المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : قصة قصيرة : الصيد على مركب يغرق



سميح الجعبري
20/01/2009, 10:51 PM
الصيد على مركب يغرق
سميح الجعبري – القدس الشريف

لم يكن الغد نهاية الأسبوع ولكن (مستر إكس إكس) قد بيت النيّة لضبط ساعة المنبه على غير الموعد المعتاد، فوجّه العقرب الصغير ليظلل على رقم سبعة بدل تسعة. الساعة التاسعة التي تشرق فيها شمسه. ليس لسبب مهم ولكن... فكر كيف يكون شعوره إن ذهب إلى وظيفته في قسم القلم في وزارة الوطن، بل أكثر من ذلك، قد عقد العزم على فعل ما يفعله زملاؤه الآخرون كل صباح.
كانت رائحة الوقود الذائبة في الهواء البارد تملأ طست رأسه وهو يسند كتفه على العامود المعدني الذي تعلوه إشارة حدود موقف الحافلة التي لم تتوقف عند رغبته بالصعود إليها لشدة تزاحم الأكواع والأحذية. فلم يزده ذلك إلا إصراراً. أخيراً، ها هو يجبر كتفيه على ملء مساحة من ظهر المقعد الخلفي لحافلة صغيرة يحمل قبطانها سيجارة في يده اليمنى. في كل مرة كانت لفافة التبغ تفارق شفتيه يثور من جمرها بركان من الدخان الأبيض، يتراقص أمام الراكب المستَجد من خلال جدار أنفاس العمال والطلاب. وصل مزيج الوقود والدخان في طست رأسه حداً لو أن أحدهم قدّم إليه طبق (مازا) لدفع له (مستر إكس إكس) ثمن زجاجة من الويسكي الرخيص.
كان قصر المسافة المفترضة للوصول إلى الوزارة هو ما هوّن عليه عناء تلك الرحلة، التي انتهت أمام حاجز للشرطة يحوّل مسار السير. لم يُطق ما لا يطاق، فنزل ليكمل رحلته سيراً... شعر وكأنه سائح أو مغترب عائد بعد سنين. كيف يعقل أن يكون عدد البشر تضاعف منذ زمن ليس ببعيد ؟! من أين تأتي كل هذه السيارات ؟! متى سيصل من علقوا في حشر السيارات إلى مقاصدهم ؟! أسئلة تتالت وهو ينظر إلى انعكاس صورته تكبر تارة وتصغر تارة على زجاج السيارات المتوقفة، وقال في نفسه: هذا أشبه بفيلم عن القاهرة ! شعر ببرودة في ساقه ليكتشف أن نزول العامل الذي كان يجلس بجانب الشباك في المقعد الخلفي للحافلة، قد ترك آثاره الواضحة من الوحل على بنطاله، فانحنى لإصلاح ما يمكن إصلاحه ولكنه استقام فوراً حين ارتعد هاتفه النقّال في جيبه...
- مرحباً إكس إكس. قال المتصل.
- إهلاً واي إكس. رد بصوت غائم يكاد يمطر
- رأيتك تمرُّ من أمام متجري، وترددت بالاتصال بك. لم أرك مرة ماشياً، بل لم أرك مرة في هذه الساعة من الصباح الباكر. هل سقطّت من السرير ؟ قال واي إكس ضاحكاً.
- لا شيء مهم، ولكني ذاهب إلى الوظيفة.
- عن أية وظيفة تتكلم ؟
- تذكر ابن عمّنا مستر (واو) إكس مدير مكتب الوزير ؟... قد (دبّر) لي وظيفة في قسم القلم (عنده) منذ سنتين.
- آه، لم أكن أعلم. ولكنك لم تزرهم هناك ولو لإلقاء التحية. فما الذي جدّ عليك ؟
- بلى، قد داومت نصف يوم لدى زيارة الضيف الأجنبي للوزارة العام الماضي... في الواقع، قد راقت لي بالأمس فكرة الدوام. فأنت تعلم ! مللت وتيرة العمل في متجري بين الغسالات والثلاجات طوال اليوم... ولا ضير في بعض التغيير.
- فلمَ تذهب ماشياً ؟ أين سيارتك ؟ قال واي إكس مقاطعاً
- سأخبرك لاحقاً حين أراك...
أنهى مكالمته مع ابن عمه والأسى بادٍ على محيياه، ثم نظّف بنطاله وأكمل سيره. لاحت له الوزارة من بعيد فأخذ يسرع في مشيه، ثم تثاقلت رجلاه بعد عدة أمتار من دخوله موقف السيارات الأمامي الخاص بالوزارة، كان كل شيء مكانه ولكن... أين السيارات ؟! أين المراجعون ؟! أخذ يلتفت يمنةً ويسرةً. ما الذي حدث هنا ؟ هل اليوم عطلة رسمية ؟
أخرج أصابع يده من جيبه وبدأ يعد : اليوم ليس عيد الاستقلال ولا عيد العمال ولا رأس السنة ولا... ثم توقف وقال في نفسه: كم أنا غبي، ماذا أعد ؟ لقد رأيت للتو طلاب المدارس. ثم اتجه نحو باب الوزارة وتراءت له لافتة ورقية معلقة على الباب الزجاجي، فاقترب ليقرأ :

تغلق الوزارة أبوابها اليوم حداداً على الزميل العزيز مدير مكتب الوزير مستر (واو) إكس. إنا لله وإنا إليه راجعون