حسام الدين نوالي
28/12/2006, 06:46 PM
- مِن هنا-:
الوجه الذي يشبهني كصرخة متكررة تسلل مثل طيف، يلتمس الخلاص خارج هذا الصباح المقعد.. كانت المدينة تستيقظ ببطء.. رجل انكمش داخل معطفه الطويل، يداه في الجيبان يسرع في المسير، تلذذت بمتابعته، وانتبهت أنه يشبه الطيف الراحل فضحكت. إلتفت هو ولم يتوقف.. فقط تمتم وسار، ثم انعطف..
عيناي لا تفارقان موطئ القدم.. تجاوزت مبنى المصرف فتصاعدت الموسيقى من محل المخبزة، وأتتني معها رائحة الخبز الساخن مثل عنكبوت هرمة. إثنان يقتنيان وأحدهما ينظر إلي، حين وصلت ألقيت السلام فلم يرد علي أحد ولم آبه.. طلبت "خبزا كاملا"، وللتو وصلت طفلة ووضعت قطعها النقدية على طاولة الصرف صامتة والتفتت إليّ، وابتسمت لها وأومأت برأسي، ثم تسلمتُ لفافتي وانصرفت..
بالأمس، كان الليل الخريفي يكسو المدينة فتبدو عبر النافذة كركام بلله مطر أكتوبر، واعترتني نزوة طفولية جميلة: ألاّ أنام الليلة لأرقب انطفاء الأضواء عبر كل النوافذ المقابلة لي.. وعلى طول كانت البقع المضاءة تختفي تباعا، وأصررت محدقا في كل الاتجاهات بينما الوقت يتأخر دقة دقة.. ومع كل انطفاء لبقعة الضوء في إحدى نوافذ العمارات المقابلة، كانت المدينة تهدأ.. تهدأ، وكان الليل يشمخ، والصمت يلبس الحي أكثر.. ومع كل انطفاء لإضاءة كانت متعة ما تدخل جسدي، وكنت أغمض عينيّ متشبثا بذلك الخيط الرفيع بين الضوء والظلمة، أستبقيه وأمططه..، ثم أنتظر التالي..
تنطفئ بقعة مضاءة فأصعد سلم الفرح الطفولي.. ودرجة درجة، كانت حبات المتع تسري فيّ كثيرة، فيما الوقت يتأخر؛ وتقدم الليل، وكبر الصمت، وانتبهت مع دقات الساعة أن الفجر صار يخطو نحو المدينة، والنوافذ اختفت في الظلمة، بينما بدت –فجأة- نافذة بعيدة مضاءة ووحيدة.. أسندت ساعدي إلى النافذة وانتظرت. أمعنت النظر فبدا لي ما يشبه طيف إنسان، وفكرت أن نافذتي وحدها مضاءة قبالته، فأطفأت النور، وانطفأ ضوء النافذة البعيدة أيضا، ثم أشعلت الضوء وأطفأته، فاشتعل ضوؤها وانطفأ.. !! أعجبتني اللعبة فأعدتها بتقطع وتكررت.. وكانت دعوة مبهمة لصداقة مبهمة، وفهمت أنا صديقين، وأنها تحية أولى وحوار بالغ التكثيف.. ولذا قررت أن نلتقي في الصباح الموالي.. واستيقظت مع استيقاظ المدينة ببطء.
مرقت سيارة بسرعة وتابعتها بعينيّ؛ تتناثر حبات الماء مع حركة عجلاتها عبر الشارع الطويل المبلل ببقايا مطر البارحة.
أتوقف عند واجهة مقهى (le boléro). النادل يتحرك في الداخل، والزجاج نصف معتم. دلفت وأحسست بالدفء يحضنني، كانت المقهى خالية إلا من زبون، شبك يديه على الطاولة، وسرح يتأمل الشارع خلف الزجاج...
أخذت مكاني في ركن قصي، وضعت خبزي الكامل على الطاولة، وناديت النادل. ثم رحت أتأمل المدينة تحت سماء خريفية..
***
- من هناك-:
في الليل ينمو الصمت ببطء، ورويدا رويدا، تغدو الظلمة كحقل فسيح تنزف فيه مصابيح الشارع إلى آخر الليل..
وأرِقاً كان السيد "قاسم" يخط في رغوة الأرق منفذا للرحيل..، و "نوال" ، التي سافرت وتخلت عنه من غير أن يعرف سببا لذلك ، هي التي كانت تنصحه بـ(الرحيل للداخل)، "فثمة إن تدربتَ شيء يهدؤك، وثمة إن هدأتَ مسلك شاسع للنوم" –تقول نوال-
تقلب السيد "قاسم"، وأغمض جفنيه في دغل الظلمة وأرخى جسده الممدد.. لا فائدة، وعدّ من واحد إلى مئة، ومن مئة إلى واحد، وكرر، ورحل إلى الداخل، وعاد من الداخل.. ثم أيقن أن سلطان الأرق ،كسلطان النوم، غالب..
كان الليل يتقدم، وينحني -مع دقات الساعة- ويشيخ، فيما مطر خريفي هادئ يغطي المدينة كرِداء.
نهض" قاسم" وأشعل النور ثم أزاح ستارة النافذة، وراح يرقب قطرات الماء في ضوء مصباح الشارع.. كان خدر بطيء ما يزال يسري في خلاياه، وأحس برغبة في النوم، فعاد وأطفأ النور ثم تمدد. لكن وبسرعة أشعل النور، فنظر إلى عقربي الساعة قبالته، ثم مدّ يذه للزر فعاد الظلام، وأطبق جفنيه في العتمة...
تقلَّب السيد "قاسم" .. وعدّ.. ورحل.. وتاه.. لكن لا فائدة..
- أووووف!!
نهض متوترا، أشعل الضوء، وارتدى ما كان على المشجب، فأطفأ النور وخرج...
انكمش داخل معطفه القصير، وسروال الجينز، وسار في الشارع الممتد تحت مطر خفيف...
كان الصباح يخطو نحو المدينة ببطء، فيختلط ضوء مصابيح الشارع بخطوه.. والشارع خالٍ وهادئ. داخل مقهى( le boléro) –التي يتناوب فيها ندُل للصباح وندُل لليل- كان النادل الليلي يردد كموّال:
(جهد الصبابة أن تكون كما أُرى عين مسهّدة وقلب يخفــقُ)
وكان صدى الصوت – من داخل المقهى الفارغة- يصل مخلوطا ببحّة جميلة إلى السيد "قاسم" فيطرب، وردد صامتا: "أرقٌ على أرقٍ.. ومثلي يأرقُ.."
ثم خطى نحو المقهى ودخل، كان دافئا، وبدا فسيحا لفراغه. أخذ مكانا جوار زجاج الواجهة وطلب النادل، ثم شبك يديه على الطاولة وغاب في رقدة المدينة التي تغفو على بقايا مطر خريفي، وانتظر استيقاظها البطيء ليرحل.
الوجه الذي يشبهني كصرخة متكررة تسلل مثل طيف، يلتمس الخلاص خارج هذا الصباح المقعد.. كانت المدينة تستيقظ ببطء.. رجل انكمش داخل معطفه الطويل، يداه في الجيبان يسرع في المسير، تلذذت بمتابعته، وانتبهت أنه يشبه الطيف الراحل فضحكت. إلتفت هو ولم يتوقف.. فقط تمتم وسار، ثم انعطف..
عيناي لا تفارقان موطئ القدم.. تجاوزت مبنى المصرف فتصاعدت الموسيقى من محل المخبزة، وأتتني معها رائحة الخبز الساخن مثل عنكبوت هرمة. إثنان يقتنيان وأحدهما ينظر إلي، حين وصلت ألقيت السلام فلم يرد علي أحد ولم آبه.. طلبت "خبزا كاملا"، وللتو وصلت طفلة ووضعت قطعها النقدية على طاولة الصرف صامتة والتفتت إليّ، وابتسمت لها وأومأت برأسي، ثم تسلمتُ لفافتي وانصرفت..
بالأمس، كان الليل الخريفي يكسو المدينة فتبدو عبر النافذة كركام بلله مطر أكتوبر، واعترتني نزوة طفولية جميلة: ألاّ أنام الليلة لأرقب انطفاء الأضواء عبر كل النوافذ المقابلة لي.. وعلى طول كانت البقع المضاءة تختفي تباعا، وأصررت محدقا في كل الاتجاهات بينما الوقت يتأخر دقة دقة.. ومع كل انطفاء لبقعة الضوء في إحدى نوافذ العمارات المقابلة، كانت المدينة تهدأ.. تهدأ، وكان الليل يشمخ، والصمت يلبس الحي أكثر.. ومع كل انطفاء لإضاءة كانت متعة ما تدخل جسدي، وكنت أغمض عينيّ متشبثا بذلك الخيط الرفيع بين الضوء والظلمة، أستبقيه وأمططه..، ثم أنتظر التالي..
تنطفئ بقعة مضاءة فأصعد سلم الفرح الطفولي.. ودرجة درجة، كانت حبات المتع تسري فيّ كثيرة، فيما الوقت يتأخر؛ وتقدم الليل، وكبر الصمت، وانتبهت مع دقات الساعة أن الفجر صار يخطو نحو المدينة، والنوافذ اختفت في الظلمة، بينما بدت –فجأة- نافذة بعيدة مضاءة ووحيدة.. أسندت ساعدي إلى النافذة وانتظرت. أمعنت النظر فبدا لي ما يشبه طيف إنسان، وفكرت أن نافذتي وحدها مضاءة قبالته، فأطفأت النور، وانطفأ ضوء النافذة البعيدة أيضا، ثم أشعلت الضوء وأطفأته، فاشتعل ضوؤها وانطفأ.. !! أعجبتني اللعبة فأعدتها بتقطع وتكررت.. وكانت دعوة مبهمة لصداقة مبهمة، وفهمت أنا صديقين، وأنها تحية أولى وحوار بالغ التكثيف.. ولذا قررت أن نلتقي في الصباح الموالي.. واستيقظت مع استيقاظ المدينة ببطء.
مرقت سيارة بسرعة وتابعتها بعينيّ؛ تتناثر حبات الماء مع حركة عجلاتها عبر الشارع الطويل المبلل ببقايا مطر البارحة.
أتوقف عند واجهة مقهى (le boléro). النادل يتحرك في الداخل، والزجاج نصف معتم. دلفت وأحسست بالدفء يحضنني، كانت المقهى خالية إلا من زبون، شبك يديه على الطاولة، وسرح يتأمل الشارع خلف الزجاج...
أخذت مكاني في ركن قصي، وضعت خبزي الكامل على الطاولة، وناديت النادل. ثم رحت أتأمل المدينة تحت سماء خريفية..
***
- من هناك-:
في الليل ينمو الصمت ببطء، ورويدا رويدا، تغدو الظلمة كحقل فسيح تنزف فيه مصابيح الشارع إلى آخر الليل..
وأرِقاً كان السيد "قاسم" يخط في رغوة الأرق منفذا للرحيل..، و "نوال" ، التي سافرت وتخلت عنه من غير أن يعرف سببا لذلك ، هي التي كانت تنصحه بـ(الرحيل للداخل)، "فثمة إن تدربتَ شيء يهدؤك، وثمة إن هدأتَ مسلك شاسع للنوم" –تقول نوال-
تقلب السيد "قاسم"، وأغمض جفنيه في دغل الظلمة وأرخى جسده الممدد.. لا فائدة، وعدّ من واحد إلى مئة، ومن مئة إلى واحد، وكرر، ورحل إلى الداخل، وعاد من الداخل.. ثم أيقن أن سلطان الأرق ،كسلطان النوم، غالب..
كان الليل يتقدم، وينحني -مع دقات الساعة- ويشيخ، فيما مطر خريفي هادئ يغطي المدينة كرِداء.
نهض" قاسم" وأشعل النور ثم أزاح ستارة النافذة، وراح يرقب قطرات الماء في ضوء مصباح الشارع.. كان خدر بطيء ما يزال يسري في خلاياه، وأحس برغبة في النوم، فعاد وأطفأ النور ثم تمدد. لكن وبسرعة أشعل النور، فنظر إلى عقربي الساعة قبالته، ثم مدّ يذه للزر فعاد الظلام، وأطبق جفنيه في العتمة...
تقلَّب السيد "قاسم" .. وعدّ.. ورحل.. وتاه.. لكن لا فائدة..
- أووووف!!
نهض متوترا، أشعل الضوء، وارتدى ما كان على المشجب، فأطفأ النور وخرج...
انكمش داخل معطفه القصير، وسروال الجينز، وسار في الشارع الممتد تحت مطر خفيف...
كان الصباح يخطو نحو المدينة ببطء، فيختلط ضوء مصابيح الشارع بخطوه.. والشارع خالٍ وهادئ. داخل مقهى( le boléro) –التي يتناوب فيها ندُل للصباح وندُل لليل- كان النادل الليلي يردد كموّال:
(جهد الصبابة أن تكون كما أُرى عين مسهّدة وقلب يخفــقُ)
وكان صدى الصوت – من داخل المقهى الفارغة- يصل مخلوطا ببحّة جميلة إلى السيد "قاسم" فيطرب، وردد صامتا: "أرقٌ على أرقٍ.. ومثلي يأرقُ.."
ثم خطى نحو المقهى ودخل، كان دافئا، وبدا فسيحا لفراغه. أخذ مكانا جوار زجاج الواجهة وطلب النادل، ثم شبك يديه على الطاولة وغاب في رقدة المدينة التي تغفو على بقايا مطر خريفي، وانتظر استيقاظها البطيء ليرحل.