المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : التلقين جزء4



أدهم مطر
23/01/2009, 09:07 PM
الفصل الثاني
الأسد والنور



مرت بضعة فصول من الشتاء والصيف بهذه الطريقة ، وفي أحد الأيام سمعت بأنّي قد أكملت السنة الرابعة من عمري،كانت " غريت " قد أصبحت تلميذة في المدرسة بطبيعة الحال ، وقد كنت استمع في أغلب الأحيان باهتمام بالغ إليها عندما كانت تقرأ واجباتها المدرسية الابتدائية الأولى ،لقد كان لديها أيضا مجلة للأطفال وكانت تقرأ لي قصصاً منها أيضا، وعندما لم تكن في البيت،كنت أضايق جدتي لأبي بعض الوقت وذلك قبل أن تأتي لتعيش معنا، وقد كنت أصر على إثارتها من أجل أن تقرأ لي شيئاً ،فقد كنت فضولية دائماً بالنسبة إلى معرفة أحداث كل قصة بشكل مسبق، ولم أكن أتعبت من الاستماع للقصص التي حدثت إلى الناس ، لقد كنت فضولية جداً حول الحياة، لقد كان شيئاً رائعاً حقّاً التفكير بكلّ الأشياء التي يمكن أن تحدث ! لم أحب شيئاً في حياتي أكثر من الحكايات !.
حين كانت خالتي "إدّي Adi "تزورنا، كانت في أغلب الأحيان، تحقق لي أمنيت،كانت ذات وجه جميل،ومرحة كما كانت لطيفة للغاية كالقطّة، بعينيها العسليتين الدافئتين المتألقتين بسعادة، كما كانت تنبعث منها راائحة غريبة تحيط بها، تلك الرائحة التي لا ينشرها إلا من كانوا يحملون الحب في قلوبهم .
لقد كنت أستمتع كثيراً عندما كنت أشم تلك الرائحة الرائعة المنبعثة منها "رائحة الحبّ "والتي تنبعث من أناس محدودين جداً .
عندما وصلت خالتي " إدي" اندفعنا نحوها بسعادة، نساعدها على خلع معطفها، وكانت أولى كلماتنا لها دائما، "خالتي "إدي، اروي لنا حكاية ! "
لم تكن تتأفف من إلحاحنا المستمر، بل كانت تقص علينا قصصاً رائعة دون كلل،وفي بعض الأحيان كانت تستمرّ بسرد حكاية تلو أخرى، تلك الحكايات التي لم أسمع أكثر إثارة منها أبداً ، وعندما كنا أتوعك،كانت خالتي تحرص على زيارتي لتقص على مسامعي حكاياتها التي كانت تُنسيني كلّ مرضي ، كنا نتمنى لو أنها لا تصمت أبداً، وحين كانت تتوقف لسبب ما،كنا نسارع لسؤالها بإلحاح " خالتي ، ماذا بعد،ما الذي سيحدث لاحقاً" وكنا نستمر بإلحاحنا عليها ومضايقتنا لها حتى تستأنف حكايتها حتى النهاية.
وعندما كان يحين وقت ذهابها إلى البيت من أجل والدتها ، جدتي الأخرى التي كانت تعزف على البيانو بشكل جميل، كنت أُترك أنا وشقيقتي " غريت" لوحدنا ، وكنت أراقبها وهي تقرأ في كتابها عن من قصص الحواري. لكن القصص والحكايات المذكورة في مجلة الأطفال وفي كتاب القصص المصور لم تكن لطيفة كتلك التي كانت خالتي ترويها لنا بالطبع،لكنها ما تزال حكايات على أية حال وأنا أود معرفتها.
بدأت بعد ذاك أمضي فترات طويلة وأنا أنظر إلى الكتب باهتمام شديد والتي منها جربّت أن أتعلّم القراءة، ولكن عندما نظرت إلى الحروف المختلفة وحاولت قراءتها ، لم أعرف ماذا كانت تعني تلك الحروف بالضبط.
في إحدى الليالي ، راودني نفس الحلم الذي حلمت به مرات عديدة في الليالي السابقة، والذي أصبحت كل العائلة في هذا الوقت تعرف به، كانت في الحلم أركض، أركض بكلّ قوتي وكان هناك أسد يطاردني، ويستعد لأن يمسك بي ويفترسني ، كنت أركض باستماتةٍ، بأنفاس لاهثة، طوال الطريق الذي يؤدي إلى بيت صغير في العراء وعند مدخل ذلك البيت كانت هناك امرأة لكنها لم تكن تشبه أمّي، لكنها في هذا الحلم بالذات كانت هي أمّي، تنتظرني باسطة ذراعيها، وكأني كنت أعرف بأنّني إذا ما وصلت إليها، فإن قوّة الأسد الراكض خلفي سوف تتلاشى في النهاية وسأنجو، لقد أصبح قريباً جداً مني لدرجة أني كنت أستطيع أن أشعر بأنفاسه الحارة على رقبتي وكادت كُثَّته الشعثاء تلامسني تقريبا، وكان على وشك أن يلتقطني .
ركضت بآخر ما تبقّى لي من طاقة، ثمّ أحسست فجأة بنفخة قوية، ثم ، وبكلّ ما تبقى لي من قوّة ، صرخت " أمي"! ... وما أن شعرت بأني قد وصلت إليها سقطت منهكة بين ذراعيها، لقد نجوت ، ويختفي الأسد، ثم ما ألبث أن أصحو من النوم مرتعبة وقلبي يخفق بشدة ، أرتجف خوفاً مما رأيت في الحلم، وبدون تردّد أبدا، قفزت من سريري ، رمين الغطاء جانباً عن كتفيّ، وركضت حافية القدمين بثوب نومي الصغير إلى غرفة نوم أبويّ ثم أندسّ في الفراش بهدوء بجانب أمّي، تحت بطانيتها.
آه ، يا لهذا الشعور الرائع بالسلام والأمان الذي يغمرني كموجة ترحيب من الماء الدافئ، تعانقني أمي وتسألني هامسةً:
" نفس الحلم . . . الأسد ثانية؟ "
وأُجيبها بخوف :
"نعم، "، ولكني ، أشعر بأن قلبي يتوقف عن خفقانه الشديد بحضورها المبارك، ثم ما ألبث أن أغط بنوم عميق بعد عدة دقائق.
أستيقظ في الصباح التالي في سرير أمّي التي كانت قد استيقظت قبلي وذهبت، لكن ثوب نومها كان لا يزال هناك بجانبي، فأدفن أنفي الصغير فيه بسرعة لاستنشاق تلك الرائحة الغالية لأمي،لكن أبي كان لا يزال مضطجعاً في سريره بالقرب مني يقرأ الجريدة،كان ذلك يعني بأنّه يجب أن يكون اليوم هو الأحد،وقد تكهنت بذلك بشكل صامت.
تدخل أمّي وتبدأ بالكلام مع أبّي، يلقي أبي بالجريدة جانباً، وبالصدفة، ألقاها بجانبي، فسارعت بالتقاطها وبدأت أبحث عن تلك الحروف السوداء الكبيرة الغامضة على الورقة البيضاء، ماذا يمكن أن تعني ؟
سألت والدي :
أبي ، رجاء أخبرني ما الذي تعنيه تلك الحروف ؟

أجاب والدي :
انظري ، هذا هو حرف الألف، وهذا حرف العين ، وذاك حرف اللام ، ثم حرف ألف ،وهذا حرف النون ، وهنا حرف ألف آخر .
ثم سألته :
"وهذا هنا؟ "
فأجاب :
هذا حرف التاء ، وهذا حرف القاف ، وذلك حرف الصاد وهذا حرف ياء آخر وهناك حرف تاء آخر .
وبينما كنت أنظر إلى كلّ هذه الحروف، يبدو لي فجأة وكأن هناك شيئاً قد انفتح أمام عينيّ مثل ستار قد أزيح وكوميض من الضوء غمر عقلي و أناره ، ضوء . . . ضوء ! !
سرعان ما تكشّفت لي معاني تلك الحروف الغامضة ، وهائنذي أجد نفسي أقرأ بإثارة وسعادة.
وهنا قفزت من مكاني وأنا أصرخ :
"أبي "! "أبي"! إنها تعني إعلانات قصيرة أليس كذلك؟ "
تقف الأم بصمت تام مذهولة من المفاجأة المطلقة؛ ثمّ تتقدم نحوي ، وتلتقطني بين ذراعيها وتقبّلني بحماس وسعادة قائلة :
"حسناً ، يمكنك القراءة إذاً ! "
يهنّئني والدي وكأنه كان يريد أن يزيد من ثقتي بنفسي ولا يحرجني، ثمّ تدخل شقيقتي "غريت"، كلّهم كانوا سعداء ومتحمّسين أيضاً، لأنه أصبح بإمكاني أن أقرأ، وسرعان ما أصبح كلّ من في البيت يعرف الأخبار، عندما جاءت خالتي "إدي" كالعادة في منتصف النهار، وصلت إلى أسماعها تلك الأخبار بمجرد أن فتحت باب المنزل.
أستطيع قراءة الحروف السوداء في الجريدة البيضاء ولم تعد غامضة بالنسبة لي، كما يمكنني أن أفهم ما تعنيه ، أنا يمكن أن أقرأ الآن !.
وهكذا،بدأ عهد جديد في حياتي، لقد قرأت كلّ ما استطعت الحصول عليه بين يديّ، لقد أردت أن أتعلّم، وأتعلم وأتعلّم ، لقد قرأت كلّ ما يمكن أن يُقرأ ،كتب، حكايات ، مجلات الأطفال، كتب المدرسة،التقاويم ، الصحف التي يلقيها والدي على الطاولة،كلّ شيء، حتى تلك المجلة التي أعطاها أحد الرجال لخادمتنا، والتي قرأت فيها أشياء عن "التقبيل، "الحبّ "و"اللقاءات الغرامية السرية "وأخيرا حول" القتل "و" الجرائم "و" الجثث"، ثمّ،و عندما طلبت من أميّ أن تشرح لي الكلمات الغريبة والمخيفة بعض الشّيء، اختطفت المجلة من بين يديّ، وهي تصرخ :
"بربك، من أين حصلت على تلك المجلة ؟"
ثمّ دخلت المطبخ موبخة الخادمة وراجية إياها بأن لا تحاول على الإطلاق أن تعطيني مثل هذه المجلة ثانية.
يا للأسف، فإلى يومنا هذا، لم أعرف ماذا حدث مع "الكونتيسة" الجميلة التي اختُطفت من سريرها في الليل من قبل رجل يرتدي الأسود،و الذي حملها على ظهر حصان السباق . . .
ولهذا ، كان لا بد لي من أن أواجه إحدى الحقائق الحزينة للحياة،فعندما كنت أولع بشيء ما ، لم تكن أمي تحبه بل كانت تسارع لمصادرته ،ولكني أدركت تدريجياً بعد ذلك بأنه من الأفضل أن لا أناقش الأشياء المثيرة جدا مع الكبار، كتلك النقاشات التي تكون دائماً خاطئة، لكن الاستثناءات الوحيدة التي وجدتها كانت من الخدم الذكور في البيت، ففي اللحظات النادرة جدا التي أكون فيها لوحدي معهم،كنت أسألهم بعض الأسئلة، وبطريقة ما، شعرت بأنّهم كانوا تحت سيطرتي ، وحينما كانوا يقدمون لي المعلومات التي أسأل عنها، لم يكونوا يتجرّؤون على إعلام أمي حول ذلك، لكونهم سيكونون أول من سيوبَّخ .