم إن لم يظهر أهله سنتخذه أنيس وحشة الكبر ، لكن الأمر فلت مني ، و أحس أن الزمن يداهمني و أنت بعد فرخ ، من الذي أخرجك إلى هذه المزبلة في تلك المغارة ؟ لا أعرف .
وسكت وأنا تحت الصدمة ، ثم أمسكني من كتفي و هزني :
- اسمع ، في المغارة رأيتك الطفل الذي حرمته ، رأيتك الطفل الذي أرسلته لي السماء ، وستظل كذلك عندي إلى الأبد ، لأني رأيتك ابني أفرغت الرشاش في مؤخرات أولاد الوسخة .
ولم يعد أمام عيني إلا صورة المعلم يؤكد لي في مرارة : " عمر له إخوة كبار ، له أبناء عم و عمات و خالات ، أما أنت فلا أحد لك " .
كان في داخلي شيء ما ينهار و آخر ينتصب عنيفا ، فقد تجمع في حقد أسود عليه ، رأيته شيخا هرما شرسا ، لم يكذب علي و لكنه عراني ،أما كان له أن يسكت قليلا ؟
والتقت أبصارنا ، رأيته غرابا أسود ، حدثتني نفسي أن أرمي بالمجمرة على وجهه ، أن أحطم شيئا ما . وكان يرقبني ، يرصد رد فعلي .
- أريدك أن تغضب ، لا أن تبكي بكاء النساء ، مزيدا من الغضب ، اضرب كل من تسول له نفسه أن يمسك ، يدي مع يدك إلى النهاية، أنا لست جدك ، لكني الشيخ مسعود الذي يريدك رجلا .
وسعل في خشونة ، ولعن الزمن ، بينما المطر في الخارج يكاد يدك السقف ، وكنت أخرس ، صمتا مثقلا .
- اسمع ، أذهب لتنام ، سنكون رجالا حتى النهاية .
وتحركت ، لم يعد بي غضب ، لقد حل الألم .
دخلت على المازية ، كانت الشمعة على وشك الانتهاء تلاعبها ريح ما تحت الباب ، ولم تكن المازية نامت . فتحت جهتي من الفراش ، نفخت على الشمعة . قالت المازية إنها سمعت كل شيء ، وإنه يجب أن أنام لأستيقظ صباحا للمدرسة .
و أغمضت عيني في الظلمة .


""""""""""""


الفصل الثالث .


مات " سحاب" ، مات أقرب كائن إلي ، مات ميتة عنيفة ، عنق ممدود ، أنياب بارزة . مات مكشرا من الألم .
حفرت له قبرا في طرف البستان ، و كتبت على حجر مصفح اتخذته شاهدا : " هنا يرقد سحاب كلب سعد "
لم يعترض جدي ، بل الشيخ مسعود ، على دفن كلب في بستانه ، اكتفى بأن علق متهكما :
- أتراك غدا تحرص على دفني كحرصك على دفن هذا الكلب ، أم أنك سترميني للكلاب ؟
و غطى رأسه تحت الفراش ، بينما وضعت المازية خدها على يدها مستغربة ذلك السلوك مني و منه ، فقد صار غريب الأطوار ، يسب و يلعن لأتفه الأسباب . قد تزعجه ذبابة فيقوم إلى البندقية معلقة في الجدار متوعدا ، وأحيانا يطلق النار في الهواء تنفيسا عن غضبه ، وإذا وضعت أصبعي في أذني أطلق طلقة أخرى ، وقال في هدوء :
- لا ، السلاح هو الذي يحقق للرجل وجوده ، لكي تصير رجلا يجب أن تتسلح .
ثم يقبل البندقية و يقهقه في غلاظة ، وتتداخل قهقهته بالسعال فيبدو كحصان يصهل . و يعطيني البندقية كي أجربها ، فأرفض ، فلا يلح ، يتمتم و يعود إلى عبوسه .
ولاحظت أنه صار يعاملني باحترام منذ صارحني ، و مع ذلك كان كرهي له قد استقر في قلبي مكينا . لم أكن لأطيقه بعد تلك الليلة اللعينة ، فقد كشف لي حقيقة فظيعة ، انفصالي المرعب في هذا الوجود : مضغة من اللحم ملفوفة في قماش امرأة لا يعرف لها أب و لا أم . بقدر ما كان كرهي لتلك الحقيقة كان كرهي له . أما كان له أن يخلي بين الضابط و بيني ؟؟؟
قالت المازية إنها صارت تخشى نزواته ، و إن إسراعه الأهوج إلى البندقية لا ينتهي على خير ، فهو يهب إليها لأتفه الأسباب ، وسامح الله السعيد القهواجي الذي غرر بها يوم قصدته في بيته ليستخدمها فأرشدها إلى هذا الشيخ المتعجرف .
ولم تخف عني نيتها في مغادرة هذا البيت . فرجوتها ألا تفعل ، فإني لا أطيق الحياة معه وجها لوجه ، فشخصه صار شبحا كابسا رغم عجزه و ارتعاشة أطرافه و سعاله .
و اقترحت علي المازية أن أذهب معها كحفيد نجوب القرى و المدن حتى يفرجها الله بقدرته ، فرفضت .
كان شيء ما يشدني إلى البيت الذي نشأت فيه ، رغم علمي الآن أني كنت فيه حفيدا كاذبا إلا أن البستان و الجدول و الزريبة و الشمس الناهضة خلف الجبل و أشياء أخرى لا تحديد لها كانت تذوب في دمي و تشيع في الحنين حد البكاء حين يخطر في بالي أني سأغادر هذا البيت ، كنت مغروسا في كل شبر ، في كل ذرة من تراب وقطرة من ماء .
إذا كان اليوم عطلة مسحت المكان طولا و عرضا في هيام ووجد ، أدخل الزريبة أملأ رئتي برائحة الغنم ، أجول في البستان ، أقف على قبر سحاب ، أقرأ شاهده ، أقتلع ما نبت من عشب فوقه ، أجوس خلال الغابة ، أقصد عين الماء ، أنتظر قليلا المرأة قد تأتي ، لا تأتي ، أقوم هنا و هناك ، تقودني خطاي إلى سفح الجبل ، إلى البيت .
لا يسألني أين كنت . البندقية تنام إلى جواره فوق السرير ، يسعل ، يبصق في إناء أعدته له المازية ، يسألني إذا كنت تناولت غذائي ؟ يؤكد لي أن الجسم بحاجة إلى الغذاء الجيد لأن الرجل بحاجة إلى حسم جيد ، فالمرء يصافح صاحبه يشد على يده يهزه بينما هو في الحقيقة يسبر مدى قوته .
وتقودني رجلاي إلى المقبرة ثانية ، أدخلها من البوابة الخلفية و الشمس مالت إلى الغروب . الصمت و العشب و الحصى ، الإهمال و التبعثر و الظلال القاتمة .
أقصد القبر المفتوح فأجده انغلق و انتفخ ترابا ، أقرأ الشاهد :" لا إله إلا الله ، هنا يرقد حمودة بن سعيد " ثم تاريخ الميلاد و الوفاة ، تسعون سنة ، وبالقرب منه قبر جديد ينفتح في حفرتين مستطيلتين إحداهما تحوي الأخرى . لقد صدق تنبؤ الحارس فقد هلك الشيخ حمودة ، فعلى من تكون النوبة القادمة ؟
ووجدت نفسي منتصبا على قبرها ، جدتي فطوم ! محا المطر ما كنت كتبته على شاهدها ، إلا حروفا ما تكاد تبين من فطوم ، من غير إيضاح ، لم تكوني يوما جدتي ، هكذا ، ف ، طاء متآكلة ، هذا كل ما تبقى ، واحدة من آلاف النساء و العجائز ، واحدة من آلاف النعاج ...
وقفزت فوق السور ، فقد كان حارس المقبرة مقبلا من أقصاها يحث الخطى نحوي


""""""""""""""""""""""""

وكانت نهاية العام الدراسي ، أعلن الترتيب النهائي للتلاميذ فكنت الأول في قسمي .
كان فرحي عظيما أحسستني أنتصر على ثلاثين تلميذا ، فأنا فوق انحيازهم و تهامسهم .
و أوصانا المعلم أن نخبر أولياءنا بأن المدرسة تقيم بالغد حفلا توزع فيه الجوائز على الأوائل في مختلف المستويات .
و أخذني الفرح فجريت من المدرسة إلى البيت ، حين توقفت في الساحة رأيته عند العتبة كالتمثال ، القهوة و العصا و السيجارة و الشرود .
أخبرته بالنتيجة ، التمعت عيناه ، لمحت فيهما فرحا غريبا ، قهقه في عنف و سعل سعالا شديدا ، ثم اعتمد على كتفي و قام إلى البندقية ، أطلق طلقة ثم أعقبها بأخرى ، و طلب مني أن أركض وراء الديك الأحمر نذبحه الليلة احتفالا بالانتصار الأول .
ولما أخبرته بما أوصانا المعلم رفض ، قال لي :
- يجب أن تكون وحدك ، لا حاجة بك إلى شيخ ارتخت خصيتاه .
قالها أمام المازية من غير حياء . أدارت هي و جهها و ذهبت أنا أتبول .
أقيم الحفل و حضره أولياء جلسوا في الصف الثاني خلفنا - نحن الأوائل - و تسلمت جائزتي وسط تصفيقهم ، و بعدها كان تخافتهم و نظراتهم . و تسلم الثاني جائزته و عاد فجلس جنبي ، اقترب بوجهه من أذني و همس :
- عندما ذهبت لتستلم جائزتك تخابر الذين يجلسون خلفنا أنك ابن حرام فكيف تحصل على الرتبة الأولى ؟!
و التفتت إلى حيث أشار ، كانت عيونهم تحدق بي ، من بينهم " دحمان الشانبيط" ، وقفت ، انصبت علي أبصارهم محملة بالاستغراب و الاستهجان ، رميت ملفوف الجائزة ينسحب على الأرض و أطلقت ساقي للريح .
لم أكن أعرف أين أضع قدمي ، أو إلى أين أتجه ؟ فقد أفقدني صوابي ما سمعت ، أحقا ما قيل ؟ أهي من اللواتي يرقصن في الأعراس و ينمن مع كل رجل و يشربن الدواء حتى لا يلدن ، فإذا ولدن رمينه ؟ إذا كان كذلك فإني أبغضها ، لا أريدها . وقد لا تكون ، فهم يكذبون ، يرجمون بالغيب ، من أين لهم أن يعرفوا إن كان هو نفسه لا يعرف ؟ أم تراه مازال يخفي عني ؟
كنت أبتعد ، أبتعد ، تجاوزت جبل سيدي المخفي ، اقتربت من جبل الزيتونة . كان الرعاة يشوون أرانب برية ، و كانت كلابهم تتوزع و تتشمم و تتبول . سألتهم عن الكهف الذي الذي يحكون عنه في جبل الزيتونة ، فقالوا إنه مسكون و إن الشموع توقد به ليلا فترى من بعيد ، ونصحوني بعدم الذهاب عارضين علي البقاء معهم للأكل من لحم الأرانب .
وصعد بي الدرب الملتوي كالثعبان بين الأشجار و الأحجار . إلى الجهة الأخرى أخدود سحيق في قاعه جثة حيوان متعفنة تنخرها الغربان و النسور .
كان الكهف يفغر فاه يغشاه السكون و الأزل . و تبادرت إلى ذهني صورة القبر المفتوح فاقشعر جسمي .
رأيت الحجارة الكالحة و العتمة في الأقصى تشتد حلكة ، الكهف يتحلزن في قلب الصخرة الهائلة كجرح غائر ، الجرح الفاغر ، و أطرافي تتحسس أرضيته في رهبة و انجذاب إلى العمق مدفوعا باستطلاع محموم إلى ما عسى تكون عليه البقعة التي احتضنتني ذات فجر ، نعم ، ذات فجر ، إن ذلك يوشك يكون عندي يقينا ، في الفجر تحدث الأشياء ، و في الفجر حدثت أنا ، ،، هنا إذن ،،، هنا كان الشيء ،،، خرجت أول مرة واقعا على رأسي ، من رحم من ؟ من مومس متوحشة ؟ أم من أم لها عينان سودوان دافئتان و ابتسامة و ضفائر طويلة ؟
و تلمس أصابعي جدران الكهف : طحالب ميتة ، وحجارة صلدة ، وظلمة تتكثف ، ولكنها قد لا تكون ، فهم بالغيب يرجمون . و يجثم الثقل على صدري ، أريد أن أتمدد قليلا ، أغلقت ما بيني و بينهم . إن العالم خلفي ، القرية و دحمان الشانبيط و شواربهم الكثة . هكذا في بطنها كنت أمور ، أتكور و أتعلق بالجدار .
وأشرق الكهف فرأيت الصورة ذاتها ، امرأة طويلة ممتلئة ، وعيون عميقة يشيع فيها الدفء و الحنان تمد يديها و تقول :
- هنا ولدتك ذات شتاء ، وأنا أشرف امرأة في الوجود ، فلا تبالي بما يقولون ، إني أبحث عنك منذ سنين في القرى و المداشر و المدن ، تعال ، اقترب .
و تمتد يداي ...
- كنت أظنك ميتة ، بحثت عنك في المقبرة ، وانتظرتك في الحلم طويلا ، وجدي مسعود لم يعد جدي ، ولا جدتي فطوم كانت جدتي ، مات سحاب ، وهم تكلموا عني بالعيب و العار ، ،،
ويشرق وجهها بالدموع ، و تومئ إلي فتبرق الأساور في معصميها فيأخذني البريق ...
- تعال يا كبدي ، ادن نخرج من هنا ...
وأنا أحبو جذلان ألثم الحجر الذي جمعني بأمي ، وتضحك لفعلي فيبدو الضرس المذهب في أقصى زاوية الفم .
وتخرج فأتبعها ، و أراها تهوي في فضاء الأخدود فينتفخ ثوبها المزركش حتى إذ بلغت القاع لم يعد هناك غير الجثة المتعفنة تنخرها الغربان في نهم ، ولا شيء غير المنحدر و المهابط ...
+++++++++
في الليل الثقيل كان الشيخ يتمرغ في سريره و قد أنهكه الربو ، شخير و عرق و سعال و ضراط ، و إذ دخلت عليه كانت عورته مكشوفة فأسرعت المازية تسحب المبولة من تحته و ترد عليه طرف برنوسه .
و هربت مني عيناه في اتجاه المازية يمسكها من يدها يحاول الكلام فيحول دونه الشخير و اللهاث . و تتشبث يده المتشنجة بالمازية في توسل ، وفي عينيه ماء ترقرق تحت ضوء الشمعدان ، لم أميز أهو البكاء أم السعال ؟
و قلبت المازية وجهها في السقف .
- ماذا في وسعنا أن نفعل له ؟ سيموت بيننا .
و التقطت أذنه لفظة الموت فانتفضت جثته المتهدمة في حركة متشنجة ، وحاول أن يقوم فانهال عليه وابل من السعال تمزق له صدره انتهى بدم يتفقع على أطراف فمه .
وأسندته المازية إلى صدرها .
- لا إله إلا الله ، اذكر الله يا الشيباني .
فتقلصت معالم وجهه ، وسحب رأسه من صدرها إلى المخدة مديرا عينيه الذاويتين في وجهي فأدرت وجهي إلى المازية فكانت واجمة تضع يمناها على يسراها .
و أشار لي فجثوت عند رأسه ، قبض على يدي لا يريد إطلاقها ، و أراد أن يتكلم فلم يسعفه الصوت ، كان فحيحا و تمزقا ، فتحسرت عيناه و تقبض وجهه حتى صار كله تجاعيد مكفهرة .
و اشتدت قبضته على معصمي ، وخفت النور فاظلم وجهه ، فانتبهت إلى أن الشمعة توشك أن تنتهي ، فوقع في نفسي أن ما بقي له من حياة لا يتجاوز ما بقي لهذه الشمعة .
و كانت المازية في هيئتها واجمة .
كنا ثلاثة لا رابط بيننا غير اللحظة العابرة : عجوز قضت العمر تحلم بعودة زوجها ، شيخ يتشبث ، و طفل يتشتت .

و خفت شخيره فصار حشرجة وانية في شهيق و زفير بطيئين على نسق رتيب . و دخلت المازية الإيقاع فارتفع منها النحيب ، ربما تخيلته زوجها الآن يموت بين يديها .
و كانت شهقتان فجائيتان ناشزتان . و كف كل شيء ، فأسرعت المازية تسدل الجفنين و تغلق الفم بقبضتين حازمتين .

قطر الندى
18/01/2009, 02:08 AM
كان بحوزتك الكثير اليوم يا سعد هناك تفاصيل كنت أتوقع حدوثها
ولكن الذات القارئة كانت ترفض رسم مشاهد جديدة من دونك
أو أن تستبق الأحداث
سأكتفي بالصمت اليوم والمرور بهدوء
أستاذي
دمت أيها الرائع ...*
ها أنا أعود أمارس لعبة الانتظار

فايزة شرف الدين
14/02/2009, 06:42 PM
أتمنى أن يتم تنزيل باقي الرواية .. فقد وجدتني أتعايش مع سعد وأتعاطف مع هذا الطفل البائس .. فما زالت الرواية تحمل زخما لا ينضب من الأحداث .
لن أعيد ما قلته سابقا من روعة السرد .. لكني سأترقب مع قطر الندى باقي الفصول بإذن الله .
سعدت جدا جدا بما قراته

خليف محفوظ
15/02/2009, 01:17 AM
أتمنى أن يتم تنزيل باقي الرواية .. فقد وجدتني أتعايش مع سعد وأتعاطف مع هذا الطفل البائس .. فما زالت الرواية تحمل زخما لا ينضب من الأحداث .
لن أعيد ما قلته سابقا من روعة السرد .. لكني سأترقب مع قطر الندى باقي الفصول بإذن الله .
سعدت جدا جدا بما قراته

الأديبة الفاضلة فايزة شرف الدين مفاجأة جميلة أن أجدك قرأت هذه الفصول من روايتي ، وتركت تعليقا طيبا مع كل قراءة ، ذلك شرف عظيم لي .



عميق تحيتي و جزيل شكري لك و لقطر الندى .

واسمحي لي أن أهديك الفصل السابع .